دفاعا عن كونديرا:
أن ننسى التاريخ
جوهانز ليتشمان
لم يأت بي إلى براج إلا حبي لميلان كونديرا، ورغبتي في الدفاع عنه ضد
هارلولد بلوم. ففي سياق الرفض النقدي لكونديرا الذي بدأ في مطلع التسعينيات، قام
بلوم بتصنيف كونديرا باعتباره كاتب أعمال مرحلية يزداد اتصاله باللحظة تهافتا. وكتب
بلوم عن كونديرا مقالة قصيرة قال فيها إن "لحظة براج" ولّت و"ما
عاد الشباب ينزحون مع كونديرا إلى العاصمة التشيكية حاملين حقائبهم على
ظهورهم".
فإذا بي، وكنت لم أزل شابا، أقف خارج قصر كينسكي مع كونديرا حاملا حقيبتي
على ظهري. فكيف الحال؟
غير أنني لسوء الحظ لم أكن أرى بوضوح كيف يمكنني أن أدافع عن كونديرا، أعني
بما هو أكثر من تواجدي في مكان ما وحقيبتي على ظهري. كنت أعرف أن في خفوت نجم
كونديرا ظلما، وأنه قوبل بردود فعل سلبية منذ تحوله عن الكتابة بالتشيكية إلى
الكتابة بالفرنسية، وانصرافه عن الثقافة التشيكية إلى الفرنسية. وكنت أعرف أنه بعد
سقوط الستار الحديدي، شق ورم النقد التشيكي المناهض لكونديرا طريقه باتجاه الغرب،
فمنه ما كان له مسوغ، ومنه ما كان محض اغتيال معنوي. وكنت أعرف أن كثيرا من
القضايا التي تعكِّر الاستقبال النقدي لكونديرا يمكن إيجازه في مشهد واحد وقصير من
أدبه، مشهد تجري وقائعه حيثما كنت واقفا آنذاك.
*
ولد كونديرا سنة 1929 في برونو Brno بتشيكوسلوفاكيا، وفيما عدا هذه المعلومة
السيرية، فكل ما يتعلق بإيجاز سيرة كونديرا مخاتل بعض الشيء. فحتى حينما كان يدلي
بأحاديث صحفية (وكان كثيرا ما يرفضها بشدة في أواسط الثمانينيات)، أو أحاديث
علنية، كانت تأتي ضفيرة محكمة من الواقع والخيال ـ شأن كتابته. وهكذا فإن ماضيه
محجوب، والمعروف منه موضع نزاع وشقاق، وما من سيرة مطبوعة لكونديرا فتسوي القضايا
الملحة. وليس غريبا أن يكون نافرا من فن التراجم كله، وهو يقولها في "فن
الرواية" (1986):
"يهدم الروائي بيت حياته ويستعمل آجره في بناء بيت آخر: هو بيت
روايته. ويستتبع هذا أن يهدم واضع ترجمة الروائي ما أقامه الروائي، ويقيم ما هدمه.
ومن هنا، من وجهة نظر الفن، فإن عمل كتّاب التراجم سلبي بالمطلق، لا هو يلقي الضوء
على قيمة رواية أو معناها".
وانتقد كونديرا من الباحثين من ارتقوا بالكتابات الشخصية إلى مقام الروايات
ـ "إنني أرفض أن أضع ’رسائل إلى فيليسLetters to Felice’ [لفرانز
كافكا] في مقام ’القلعة’" ـ وأعلن أن رسائله ويومياته لن تنتهي إلى النشر بعد
موته. وليس غريبا أن يضفي هذه القيمة على الخصوصية وهو الذي قضى بعض عمره طريد
نظام غايته هدم الشخصي وإقامة العام.
في عام 1949، وبعيد انتقاله إلى براج، بعث كونديرا رسالة إلى صديق له كتب فيها
نكتة عن مسؤول حكومي. ووقعت الرسالة في يد الشرطة السرية فأدى ذلك إلى طرد كونديرا
من الحزب. وكانت تلك الواقعة إلهاما له في روياته "المزحة" (1967)، التي
يقوم فيها شاب بإرسال بطاقة بريدية مناصرة لتروتسكي إلى صديقة له، فتوجهها الصديقة
إلى الشرطة مما يؤدي إلى طرده من الحزب. وسمح لكونديرا بالانضمام ثانية إلى الحزب،
لكنه طرد منه مجددا بعد الغزو السوفييتي سنة 1968، وكان طرده هذه المرة نهائيا،
ومصحوبا بمنعه من وظيفته في تدريس السينما والأدب. هاجر من تشيكوسلوفاكيا إلى
فرنسا سنة 1975، ومنذ ذلك الوقت يعيش هناك.
مجرد هارولد بلوم |
يجاور كونديرا في قالب خافت
بين الثقيل والخفيف في أسلوب حواري يتعارض تعارضا بديعا مع ضخامة أفكاره.
فصوله قصيرة، وتنقلاته استطرادية، وفي فلسفته بين الحين والآحر فخامة، ولكنها في
الأغلب لاعبة. ومن خلال استكشافه الثيمة عبر أكثر من
قصة (كما في "كتاب الضحك والنسيان" ـ 1979) أو حكي القصة الواحدة من
وجهات نظر مختلفة (كما في "خفة الكائن التي لا تحتمل"، 1984)، يقيم
كونديرا معمار كتبه على مفاهيم موسيقة كالتنويع (التي يظل المؤلف الموسيقي يعود
فيها إلى نفس المقاطع الصوتية مع تغيير رهيف في التناول كل مرة) والبوليفونية (حيث
يلعب نغمات متنوعة في الآن نفسه).
غير أن الترجمات المبكرة لأعماله نزعت إلى فقدان أكثر ما يميّز هذه
الأعمال. فقد كان الناشرون الأجانب راغبين في تسويق سيرة كونديرا لا أسلوبه، كما
أنه لم ينجح قط في طمس صورته الأولى ككاتب منشق
لروايات احتجاجية. ومثلما أوضح مايكل وودز وهو الباحث في الترجمة والقارئ
الذكي لكونديرا، فإن طبعة "المزحة" البريطانية الأولى رأت في "كثير
من الأدوات التجريبية التي استعملها كونديرا، من قبيل السرد اللاخطي أو خطاب
ياروسلاف عن البوليفونية مجرد تعتيم على الرسالة الحقيقية" فأدت هذه الرؤية
إلى "إعادة ترتيب تامة للرواية بحيث تكون تأريخا شبه خطي، وإلى استبعاد
ثلاثمائة جملة". فلما علم كونديرا بهذا التحرير الذي لم يأذن به، بعث رسالة
إلى ملحق تايمز الأدبي قارن فيها بين محرريه ومترجميه من جهة وبين الرقباء
الشيوعيين من جهة أخرى، وقال إنه كان خيرا له ألا ينشر على الإطلاق من أن تعاد
كتابة روايته بدون موافقة منه. ولم تكن تلك غير المرة الأولى من مرات كثيرة أكّد
فيها حقه في السيطرة المطلقة على كلماته ـ مما كان يضير غالبا بمسيرته المهنية.
وفي حين أعمل المترجمون الإنجليز البلطة في النص، عمد الفرنسيون إلى زركشة
الأسلوب. فلقد كانت للمترجم مارسيل أيمونان جماليات مختلفة عن جماليات كونديرا
الذي يكتب دائما بلغة متخففة من الاستعارات. فـ "حيثما كان كونديرا يكتب
’السماء الزرقاء’" ـ مثلما لاحظ كاليب كرين Caleb Crain ـ كان أيمونان
يكتب "تحت سماء بحرية، فرد أكتوبر درعه الاستعراضي". لم يترجم أيمونان الكتاب
بل بالأحرى أعاد كتابته، حتى لقد قال كونديرا لـ جوردان إلجرابلي "إنه وجد
أسلوبي أبسط مما ينبغي. فأدخل على مخطوطتي مئات (نعم مئات!) من الاستعارات
الزخرفية، وكان يستعمل مترادفات حيثما أكرر أنا نفس الكلمة رغبة منه في إنشاء
’أسلوب جميل’!". وازداد كابوس الترجمة الفرنسية سوءا حينما تحدث كونديرا
حديثا كاشفا مع أحد مترجميه، ولم يكن يجيد التشيكية.
كتب كونديرا في "فن الرواية" أنه سأل المترجم "لكن كيف
ستترجم؟"
فقال المترجم "بقلبي".
وأوضح كونديرا قائلا "بالطبع، تبيّن أن الأمر أبسط كثيرا، فلقد عمل
معتمدا على النسخة الفرنسية التي لم تكن إلا كتابة أخرى".
هناك ـ مثلما أوضح المنظّر الاجتماعي جوهان هايلبورن Johan Heilbron ـ هيراركية في نظام الترجمة الدولي، وفيه تحتل الفرنسية
الدور المركزي بينما تنأى التشيكية إلى الأطراف. فلم يكن غريبا أن عمل مترجم المزحة
الأرجنتيني على نص أيمونان الفرنسي، نظرا لأن "التواصل بين جماعات الأطراف
غالبا ما يمر بالمركز".
كانت هذه التجارب سببا جزئيا في هجرة كونديرا اللغوية من التشيكية إلى
الفرنسية. حيث مضى ابتداء من أواسط الثمانينيات إلى كتابة أولى مقالاته، ثم
رواياته، بالفرنسية، وأعاد كتابة رواياته التشيكية في نسخ فرنسية
"محددة" صار على مترجميه أن يعملوا معتمدين عليها. ومن الملاحظ أنه لم يشعر
بالاحتياج إلى ترجمة نصوصه الفرنسية الجديدة إلى التشيكية، بل إنه لم يسمح بذلك
لغيره. واعتبر هذا نفورا من كونديرا لجذوره التشيكية وجعله هدفا في جمهورية التشيك
وفي فرنسا على السواء. ومنذ سقوط الشيوعية، ترسّخ في الإعلام
التشيكي مناخ اعتبر فيه ـ على حد تعبير كراين ـ "أي هبوط في مسيرة كونديرا ما
بعد التشيكية موضوعا جديرا بأن يتصدر العناوين". وفي حين أنه لا يزال شخصية
أساسية في الأدب الفرنسي، إلا أنه ليس من التجني أن نقول إنه كان أكثر إثارة لدى
الفرنسيين كمنفيٍّ تشيكي منه كمثقف باريسي. فبعد صدور "الخلود" (1990)،
وهي رواية فيها من الشخصيات الفرنسية أكثر مما فيها من الشخصيات التشيكية، ناشدت
صحيفة فرنسية كونديرا الرجوع إلى ثيماته التشيكية وذلك في مقالة كان عنوانها
"عد إلى وطنك يا كونديرا".
*
يقوم قصر كينسكي في ميدان المدينة القديمة، مجاورا للمقصد السياحي الهائل المتمثل
في قاعة المدينة القديمة، وهي صرح مهيب تتلخص في أبراجه السود المحترقة سمات
الجماليات المعمارية في براج (أي "الرعب القوطي"). أما قصر كينسكي في
المقابل فله لون السلمون، وهو رحب ومنخفض، وأنيق ومزخرف يذكّرني
بكعكة خرافية الجمال يمكن شراؤها من أوربا لا من الولايات المتحدة.
قد تكون "كتاب الضحك والنسيان" أفضل روايات كونديرا، وتبدأ من
شرفة القصر التي وقف فيها الزعيم الشيوعي التشيكي جوتولد أمام حشد هائل وبجواره
رفيقه كليمنتس: "وكان الجليد يسقط، والجو باردا، وجوتولد حاسر الرأس. ومن فرط
الاهتمام، خلع كليمنتس قبعته الفرو ووضعها على رأس جوتولد"، واشتهرت صورة
الرجلين، ولكن الحزب بعد سنوات قليلة أعدم كليمنتس وأزاله من الصورة. "ومنذ
ذلك الحين أصبح جوتولد وحده في الشرفة، وحيثما كان يقف كليمنتس، لا يوجد إلا جدار
القصر العاري. ولم يبق من كليمنتس إلا قبعته الفرو على رأس جوتولد".
عندما قرأت "كتاب الضحك والنسيان" للمرة الأولى ظننتها كتابا
سياسيا. قرأتها بوصفها رواية مكرَّسة لفكرة أن "الصراع بين الإنسان والسلطة
هو الصراع بين الذاكرة والنسيان" بحسب ما تقول إحدى الشخصيات. ولكن ما لم
يخطر لي هو أن ميريك ـ وهو الشخصية التي قالت ذلك القول ـ شخص لا ينفق أغلب وقته
في محاربة الدولة، بل في محاولة استرداد رسائل غرامية من حبيبة سابقة صار يخجل
منها. هذه الحبيبة السابقة شيوعية متعصبة، وهو ما يخجل ميريك، ولكن ليس بقدر ما
يخجله قبحها الفيزيقي. فليس اشمئزازه منها سياسيا إلا غطاء لقرفه الجمالي.
"والرغبة في النسيان، قبل أن تكون قضية سياسية، هي مسألة وجودية" ـ
حسبما يكتب كونديرا في "فن الرواية" ـ "ففي الإنسان دائما رغبة إلى
إعادة كتابة سيرته، وتغيير الماضي، ومحو المسارات، مساراته هو ومسارات الآخرين".
وفي حين أن صراع الإنسان ضد السلطة يبقى صراع الذاكرة ضد النسيان، فإن هذا الصراع
ليس كافيا لكونديرا مثل صراع الإنسان من أجل إعادة صياغة ماضيه بحيث يكون حاضرا
يحتمل عيشه.
لو أن عناصر الرواية الشخصية أكثر إقناعا لكونديرا، يميل النقاد إلى التركيز
على السياسي فيها. والسطر الذي يتناول فيه كونديرا صراع الإنسان ضد السلطة دائما
ما يقرأ بوصفه إشارة إلى الدولة، لا بوصفه على سبيل المثال قولا في صراع الإنسان
ضد مرور الزمن. وغالبا ما يستشهد بهذا السطر، لكن نادرا ما يكون الاستشهاد في سياق
ما تكتب عنه شخصية كونديرا، بل يستشهد به ـ مثلما بيّن وود ـ في "مناقشات
للأبارتيد في جنوب أفريقيا أو كوسوفو [...] أو نيكاراجوا". كما أن الناشرين
الأجانب للكتاب من أبناء الثقافات الأدبية المهمشة يميلون إلى إيثار ما كان من
النصوص ذا طبيعة "اجتماعية معلوماتية لا جمالية" بحسب ما يبيّن الباحث
في دراسات ما بعد الكولونيالية روبرت جيه سي يانج. وفي معرض مناقشته التي نشرتها
الجارديان أخيرا لتركة كونديرا أوضح جوناثان كو أن الكثيرين اعتبروا فن كونديرا
مرتبطا بصورة لا انفصام لها "بالسياق السياسي الذي قد يأتي عليه يوم (طال
الزمن أم قصر) فيطويه النسيان". وعندما يأتي الوقت الذي تتبدد فيه أهمية
المعلومات التي "يفترض" أن كتب الثقافات الأدبية تنقلها ولا تعود مسايرة
لروح العصر الغربية، يميل القراء في الغرب إلى نسيان مؤلفي هذه الكتب.
*
مشكلة قراءة كتاب لكونديرا بوصفه كتابا معلوماتيا تكمن في أن من بين هذه
المعلومات في حقيقة الأمر ما يكون خاطئا. ولقد أوضحت الباحثة في الأدب التشيكي
هانا بيتشوفا أنه "بعد تأكيد كونديرا على أهمية حركة كليمنتس، أي إعارته
قبعته لجوتولد حاسر الرأس الشاعر بالبرد، قد يكون مدهشا للبعض أن يكتشفوا ـ مثلما
تلاحظ جيندريتش تومان، أن كونديرا ألَّف هذه الواقعة تأليفا". ففي الصورة
الأصلية السابقة على المحو، يظهر كل من كليمنتس وجوتولد وهما يعتمران قبعتين،
و"لا يبدو أن أحدا يعطي لأحد أي شيء على الإطلاق".
فما الذي يجعل كونديرا يحرّف واقعة تاريخية لها هذه الأهمية في صدر روايته
الأولى المكتوبة في المنفى، أي أولى رواياته الموجهة حصريا لجمهور أجنبي؟
لعله ببساطة أساء تذكر واقعة القبعة. لقد كان يعيش في المنفى، في عهد ما
قبل الإنترنت، وربما لم تكن بحوزته صورة فرضت عليها الحكومة رقابتها منذ خمسة
وعشرين عاما في ذلك الوقت. (ومثلما تقول جانيت مالكوم فإن "حقيقة اشتراك جميع
الكتاب في ارتكاب الأخطاء المعلوماتية والكتابية تتأكد بمجرد وجود المصحح ومدقق
المعلومات").
إهداء القبعة يضفي إنسانية على كليمنتس ويجعل شنقه ومحوه من التاريخ أمرا
مؤسفا، وإن يكن تشيكيا شيوعيا لم نسمع به إلى الآن. ثم إنها رواية، وإذا شاء كونديرا
أن يجعل من شخصيته واهب قبعات كريما، فبوسعه أن يفعل ذلك. لكن القراء غير
التشيكيين غالبا ما اعتقدوا أن وظيفة كونديرا هي أن يعرّفهم بتشيكوسلوفاكيا
الشيوعية لا بعالم أصيل من إبداعه. ولقد أوضح كونديرا مقته لهذه النزعة من خلال
إحدى شخصيات "خفة الكائن التي لا تحتمل"، وهي شخصية رسامة تشيكية لا
تطيق الاختزال السياسي لفنها في الخارج، فتجد في سيرتها المنشورة في أحد المعارض
أنها تعيش حياة "مثل حياة قديسة أو شهيدة" فتبدأ في إخفاء حقيقة أنها
تشيكية. فلعلّ كونديرا في تغذيته لنا بتاريخ زائف ـ لكنه شديد القرب من التاريخ
الموثق لدرجة أن نعدّه حقيقيا ـ يشهر إصبعه في وجوه من يقرأون أدبه قراءة اجتمعاية
أو معلوماتية أو سياسية أو أي قراءة أخرى غير القراءة الجمالية.
في عام 2008، تحولت علاقة كونديرا المقطوعة أصلا مع جمهورية التشيك إلى
عداء معلن، عندما نشرت مجلة رِسبكت Respekt التشيكية اتهاما لكونديرا بالتعاون معالشرطة السرية سنة 1950. وبناء على تقرير شرطي قصير يحمل توقيع ميلان كونديرا،
أكدت المقالة أن كونديرا وشى بالتشيكي ميروسلاف دفوراسيك Miroslav Dvořáček الذي كان
يعمل لحساب الأمريكيين. ونتيجة لوشاية كونديرا التي زعمتها المجلة قضى دفوراسيك
أربعة عشر عاما في الأشغال الشاقة. وبعيد إعلان الفضيحة، قال أحد أصدقاء الأطراف
المتورطة في القضية إن الواشي كان رجلا آخر وليس كونديرا. وقد أجرى كونديرا حوارا
واحدا مع إذاعة تشيكية أنكر فيه الاتهامات، ثم انسحب من المجال العام ليكتب ما
يحتمل أن يكون روايته الأخيرة.
كانت النتيجة هي "حفلة التفاهة"، رواية كونديرا الأولى بعد ثلاثة
عشر عاما، وهي بعيدة عن السياسة لم تكتف بخلوها من أية إشارة إلى فضيحة التعاون،
بل من أي شيء تشيكي. كونديرا يكتب عن تفاهتنا الشخصية وكيف أن السبيل الوحيد إلى
الاستمتاع حقا بالحياة هو الاحتفاء بالتفاهة. إحدى شخصيات الرواية تريد تنفيذ
مسرحية عرائس عن خروشوف وكيف أنه لم يكن يفهم نكات ستالين. شخصية أخرى تتأمل في
التنويعات الوجودية على غواية السّرَّة الإيروتيكية. وثالثة لرجل يتظاهر أنه لا
يجيد الفرنسية ليمتع نفسه بالعمل في تأليف
لغة هرائية. ويوما ما يرى ضيفا مشغولا به ومرتابا في أمره وأمر لغته المؤلفة.
فيشير إلى الرجل ملفتا نظر صديق له إليه، فيكتب الصديق: "إن اكتشف أحد خدام
الحقيقة أنك فرنسي! فإنك بالطبع سوف تكون موضع ريبة! سيتصور أن لديك حتما من
الأسباب الغامضة ما يجعلك تخفي هويتك! سينبِّه الشرطة! وستتعرض للاستجواب".
النكتة عند كونديرا توشك دائما أن تؤدي إلى استجواب. وهي
في رواياته المكتوبة بالتشيكية تؤدي غالبا إلى الاستجواب، وأشهر أمثلة ذلك في
"المزحة" لكن الراوي في "كتاب الضحك والنسيان" يستمتع بشدة
بالمقلب الذي يدبره هو وأصدقاؤه لرئيسهم ـ إذ يحتالون عليه لنشر مقال لكاتب معارض ـ
إلى أن يتم اعتقال الصديق وفصله من عمله. وفي "حفلة التفاهة" يكون خطر
الاستجواب محسوسا لكنه لا يتحقق. فالنبرة تبقى خفيفة، والهجوم ينصب على ثقل الدم
لا على أي كيان سياسي.
يكتب كونديرا أن "التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود.
تحيط بنا من كل جانب، وفي كل مكان، وطوال الوقت. حاضرة حتى حينما لا يريد أن يراها
أحد: في المجازر، والمعارك الدموية، وفي أسوأ البلايا"، وها هنا صدى من فقرة
في "كتاب الضحك والنسيان"، وفكرة طوّرها في كثير من أعماله:
"اغتيال أليندي غطّى ذكرى الغزو الروسي لبوهيميا،
ومذبحة بنجلاديش الدموية أدت إلى نسيان أليندي، وضجة الحرب في صحراء سيناء طغت على
أنين بنجلاديش، ومذابح كمبوديا أدت إلى نسيان حرب سيناء، وهكذا وهكذا، إلى أن ينسى
الجميع كل شيء.
ليس النسيان في روايات كونديرا محتوما وحسب، بل ومرغوبا
أيضا. فقد كتب في "الحياة هي في مكان آخر" يقول "ما أجمل أن ينسى
التاريخ!" والحق أن أبطاله ـ وأغلبهم مهاجرون ـ يكرّسون كثيرا من وقتهم
للنسيان. فحينما تحاول مهاجرة تشيكية في "الجهل" (2000) أن تصف ألم
الرحيل عن الوطن إلى فرنسا لصديق مقيم في تشيكوسلوفاكيا يقول لها الصديق إن
"مبارايات المعاناة هذه بطلت الآن". فأصدقاء المهاجرة التشيكيون لا
يريدون أن يسمعوا شيئا عن مدى صعوبة الحياة في فرنسا، في حين أن أصدقاءها في فرنسا
لا يمكن أن يفهموا إلا قليلا من الصورة السياسية المبسطة لتشيكوسلوفاكيا. ولقد كتب
كونديرا في "كائن لا تحتمل خفته" يقول "إن الوجود في بلد أجنبي
يعني المشي على حبل عال عن الأرض بلا شبكة أمان توفرها للمرء البلد التي فيها أهله
وزملاؤه وأصدقاؤه وحيث يسهل عليه أن يقول ما يشاء بلغة يعرفها منذ الطفولة".
وغالبا ما تجد شخصياته أنفسها تتساءل إن كان المشي على الحبل أسهل بدون ذكرى شبكة
الأمان.
يتمثل لغز التذكر والنسيان ـ كما يصوغه كونديرا في
"كتاب الضحك والنسيان" ـ في أن الماضي "مليء بالحياة، وأن منظره
مزعج، منفر، جارح، إلى حد أننا نريد أن ندمره أو نعيد طلاءه". والمستقبل في
المقابل "محض هوة لامبالية لا يبالي بها أحد". ويمضي في "فن
الرواية" فيكتب أن "العالم لا يبدو واضحا ملموسا محسوسا أكثر منه في اللحظة
الراهنة. لكنه مع ذلك يتملص تماما. وكل حزن الحياة يكمن في هذه الحقيقة". ولو
أن المستقبل هوة لامبالية، والحاضر يراوغنا تماما، فلا يبقى أمام شخصيات كونديرا
من خيار إلا الحياة في الماضي. ولكن ما نتذكره ليس الماضي بالضرورة: "فاللحظة
الراهنة تختلف عن ذكراها. والتذكر ليس نقيض النسيان، بل هو شكل من أشكاله.
وكونديرا يذهب إلى أن حالة الوجود الوحيدة التي يمكننا أن نفهمها هي الماضي، الذي
نعرفه بالتذكر، لولا أن التذكر نسيان.
سيكون سهلا أن نفسر تعاطف كونديرا مع من يريدون إعادة
كتابة مواضيهم بوصفه رغبة خفية من الكاتب في نسيان شيء ما مخجل في ماضيه الشخصي. وقد
يكون هذا صالحا، لكن ليس بمعنى أن كونديرا لا بد أن يكون قد تعاون مع الشرطة
السرية أو أتى فعلا معيّنا مخجلا. إنما هو تفسير صالح ـ وإن يكن غير نافع نسبيا ـ
لمجرد أننا جميعا نريد إعادة كتابة تواريخنا الشخصية. (أنا شخصيا أشعر في بعض
الأحيان أن حياتي كلها ليست إلا محاولة طويلة لتغيير الماضي بالتفكير فيه). وسواء
كان ميريك يحاول نسيان حبيبته الدميمة، أو تحاول الفناة التشيكية نسيان أنها
تشيكية، أو تحاول المهاجرة التشيكية نسيان الزمن الذي كانت تشعر فيه أنها في وطن،
فإن الناس في كتب كونديرا يحتفون بميلانكولية المستحيل، والحتمي، وبما في النسيان
من راحة.
*
بعدما زرت قصر كينسكي، سرت إلى متحف الشيوعية المقام فوق
مكدونالدز على مقربة من ميدان فينسيسلاس، وفيه رأيت صورة لمتظاهرة توشك أن ترمي نسخة
من صورة جوتولد الشهيرة في النار. والنسخة التي في يد المتظاهرة ليست نسخة الحزب
التي أزيل منها كليمنتس، أو نسخة كونديرا التي يظهر فيها كليمنتس بغير قبعة، بل
النسخة الأصلية التي يظهر الرجلان فيها معتمرين قبعتيهما. فقد بحثت المتظاهرة عن
الصورة الأصلية بهدف إحراقها، رغبة منها في إزالة الصورة من التاريخ، ورغبة منها
في أن تكون هي ماحيتها. ولا تخطر لي صورة أكثر تجسيدا لكونديرا من هذه الصورة:
امرأة تختزل السياسي في صورة، وتمارس فعل نسيان التاريخ.
عن لوس أنجلس رفيو أوف بوكس
يعيش في مالمو بالسويد. نشرت أعماله القصصية في "ذي
صن"، و"أمريكان شورت فيكشن"، و"كارولينا كورترلي".
نشر المقال صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق