الخميس، 23 يوليو 2015

خيانة كونديرا التي لا تحتمل

خيانة كونديرا التي لا تحتمل
آدم هاردليك و بيتر ترنسنَك: 
طالما اتسم ميلان كونديرا بالحرص على محو آثاره. فعل مدار الربع قرن الماضي لم يدل بحوار، ولم يزر بلده إلا بصفة غير رسمية ولم يقم فيها إلا في فنادق وبأسماء مستعارة. واستحلف أصدقاءه التشيك على الصمت لكي لا ينطق أحدهم بحرف لصحفي عن حقيقة ميلان كونديرا وحقيقة ما كانه. وإذ تطفو على السطح الآن، وبالمصادفة البحتة، قصةٌ غامضة ومعقدة من ماضي أشهر الكتاب التشيك، لا يعود من الممكن أن نتخيل لعزلته تلك الأسباب التي كنا نتخيلها من قبل.

الرابع عشر من مار عام 1950. عامان فقط مرا على العصيان الشيوعي المسلح. أكثر من ستة أشهر الآن وميلادا هوراكوفا (1) Milada Horáková  معتقلة وخاضعة للاستجواب والتعذيب. وفي غضون شهر واحد سوف تجري محاكمتها، وفي غضون ثلاثة أشهر سيتم إعدامها هي ومن معها في القضية. في العديد من أقسام شرطة براج تجري الآن أولى الاستجوابات لعشرة من لاعبي هوكي الجليد العالميين الذين تم اعتقالهم مساء أمس لـ "تحريضهم العلني ضد الجمهورية". ستكون هناك اتهامات بالخيانة العظمى وأحكام بالسجن لمدد طويلة، وبعض هذه الأحكام سيتم تنفيذه في مناجم اليورانيوم بالقرب من جاتشيموف Jáchymov حيث يوجد بالفعل أكثر من عشرة آلاف شخص معتقلين في المعسكرات هناك.
في الرابع عشر من مارس عام 1950 حدث أن تقاطع للمرة الأولى والأخيرة طريقا شابين: ميروسلاف ديفوراسيك
Miroslav Dvořáček  وميلان كونديرا. الأول أفلت بأعجوبة من حكم بالإعدام وقضى سنين طوالا بين السجن ومعسكرات العمل، والثاني أوشك أن يصبح نجما من نجوم الأدب "البناء" (أي المناصر للشيوعية)، ومثقفا من أهم مثقفي التشيك في الستينيات، وكاتبا ذا شهرة عالمية.
على مدار ثمانية وخمسين عاما، كان ميلان كونديرا ـ على الأرجح ـ هو الممثل الوحيد في دراما تلك الأيام الذي عرف ما الذي حدث على وجه التحقيق في "كولونكا"، وهي قاعة السكن الطلابي في مقاطعة ليتنا ببراج. وفي ربيع هذا العام فقط [2008] وقعت في يدي على غير حسبان وثيقةٌ من أحد أراشيف الهيئات الأمنية الشيوعية فألقت الضوء على تلك الحادثة المنسية منذ زمن بعيد. ولكن دعونا نتتبع الأحداث بترتيبها الصحيح.
نهاية حلم
ولد ميروسلاف ديفوراسيك في عام 1928 في كوستيليتش ناد أورليتشي
Kostelec nad Orlicí وهي بلدة صغيرة في شرق بوهيميا، لعائلة موظف حكومي. وهو في المدرسة الثانوية، صار صديقا لـ ميروسلاف جوبا Miroslav Juppa وهو صبي يماثله في العمر كان قد انتقل إلى مدرسة كوستيليتش بعدما أغلقت قوات الاحتلال مدرسته في بلدة ريتشنوف Rychnov  القريبة. كان مقدورا لهذين الشابين أن يشتركا في طموح واحد، هو أن يكونا طيارين. فبرغم مذلة التشيك في زمن الحرب، كان ثمة بطولة صاحبتها، وإن اقتصرت تلك البطولة على طياري سلاح الجو الذين اشتركوا مع سلاح الجو البريطاني فجعلوا شوقهما الصبيانيي يتحول إلى عزم أكيد. فكان أن التحق كلاهما بعد المدرسة الثانوية بأكاديمية القوات الجوية في هاديتش كرالوف  Hradec Králové. كان العام 1947.
"أتذكر كم كانا سعيدين يوم قبولهما. كانا يعلقان حياتيهما على ذلك" هكذا تتذكر صديقتهما المشتركة إيفا ميليتيكا
Iva Militká التي تقوم بدور محوري في القصة. كانت تعرف ميروسلاف ديفوراسيك منذ الطفولة، أما جوبا فوقعت في غرامه عندما كان كلاهما في المدرسة فشرعا يخرجان معا. "وفي بعض الأحيان كان يطير فوق بيتنا ويشير إليه بأجنحة طائرته" هكذا تتذكر المرأة البالغة من العمر اليوم تسعة وسبعين عاما. ولكن سعادة الشابين كانت قصيرة العمر، فبعد العصيان الشيوعي المسلح في فبراير 1948 تم إجراء تطهير للقوات المسلحة تأثرت به القوات الجوية تأثرا خاصا. فقد كان أربعون في المائة من الطيارين أعضاء سابقين في سلاح الجو البريطاني الذي كان يكن كراهية للنظام الجديد. تم اعتبار الطيارين أشخاصا لا يمكن الاعتماد عليهم وأعداء للاشتراكية، وتم إبعادهم من الخدمة وإرسالهم إلى معسكرات العمل. ولم ينج الطلبة أنفسهم من آثار التطهير، حيث تم تفكيك الفصل الذي كان يدرس فيه جوبا وديفوراسيك. "وتم تجرديهما من رتبتيهما، وسلاحيهما، وتصريحي الطيران" حسب ما تتذكر إيفا ميليتيكا وهو ما تدعمه السجلات الرسمية المحفوظة في الأرشيفات. ففي مذكرة للقيادة العليا مؤرخة في 20 يناير 1949 يرد أنه "لا بد من طرد طلبة أكاديمية القوات الجوية الواردة أسماؤهم فورا، وليس ذلك فقط بسبب موقفهم السلبي من نظام دولتنا الديمقراطي بل لمعارضتهم العلنية للدولة والحزب"، وهذه المذكرة تتعلق بعمليات التطهير المنفذة على طلبة الصف الثالث من الأكاديمية وهو الصف الذي كان ينتمي إليه الصديقان. في فبراير، تلقى الشابان أوامر بالانتقال إلى فوج المشاة القائم في بليتزن Plzeň  فغادرا الثكنات، ولكنهما لم يسجلا وصولهما إلى فوج المشاة، فعندما أدركا أنه لا مهرب لهما من وضعهما القائم، وأن مستقبلهما مضطرب، قرر الشابان أن يهربا إلى الغرب وينضما للقوات الجوية هناك. فمرا ببيتيهما حيث ارتديا ملابس مدنية ثم ذهبا إلى براج وهناك اختفيا عدة أيام عند أقارب لإيفا ميليتيكا. تقول إيفا ميليتيكا: "زرتهما عدة مرات وكنت آخذ لهما الطعام. حكيا لي أنه سيتم تهريبهما عبر الحدود في غضون عدة أيام. تبادلنا وداعا قصيرا. وفي ذلك الوقت كنت أخطط للحاق بهما في الخارج". بعد ذلك اشترى الصديقان من براج خريطة وبوصلة ونجحا في العبور إلى المنطقة الغربية من ألمانيا عبر غابات بوهيميا الكثيفة.

الشيوعي الذي لم يشارك في الموكب
في الوقت نفسه، وفي البلد نفسه، كانت حياة ميلان كونديرا تتخذ مسارا مغايرا بالكلية. نشأ في  العاصمة المورافية Moravian  برنو، محاطا بالكتب، لأسرة الباحث والموسيقي وعالم الموسيقى الشهير لودفيك كونديرا  Ludvík Kundera. فلم يبلغ سن الالتحاق بالمدرسة الثنوية إلا وهو يفوق أقرانه في سعة المعرفة، والتعليم، ووجهة النظر. وكان له نصيبه من الحماس المؤيد لفكرة الاشتراكية، وكذلك كان له نصيبه من الإعجاب السائد باتحاد ستالين السوفييتي. وهو ما يوضحه زميله الكاتب إيفان كليما Ivan Klíma  بقوله إنه "كان من الصعب للغاية على ذلك الجيل الذي نشأ في زمن الحرب ألا يسقط فريسة لذلك الوهم". فـ إيفان كليما نفسه جرب افتتان الشباب بالشيوعية، ولكنه ـ على خلاف كونديرا ـ كان مهيأ لتأمله: "لقد نشأنا وصلتنا بالمعلومات مقطوعة. فحتى فيما بين 1945 و1948 لم يكن ثمة من يجرؤ على كتابة حقيقة ستالين، برغم أن الناس كانوا يعرفون بجرائمه. أما المثقفون اليساريون الشباب في تلك الأيام، فكان ستالين بالنسبة لهم الشخص الذي أنهى الحرب، وكانت الاشتراكية تمثل لهم الأمل في عالم أفضل".
وفي تلك الأيام، انضم كونديرا للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا
KSČ وكتب الشعر والنصوص الغنائية بروح الحماسة الاشتراكية. تقول إحدى الأغنيات التي كتبها كونديرا في ذلك الوقت: "أقواس صداقتنا تمتد سامقة في السماء كأقواس قزح. الاتحاد السوفييتي وبلدنا سيبقيان معا إلى الأبد. أبراج صداقتنا سامقة مثل القمم الصخرية فق الموج. وعلى هذى الصخرة سوف يكسر دعاة الحرب رءوسهم".  تبدو هذه الكلمات في تلك الأيام كلمات وعيد، ولكن أصدقاء الشاعر في تلك المرحلة يجمعون على أن المثقف الموهوب ابن قرية برنو كان من أشد المتحمسين للستالينية في دوائر المثقفين اليسارية في ذلك الوقت. كان محب الفن الواسع الاطلاع يشمئز من خداع الجماهير ولم يكن فيما يبدو يحضر حتى مواكب أول مايو  May Day(عيد العمال). وحاول أن يقدم تبريرا منطقيا لموقفه ذلك من الشيوعية. يقول الكاتب بافل كوهاوت Pavel Kohout  إن "ميلان كان بالنسبة لي شخصا شديد الاختلاف". كان كوهاوت في الخمسينيات واحدا من أبرز مروجي الدعاية الستالينية، رغم أنه فيما بعد أصبح من مؤسسي ميثاق 77(2) ثم أصبح "منشقا". "كان [أي كونديرا] شخصا انطوائيا للغاية بالغ الدقة، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن يؤمن بأفكار الاشتراكية إيمانا حقيقيا. الأمر أن كل شخص كان يعبر عن نفسه بصورة مختلفة".
انتقل كونديرا في عام 1948 من برنو إلى براج والتحق بأكاديمية السينما لدراسة الإخراج. يقول أنطونان كاتشيليك
Antonín Kachlík ـ أحد أنشط أعضاء الحزب في ذلك الوقت ورئيس مجلس الطلاب وصديق كونديرا الحميمي ـ "إنني حضرت في حياتي الكثير من لجان القبول، فلم يحدث غير مرتين اثنتين أن دخل مرشح فبدا للجميع على الفور أنه أعلى قامة من سواه ... كانت سعة اطلاعه المدهشة وسعة رؤيته وطريقة تفكيره المفاهيمية أشياء نادرا ما يصادفها المرء". وسرعان ما ذاع اسم المثقف الشيوعي الشاب في معهد السينما ومقاهي براج على السواء.
أيام كولونكا السعيدة
في تلك الأيام أيضا كانت إيفا ميليتيكا تقضي أيامها الدراسية الرائقة في ظل الراية الحمراء. وكان جوبا ـ صديق صباها في المدرسة ـ قد اختفى بالخارج مع صديقه ديفوراسيك، بينما التحقت هي بجامعة كارل لدراسة اللغة الألمانية واللغات الاسكندنافية. "انفتح أمامي في براج عالم جديد" هكذا تتذكر ميليتيكا، مضيفة قولها: "حصلت على سكن في دار كولونكا السكنية. كانت لي هناك غرفة فردية صغيرة بجانب شباكها شجرة كرز كانت تزهر. قضيت هناك أسعد أيام حياتي".
دخلت ميليتيكا الجامعة بعد الموجة الكبرى من التطهير البلشفي، والتي أدت إلى طرد ربع الطلاب وآلاف الأساتذة. ولم يبق بصورة أساسية غير الشيوعيين المخلصين، وكانت الحياة في سكن الطلاب تبدو أشبه بأغنية وسط "البنية الاشتراكية". وسرعان ما وقعت الطالبة الشابة هي الأخرى فريسة الأيديولوجيا المعدية (ولكنها لم تنضم مطلقا للحزب). تقول في محاولة لوصف جو كولونكا في تلك الأيام "إنني لم أتوقع في تلك الأيام أن يفهم أحد. أتذكر مثلا مرة كنت أسير فيها على تل بتران
Petřín Hill  مع طالب زميل. فوقفنا ندردش وكان يحلم بيوم تصبح فيه تشيكوسلوفاكيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي".
ولم يمض وقت طويل، حتى اتسعت أغنيتها لتشمل طالبا محبا للفنون وشيوعيا متحمسا يدعى ميروسلاف دلاسك 
Miroslav Dlask. تعرفا في معسكر عمل في أوسترافا وسرعان ما صارا يخرجان سويا. كان والد دلاسك ديمقراطيا اشتراكيا من الناجين من معسكر أوشفيتز(3)، وكان الولد الشاب متشبثا ومتحمسا لحلمه الجديد بإنسانية تحقق النصر من خلال اتحاد الديمقراطية الاشتراكية والشيوعية. قدم دلاسك صديقته الجديد لأصحابه الذين يتفقون معه في الفكر. وكان من بين أصحابه المقربين طالب في أكاديمية السينما، هو المثقف الكاريذمي ميلان كونديرا. وفي ذلك الوقت قررت إيفا ميليتيكا أنها لن تهاجر لتلحق بصديق الماضي جوبا.

مهمة الجنرال مورافيتش
كان معسكر ثكنات ليوبولد للاجئين في ميونيخ بعيدا كل البعد عن تلك الأغنية الطلابية في براج. كانت الشبكة الدولية لمخيمات اللاجئين تستخدم في ذلك الوقت أماكن المعتقلات والثكنات السابقة مكدسة فيها قرابة مائة وخمسين ألف شخص، في ظروف كانت في غاية السوء، فكان اللاجئون التشيك الذين هربوا من عصيان فبراير 1948 الشيوعي المسلح يعانون من تحرش الألمان المطرودين من غرب تشيكوسلوفاكيا، فيما كانت أجهزة المخابرات الشيوعية والدول الغربية تتبارى في استقطاب هؤلاء اللاجئين للعمل كعملاء سريين.
ولم يخامر الشك ميروسلاف ديفوراسيك وميروسلاف جوبا حول الجانب الذي أرادا أن يعملا لحسابه. كانا قد تعرضا لاستجواب في قوات المخابرات المضادة التابعة للجيش الأمريكي وفي ثنايا ذلك قدما وصفا لثكنات هارديتش كرالوف لم يسثتثنيا منه عدد الطائرات والأفراد وتدريبهم، بل لقد رسما خرائط للمجالات الجوية. وفي منتصف نوفمبر 1949، تلقيا دعوة إلى فيلا متواضعة غير بعيدة من مخيم أولم
Ulm للاجئين، وهناك قابلا الجنرال فرانتيسيك مورافيتش، وهو بطل حربي وقائد أسطوري للمخابرات العسكرية، فعرض عليهما العمل لحساب "المخابرات التشيكوسلوفاكية المدعومة من أمريكا". كان المفترض أن يعملا كناقلين للرسائل ومنفذين لمهام في تشيكوسلوفاكيا تهدف إلى إعادة الديمقراطية. فقبل الطياران الشابان بشرط أن ينظر الجنرال مورافيتش فيما بعد في مسألة إعادتهما إلى القوات الجوية.
تلقيا تدريبات خاصة، ولم يمض إلا قليل من الوقت على كريسماس 1949، حتى تم تزويدهما بأوراق [هوية] مزيفة، وتم تهريبهما إلى الوطن من خلال الغابات البوهيمية لتنفيذ مهمتهما الأولى. كانت مهمة ديفوراسيك هي الاتصال بمهندس كيميائي اسمه فاكلافيك 
Václavík، وهو مسئول رفيع المستوى في شركة تشيمابول Chemapol، وذلك بهدف تجنيده لتزويدهم بمعلومات عن الصناعة الكيميائية. وحين وصل ديفوراسيك إلى براج صار واثقا أنه مراقب. فبدأ يتنقل من ترام إلى آخر لمراوغة أي مراقب محتمل. وبلغ إحساسه بالمراقبة من القوة حد أنه قرر أن من الخير له أن يعود أدراجه.

أرى الأمر كأنما حدث بالأمس
كان ديفوراسيك قد توجه إلى تشيكوسلوفاكيا في الثالث عشر من مارس من العام التالي بصحبة دليل سري. عبرا الحدود المغطاة بالجليد وهما يرتديان للتمويه ثيابا بيضاء، ثم اتخذا طريقهما إلى قرية يو فيتكو U Vítků الصغيرة المجاورة لقرية بوسينوفيسي Pocínovice وهناك آوتهما عائلة توس  Touš. "قدم نفسه باسم كاريل Karel فيما أظن. لم نعرف اسمه الحقيقي طبعا" هكذا يتذكر جوزيف توس Josef Touš الذي لا يزال يفلح الأرض هناك. في تلك الأيام، كان يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما وكان يساعد أباه الدليل السري الخبير. "ترك في نفسي أثرا قويا. كان شابا مبهجا، يماثلني في العمر تقريبا. لم تكن المهام والعمليات تعنينا. كانت وظيفتنا أن نوفر له ملاذا آمنا ومكانا للنوم، تماما كما كنا نفعل لغيره".
خلال تلك الفترة التالية لتأميم المزارع
collectivisation في أعقاب العصيان الشيوعي المسلح، كانت القرية تتعرض لنزاعات مريرة وصراعات طبقية مكبوتة، وفي ظل ذلك الوضع كان آل توس يتبنون علنا موقفا مناصرا للحرية. فكانوا يوفرون الملاذ الآمن للعشرات من ناقلي الرسائل التابعين للمخابرات الغربية، والأدلاء السريين، واللاجئين الهاربين من الشيوعية إلى ألمانيا.
قضى ميروسلاف ديفوراسيك الليلة في المزرعة، وفي النهار التالي واصل رحلته. وحينما وصل إلى براج، حاول أن ينفذ مهمته الأصلية وهي الاتصال بـ فاكلافيك. وبعد قضائه ساعات عدة في محاولة تحديد مكانه، نظر عرضا من شباك الترام عند جسر مانيس
Mánes  فرأى إيفا ميليتيك، رفيقة الطفولة وحبيبة أعز أصحابه. فقفز من فوره خارجا من الترام لتجده أمامها يقول هالو.
"أرى الأمر كأنما حدث بالأمس" تتذكر إيفا ميليتيكا "فرحت لرؤياه فرحة لا توصف. لا أذكر كيف فسر لي وجوده في براج. ولكنني كنت ساذجة في تلك الأيام فلم أفكر طويلا في الأمر. سألت ميروسلاف عن حال جوبا ثم سار يوصلني إلى سكن الطلاب. سألني إن كان يمكن أن يترك حقيبته عندي بضع ساعات قائلا إن لديه بضعة أشياء يريد إنهاءها في براج قبل أن يعود منها في عصر ذلك اليوم".
وانطلق ديفوراسيك يبحث عن فاكلافيك. تفقد عنوانا في مقاطعة فينوهاردي يفترض أن يكون المهندس قاطنا فيه حسب تعليماته الواردة من ألمانيا، ولم يحالفه النجاح. ولما لم يظهر الرجل هناك، توجه الشاب إلى مبنى تشيمابول ووقف أمامه منتظرا لعله يستطيع أن يتعرف عليه وسط حشود الموظفين بناء على الوصف الذي تم تزويده به. ومرة أخرى خانه الحظ. فقرر أن يرجئ بحثه لليوم التالي وعاد إلى سكن الطلاب حيث كان متفقا مع إيفا على قضاء ليلته هناك. دخل كولونكا في حوالي الثامنة مساء، ولكن بدلا من صديقته، كان ثمة شرطيان مسلحان بانتظاره وراء الباب. وتم اعتقال ديفوراسيك.

مشهد لن ينمحي
"قام اليوم في تمام الساعة 1600 طالب يدعى ميلان كونديرا، مواليد برنو 1/4/1929، وعنوانه سكن الطلاب في شارع جورج السادس George VI  في براج، بالحضور إلى هذا القسم ونقل إلينا أن طالبة تدعى إيفا ميليتيكا، مقيمة في السكن، قد أخبرت طالبا يدعى دلاسك، مقيم أيضا بالسكن، بأنها قابلت أحد معارفها، وهو ميروسلاف ديفوراسيك، وذلك في كلاروف في براج في اليوم نفسه. وقد ترك ديفوراسيك المذكور عاليه فيما يبدو حقيبة واحدة في عهدتها، قائلا إنه سيعود لأخذهها عند العصر ... ديفوراسيك فيما يبدو هرب من الخدمة العسكرية ومن المحتمل أنه كان في ألمانيا منذ ربيع العام الماضي، حيث ذهب إليها بصورة غير شرعية".
بعون من هذا التقرير البوليسي الركيك ـ الذي يحمل رقم 624/1950 ـ استطعنا أن نعيد بناء الحقائق التي انتهت بـ ميروسلاف ديفوراسيك في سجون الشيوعية. فبعد عرضها غرفتها على زائرها، ذهبت إيفا ميليتيكا لتناول الغداء مع صديقها دلاسك. وأتت على ذكر تلك الزيارة المفاجئة (وكان دلاسك يعرف بهجرة الشابين) وطلبت من دلاسك ألا يزورها في تلك الليلة إذ من المحتمل أن أن يأتي ميروسلاف لقضاء الليلة عندها. وبطريقة ما حكى دلاسك الأمر بعد ذلك لصديقه ميلان كونديرا الذي توجه إلى قسم الشرطة للإبلاغ.
تتذكر إيفا ميليتيكا ما حدث لها: "عندما عدت إلى سكن الطلبة اقترب مني رجلان واصطحباني إلى غرفة مجاورة. قالا لي إن الشخص الذي يفترض أن يأتي إلي سوف يتم اعتقاله وإنه لا ينبغي لي أن أحذره. ولو كنت أعرف قبل ذلك لكنت انتظرت في أي مكان آخرلأحذره". ولم تنس قط المشهد الذي رأته من غرفة أخرى، وظل ذلك المشهد يعاودها في أحلامها وكوابيسها. وصل الصديق المطمئن إلى كولونكا، فاصطحبته الشرطة على الفور، ومنذ ذلك الحين لم تر ميروسلاف ديفوراسيك. "لا أزال أشعر بالذنب لأنني تكلمت عنه. كنت في منتهى السذاجة...ذهبت إلى كوستيليتش لأرى أبوي وحكيت لهما أنني كنت السبب في اعتقال ميروسلاف، فزار أبي والديه وأخبرهما. وعشت بعد ذلك بإحساس لا يحتمل".

دوافع غير واضحة
قبل أن نصف نتيجة فعلة كونديرا، من الضروري أن نسأل عن السبب الذي دفعه إليها. فما الدافع الذي حمله على الوشاية بشخص لا يعرفه؟ في وقت كانت تفيض صحيفة الحزب الشيوعي ريودي برافو Rudé právo  بمقالات دعائية عن الانتقام من عدو الطبقة، وإصدار أحكام بالإعدام، لم يكن لمخبر أن يجهل أي مصير سوف يكون بانتظار ديفوراسيك. ففي نفس اليوم الذي قدم فيه بلاغه ـ على سبيل المثال ـ نشرت صحيفة الحزب الساسية موضوعا عن شابين تشيكين يعملان في السفارة الأمريكية صدر ضدهما حكم بالأشغال الشاقة لمدة ثمانية عشر عاما.
جواب السؤال عن سبب قيام كونديرا بهذا ليس بسيطا كما قد يبدو. لقد كان كونديرا شيوعيا مخلصا ومن ثم فلعله قرر أن يدمر حياة إنسان لأسباب أيديولوجية محضة. ولكن كونديرا بحسب شهادة جميع معارفه ـ الذين أبدوا استعدادا للحديث عنه ـ كان كثير الانتقاد للشيوعية بمعايير ذلك الزمن، ولم يكن سعيدا بكل ما كان يجري في المجتمع، وبالقطع لم يكن واحدا ممن كانوا يهللون للدم. يقول الكاتب ميلان أوهدي
Milan Uhde  عن صديقه [كونديرا] "إنه كان شخصا متحفظا، ولم يكن يحب المسيرات الجماهيرية الغبية، وكنت أحسبه شخصا شجاعا لا يهاب التعبير عن آرائه المغايرة". وحين سألنا عما إذا كان كونديرا قد عبر عن كراهيته لـ "عدو الشعب"، أجاب أصحابه في ذلك الوقت بالنفي، فقد كان كونديرا بنَّاء اشتراكيا إيجابيا لا متصيدا للخصوم. "كان هناك آخرون من أمثال سكالا وبيلار يدافعون بجنون عن الجولاج، ويبررون المحاكمات" حسب ما يوضح الكاتب إيفان كليما.
ولعل من الواجب أن ننظر في احتمال وجود دافع شخصي. فمن الممكن أن يكون دلاسك قد شعر بالغيرة على صديقته (وزوجته فيما بعد) من زائر مناهض للشيوعية فطلب من صديقه كونديرا أن يساعده على التخلص منه. وهذا يضعنا أمام سؤال آخر: ولماذا لم يقم دلاسك بنفسه بالإبلاغ؟ الحق أن والدي ميليتيكا ظلا يشكان فيه حتى وفاتهما. وهي نفسها لم تكن تتصور أن يكون زوجها المستقبلي قادرا على الإتيان بفعلة كتلك. فكلما كانت تسأله مباشرة عما حدث، كان يرفض الإجابة. والشيء الوحيد الذي اعترف به قبل وفاته في التسعينيات هو أنه حكى حوارهما لكونديرا.
ثالث الدوافع المحتملة له علاقة بواقعة حدثت قبيل مأساة كولونكا، وهي الواقعة التي ستكون فيما بعد إلهاما لأولى روايات الكاتب أي "المزحة". ففي عام 1949 تلقى كونديرا رسالة من صديق له يدعى جاروسلاف ديويتر
Jaroslav Dewetter  انتقد فيها مسئولا شيوعيا رفيع المستوى. ورد عليها كونديرا بنفس النبرة. وكانت الشرطة السرية قد اطلعت على كلتا الرسالتين، ووجد عضوا الحزب الشابان أنهما في ورطة. وتعرض كلاهما لإجراءات تأديبية، وكذلك صديقهما المشترك جان تريفولكا Jan Trefulka الذي دافع عن ديويتر. وكانت العقوبات النهائية الموقعة عليهم متفاوتة بصورة ملحوظة: تم طرد تريفولكا و دويتر من الحزب والجامعة (وتلقى أحدهما أوراق استدعائه للجيش، واضطر الثاني إلى كسب لقمة عيشه من العمل سائقا على جرار)، بينما اكتفي بطرد ميلان كونديرا من الحزب فقط. وسمح له بالبقاء في أكاديمية السينما، حيث ظل في وظيفة أكاديمية ناجحة طوال الخمسينيات والستينيات.
فهل كان هدف الوشاية هو التعويض عن إساءته للحزب؟ لا يقدم لنا الأرشيف إجابة. الوحيد الذي يمكن أن يجيب من بين الباقين على قيد الحياة هو ميلان كونديرا نفسه، ولكنه على مدار ربع القرن الأخير يرفض التواصل مع الجمهور أو الصحفيين. فلم يردنا منه رد على الفاكس الذي أرسلناه إليه على شقته في باريس طالبين منه توضيح أحداث تلك الأيام.

استجواب دقيق
ما يكن استخلاصه بدقة من الأرشيف ومن روايات الشهود لا يزيد عن تبعات موقف كونديرا. وهي أمور يصعب على المرء قراءتها، فقد كان النظم يوقع أقصى العقوبات على ناقلي الرسائل ممن كانوا يجرءون على المشاركة في مقاومة الشيوعية. ففي الفترة من 1948 إلى 1956 اعتقلت قوات أمن الدولة نحو 500 من "العملاء الراجلين" بلغة الشرطة السرية، فتراوحت الأحكام الصادرة عليهم  من السجن اثني عشر عاما إلى الموت. حيث تم إعدام ما يربو على عشرين منهم بحسب المؤرخ بروكوب توميك Prokop Tomek  من معهد التاريخ العسكري.
بعد اعتقاله، خضع ميروسلاف ديفوراسيك لطاحونة الاستجواب المعهودة التي كانت ترمي إلى استخلاص المزيد من المعلومات منه بكل الوسائل المتاحة. تشير الأرشيفات أيضا إلى خضوعه لـ "استجوابات دقيقة" في سجن هرادكاني
Hradčany. كانت المخابرات العسكرية المضادة قد ورثت عن الجستابو غرفة تعذيب تعرف بـ "الكوخ"، وكانوا يقومون فيها باستجواب خصومهم مستخدمين أساليب مماثلة لأساليب الجستابو. ويفيد بعض الشهود أن الاستجوابات الدقيقة في سجن هرادكاني قد تكون عبارة عن أي شيء بداية من الصفع وحتى استخدام معدات التعذيب المتطورة.
تشير سجلات الاستجواب المحفوظة في أرشيفات الجهات الأمنية إلى جهود ديفوراسيك في التكتم على كل من عاونوه. وبرغم أنه كان يعتقد أن إيفا ميليتيكا قد خانته، إلا أنه لم يذكر قط كيف ساعدته هي وأبواها على الهرب. ومنذ لحظة اعتقاله وحتى منتصف ابريل، استطاع أن يلزم الصمت حول إقامته في بيت آل توس. وفي الخامس عشر من ابريل وصف للمرة الأولى المكان الفعلي الذي عبر عنده الحدود وكذلك قرية يو فيتكو. غير أن المواد الأرشيفية لا تبين ما إذا كان ديفوراسيك قد انهار في لحظة من جراء أساليب المحققين أم أن هؤلاء المحققين استطاعوا تكوين صورة من معلومات كانوا يجمعونها من مصادر أخرى كآل توس وغيرهم من أفراد المجموعة الذين تم اعتقالهم قبل أربعة أيام. حيث كانت قوات الأمن قد تمكنت ـ في وقت سابق على قضية ديفوراسيك ـ من زرع مرشد وسط مجموعة الشجعان من الأدلة العاملين على الحدود.
في سبتمبر من عام 1950، أدين ميرويلاف ديفوراسيك بالهروب من الخدمة العسكرية، والتجسس، والخيانة العظمى. وطالب المدعى باسم الدولة بالحكم عليه بالإعدام. ولكنه حصل في النهاية على حكم بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة 22 عاما وغرامة تبلغ عشرة آلاف كراون، ومصادرة جميع ممتلكاته، وحرمانه من حقوقه المدنية كافة لمدة عشرة أعوام. وبعد ثلاثة أشهر، أدين ثنان من آل توس، أب وابنه، وآخرون من أعضاء المجموعة. يقول جوزيف توس إنها "كانت محاكمة استعراضية استمرت ثلاثة أيام، لدرجة أنها كانت مذاعة عبر محطة الإذاعة المحلية" ولكونه أصغر أفراد المجموعة فقد حكم عليه بالسجن عشرة أعوام، بينما تلقى الباقون أحكاما بالسجن لمدد تبلغ ضعف مدة جوزيف، وبينهم دليل تعرض للإعدام.

سكر ووحل
في مطلع مارس 1952، وبعد فترات في سجون بانكراتش Pankrác وبوري Bory  وغيرهما، تم نقل ميروسلاف ديفوراسيك إلى معسكر سجن فوجنا Vojna  بالقرب من بريبرام Příbram، وهو أحد أسوأ الأماكن في نظام القهر الشيوعي. وبعد وصوله تم إعطاؤه الرقم أ0ـ3016، وثياب سجن بنية من القطن الخشن، وملابس داخلية، ومنشفة، وعلبتين من الصفيح، وملعقة، وبطانية وحذاء للعمل، وحذاء مطاطيا، وقبعة. كانت الملابس الداخلية والمنشفة تتبدل مرتين في الشهر. أما الملابس الخارجية فكانت تبقى حتى تتهرأ وتسقط عن أجساد لابسيها. خلال السنوات الأولى في المعسكر، كان السجناء يتلقون طاقما واحدا من الملابس، فلم يكن لديهم ما يبدلون به ثيابهم بعد العمل، وإن عادوا بها متسخة أو حتى مبتلة من مناجم اليورانيوم.
كانت الحياة في المعسكر منهكة ومهينة. في يوليو 1955، تورط ديفوراسيك فيما يعرف بـ "قضية المكرونة" ـ وهو الاسم الذي تم إطلاقه على إضراب شهير عن الطعام وامتناع عن العمل نفذه السجناء نتيجة سخطهم المتراكم على مدار سنوات. فبسبب إرغامهم على العمل الشاق، قرر السجناء رفض تناول المكرونة الباردة القذرة التي كانت تقدم لها في كثير من الأيام، كما رفضوا الذهاب إلى العمل. أحاطت سلطات المعسكر المنطقة كلها بقوة مسلحة خاصة مزودة بالرشاشات. وأخذت أَسرَّة السجناء وتبغهم وسكرهم خارج أكواخهم وألقت بها في الوحل. وظل حراس السجن أربعة أيام يحاولون إلى أن استطاعوا فض الإضراب عن الطعام والعمل.
غير أن الاعتراضات الفردية استمرت، ويحتوي سجل ميروسلاف ديفوراسيك على عدد كبير من الحالات التي ترصد خرقه لقواعد المعسكر ـ في 16 ابريل 1956: خمسة أيام تأديب وعشرة أيام حبس انفرادي بدون تدريبات رياضية وذلك بسبب كتابة شعارات "تحريضية" في المستوى الرابع من منجم فجونا الثاني، في 21 مايو 1956: ثلاثة أيام حبس انفرادي لقراءة رواية بوليسية باللغة الإنجليزية عنوانها "المخلوق للقتل"، في 9 يونيو 1956: خمسة أيام تأديب لدراسة كلمات باللغة الإنجليزية. وينبغي أن نشير هنا إلى أن وحدة التأديب هي عبارة عن زنازين صغيرة من الخرسانة خالية من التدفئة.
ولم يتسن لحامل الرسائل لمرة واحدة أن يستفيد من عفو عام 1960 الذي تم بموجبه إطلاق سراح عدد ضخم من السجناء السياسيين. صار السجناء العاديون من المجرمين هم الأغلبية الآن، ولم يعد ثمة ما كان بين المعتقلين من تضامن، فساءت الأوضاع بصورة ملحوظة في المعسكر من جراء ذلك. وقضى ميروسلاف ديفوراسيك ثلاث سنوات إضافية هناك، ليغادر المعسكر في نهاية عام 1963 بعد قضائه زهاء أربعة عشر عاما من السجن. وكانت نوافذ المكتبات آنذاك تعرض مجموعة قصصية جديدة كانت تلقى نقاشا محموما في طول وعرض المشهد الثقافي التشيكي: غراميات مرحة لـ ميلان كونديرا.

بداية الشك
في الوقت الذي كان فيه السجين أ0ـ3016 يؤدي أشغاله الشاقة في مناجم اليورانيوم مرتديا ثياب السجن المهلهلة، كان الشخص الذي وشى به يقيم لنفسه حياة مرموقة. بدأ كطالب لا يكاد يعرفه أحد، متحمس لبناء غد أفضل، إلى أن أصبح في ذلك الوقت شاعرا اشتراكيا مرموقا. كان قد نشر ديوانين من الشعر الغنائي جاءا في مستوى أعلى إلى حد ما من المعتاد في تلك الأيام، فاعتبره جيل الشيوعيين الشباب إصلاحيا مغامرا وأصبح محاضرا بارزا في أكاديمية السينما وعضوا في قيادة اتحاد الكتاب.
وفي وقت ما في نحو عام 1954، "رأى كونديرا النور". يقول صديقه ميلان أوهدي إنه "عاد في ذلك الوقت من زيارة إلى الاتحاد السوفييتي فسألته عما عاد به في جعبته. رد عليّ قائلا: هرَّبت معي شكا عميقا في أن ثورة أكتوبر قد تكون أفدح جريمة في القرن العشرين". وشأن كثيرين من أبناء جيله، نبذ كونديرا البلشفية، وفي الستينيات أصبح مثقفا إصلاحيا بارزا. وصارت محاضرته في برلمان الكتّاب عام 1967 ومناظرته مع فاكلاف هافل (4) حول مصير التشيك جزءا من كتب التاريخ يعود إليه القراء ليعرفوا تاريخ هذا البلد.
لزم كونديرا الصمت حول ماضيه الضبابي ولم يكن أحد (إلا ربما ميروسلاف دلاسك) يملك مفتاح ذلك الماضي. ولم يتسن لـ إيفا ميليتيكا ـ التي تزوجت ميروسلاف دلاسك في لحظة صعبة من حياتها ـ أن تتخلص من إحساسها بالذنب، ولم يرحها زوجها قط بتفسير لما جرى. كان ميروسلاف ديفوراسيك يظن أنها هي التي تسببت في حبسه. وبعد أسبوعين من الغزو السوفييتي في 21 أغسطس 1968، لم يضيع وقتا وهاجر إلى الغرب ثم لم يعد بعد ذلك قط. ولحسن حظ ميلان كونديرا، فإن تلك الوشاية القديمة ربما تكون قد أفلتت من انتباه الشرطة السرية التي أبقته تحت أنظارها في بداية فترة التطبيع بوصفه واحدا من أهم الإصلاحيين. وقد بذل البوليس اللشيوعي السري
StB  كل ما في وسعه لتحطيم أعصابه، ولكنهم لم يبتزوه إطلاقا بأحداث العشرين عاما السابقة.

الروايات أهم من الحياة
معرفة الماضي تلقي ضوءا جديدا على أعمال الكاتب. كان كونديرا يبذل كل ما في وسعه ليمنع المئولين من ربط حياته الشخصية بكتابته، ولكن بعض التوازيات تبقى بالغة الوضوح. ففي عام 1962 على سبيل المثال، صدرت مسرحية لكونديرا عنوانها "مُلاك المفاتيح" تدور أحداثها على خلفية الحرب العالمية الثانية. يعيش بطل المسرحية جيري  Jiří مع زوجته في بيت حميه. وذات يوم تأتي حبيبة سابقة له تدعى فيرا Věra وتطلب منه أن يؤويها من مطاردة الجستابو لها. ويجد جيري نفسه في أزمة: هل يمد يد العون لحبيته السابقة وبذلك يخاطر بأسرته؟ وفي النهاية يقرر أن يؤويها، غير أن الخادم تكتشف أمرهما وتعتزم الوشاية بهما. ولا يكون من جيري إلا أن يقتل الواشية المحتملة. ولا يكون من أمرنا نحن إلا أن نتساءل عن مصدر إلهام هذه المسرحية، خاصة وأن عناصر كثيرة في المسرحية تتطابق بطريقة ملفتة مع أحداث العام 1950.
بعد هجرته من تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا، تصبح جهود كونديرا لإخفاء قصة حياته هاجسا يسيطر عليه. فبعد تجربة سيئة مع الصحفيين، توقف الكاتب عن إجراء الحوارات ورفض أن يعلق إطلاقا على حياته الماضية. وكتب يقول إن الشيء المهم بحق هو رواياته، إذ إن لها وجودها المستقل وإنه ما من سبيل ثمة لربطها بشخص الكاتب.
ومنذ قيام الثورة، لم يقم إلا بزيارات سرية لوطنه السابق، وكان يقيم أثناء هذه الزيارات في فنادق بأسماء مستعارة. وطلب من بعض أصدقائه القدامى ألا يقولوا أي شيء للصحافة. يقول الممثل موجمير هيجير
Mojmír Heger  وهو من برنو وصديق قديم لكونديرا "كان يسعدني أن أتكلم معك عن ميلان، ولكن بيننا اتفاقا على ألا أتكلم ما دام هو على قيد الحياة... ميلان شخص غريب ولكنني عازم على احترام رغبته". وكان هذا رد فعل آخرين مثل الكاتب  جان تريفولكا Jan Trefulka  وكذلك لودفيك Ludvík ابن عم كونديرا.
فهل طمس المسار ومحو الخطى بهذه الطريقة دأب كاتب ذي شهرة عالمية يتسم بالانطوائية، أم هو محاولة لإخفاء ماض مزعج ومؤرق؟ لا يمكننا إلا أن نخمن. وليس من شخص يملك مفتاح الحقيقة إلا ميلان كونديرا نفسه.

خاتمة
أصبح فضح أمر المرشدين السريين والمتعاونين مع النظام السابق أمرا شائعا في الإعلام في الفترة الأخيرة. ولكن سبب ظهور هذه القصة مختلف كل الاختلاف. وذلك أنني على مدار سنين كنت أقوم بجمع ذكريات شهود عيان مهمين على أحداث في التاريخ التشيكي الحديث. في أول الأمر كنت أسجل قصصهم لحساب اتحاد بوست بليوم المدني  Post Bellum، وفي مستهل العام الحالي تلقيت عرضا لتسجيل هذه القصص لحساب معهد دراسات النظم التوتاليتارية حديث النشأة. وقبلت العرض بسرور، وبتخوف أيضا من المصائر المأساوية التي سيكون عليّ أن أصادفها من جديد. خاصة وأن الأرشيفات الموجودة هنا توفر مادة قيمة لمن يبحث عن الشهود، وتمد الباحث بأداة لا مثيل لها في القدرة على إنعاش الذاكرة.
وفي نهاية مايو، تلقيت من ابن عمي ماتيج
Matěj  بضع شذرات من المعلومات حول قصة إحدى قريباتي. كان عمر القصة يتجاوز الخمسين عاما، وكانت ثيماتها هي الحب والخيانة والعمالة والهروب وعقدة الذنب وأبطالها كثيرون وجميعهم مجهولون. لم تفقد إيفا ميليتيكا الإحساس بوطأة هذا الحدث الذي مضى عليه نصف قرن والذي ترك على حياتها أثرا لا يمحى. بدأت أبحث عن المادة المتعلقة بأفراد مشاركين في الحدث وكنت أدرس المادة التي تتوفر لي في وقت فراغي. لم تكن غير قصة شائعة من قصص الخمسينيات، ولكنها نالت نزرا قليلا من التشويق بسبب القرابة العائلية، وبغتة تغيرت الصورة. وذلك حينما وقعت على التقرير الذي يصف اعتقال ميروسلاف ديفوراسيك. ففي ذلك التقرير كانت هناك إشارة إلى اسم وضع الحادثة كلها في بؤرة الضوء. ولم يكن أحد من الباقين على قيد الحياة ممن لهم علاقة بهذه القصة يشك في وجود أدنى صلة لميلان كونديرا بتقرير مصائرهم على النحو الذي كان.
بعد طول تردد، وافقت إيفا ميليتيكا على سرد قصة حياتها. فقررت حينذاك أن أبحث عن الآخرين وأجمع فسيفساء مصائر مختلف الأشخاص ودوافعهم. ولم يكن لتحقيقى غنى عن العثور على الضحية الأساسية للوشاية، أعني ميروسلاف ديفوراسيك الذي تبين أنه يعيش في السويد منذ منتصف السبعينيات. وكان العثور عليه لسوء الحظ أيسر بكثير من إقناعه بالكلام. في أول الأمر كان عازما على التعاون، وبغتة غير رأيه. فلم يكن قد تكلم حتى لأقرب المقربين إليه عن هروبه، وعمله لحساب الجنرال مورافيتش، وفترة سجنه. يقول باتريك ـ وهو ابن لديفوراسيك يعيش في كندا ـ "إنني أردت طوال عمري أن أعرف قصة هرب أبي وفترة سجنه، ولكنه لم يشأ قط أن يتحدث في ذلك الأمر. واحترمت رغبته". وبعد شهرين من أول اتصال بيننا، تعرض ديفوراسيك لأزمة قلبية لا يزال يتعافى من آثارها. وهو إلى الآن لا يزال يعيش مفترضا أن الخيانة جاءته من إيفا ميليتيكا.
كان من المشاركين المباشرين في القصة ميروسلاف دلاسك، ولكنه مات في التسعينيات. والأخير هو ميلان كونديرا، الذي رفض أن يرد على طلبي بإجراء حوار معه. وهكذا يبقى ما حدث في ذلك اليوم سرا غامضا، فلماذا قرر ميلان كونديرا أن يذهب إلى الشرطة ويشي بشخص كان غريبا عنه تماما؟ ولا شك أن عبء إخفاء أمر ما لمدة ثمانية وخمسين عاما ليس بالعبء الهين.
لقد ظللت لوقت طويل أفكر فيما إذا كان لدي حق أخلاقي في نشر القصة. ولكنني رأيت في النهاية أن نشرها قد يلقي بعض الضوء على أسئلة بلا أجوبة، وأنه قد يكون سببا يدفع إلى تقدير شجاعة أشخاص مثل ميروسلاف ديفوراسيك، ويدفع أيضا إلى المزيد من النقاش عن التطورات التي شهدتها تشيكوسلوفاكيا فيما بعد الحرب.



(1) Milada Horáková  (1901 ـ 1950) سياسية تشيكوسلوفاكية أعدمها الشيوعيون بتهمتي الخيانة العظمى والتآمر.
(2) Charter 77 وبالتشيكية (Charta 77) وثيقة مدنية غير رسمية بدأ توزيعها في تشيكوسلوفاكيا في يناير من عام 1977 (ومن هنا التسمية)، وقد ظهرت أول ما ظهرت على هيأة بيان موقع من 243 مثقفا تشيكوسلوفاكيا انتقدوا فيه الحكومة على خلفية قضايا حقوقية ودستورية وبحلول منتصف الثمانينيات كان عدد الموقعين عليها 1200.
(3) كان أوشفيتز Auschwitzأكبر معسكرات الاعتقال النازية، وقد صادرته آلة الدعاية الصهيونية لحسابها.

(4) Václav Havel كاتب مسرحي وسياسي كان الرئيس العاشر والأخير لتشيكوسلوفاكيا


نشر هذا الموضوع ـ وهو من ترجمتي ـ في ملحق قراءات (جريدة عمان) قبل سنوات وأعيد نشره في إيلاف والنسخة المتاحة هنا منقولة عن إيلاف!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق