الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

هاروكي موراكامي: لحظة أصبحت روائيا .. مولد رواياتي المطبخية

لحظة أصبحت روائيا*
مولد رواياتي المطبخية
هاروكي موراكامي



أغلب الناس، أعني أغلب من يمثلون جزءا من المجتمع الياباني، يكملون دراستهم، ثم يعثرون على عمل، ثم يتزوجون بعد أن يمر بعض الوقت. وحتى أنا في الأصل كنت أنوي أن أتبع هذا النمط. أو هذا ما كنت أتخيل أن تؤول إليه الأمور. ولكنني في الواقع تزوجت، ثم بدأت أعمل، ثم (بطريقة ما) استطعت أخيرا أن أكمل دراستي. أي أنني بعبارة أخرى اتبعت النمط المعاكس بالضبط لما كان يعدُّ طبيعيا.
لمَّا كنت أكره فكرة العمل لحساب شركة، قررت أن أفتتح مشروعي الخاص، مكانا يقصده الناس للاستماع إلى تسجيلات الجاز، وشرب القهوة، وتناول الوجبات الخفيفة، والشراب. بدت فكرة بسيطة، هانئة وسعيدة، أن أدير عملا من هذا النوع، يتيح لي فيما تصورت أن أسترخي منذ الصباح إلى الليل مستمعا إلى موسيقاي المفضلة. وكانت المشكلة، وقد تزوجنا ونحن لم نزل طالبين في الجامعة، أنه لم يكن لدينا المال الكافي. لذلك، وعلى مدار السنوات الثلاثة الأولى كنت أنا وزوجتي نعمل كالعبيد، في أكثر من وظيفة في الوقت نفسه لندَّخر بقدر ما نستطيع. وبعد ذلك خرجت في جولة أقترض من الأصدقاء والأهل ما أمكنهم الاستغناء عنه. ثم أخذنا كل ما توفر لنا من مال وفررنا معا لنفتتح مقهانا الصغير أو حانتنا المتواضعة في كوكوبونجي، وهي منطقة يتسكع فيها الطلبة في ضواحي طوكيو الغربية. وكان ذلك في عام 1974.
كانت تكلفة افتتاح مكاننا الخاص أقلَّ في ذلك الوقت مما هي عليه الآن. وأمثالنا من الشباب المصرين على اجتناب "حياة الشركات" مهما يكن الثمن كانوا ينشئون دكاكين صغيرة عن اليمين والشمال. كافيهات ومطاعم، ومحلات خدروات، ومتاجر كتب، وما شئت من مشاريع. كان حولنا الكثير من الأماكن المملوكة لأشخاص من جيلنا. كانت في كوكوبونجي هزة ثورة مضادة قويةٌ، وكثير مما كانوا يتسكعون في الجوار كانوا من فلول الحركة الطلابية الغاربة. كانت حقبة يمكن للمرء فيها ـ في كل مكان في العالم ـ أن يعثر على فجوات في النظام.
جئت من بيت أبيوي بالبيانو الرأسي القديم وبدأت أقدم موسيقى حية في العطلات الأسبوعية. وكان يعيش في كوكوبونجي العديد من عازفي الجاز الذين كان يسعدهم (في تصوري) أن يعزفوا بمقابل بسيط ندفعه لهم. وقد أصبح كثيرون منهم موسيقيين معروفين، ولم أزل أصادف بعضهم في أندية الجاز في طوكيو حتى الآن.
كنا نفعل ما يروق لنا، ولكن تسديد ديوننا كان نضالا مستمرا. كنا مدينين للبنك، ومدينين لمن دعمونا. وحدث مرة، ونحن في ورطة دفع قسط البنك الشهري، أن كنت أسير أنا وزوجتي بالليل مجهدين، مطأطين رأسينا، فوقعنا على نقود في الطريق. لا أعرف هل كانت صدفة، أم نوعا من التدخل السماوي، لكن المبلغ الذي عثرنا عليه كان يساوي بالضبط ما كنا بحاجة إليه. ولمّا كان القسط مستحقا في اليوم التالي، فقد كان ذلك بحق عفوا في اللحظة الأخيرة من حكم بالإعدام. (ولقد حدثت مثل هذه الأمور الغريبة في مفاصل عديدة في حياتي). ربما كان أغلب اليابانيين ليفعلوا الصواب، ويسلِّموا النقود للشرطة، ولكننا وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه في ذلك الوقت، لم نكن لنتحلَّى بتلك المشاعر الرهيفة.
ومع ذلك كان الأمر طريفا. لا شك في هذا على الإطلاق. كنت شابا، في عزي، أستمع إلى موسيقاي المفضلة طول النهار، وأنا السيد على مملكتي الصغيرة. فلا أحشر نفسي في القطارات المكتظة بالموظفين، أو أحضر اجتماعات تبعث على البلادة، أو أتملَّق رئيسا لا أحبه. بل كانت لدي فرصة مقابلة شتى البشر المثيرين للاهتمام.
انقضت عشرينياتي إذن في تسديد الديون والعمل البدني الشاق (كإعداد السندوتشات، وطرد الزبائن ممتلئي الأفواه من المكان) من الصباح إلى المساء. وبعد سنوات قليلة قرَّر مالك البناية تجديدها، فانتقلنا إلى مكان أوسع وأحدث على مقربة من وسط طوكيو، في سنداجايا. وكان موقعنا الجديد يتيح مكانا لبيانو كبير، ولكن ديوننا ازدادت نتيجةً لذلك. فلم تسهل علينا الأمور.
لا أرى حينما أعيد النظر إلا أننا كنا نتعب كثيرا. أتخيل أغلب الناس وهم في العشرينيات مرتاحين نسبيا، أما نحن فلم يكن لدينا وقت لننعم "بأيام الشباب الهانئة". كنا ندبر أمورنا بمشقة. وما كان يتوفر لي من وقف فراغ نادر كنت أقضيه في القراءة. فقد كانت الكتب، بجانب الموسيقى، متعتي الكبرى. مهما يكن انشغالي أو إفلاسي أو إنهاكي، ما كان لأحد أن يسلبني متعتيّ هاتين.
وبينما كانت تقترب نهاية عشرينياتي، بدأت حانتنا سنداجايا المخصصة لموسيقى الجاز تبدي علامات الاستقرار على أقل تقدير. صحيح أننا لم نكن قادرين على القعود والاسترخاء ـ فقد كنا لا نزال مدينين بنقود، ومبيعاتنا متذبذبة ـ ولكن الأمور على الأقل كانت تمضي في اتجاه جيد.
****
وذات أمسية ساطعة في ابريل 1978، حضرت مبارات للبيسبول في ستاد جينجو، غير بعيد عن المكان الذي كنت أعيش فيه وأعمل. كانت المباراة الأولى في الدوري المركزي، وكانت الضربة الأولى في الساعة الواحدة، في لقاء ياكولت سوالوز مع هيروشيما كارب، وكنت مشجعا لسوالوز في تلك الأيام، وأذهب في بعض الأحيان لحضور المباريات، كبديل للتمشية لا أكثر.
في ذلك الزمن، كان السوالوز فريقا ضعيفا طول الوقت (ويمكنكم تخمين هذا من اسمهم [ويعني طيور السنونو]) فقيرا ينقصه اللاعبون ذوو الأسماء اللامعة. وطبيعي أنهم لم يكونوا ذوي شعبية كبيرة. فبرغم أنه كان افتتاح الموسم، لكن جماهير قليلة هي التي كانت جالسة حول سياج الملعب. تمددت أشرب البيرة وأتابع المباراة. ففي ذلك الوقت لم تكن هناك مقاعد للمتفرجين، بل منحدر عشبي. تحت السماء الزرقاء الناصعة، كان كأس البيرة باردا على أتم ما يمكن، والكرة بيضاء مبهرة ومن ورائها الملعب الأخضر، وكان ذلك أول أخضر أراه منذ فترة طويلة. كان الرامي الأول في فريق السوالوز هو ديف هيلتن، وكان وافدا نحيلا من الولايات المتحدة، ومجهولا تماما. رمى الكرة. وكان اللاقط هو تشارلي مانويل، الذي اشتهر فيما بعد مديرا لكليفلاند إنديانز وفيلادلفيا فيليز. غير أنه في ذلك الوقت كان ركيزة حقيقية، ولاعبا أطلق عليه الجمهور الياباني اسم "الشيطان الأحمر".
أعتقد أن رامي هيروشيما الأول في ذلك اليوم كان يوشيرو سوتوكوبا. ارتد ياكولت مع تاكيشي ياسودا. في نهاية الجولة الأولى، نفَّذ هيلتن أول ضربة لسوتوكوبا إلى اليسار محققا أول نقطة مزدوجة نظيفة. كان صوت التقاء المضرب بالكرة مشبعا، وتردد في أرجاء ستاد جينجو. وارتفعت من حولي هتافات مبعثرة. وفي تلك اللحظة، وبلا سبب، ودونما أي أرضية مهما تكن، بهتتني الفكرة على حين غرة، يخيل لي أنني قادر على أكتب رواية.
لا زلت قادرا على تذكر الإحساس بالضبط. بدا وكأن شيئا حطّ عليّ يرفرف من السماء، فالتقطته نظيفا بين يديّ. لم أدر لماذا تصادف أن سقط في وعيي أنا. لم أعرف حينها، ولا أعرف الآن. ولكن ذلك حدث مهما يكن السبب. كان أشبه بالكشف. وربما التجلي هي الكلمة الأقرب. كل ما يمكنني قوله هو أن حياتي تبدلت في تلك اللحظة تبدلا دائما وجذريا، حينما أحرز ديف هيلتن تلك النقطة المزدوجة الجميلة في ستاد جينجو.
بعد المباراة (التي فاز فيها ياكولت فيما أتذكر)، ركبت القطار إلى شينوجوكو فاشتريت رزمة ورق وقلم حبر. فلم يكن هناك في ذلك الوقت أجهزة كمبيوتر أو برامج كتابة، فكان علينا أن نكتب كل شيء بأيدينا، حرفا بعد حرف. بدا لي إحساس الكتابة في غاية الطزاجة. أتذكر كم كنت مبتهجا. وكان قد مر زمان طويل منذ أن وضعت قلم حبر على ورقة.
بعد ذلك ظللت كلّ ليلة أرجع متأخرا من العمل فأجلس إلى مائدة المطبخ وأكتب. كانت تلك السويعات قبل الفجر هي الوقت الوحيد المتاح لي عمليا. وعلى مدار الأشهر الستة التالية أو نحو ذلك كتبت "اسمعوا غناء الريح". غلَّفت المسودة الأولى في الوقت الذي انتهى فيه موسم دوري البيسبول تقريبا. وبالمصادفة في ذلك العام، تغلب يالكوت سوالوز على الصعاب وخالف تنبؤات الجميع وفاز بالدوري المركزي، ثم مضى فهزم أبطال دوري الهادي وهانكايو بريفز في المسابقة الوطنية. كان موسما إعجازيا بحق جعل قلوب مشجعي يالكوت تحلق في عنان السماء.
****
"اسمعوا غناء الريح" عمل قصير، أقرب إلى نوفيلا منه إلى رواية. غير أن إكماله استغرق شهورا كثيرا وجهدا كبيرا. ويرجع بعض أسباب ذلك بالطبع إلى الوقت المحدود الذي استطعت تخصيصه للعمل عليه، ولكن المشكلة الكبرى كانت أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن كيفية كتابة رواية. وللحق أقول إنني وإن كنت أقرأ كل شيء، وأفضل روايات القرن التاسع عشر في روسيا والروايات البوليسية الأمريكية المحكمة، إلا أنني لم أكن نظرت بجدية إلى الرواية اليابانية المعاصرة، فلم تكن لديّ فكرة عن طبيعة الروايات التي كان يقرؤها اليابانيون في ذلك الوقت، أو عن كيفية كتابة رواية باللغة اليابانية.
لشهور عدة، كنت أعمل وفقا للتخمين المحض، متبنِّيا كلَّ ما يبو لي شبيها بالأسلوب ومتبعا إياه. ولما مضيت أقرأ المنتج النهائي كنت أبعد ما يكون عن السرور. بدا لي أن ذلك المنتج يحقق مقتضيات الرواية، لكنه في إجماله ممل، كتاب تركتني قراءته باردا. وقلت لنفسي إذا كان هذا هو إحساس الكاتب فالأرجح أن رد فعل القارئ سيكون أكثر سلبية. وجالت في خاطري فكرة كئيبة بأنني فيما يبدو لا أمتلك ما يقتضيه الأمر. وكان الطبيعي أن ينتهي الأمر عند ذلك الحد، فأنصرف عن الفكرة برمتها. لولا أن الكشف الذي تراءى لي في ستاد جينجو كان لا يزال ماثلا في عقلي محفورا فيه بوضوح.
عندما أرجع النظر أرى أنه كان طبيعيا تماما أن أعجز عن إنتاج رواية جيدة. كانت غلطة كبيرة أن يفترض شخص مثلي لم يكتب من قبل أي شيء على الإطلاق أنه قادر على الخروج بشيء عبقري على الفور. كنت أحاول تحقيق المحال. فقلت لنفسي، دعك من محاولة كتابة شيء معقد. انس كل الأفكار المعقدة عن "الرواية" و"الأدب" واجلس فدوّن مشاعرك وأفكارك حسبما تأتيك، بحرية تامة، وعلى النحو الذي يروق لك.
وفي حين كان من السهل الكلام عن تدوين المشاعر بحرية، لم يكن تنفيذ ذلك بالبساطة نفسها. وكان ذلك شاقا بصفة خاصة على مبتدئ مثلي. وللبدء من جديد، كأن أول ما ينبغي أن أفعله هو التخلص من الورق وقلم الحبر. فطالما بقيت أمامي، كان ما أفعله يبدو شبيها بـ "الأدب". وبدلا منها، تناولت آلتي الكاتبة أوليفيتي من الخزانة، ثم قررت على سبيل التجربة أن أكتب مفتتح روايتي بالإنجليزية. ولما كنت مستعدا لتجريب أي شيء، قلت لنفسي لم لا أمنح هذا فرصة؟
بديهي أن أقول إن الكتابة بالإنجليزية لم تكن لتعينني على الكثير. فمعجمي كان محدودا للغاية، وكذلك قدرتي على التركيب بالإنجليزية. لم أكن أستطيع أن أكتب إلا جملا قصيرة بسيطة. وكان معنى ذلك أنه مهما تعقدت الأفكار وتكاثرت حول رأسي، لم أكن أستطيع حتى أن أحاول تدوينها مثلما ترد لي. كان على اللغة أن تكون بسيطة، وأن يتم التعبير عن أفكاري بلغة يسيرة على الأفهام، وأن يتم تجريد وصفي من كل الدسم الدخيل، وأن يكون الشكل محكما، ويجري ترتيب كل شيء بما يتواءم وحاوية محدودة الحجم. فكانت النتيجة نثرا خشنا غير مصقول. وفيما كنت أناضل للتعبير عن نفسي بتلك الطريقة، بدأ إيقاع ما يتشكل تدريجيا وخطوة بعد خطوة.
ولما كنت قد ولدت في اليابان ونشأت فيها، فقد كان معجم اللغة اليابانية وأنماطها تملأ النظام الذي كان عليّ أن أفجره من الداخل انفجار حظيرة مكتظة بالماشية. حينما قصدت أن أصوغ أفكاري ومشاعري في كلمات، بدأت تلك الحيوانات في الحركة، وانهار النظام. وكان أن أزالت الكتابة بلغة أجنبية ـ بما تنطوي عليه من حدود ـ هذه العقبة. كما مضت بي إلى أن اكتشفت أنني قادر على التعبير عن أفكاري ومشاعري بمجموعة محدودة من الكلمات والبنى النحوية، طالما جمعتها الجمع الصحيح الفعال وربطت بينها بطريقة ماهرة. باختصارٍ تعلمت أنه ما من حاجة إلى الكثير من الكلمات الصعبة، وأنني لست مضطرا إلى إثارة إعجاب الناس بالتلاعب الجميل بالعبارات.
وبعد وقت طويل، اكتشفت أن الكاتبة أجوتا كرستوف كتبت عددا من الروايات البديعة عبر أسلوب كان له تأثير مشابه للغاية. كانت كرستوف مجرية هربت من نيوشاتل بسويسرا سنة 1956 أثناء الاضطرابات التي ألمت ببلدها. وكانت قبل ذلك قد تعلمت الفرنسية ـ أو أكرهت على تعلمها في حقيقة الأمر.  ولكنها من خلال الكتابة بتلك اللغة الأجنبية نجحت في بناء أسلوب جديد يخصها بامتياز. سمات ذلك الأسلوب هي الاعتماد على الإيقاع القوي القائم على الجمل القصيرة، والمعجم الذي لا يعرف الالتواء بل المباشر طول الوقت، والوصف الملائم الخالي من أية حمولة عاطفية. كان في رواياتها غموض يشي بأن ثمة أشياء مهمة مخبوءة تحت السطح. أتذكر أنني شعرت بطريقة أو بأخرى بشيء من النوستالجيا وأنا أقرأ أعمالها للمرة الأولى. ولقد صدرت روايتها الأولى "الدفتر" بالمصادفة سنة 1986، أي بعد سبع سنين فقط من "اسمعوا غناء الريح".
اكتشفت الأثر الغامض للتأليف بلغة أجنبية، وقد تمثّل في وقوعي على إيقاع مبدع يخصني وحدي، فأعدت الأوليفيتي إلى الخزانة، ورجعت من جديد إلى الورق وقلم الحبر، ومضيت "أترجم" الفصل الذي كتبته بالإنجليزية إلى اليابانية. ولعلي أكون أقرب إلى الدقة إن قلت إني "نقلت" لا "ترجمت"، فالأمر لم يكن ترجمة حرفية مباشرة. وقد تحتّم في ثنايا ذلك أن ينشأ أسلوب جديد باليابانية. الأسلوب الذي سيكون فيما بعد أسلوبي. الأسلوب الذي قد أكون اكتشفته بنفسي. فكرت وقتها أنني وقعت عليه. وعلمت أن هذا ما ينبغي أن أفعله. كانت لحظة صفاء حقيقي، حينما سقطت الغشاوة عن عيني.
قال البعض إن "لعملك إحساس الترجمة". ولقد نسيت المعنى الدقيق لهذا القول، لكني أتصور أنه يصيب كبد الحقيقة من جهة، ويخطئها تماما من جهة أخرى. فبما أن الصفحات الأولى في روايتي الأولى كانت "مترجمة" بصورة شبه حرفية، فالمعنى المقصود ليس مخطئا تماما، غير أنه ينطبق على مجرد عملية الكتابة. ما كنت اقصده حينما كتبت بالإنجليزية أول الأمر ثم "ترجمت" ما كتبت إلى اليابانية لم يكن يقل عن إبداع أسلوب "محايد" خال من الزخارف يتيح لي المزيد من حرية الحركة. وكان اهتمامي منصبا على خلق يابانية خافتة الحضور. كنت أريد توظيف نوع من اليابانية  بعيد قدر الإمكان عن اللغة المعروفة بالأدبية طلبا لكتابة لا يكون فيها إلا صوني الطبيعي. وقد تطلب ذلك عملا قاسيا. ولكنني كنت مستعدا أن أفعل أي شيء في ذلك الوقت وصولا إلى ذلك، فلعلي لم أكن أعتبر اليابانية أكثر من أداة وظيفية.
رأى بعض نقادي في هذا إهانة خطيرة على لغتنا القومية. واللغة شيء شديد الصلابة والتماسك يدعمه تاريخ طويل. وليس من الممكن خسران استقلالها أو الإضرار به إضرارا جسيما مهما تكن الطريقة التي يتم التعامل بها معها. غير أنه من الحقوق الأصيلة لكل كاتب أن يجرب إمكانيات اللغة على كل نحو يمكن تخيله، وبدون هذه الروح المغامرة لا يمكن أن يولد شيء جديد. وأسلوبي باليابانية يختلف عن أسلوب تانيزاكي، كما يختلف عن أسلوب كاواباتا. وهذا ببساطة أمر طبيعي. فأنا في نهاية المطاف شخص آخر، كاتب مستقل، اسمه هاروكي موراكامي.
****
وحدث في صباح يوم أحد مشمس أن تلقيت اتصالا هاتفيا من محرر مجلة جونزو الأدبية ينبئني فيها بوصول "اسمعوا غناء الريح" إلى القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الجدد المقدمة من المجلة. كان عام تقريبا قد مر على مباراة افتتاح الموسم في ستاد جينجو، وكنت قد بلغت الثلاثين. كانت حوالي الحادية عشرة صباح، ولكنني كنت لم أزل غارقا في النوم، بعدما تأخرت كثيرا للغاية في العمل في الليلة السابقة. تناولت السماعة في غير انتباه، ولم أدرك للوهلة الأولى من الذي على الطرف الآخر أو ما الذي يحاول أن يقوله لي. بل الحقيقة أنني بحلول ذلك الوقت كنت قد نسيت أنني أرسلت "اسمعوا غناء الريح" إلى جوزنو. فما كدت أنتهي من المخطوطة وأضعها بين يدي شخص سواي، حتى خبت رغبتي في الكتابة كلها. فلقد كانت كتابتها ـ إذا جاز القول ـ فعل تمرد. كنت قد كتبتها بسهولة شديدة، كما جاءتني ـ فلم تخطر لي قط فكرة أنها قد تصل إلى القائمة القصيرة، بل إنني في واقع الأمر كنت قد أرسلت إليهم نسختي الوحيدة من المخطوطة، فلو لم يقع اختيارهم عليها، لكانت تبددت إلى الأبد (لأن جونزو لم تكن تعيد المخوطات المرفوضة إلى أصحابها)، والأرجح أيضا أنني ما كنت لأكتب رواية أخرى. والحياة غريبة.
قال لي المحرر إن في القائمة القصيرة خمسة أنا من بينهم. واندهشت، لكنني كنت نعسان أيضا، فلم يخترقني واقع ما حصل اختراقا حقيقيا. نهضت من السرير، واغتسلت، وارتديت، وخرجت أمشي مع زوجتي. وبينما كنا نمر بالمدرسة الابتدائية المحلية، لاحظت حمامة زاجلة تختبئ في أكمة. فلما أمسكت بها تبيّن أن لها جناحا مكسورا. وكانت في ساقها حلقة معدنية. جعلتها بين يدي في رقة وحملتها إلى أقرب قسم للشرطة في أواياما أوموتيساندا. وفيما كنت أسير في شوارع هاراجوكو الجانبية، أخذ دفء الحمامة الجريحة يتسلل إلى يدي. شعرت بها ترتعش. كان ذلك الأحد ساطعا وصافيا، والأشجار والمباني وواجهات المحلات كلها تسطع جميلة في نور شمس الربيع.
في تلك اللحظة فهمت. سأفوز بالجائزة. وسأستمر إلى أن أصبح روائيا ينعم بدرجة ما من النجاح. كان افتراضا متهورا، ولكنني كنت واثقا في تلك اللحظة أن هذا ما سوف يحدث. واثقا تمام الثقة. لا بطريقة تنظيرية بل بشكل مباشر وحدسي.
****
كتبت Pinball في السنة التالية كجزء ثان لـ"اسمعوا غناء الريح". كنت لا أزال أدير حانة الجاز، ومعنى ذلك أن هذه الرواية أيضا كانت تكتب في آخر الليل على مائدة المطبخ. فبحب يمتزج بقليل من الخجل أقول إن هذين العملين يندرجان في فئة رواياتي المطبخية. وبعد قليل من انتهائي من هذه الرواية قررت أن أتفرغ للكتابة وبعنا الحانة. وعلى الفور جلست لأعمل على روايتي الكبيرة الأولى "مطاردة الخراف البرية" التي أعتبرها البداية الحقيقية لمسيرتي كروائي.
ومع ذلك، فإن هاتين الروايتين لعبتا دورا مهما فيما أنجزته. ولا بديل لهما، شأنهما شأن الأصدقاء القدامى، لا يحتمل أن نلتقي بهم من جديد، ولكني لا أنسى صداقنهم أبدا. لقد كان لهاتين الروايتين حضور حاسم وثمين في حياتي في ذلك الوقت. فقد بثّتا في قلبي الدفء ومنحتناني الشجاعة في طريقي.
لا زلت أتذكر بمنتهى الوضوح  كيف كان إحساسي بذلك الشيء الذي ـ مهما تكن طبيعته ـ حطّ بين يدي في ذلك اليوم قبل ثلاثين عاما على العشب الطالع وراء سياج ستاد جينجو، ولا زلت أتذكر بالقدر نفسه من الوضوح دفء الحمامة الجريحة التي تناولتها بنفس اليدين في ذلك الأصيل الربيعي بعد عام كامل قرب مدرسة سنداجايا الابتدائية. ودائما ما أستدعي الإحساسين كلما وجدت نفسي أتساءل عن معنى كون المرء روائيا. تلك الذكريات المحسوسة تعلمني الإيمان بأن ثمة ما أحمله بداخلي، والحلم بقدرات ذلك الشيء وإمكانيته. ما أروع أن يبقى الإحساسان بداخلي حتى يومي هذا.

نشرت هذه الترجمة في ملحق شرفات اليوم




*  هذا النص هو مقدمة هاروكي موراكامي لكتاب يصدر بالإنجليزية في الرابع من أغسطس 2015 عن دار نوبف ضاما روايتين صغيرتين هما "ريح" و" PINBALL ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق