قلم الشاعر
تشارلز سيميك
عرفت
شاعرا لم يكن يستطيع كتابة قصائده إلا بعقب قلم رصاص. لم يكن يفلح معه بالقدر نفسه
أي شيء آخر. كان أهله وأصدقاؤه يأتونه بأقلام الحبر، والأقلام الجافة، والآلات الكاتبة،
وأجهزة الكمبيوتر، فيظل ينأى عنها جميعا. وكانت زوجته تقول "إن ذلك أشبه
بإهداء ساعة يد لكلب في الكريسماس". لم يكن يحفزه على الكتابة غير أقلام
الرصاص. ويسأله أصدقاؤه "كيف هذا؟" فيقول لأن بوسع المرء أن يعض قلم
الرصاص إلى أن يصل إلى عقبه وهو يفكر في الجملة التالية. كما لم يكن يجد نفعا في
ألواح الكتابة والدفاتر والأغراض المكتبية الأنيقة. بل يفضل عليها مظاريف الفواتير
القديمة، وظهور المنشروات الدعائية التي توزَّع في شوارع نيويورك للإعلان عن
القروض السريعة وأندية التدليك والعرَّافين ومزادات البضائع الناجية من الحريق،
وإن يكن بوسع قائمة وجبات مطعم أو إيصال إيداع في الحساب المصرفي أن ينقذه بالقدر
نفسه.
*
وأمر
آخر. كان يحب أن يكتب قصائده على مائدة المطبخ بينما زوجته تطبخ. وكان إجلاسه في
غرفة ذات شرفة في الريفييرا الفرنسية أو في شاليه في جبال الألب السويسرية إهدار
للمال، فما كان جمال الطبيعة الفائق يزيده إلا نعاسا. في حين أنه لحظة يسمع زوجته
تفرم ثومة أو تخرط حزمة بقدونس، يجد ربة الشعر تناديه. وتتحقق النتيجة نفسها مع
الحساءات المنزلية الثقيلة، ويخني اللحم البقري، ولحم الخنزير المحمص، والسجق
المشوي. فالقصيدة الغنائية أشبه بالمطبخ الرفيع. تستوجب أنفا خبيرا بالتوابل
وأصابع رقيقة اللمسات. كانت الروائح السابحة في الهواء تسيل اللعاب في فمه، وترقرق
عينيه، فيسارع إلى البحث عن قلم رصاص وشيء يكتب عليه، وكان يحتفظ بكلا الشيئين في
درج المطبخ مع مخزون وافر من خلال الأسنان. ويصب لنفسه كأس نبيذ أحمر ويجلس. كأس
أو اثنان، يرشفهما على مهل، ولا شيء آخر. يتفادى أن يشرب الزجاجة كاملة، لأنها
تجعل منه شخصا سنتمنتاليا، وبدلا من كتابة الشعر، يجد في نفسه الرغبة إلى الدندنة
بأنغام المسلسلات الشهيرة والأوبرا الإيطالية.
*
ما كان
يحبه في الكتابة بعقب القلم الرصاص أنه يجعل خربشاته غير قابلة تقريبا للقراءة.
فبتلك الطريقة لم يكن يشعر بالحرج مما كتبه. كان ينظر إليه، وينظر إليه، بعد ذلك،
محاولا أن يخمن ماذا بحق الرب ذلك الذي قاله. وحين لم يكن يحالفه الحظ، كان يطلب
العون من زوجته. فتفاجئه المرة تلو المرة بأن تجيئه بأشياء أفضل من أي شيء يكون في
رأسه. زواج الواقعي والخيالي، أليس ذلك هو الشعر؟ وبمرور السنوات لم يعد بوسعه أن
يميز ما الذي يخصه، وما الذي يخص زوجته، وما الذي يخص خلطاتها السماوية العديدة إذ
تغلي على الموقد، فبعض منها إن شئتم الحق كانت شريكة في كتابة قصائده بقدر ما كان
هو شريكا فيها. قال لنفسه إنها كانت كتابة تعاونية. كنا نعمل نحن الاثنين عن قرب،
مثل عالمين مجنونين في فيلم رعب، يتجادلان حول أنابيب اختباراتهما في المعمل ويصيحان
في كلبهما إيجور كي يكف عن النباح ويترك ساعي البريد يملأ صندوق البريد بخطابات
الاعتذار عن النشر المبعوثة من مجلات الشعر.
*
من هذا
الأحمق؟ لعل هذا هو السؤال الذي يدور في أذهانكم. هو أنا، طبعا. يظلون يلحون على
الكتاب والفنانين في هذه الأيام بسؤال أحدهم "هل يمكن أن تصف لنا عملية
الكتابة عندك؟" هل يسأل أحد بطل العالم في أكل السجق عن كيفية تدربه؟ لعلهم
يسألونه. أنت معروف للعالم بمنحوتاتك المصنوعة من الزبدة يا سيدي، إذ تحولها إلى
روائع تجتذب اهتمام أكبر المتاحف في هذا البلد وفي العالم: فهل صنعت زبدتك بنفسك
وأنت تنحت تمثال "العذراء الباكية" أم اشترتيه من السوبرماركت القريب؟
فإن قال إنه يصنعها بنفسه، يطلب الصحفيون مقابلة البقرة التي جيء منها باللبن
ويسألون إن كان بوسعهم التقاط صورة للفنان والبقرة وهما واقفان بجوار التمثال.
*
ولأن
الشعراء، لو صدقوا، نادرا ما يعرفون من أين تأتيهم قصائدهم ولا يتذكرون كيف جمعت
بعضها إلى بعض على وجه الدقة، فإنهم يكونون مرغمين على تلفيق سيرتهم، ولغتهم
الأدبية، ولغوهم الاصطلاحي إرضاء لجماهيرهم. ولم يكن الشعراء دائما مرغمين على
ذلك. فلم يسأل أحد "تي إس إليوت" أو "روبرت فروست" مثل تلك
الأسئلة. وأتذكر أنني رأيت في شبابي شاعرا
شهيرا يجلس في كرسي محاطا بالطلبة جالسين على الأرض يشاهدونه في استغراق تام وهو
ينظف أظافره بخلال أسنان في انهماك وصمت تام.
*
عندما
كبرت أمي وانتقلت إلى دار رعاية المسنين، فاجأتني في يوم من الأيام قرب نهاية حياتها
بسؤالي عما لو كنت ما أزال أكتب الشعر. ولما اعترفت لها أنني لا زلت أفعل، حدَّقت
فيّ في ذهول. وكان عليّ أن أكرِّر إجابتي إلى أن تنهَّدت وأدارت عينيها، وهي ربما
تحدث نفسها، ابني هذا كان دائما لديه صمولة مفكوكة في عقله. ذكّرني هذا
بقولها لجيراننا في شبابي إن ابنها الفاشل دائم الكتابة في السر. كانت تحاول أن
تتلصص من وراء ظهري ـ وأفراد غيرها في الأسرة كانوا يفعلون ذلك أيضا، فكنت أختفي
في سريري وأخفي رأسي تحت الغطاء. وحينما كانوا يسألونني عما أفعله، كنت أصمت أو
أصيح قائلا لا شيء، بحسب ما حكت أمي. ومرة فتشت سريري وأنا في المدرسة
فعثرت على عقب قلم رصاص تحت وسادتي. ولما فتشت مرة أخرى لم تعثر على شيء هناك على
الإطلاق.
وليس في
ذاكرتي أنا شيء من ذلك كله، ولم أكن أعرف وهي تحكيه عن أي شيء تتكلم.
*
في عصر
أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، وبينما تنقرض أقلام الرصاص، احرصوا أن
تكونوا طيبين ومراعين لمشاعر الآخرين حينما تصادفون عقب قلم رصاص ملقى في مكتبة
عامة ما أو محل جزار محكوم عليه بالإغلاق. ثقوا أن له تاريخا. (ولكل أقلام الرصاص
تاريخ). ولو وجد أحدكم في نفسه مثل مشاعر السامري الصالح، فليأخذه إلى البيت ويتركه
في غرفته في أمان، فقد يحدث في يوم من الأيام أن يتمكن منه الكسل فيخرجه من مخبئه،
وحينئذ قد يحكي له قصة حياته بينما أصابعه قابضة عليه برقة.
عن نيويورك رفيو أوف بوكس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق