‏إظهار الرسائل ذات التسميات مصر ـ ترجمات سريعة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مصر ـ ترجمات سريعة. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

أولجا توكراتشوك ... عالمة نفس تكتب انطلاقا من الهوس


أجري هذا الحوار خلال العام الحالي إثر ترجمة رواية "رحلات" لأولجا توكراتشوك إلى الإنجليزية ونشرها في الولايات المتحدة، وقد أجراه جون فريمان محرر موقع ليت هب وسط حضور من جمهور، وفي حضور مترجمة الرواية جينيفر كروفت. فريمان شاعر صدر له ديوان "خرائط" وكاتب صدر له "كيف تقرأ روائيا". وقد أعيد نشر الحوار أخيرا في موقع ليت هب إثر حصول توكراتشوك على نوبل.

أولجا توكراتشوك ...
عالمة نفس تكتب انطلاقا من الهوس

حوار: جون فريمان
جون فريمان: في براعة وغموض، ترتحل روايتك "رحلات" عبر الزمان والمكان. لك ثماني روايات، ومجموعتان قصصيتان، هل كان هذا هو الكتاب الذي لا يمكنك كتابته، نظرا لحجمه وما استوجبه من أسفار، إلا لو خضت تجربة الخفاء خلال السفر؟ هل بوسعك أن تكلمينا عن هذا؟
أولجا توكراتشوك: ظللت خفية إلى أن أدركت أنه لا بأس من تصفيف الواحدة شعرها في جدائل كثيرة. (ضحك) حينها بدأ الجميع يلتفتون إليّ ويسألونني عما يجري، فصار عليّ أن أشرح أن الأمر قديم للغاية، وأنه طريقة بولندية لتصفيف الشعر. شيء محلي جدا وما إلى ذلك. لكن نعم، أعتقد أن النساء عند عبورهن للأربعينيات من العمر، يصبحن جزءا من عالم الخفاء. ولهذه التجربة ـ كما توصف في كتابي ـ جوانبها الحسنة للغاية وجوانبها المقبضة. الجانب الحسن هو أن المرأة تصبح حتما ساردة بارعة، لأن أحدا لا يلاحظ مراقبتها إياه. فتكون لعينيها حرية الترحال في العالم ومراقبة كل شيء بدون، نعم، بدون أن يُلتَفَت إليها أصلا. وهذا وضع حسن جدا.
جون فريمان: هذا الكتاب مليء بالحواديت  التي يبدو وكأنها جمعت ورتبت بقدر ما ألفت وحكيت ولا أعرف إن كان يمكن أن تعطينا ولو لمحة عن النسبة [نسبة المؤلَّف إلى الحقيقي]. لأن الراوية في حالات عديدة تكون في مدينة أجنبية مجهّلة وتنطلق في حوار مع مسافر. فهل تخترعين أصالة هذا الواقع أم أن كثيرا من أحداث الكتاب تستند إلى تجربة واقعية؟
أولجا توكراتشوك: الغالبية تستند إلى تجربتي في السفر، لكن ليس في كل شيء لأن الراوية نفسها مخترَعة، مرسومة. فمثلا، الأمر الأول عند كتابة رواية مركبة من أجزاء صغيرة، رواية تقوم على شذرات، أنه يكون على الكاتبة أن تقدم شيئا ثابتا. موضعا ثابتا واحدا في الكتاب. ثم إنني أدركت منذ البداية أن ذلك الشيء يجب أن يكون راوية شديدة القوة. وبالطبع اخترعت هذه الراوية من واقع، من واقع وجهات نظري، ورؤاي، وسماتي وما إلى ذلك.
لكنني كنت على ثقة من أن هذه الراوية يجب أن تكون متعينة لدرجة أن ترد في مطلع الكتاب فقرة أعرض فيها تحليل دم الراوية. فيتسنى للقارئ أن يعرف حتى هذه التفصيلة العضوية المادية عن جسم الراوية. ليطمئن قلبه إلى أن هذه الراوية حقيقية حقا. نعم، كثير من هذه الرؤى ووجهات النظر يخصني أنا، ولكنني في بعض الأحيان كان عليّ أن أهرب من نفسي وأكون شخصا غيري. وهذه هي الحرية التي تنعم بها الكاتبة، وأحبها كثيرا، ولعلها السبب الحقيقي الذي يجعلني أفضل أن أكون كاتبة عن أن أكون عالمة نفس مثلا.
كان الأطفال أحرارا
جون فريمان: عندي فضول يا أولجا تجاه الرحلة الأولى في حياتك، فهل بوسعك أن تتذكريها؟
أولجا توكراتشوك: وأنا طفلة، وقد نشأت في زمن مختلف كل الاختلاف عن الزمن الذي نعيشه الآن، كان الأطفال أحرارا. كان بوسعهم أن يخرجوا إلى الفناء، ويمضوا بعيدا إلى الحديقة، ولم يكن يحيط بنا الشواذ ذوو الميول الجنسية إلى الأطفال. لا أعرف، كان العالم مختلفا. وهكذا، وأنا فتاة صغيرة كان يحلو لي استكشاف مكاني. كنت أخرج في رحلات قصيرة وطويلة وفي إحدى هذه الرحلات ذهبت إلى نهر أودر الذي كان في منطقتي، على بعد كيلومترين، أو قرابة الميل، من بيتنا. وانتابني للمرة الأولى في حياتي إحساس الغازية. إحساس الشخص شديد الجسارة، الشخص الذي يقوم بما لم يقم به أحد قبله. تلك كانت تجربة شديدة الأهمية لي في طفولتي. استكشاف العالم، وكذلك الاطمئنان إليه والثقة فيه.
أظن أن أطفال اليوم محرومون من مثل هذه التجربة، من استكشاف المكان المحيط بهم. لم أزل أتذكر اللحظة التي وصلت فيها إلى النهر، وبدا النهر هائلا بالطبع، ومسحورا. كان حدثا. قلت لنفسي "لقد فعلتها". لم يكن إلا ميلا ولكنها كانت خطوة كبيرة للإنسانية. (ضحك)
جون فريمان: في هذا الكتاب شيء يخص العناصر، ذلك الماء الذي يظل يظهر، والحيتان السابحة عبر الكتاب. يشعرك هذا وكأنها رحلة حقيقية، بالمعنى الكلاسيكي، تنتهي بالماء أو ترتحل عبره؟ ذلك ما نتوق إليه بطريقة ما؟
أولجا توكراتشوك: بالطبع. هذه استعارة لوعينا. الأمر تافه لكنني أظنه ناجحا: الماء حد، رمز للحدود التي يمكننا اجتيازها. السفينة استعارة أخرى، والقارب. اجتياز الماء في ظني لم يزل قائما دون الوعي المشترك، الوعي بالأمريكان. أنتم من منظورنا الأوربي وراء الماء. لكن هذا شديد الأهمية. والماء أيضا مسطح، وخطير، لكنه في الوقت نفسه مثمر إذ يمنحنا القوة لإنماء النبات.
فهو إذن حاوية للمعاني لا تنضب. وبالنسبة لي، أعتقد أنني اكتشفت في خرائط طفولتي، أي مبكرا جدا، أن أشكال الأنهار تشبه أشكال الأعصاب البشرية، والعروق البشرية. هذا الكتاب له جذور شديد العمق في الكسور. في كون الأشياء الضخمة شديدة التماثل مع أصغر الأشياء. ومن ثم فنحن نعيش في نموذج مصغر متصل كما تعلمون من اتجاهات كثيرة ومن نقاط كثيرة، فهو من ثم شيء ميتافيزيقي في ضوء فكرة الكسور هذه.
الهرب من الكتابة
جون فريمان: عندي فضول، قبل أن نتعمق في هذ الكتاب، أنت درست علم النفس وأثر هذا أيضا حاضر في الكتاب في حياة الراوية المخترَعة. وقرأت أن كارل يانج مهم عندك بصفة خاصة. على أي نحو ترك هذا أثرا في طريقة حكيك للقصص؟
أولجا توكراتشوك: أمي كانت أستاذة للأدب البولندي، وكان مخططا لي أنا الأخرى، بطريقة ما، أن أدرس الأدب مثلها. لكن من حسن حظي أن خضت معها معركة مراهقة، كانت بمثابة تمرد كبير على أبويّ، وهذه حالة صحية تماما للعقل. فقررت أنني لن أدرس الأدب ولن تكون لي علاقة بالأدب. كان علم النفس مجالي، بغاية العمق، واقتنعت بأن أدرسه. لكن عليك أن تراعي أن ذلك كان في مطلع الثمانينيات في بولندا، وكان وقتا مقبضا إلى أبعد حد. قانون مارشال Marshall Law ، المتاجر الخاوية، حالة الكآبة العامة في بلدنا. فكان علم النفس أيضا مهربا من الواقع ولو بدرجة قليلة. وبالطبع كنت قد قرأت سيجموند فرويد في المدرسة الثانوية فكان صاحب أول أثر عليّ من علم النفس. فبغاية السذاجة فكرت أن كل دراستي في علم النفس سوف تقتصر على سيجموند فرويد. وبالطبع لا، فقد كنا في ظل حكم الشيوعيين، والوسط الأكاديمي، العالم الجامعي، كان يفضل التركيز على الفهوم السلوكية للبشر. لكن في ثنايا دراستي لعلم النفس سرعان ما بدأت العمل على حالات، مع مرضى. تطوعت منذ البداية الأولى. ثم اكتشفت أول اكتشافاتي الضخمة: أن الواقع قد يُرى من وجهات نظر شديدة الكثرة.
قد يبدوا هذا تافها الآن، في القرن الحادي والعشرين، لكنه، قبل سنين كثيرة، كان ثورة بالنسبة لي. هذا معناه أنه ما من موضوعية، ولكن حسبنا أن نرى الواقع من وجهات النظر هذه. وأتذكر أحد حالاتي الأولى ـ حالة أسرة وشقيقان يحكيان لي قصة تلك الأسرة. فجاءا بقصتين مختلفتين كل الاختلاف عن الأسرة الواحدة. ثم قلت "تمام. ما معنى هذا؟" أعتقد أنها كانت خطوتي الأولى إلى الكتابة لأنني مصرة على أن الكتابة هي البحث عن وجهة نظر معينة ومحددة في واقع واضح للكثيرين. ونحن الكتاب علينا البحث عن وجهات نظر محددة تغير المنظور، تبين أن فيما نراه شيئا جديدا. هل هذا واضح ـ هل واضح ما أقوله ...؟
ما الذي يجري في أجسامنا؟
جون فريمان: واضح طبعا. اللافت في كتابك هو كيف أنه في مركز الكون يوجد هذا الصوت الذي يقودك عبر هذه القصص، ثم تنطق القصص بنفسها، ترتحل كل منها عبر خمس صفحات، وأحيانا أقل من ذلك، وأحيانا أكثر، وكيف في اللحظة التي تكتسب فيها القصص زخم التجربة المعيشة الثقيل، إذا بها تقطع ثم يرجع الصوت وتنطلق مجموعة أخرى من القصص. في هذا الكتاب يا أولجا كثير من عينات الجسد الإنساني، سواء المحفوظ في الفورمالديهايد أو المستنسخ في الفن، أو المبتور. عندي فضول ـ من الواضح أن لديك اهتماما أكيدا بالجسد.
متى توصلت إلى طريقة لربط هذا [أي الجسد] بأسئلة الترحال والتنقل الاستعارية والميتافيزيفية. فبالنسبة لي لم يحدث قط لهذا الربط بين الجسد القائم في الزمان والمكان على مدار أعمارنا ورغبتنا في تخليده عبر تحويله إلى عينة، وحركتنا في العالم وقدرتها على إشعارنا باللانهائية.
أولجا توكراتشوك: ليت بوسعي أن أجيب هذا السؤال ولكنني للأمانة لا أتذكر متى حدث أن بدأت أربط بين هذين الأمرين. لقد كتب هذا الكتاب في ما أعتقد قبل اثني عشر عاما أو ثلاثة عشر. أعتقد أن بداية هذه الفكرة كانت أزمتي في منتصف العمر. أتذكر لحظة في حياتي كنت أجلس فيها في غرفة الانتظار لأدخل إلى الطبيب بهدف إجراء تحليل ما، تحليل دم أو ما شابه. ثم أدركت أنني أعرف الكثير عن الفضاء الخارجي، من قبيل مواضع الكواكب، وأشياء كثيرة عن جغرافيا الأمازون وما إلى ذلك، ولكنني لا أعرف كيف يعمل كبدي؟ ما لون معدتي؟ كيف تجري عروقي تحت جلدي؟ أدركت أنه نقص معرفي صادم ولا بد أن كوننا لا نعرف أجسامنا أمر مقيت.
ثم حدث بالطبع وأنا أسافر وأبحث من أجل هذا الكتاب أن اكتشفت أن هذا الهوس قد استقر في أكثره في هولندا كلها. لقد شعر الهولنديون قبل نحو ثلاثمئة سنة بمثل ما شعرت به في غرفة الانتظار. ما الذي يجري في أجسامنا؟ لماذا هي لغز هائل بالنسبة لنا؟ ثم بدأت أدرس تاريخ التشريح. والحمد لله أن كانت لدي في تلك الفترة منحة في أمستردام فقضيت قرابة سنة في دراسة تاريخ التشريح. وثمة نقطة حاسمة للغاية في هذا الكتاب، اكتشفتها بالصدفة، وهي أنه في وقت واحد من عام واحد، هو عام 1574، ظهر الكتابان الكبيران ونشرا. أحدهما ـ وهو الشهير ـ هو الذي قال لنا كيف أقيم الكون وكيف يعمل، وفي الوقت نفسه صدر كتاب فيساليوس Vesalius "أطلس الجسم البشري" Atlas of the Human Body، وإذن في هذه اللحظة المحددة من ذلك العام، ارتبط الكونان الصغيران. وطبعا الكتاب قائم على حدس، ففي بعض الأحيان يصعب للغاية أن أفسر ما الذي عنيته حقا وكيف تم تصميمه. لكن نعم، هذا هو نوع الغموض القائم في تأليف كتاب كهذا، إذ يكون عليك أن تثق في حدسك. وفي بعض الأحيان يكون هذا الحدس جنونا، وفي بعض الأحيان تشعر أن لديك هوسا وأنك قد تكون مريضا ومع ذلك تستمر.
لا يزال العالم لغزا
جون فريمان: كان من البواعث إلى شيء من الطمأنينة أن أحد علماء التشريح في الكتاب، بعد تشريحه ـ إنسانا أو حيوانا لا أتذكر بالضبط ـ قال إن الجسد ليس أكثر من ميكانيزم، آلية. لا أعرف إن كنت توافقين على ذلك. أرى شخصا يموت فيكون أول رد فعل لي "أوه، إن هذا إلا آلة مقدسة"، وفي هذا شيء من العزاء. فهل توافقين؟
أولجا توكراتشوك: لا، وتبدو لي وجهة نظر عفا عليها الزمن، أقرب إلى فجر عصر التنوير حين بدأ الناس يرون العالم بضع آليات، دُمَى، عادات. في حين أعتقد أنه لم يزل لغزا. نحن لا نعرف ـ وإن يكن لدينا العلم وإن كنا نعرف إلى حد كبير كيف يعمل المخ، تبقى هناك مجالات كثيرة غير مكتشفة. لا زلنا لا نعرف إجابات أسئلة زماننا الكبيرة، الكبيرة بحق. كيف هو عمل الوعي، كيف يعمل؟ لماذا نشعر بالتمايز عن بقية الواقع؟ نعم، الوعي شيء لا يزال في غاية الغموض، في منتهى الغموض في رأيي.
جون فريمان: ثمة مشهد لشخصية في طائرة مع عالم فيزياء فلكية يدرس المادة المظلمة. هذا الكتاب مليء بمعلومات منذرة، وفي ذلك الحوار معلومة بأن في الكون من المادة المظلمة أكثر مما فيه من المادة الظاهرة، ثم ينظر الفيزيائي من الشباك ويقول "نحن أصلا لا نعرف لماذا هي موجودة" وكأنما الطائرة تطير عبرها. وأتساءل ـ هذا النوع من المعلومات يتوسل السؤال، هل القوس الذي نعيش تحته في الكون، هل هو قائم على الغموض، وأيضا على القليل من الإيمان؟ إيمان بالبداية، بداية الكون، أم أن في هذا إفراطا في السذاجة.
أولجا توكراتشوك: لا أعرف. ككاتبة، لدي شجاعة أن، أن أطرح أسئلة ولا أعثر لها على إجابات لأن عليّ في هذه الحالة أن أغير مهنتي وأكون عالمة. وهذه حرية أكبر، أن أكون كاتبة. مجرد التساؤل، وعرض الغرائب. نعم، أرجوكم فكروا وأنتم تقرأون هذا الكتاب. واسألوا أنفسكم فقط ما الذي يجري.
أما أنا فأفتعل الهوس
جون فريمان: سأطرح سؤالا إضافيا أو اثنين، وأشك أن لديكم [أي الجمهور الحاضر للحوار] بعض الأسئلة أيضا.  من الأمور الخرافية في "رحلات" أن الكاتبة قادرة على خلق الكثير من الحيوات بغاية السرعة، والقابلية للتصديق، ثم تتجاوزها وكأن ذلك أمر شديد السهولة. الأمر أشبه بطرح هذه التفاعلات العابرة الخاطفة مع أولئك الناس المثيرين للاهتمام الذين يتحتم عليكم أن تودعوهم، في رحلتهم، في قطارهم، في محطة الحافلات.
وأنا أفكر في البعض منهم، هناك رجل في إجازة مع زوجته وطفلهما على جزيرة بالقرب من كرواتيا. يتوه الولد والزوجة. هناك الرجل الذي لا بد من بتر ساقه، ولديه عرض الساق الوهمية. هناك رجل آخر لديه هوس بالفرج فيلتقط الصور لبنات أعتقد أنهن دون سن الرشد ولكنه في الوقت نفسه يجري أبحاثا في التشريح. فكأنه في مطاردة. وكثير من أولئك الناس في هذا الكتاب يبحثون عن شيء ضائع. وأتساءل إن كان بوسعك أن تتكلمي عن مقدرتنا على تحويل الغياب إلى سرد وما ـ بل أين تنهار هذه الوظيفة السردية وتتحول إلى هوس؟ لأنني أعتقد أن الهوس هو نقيض السرد. الهوس تكرار جملة مرارا وتكرارا، في حين أن في السرد إيضاحا.
أولجا توكراتشوك: أوه، أختلف معك. أعتقد أن الهوس سرد، لأن الحنان تكراري، أما الهوس فما كنت ... مستحيل أن يكتب كتاب كهذا بدون هوس. إنني أعمل على الهوس.
جون فريمان: وأنأ أيضا (ضحك)
أولجا توكراتشوك: نعم، بل إن لدي طقوسا لأضع نفسي في الهوس. الأمر أشبه بتعويذة ما، أتفهم؟ أكبر هوس عرفته في حياتي كان هوسا مرتبطا بـ"كتاب يعقوب". هوس طال لثماني سنوات، أتتخيل؟، لا أقرأ إلا أشياء مرتبطة بالقرن الثامن عشر، باليهود والثقافة اليهودية والصوفية وبداية التنوير في وسط أوربا. كان هوسا صعبا، شديد الصعوبة. الحمد لله أني نجوت من هذا ونتيجة الهوس كانت الكتاب. لذلك أنا مؤمنة بالهوس. الهوس إيجابي. نعرف أن الهوس قد يدمرنا ولكنه من وجهة نظري يحفظ الطاقة عند نقطة ما. وهو قد يكون مؤلما لكنه مثمر للغاية.
هل تؤمنين بإله؟
جون فريمان: هذا أيضا وصف جيد للصلاة، كونها تحفظ الطاقة عند نقطة ما. وأنا أقرأ هذا الكتاب، أجد كثيرا من الناس يسعون وراء أمور شبه روحانية. رجل يذهب إلى الهند لأنه يريد أن يعثر على الشجرة التي وصل بوذا تحتها إلى التجلي، وهناك من يتلكمون أو يسألون ـ أعتقد أن الصلاة سؤال عن الله وأن السباب swearing  حديث إليه ـ خرجت من هذا الكتاب برغبة ملحة في أن أسألك إن كنت تؤمنين بالإله؟
أولجا توكراتشوك: (بعد صمت) أي إله؟ (ضحك)
جون فريمان: هذا برهان على الكتاب (ضحك) لا، لا أعتقد أنني أسأل عن كيان هائل، طويل اللحية، محاط بأطنان من الكتب والبرق والعقاب والعار. بل عن قوة ما، قوة إبداع وتنظيم ... ؟
أولجا توكراتشوك: نعم بالطبع، أكرر نعم، أنا مؤمنة. لكن من المؤكد أنه، أو أنها أو أن ذلك الكيان ليس شيئا شبيها بالبشر. بالتأكيد لا. لعله كيان يدهشه كل هذا الذي نقوله عنه.
أحلم برحلة إلى بيتي
جون فريمان: سؤال أخير، أما وأن هذا الكتاب عنوانه "رحلات"، ويملؤني رغبة في الترحال لأن الكاتبة تتكلم كثيرا عن الرحلات في هذا الكتاب كأنها رحلات حج، والمرء حينما يرى مشواره اليومي رحلة حج، فإنه بغتة ينظر حتى إلى ركام طريقه نظرة مختلفة. لو أننا أنا وأنت جالسان أمام إحدى تلك اللوحات العملاقة في المدن التي نسافر منها وبوسعك النظر إلى لوحة تكاد تكون بلا نهاية، فأي المدن يبعث اسمها فيك الرغبة في بدء رحلة؟
أولجا توكراتشوك: عليّ أن أفكر قليلا. لا أعرف حقا. لقد تغير رأيي كثيرا خلال تلك السنوات العشرة أو الاثنتي عشرة والآن عندي بيت في بولندا في القسم الجنوبي من بولندا، وهو ذلك الذيل الصغير الذي يظهر في خريطة أوربا. وهذا الجزء من بولندا لم ينتم قط إلى بولندا تاريخيا. كسبنا هذا الجزء البولندي قبل الحرب العالمية الثانية على سبيل الهدية من يالطا في مقابل ضياع جزء ضخم كما تعلم من الأرض في الشرق. أعيش هناك إذن في بيت قديم هو الآن في طور الترميم، وكل يوم أتصل بزوجي من الولايات المتحدة لأسأله عن السقف والأنابيب والشبابيك وما إلى ذلك. لذلك أعتقد أنني، أنني أحلم بالرجوع إلى هناك والاهتمام بكل تلك الترميمات. (ضحك) وجهة مختلفة كل الاختلاف.

نشرت هذه الترجمة  في جريدة عمان في 12 أكتوبر 2019

الخميس، 25 يناير 2018

ليدرك ترامب أن دكتاتور مصر ليس صديقا للولايات المتحدة


ليدرك ترامب أن دكتاتور مصر ليس صديقا للولايات المتحدة

افتتاحية واشنطن بوست في 24 يناير 2018

بعد لقاء مع الحاكم المصري عبد الفتاح السيسي السبت الماضي، قال نائب الرئيس بينس للصحفيين إنه أثار خلال اللقاء قضيتي الأمريكيين المسجونين ظلما في القاهرة  فضلا عن معاملة المنظمات غير الحكومية والحرية الدينية. وفي هذه الأمور جميعا، ومن بينها قضيتا المواطنين الأمريكين، يمارس النظام المصري انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان،  بينما يستمر في تلقيه أكثر من مليار دولار سنويا من المساعدات الأمريكية. لذلك أحسن السيد بينس بحديثه في هذه القضايا، لكن الغريب أنه كرّر وصف السيد السيسي بـ"الصديق" وقوله إن العلاقة الأمريكية المصرية "لم تكن قط أقوى مما هي عليه الآن".
وكان الأكثر إحباطا، لكثير من المصريين، هو عدم تعليق السيد بينس على المحاكاة السخيفة للديمقراطية التي نفذها السيد السيسي قرب زيارته. ففي يوم الجمعة، قبيل وصول نائب الرئيس، أعلن رجل مصر القوي رسميا أنه سيكون مرشحا للانتخابات الرئاسية في مارس. وكونه المنافس الوحيد الجاد لا ينبع من عدم اهتمام المصريين بالبدائل. فقبل إعلان السيد السيسي، تعرض منافسان قويان محتملان هما رئيس الوزراء الأسبق وقائد القوات الجوية أحمد شفيق ومحمد أنور السادات وهو ابن شقيق رئيس سابق للجمهورية للإرغام على الخروج من السباق. فاعتقل السيد شفيق وحبس انفراديا إلى أن استسلم.
ويوم الثلاثاء، اعتقل قائد عسكري كبير سابق هو سامي عنان وتم إرغامه على تعليق ترشحه للرئاسة بعد أربعة أيام فقط من إعلانه عنه. كان السيد عنان هو ثاني كبرى القيادات العسكرية في مصر عند إقالته في 2012 على يد الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي أطيح به هو الآخر على يد السيد السيسي في انقلاب 2013 الدموي. والسيد عنان ـ شأن السيد شفيق ـ ليس إسلاميا ولا ديمقراطيا ليبراليا، وهذان هما التياران السياسيان الأكثر تعرضا للقمع على يد النظام الحالي.  ولكن السيسي يوضح أنه لن يتسامح مع منافسة انتخابية وإن جاءت من أعضاء في مؤسسته العسكرية الحاكمة.
وفي حين أن إدارة ترامب قد تتجاهل هذا الانتهاك للأعراف الديمقراطية التي خرجت حشود المصريين في مثل هذا الأسبوع قبل سبع سنوات لدعمها، إلا أن على الإدارة أن ترى في أفعال السيد السيسي ما يستدعي القلق. فقد عجز الجنرال عجزا سافرا عن إحلال الاستقرار في مصر طوال نصف العقد الماضي، وعن منع نمو فرع فتاك من أفرع الدولة الإسلامية في شبه جزيرة سيناء. وأساء إساءات بالغة في إدارة الاقتصاد بدعمه مشاريع فرعونية الضخامة مع تنفيره للمستثمرين. أما القمع السياسي فهو الأسوأ ضمن ما شهدته مصر في تاريخها الحديث، حيث قتل الآلاف أو اختفوا، وسجن عشرات الآلاف، وسقط ما كان في يوم من الأيام مجتمعا مدنيا إعلاميا حيويا.
لا عجب أن يقدم جنرالان كبيران متقاعدان نفسيهما كبديلين للسيد السيسي. وحين يكون رد فعله على ذلك هو اعتقالهما  فهذا يكشف عن خوفه على موقعه، لأن القاعدة التي يقف عليها الرجل القوي تتآكل باطراد. وبدون دعم غالبية نخبة الجيش ـ وهي في ذاتها أقلية داخل مصر ـ ليست للسيد السيسي فرصة تذكر في معالجة مشكلات البلد الداخلية المتفاقمة أو إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية. وذلك لا يجعل منه صديقا للولايات المتحدة بل يجعله عائقا في طريقها.

انتخابات مصر غير الديمقراطية


انتخابات مصر غير الديمقراطية
سارة خورشيد
لو كان ثمة أي شك في أن انتخابات مصر القادمة لن تكون ديمقراطية أو عادلة، فقد أصبح ذلك واضحا وضوح الشمس بعد اعتقال رئيس أركان الجيش المصري الأسبق سامي عنان إثر إعلانه الترشح للرئاسة.
لن تؤكد انتخابات مارس بأي حال شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي لدى الشعب المصري. فهذه الحملة الانتخابية هي محض امتداد لصراع السلطة الداخلي بين الجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بآليات الديمقراطية الجديرة بهذه التسمية.
في أولى ساعات صباح يوم السبت، رجع عنان إلى المشهد السياسي. ففي إعلان متلفز بثه عبر صفحته الشخصية في فيسبوك بعد منتصف الليل، أعلن الجنرال المنتمي إلى عصر مبارك نيته الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
"اعتبارا من الآن سيكون [السيسي] مجرد مرشح بين مرشحين". هكذا أعلن واثقا بنبرة من يقر واقعا، وكأنما يرد على التهديدات التي أطلقها الرئيس قبيل ساعات ضد "الفاسدين" الذين حذرهم السيسي من محاولة "الاقتراب من هذا الكرسي".
بعد أيام قليلة، ظهرت ثمار تهديدات السيسي الغاضبة. إذ اعتقل عنان يوم الثلاثاء بعد إذاعة بيان منسوب إلى الجيش في تليفزيون الدولة. اتهم البيان عنان بانتهاك القواعد بمحاولته الترشح للانتخابات بدون تصريح مسبق من الجيش وللـ"التحريض ضد القوات المسلحة بهدف إحداث شق" بين الجيش والشعب المصري. لقد بدا واضحا للعيان أن السيسي خائف حتى من عملية انتخابية شبه حرة وأنه يشك في فرصه أمام مرشح بوضعية عنان.
لقد شجّع الرئيس المصريين على التصويت. إذ قال في المؤتمر الذي عقده قبل إعلان عنان نيته دخول السباق "اختاروا من تريدون لكن صوتوا". ذلك أن المظهر التجميلي للانتخابات الديمقراطية مفيد لصورته داخليا وخارجيا طالما أن انتصاره مضمون.
أعطت الأيام الثلاثة الفاصلة بين إعلان عنان واعقتاله كثيرا من النشطاء شعاع أمل وتسببت في إثارة لم تحدث منذ سنين. فقد تسببت قرابة أربع سنوات من حكم السيسي في يأس كثير من المصريين لدرجة أن رأوا في إعلان جنرال عسكري آخر بادرة إيجابية، ويصعب أن نلومهم على ذلك. لأن سنوات من اعتقال النشطاء والخصوم بغير إجراءات قضائية، ومن الاختفاءات القسرية والقتل، ومن الاعتقالات السياسية لفترات طويلة، ومن فيض الأحكام بالسجن والإعدام، قد جعلت المصريين يتحرقون إلى بديل. وعلى الصعيد الاقتصادي، اقترن بإخراس المعارضين ارتفاعٌ في الأسعار وفي معدل التضخم بنسبة تتجاوز العشرين في المائة.
أعلن عنان عن شخصيتين مرموقتين تكونان من مساعديه، وهما هشام جنينة وحازم حسني. والأول منهما رئيس سابق لجهاز تابع للدولة معني بمكافحة الفساد أقاله السيسي بعد زعمه أن تكلفة الفساد في مؤسسات الدولة بلغت بلايين الدولارات. والثاني أكاديمي مرموق مناصر للديمقراطية يشتهر بنقده اللاذع لحكم السيسي. حتى اختيار عنان للكلمات التي خرج بها إعلانه المتلفز لقيت ثناء بوصفها مناقضة بوضوح لخطاب السيسي الأبوي ("ما تسمعوش كلام حد غيري" هكذا قال السيسي ذات مرة في خطاب من خطاباته). بينما كرَّر عنان مخاطبة جمهوره بـ"الشعب السيد في الوطن السيد".
لكن عنان يأتي من نفس القوات المسلحة التي ينتمي إليها السيسي، شأنه في ذلك شأن مبارك وأنور السادات وجمال عبدالناصر. وفي لحظة اليأس الراهنة في مصر، يبدو من السهل نسيان ما يعرفه الجميع، وهو أن الحيش وقيادته ينعمان بمزايا غير ديمقراطية وحصانة من المساءلة الشعبية أو البرلمانية منذ إطاحة عبدالناصر والضباط الأحرار بالملكية سنة 1952.
المدني الوحيد الذي وصل إلى المكتب الرئاسي في تاريخ مصر الحديث هو محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وقد أطاح به الجيش في 2013 عقب مظاهرات حاشدة ضد حكمه. وقد دأب مرسي خلال سنته الوحيدة في الحكم على مداهنة الجيش والشرطة بالثناء عليهم والتعامي عن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان، فلم يشفع له ذلك ليحظى بدعم الجيش وقوات الأمن.
ميول عنان السياسية وموقفه من حقوق الإنسان واضحة منذ أن كان الرجل الثاني في المجلس العسكري الذي حكم مصر بعد الإطاحة بمبارك في 2011 وحتى انتخاب مرسي رئيسا سنة 2012. إذ اتسم حكم المجلس العسكري المؤقت بقتل المتظاهرين، وكشوف العذرية التي أجريت للخصوم من النساء، ومذبحة ماسبيرو سيئة السمعة التي شوهدت فيها سيارات الجيش وهي تدهس حشود المسيحيين الأقباط الأرثوذكس.
قد يعد ترشح عنان وانتهاؤه المفاجئ مؤشرا على انقسام بين الأجهزة الأمنية: أي الشرطة والأمن الوطني والجيش والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة. فقد سبق إعلان عنان بالترشح قرار من السيسي في وقت أسبق من الأسبوع نفسه أطاح من خلاله برئيس المخابرات العامة ووضع بدلا منه أحد الموالين له ليرأس الجهاز مؤقتا. لقد كان السيسي لوقت طويل رئيسا لجهاز المخابرات العسكرية قبل أن يصبح وزيرا للدفاع ثم رئيسا. ويتكهن كثير من المراقبين بأن هناك صراعا على السلطة بين جهاز المخابرات العسكرية الموالي للسيسي وجهاز المخابرات العامة الذي قد لا يكون كذلك. ويبدو أن السيسي ينجح حاليا في اختراق الجهاز الأخير هو والموالون له. فابنه يحتل حاليا موقعا في جهاز المخابرات العامة، وتردد أنه صاحب رئيسه المقال حديثا في زيارة إلى واشنطن.
يصعب أن نعرف بدقة تفاصيل العلاقات بين الأجهزة الأمنية في ضوء نقص الشفافية في ما يتعلق بمؤسسات الدولة في مصر. لكن لا يمكن للمرء أن يتجاهل التعديلات الفجائية [في المناصب] التي شهدتها تلك الأجهزة في الفترة الأخيرة أو الواقعة الغريبة الخاصة بمسؤول عسكري كبير آخر من عهد مبارك هو أحمد شفيق إذ أعلن نيته خوض الانتخابات الرئاسية ثم انسحب بغموض بعد أسابيع قليلة.
يرجح أن عنان قد تأكد من تمتعه ببعض الدعم من دوائر الحكم قبل إعلانه الترشح للرئاسة، لكن ترشحه حاليا يزداد اضطرابا. ومثلما لم يعكس إعلانه المبدئي أي منافسة ديمقراطية حقيقية، فإن اعتقاله يبين أن الأجهزة العسكرية والأمنية غير الخاضعة تقريبا للمحاسبة تحل مشكلاتها الداخلية بتقديم مرشحين لخلق واجهة من الانتخابات الديمقراطية. والشعب المصري لديه بعض القوة لكن لا يتاح له أن يعرف ما الذي يجري داخل دوائر صنع القرار.
ثمة مجموعة صغيرة ومؤثرة من الناشطين المناصرين للديمقراطية حاولت التشبث في العملية الانتخابية كملاذ ضيق وفرصة ضئيلة. ومن خلال دعم مرشح ثالث هو محامي حقوق الإنسان خالد علي، سعى أولئك النشطاء إلى فتح المجال السياسي الكسيح وإتاحة مجال للشباب  والديمقراطيين في السياسة.
اعتقال عنان دفع علي إلى الانسحاب من السباق. وكان فريق حملة علي يعاني بالفعل من حملة ضده وعوائق مستمرة في طريقهم، لا سيما من أجهزة الدولة البيروقراطية التي كان عليهم أن يجمعوا من خلالها 25 ألف توكيل رسمي مطلوبة قانونا لترشحه.
شعبية خالد علي كانت محدودة دائما. فقد فاز بأقل من واحد في المئة من الأصوات حينما ترشح في 2012. ولعل هذه الشعبية زادت بعد رفعه قضية شهيرة ضد قرار السيسي بتسليم جزيرتين في البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية، قيل إنهما كانا ثمنا لمساعدة السعودية ودعمها. وبرغم ذلك لم يشكل علي تهديدا انتخابيا جديا للسيسي. عنان كان التحدي الجاد، وشأن شفيق، كان لا بد من إيقافه.
يثبت اعتقال عنان مرة أخرى أنه ما من أمل في إحلال الديمقراطية بمصر بغير تفكيك سلطات النظام الكلبتوقراطية والإصلاح الراديكالي لأجهزة الأمن التي حصنت نفسها من الرقابة الشعبية والمحاسبة الحقيقية منذ عقود.
لقد حاول كثير من الملتزمين بالديمقراطية أن يتحلوا بالتفاؤل حينما أطيح بمرسي في عام 2013. كانوا يريدون الظن بأن حكم الإخوان المسلمين المحافظ قد ولى وأن السيسي لن يجرؤ على تحدي الإرادة الشعبية مرة أخرى بعدما رآهم يخرجون حشودا إلى الشوارع في 2011 و2013. وتعلموا بقسوة أنهم كانوا مخطئين، وأن حكم العسكر هو حكم العسكر وأن النظام الذي تديره أجهزة الأمن هو نقيض الديمقراطية.
كاتبة المقال: صحفية مصرية تنشر مقالاتها في نيويورك تايمز وجارديات والشروق وجدلية وكثير من المنابر الإعلامية.

عن فورين بوليسي ـ 24 يناير 2018


السبت، 13 يناير 2018

مشاحنات مصر والسودان تخيم على آفاق الاتفاق على سد النيل الكبير

مشاحنات مصر والسودان تخيم على آفاق الاتفاق على سد النيل الكبير
مجلة: فورين بوليسي ـ في 11 يناير 2018
بقلم: كيث جونسن
تخيم المشاحنات الدبلوماسية بين مصر والسودان بظلالها على النزاع قديم العهد على السد الذي تقيمه إثيوبيا على نهر النيل وتراه القاهرة خطرا يهدد وجودها.
حذر السودان رسميا يوم الخميس الماضي من تهديدات على حدوده الشرقية من جراء تجميع قوات مصرية وإريترية، كما تحركت مصر أيضا إلى مثلث من الأرض تتنازع عليه كل من القاهرة والخرطوم. وفي أواخر الأسبوع الماضي، استدعى السودان فجأة سفيره لدى القاهرة، فكان ذلك فصلا في المعركة التي بدأت الصيف الماضي بمقاطعات تجارية واحتدمت الأسبوع الماضي.
هذا الدم الفاسد في جوهره جزء من صراع إقليمي أكبر يضم مصر والعربية السعودية ودولا أخرى ضد ما تعتبره تدخلا من تركيا في المنطقة. لقد دعمت أنقرة قطر في معركتها الدبلوماسية مع دول خليجية أخرى، وها هي الآن تقفز مباشرة إلى البحر الأحمر، لتثير أعصاب مصر بصورة متزايدة. ولقد استشاطت مصر بصفة خاصة عندما زار الرئيس التركي رجب طيب إردوجان السودان في ديسمبر 2017 وفاز بحقوق في جزيرة سواكن، وهي مدينة وميناء على البحر الأحمر، مثيرا المخاوف من استطاعة أنقرة بناء قاعدة عسكرية هناك.
يزيد هذا النزاع الدبلوماسي من صعوبة التوصل إلى صفقة في مشكلة أخرى محتملة الانفجار في العلاقة: أي دعم السودان لبناء إثيوبيا سدا هائلا بقيمة خمسة بلايين دولارعلى نهر النيل بإمكانه أن يقلل إمدادات المياه الحيوية في أدنى النهر. ولقد وصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي السد بأنه "مسألة حياة أو موت".
قال كيسلي ليلي مساعد مدير مركز أفريقيا في المجلس الأطلنطي إن جميع الخصوم الإقليميين المحيطين بالبحر الأحمر متداخلون "لكن السد نفسه مصدر توتر كبير بين الدول الثلاث".
وفي حين أن الدول الثلاث بقيت على خلاف بشأن السد لسنين، فإن العداوة بين مصر والسودان تتصاعد بسرعة.
قال ستيفن كوك خبير شئون شمال أفريقيا والشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية إن "التوترات غير هينة وحقيقية وأعلى مما كانت، وهي في طريقها إلى أزمة".
لقد زاد النزاع الأوسع من تجمد المحادثات بين مصر والسودان وإثيوبيا حول كيفية إدارة آثار السد، برغم أن الوقت يتقدم. فقد اكتمل بناء السد بنسبة 60% ويمكن أن تبدأ إثيوبيا في ملء خزانه في صيف العام الحالي فلا تترك وقتا للتوصل إلى حلول عملية.
ومن شأن هذا الفعل كما قالت آنا كاسكاو خبيرة سياسات النيل المائية التي أسهبت في الكتابة عن السد "أن يكون صحوة سياسية تدعو إلى عمل فوري نحو قرار مشترك بشأن قضية ملء السد، لأن سنة 2019 ستكون سنة حاسمة".
كانت إقامة سد في أعلى النيل الأزرق في المرتفعات الإثيوبية حلما منذ ستينيات القرن الماضي. غير أن إثيوبيا لم تتخذ قرارا منفردا بالشروع في بناء سد النهضة العظيم ـ وهو أضحم مشروع مائي كهربائي في أفريقيا ـ إلا في عام 2011 حينما اهتزت مصر بسبب الربيع العربي وأخذت تواجه اضطرابات داخلية.
ومنذ ذلك الحين ومصر تخشى بشدة الآثار المحتملة. لقد كان القصد من إقامة السد كمشروع ضخم لإنتاج الطاقة في أعلى النيل الأزرق هو تلبية الاحتياجات الإثيوبية متسارعة النمو للمزيد من الكهرباء، وسوف يحتاج إلى احتجاز ما يوازي مياه عام كامل وراء جدرانه الخرسانية. ويتوقف تأثر مصر على مدى السرعة التي سوف تملأ إثيوبيا بها السد، بما يمثل خطرا مهلكا محتملا على مصر التي تعتمد على الزراعة التي تواجه بالفعل نقصا حادا في المياه.
قد تختار إثيوبيا ملء السد ببطء على مدار فترة تصل إلى 15 عاما، فيقلل ذلك من أي آثار على الماء في أدنى النهر وإن كان سيؤخر الاستفادة من السد. لكن إثيوبيا التي اهتزت بعام من المظاهرات المناهضة للحكومة بدأت في أغسطس 2016 وأدت إلى حالة طوارئ استمرت عشرة شهور قد لا تستطيع على الأرجح انتظار كل هذه الفترة حسبما قال ليلي.
قال ليلي إن "الحكومة الإثيوبية بحاجة إلى انتصار".
شجع السد على الحديث حول إجراء عسكري مصري في عام 2013، حيث هدد رئيس مصر آنذاك محمد مرسي أنه في حال إعاقة تيار الماء "فدماؤنا البديل". وفي أثناء إعلان السيسي هذا الأسبوع عن خطة بقيمة أربعة بلايين دولار لإقامة محطة تحلية توفر لمصر الماء العذب، تعهد بحماية حصة مصر في مياه نهر النيل.
لقد بدا أن الدول الثلاث نظمت الأمور في 2015 باتفاقية حول كيفية إدارة المشروع، ولكنها منذ ذلك الحين تبدو عاجزة عن الاتفاق على كيفية قياس آثار السد.
والآن يهدد تصاعد الصراع بين مصر والسودان بتدمير التعاون. فقد نقلت وسائل إعلام إثيوبية في مطلع يناير أن مصر سعت إلى تحييد السودان من المحادثات الخاصة بالسد، ومع أن مصر أنكرت تلك التقارير، فقد أزعجت الفكرة نفسها السودان.
والسودان دوره حاسم، لأنه يقع جغرافيا وسياسيا بين مصر وإثيوبيا. ومصر والسودان تقتسمان منذ زمن بعيد مياه النيل بينهما وفقا لشروط معاهدة 1959 التي لا تتضمن إثيوبيا. وباستخدام السودان قدرا أقل من نصيبه المنصوص عليه، فقد سمح على مدار سنين بتدفق قدر أكبر من نصيب مصر إليها فصارت تستعمل من الماء أكثر من حصتها المخصصة.
لكن السودان بدأ منذ سنين يستعمل جزءا أكبر من نصيبه رغبة في دفع قطاعه الزراعي. ولما كان السودان يأمل أن يستعمل السد في الري، فقد اقترب من إثيوبيا وصار مناصرا للمشروع. الأمر الذي يجعل من معاداة الخرطوم مقامرة خطرة بالنسبة لمصر حسبما قالت كاسكاو.
"لو خسرت مصر السودان ـ وهي البلد الوحيد الذي لديها اتفاق حصص مياه معه، والبلد النيلي الوحيد الذي يمكن أن يمثل تهديدا جسيما على تدفق المياه في أدنى النهر بسبب قدراته الكبيرة الكامنة في مجال الري ـ ففي ذلك خطر جسيم على مصر" حسبما قالت.
لم يرد المسؤولون في سفارات مصر وإثيوبيا والسودان على طلبنا لرأيهم.
وبرغم أن القضية تختمر منذ سنين، فإن مصر تجتنب التعامل مع آثار المشروع الحتمية على المدى البعيد حسبما قال كوك من مجلس العلاقات الخارجية، مكتفية بالتمسك بمعاهدة عمرها عقود تضمن لها نصيب الأسد من موارد النيل. ومصر تواجه بالفعل نقصا في المياه وقد تواجه قريبا "ندرة مطلقة في المياه" حسبما قال.
"مصر ليست لديها استراتيجية. وإنه لأمر يدعو للقلق أن يكون خيارهم الوحيد هو ’أعطونا الماء’".
ومما يزيد الأمر سوءا، فيما قال كوك، أن الولايات المتحدة ـ التي لا تزال غارقة في وفرة من المواقف غير المحسومة في وزارة الخارجية ـ غير قادرة على الوساطة في النزاع. "فما من حكم في الغرفة" على حد تعبير كوك.
قال مسؤول في الخارجية الأمريكية "إننا قلقون من تزايد التوتر على النيل ومستمرون في تشجيع البلاد على التعاون قدما في ما يتعلق بسد النهضة العظيم في إثيوبيا".

لكن قد يصعب على هذه الدول التوصل إلى طريق للتعاون في المستقبل القريب. فالانتخابات الرئاسية في مصر تبدأ في مارس بما لا يترك للقاهرة مجالا كبيرا في الوقت الراهن للتسويات السياسية لمثل هذه الموضوع الحساس.