الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

تشارلي كوفمان: أكتب عن جرح كلنا مصابون به




تشارلي كوفمان: أكتب عن جرح كلنا مصابون به




شكرا جزيلا لكم. أنا فعلا سعيد بوجودي هنا، أو هذا على الأقل ما أقوله لنفسي. وأنا في حياتي لم ألق خطبة من قبل، وهذا سبب لما أفعله هنا الليلة. فقد أردت أن أقوم بشيء لا أعرف طريقة للقيام به، لأتيح لكم تجربة مشاهدة شخص يتلعثم، وهذا ـ  فيما أعتقد ـ ما ينبغي أن يتيحه الفن: فرصة لإدراك ما نشترك فيه نحن البشر جميعا من ضعف.
ولذلك، بدلا من أن أقف هنا مدعيا أنني خبير في أي شيء، أو عارضا نفسي على نحو يعزز نموذج المحاضر الشعائري الغريبَ، ها أنا أقول لكم ببساطة ومن أول السطر إنني لا أعرف أي شيء. ولو أن هناك شيئا واحدا يسم كتابتي، فهو أنني أبدأ دائما من هذا الإدراك ثم أفعل ما في وسعي لأذكِّر نفسي به طول عملية الكتابة. وإنني أتصور أننا نحاول أن نكون خبراء لأننا خائفون، لا نريد أن نشعر أننا حمقى أو تافهون، نريد السلطة لأن السلطة قناع كبير.
بل إنني أشعر بالغرابة حين أعتبر نفسي كاتبا أو سيناريست. أفعل هذا طبعا حينما أضطر إليه ـ أكتبه مثلا على نموذج ضريبة الدخل ـ لكنني أشعر كما لو أنها كذبة، وحتى في هذه الليلة لا أرى هذا صحيحا إلا من الناحية التقنية. إنني أعيش من كتابة السيناريوهات، ولكن ليس هذا أنا. لقد كنت أريد تلك اللافتة بصدق وأنا صغير. أردت أن أكون شيئا. أردت أن أكون كاتبا. وفي فيلم "سيربيكو Serpico "، يلعب "آل باتشينو" دور شرطي له صديقة فنانة، وفيه مشهد حفل يضم تنويعة الفنانين كاملة، يقولون: "أنا رسام لكنني أعمل في مطعم"، "أنا ممثل لكن أعمل موظفا"، ويستمر هذا قليلا. ويقول آل باتشينو "أنا شرطي وأعمل في قسم الشرطة". هناك هذا الإحساس بأنك تريد أن تقول إنك شيء، ولكنك لا تملك ما تدعم به قولك، لأن الجميع يقولون إنهم كتاب إو إنهم كذا أو كذا، وذلك ما كنت أشعر به، ولكن الجميع كانوا يرونه هراء. أمر ظريف أنني لا أريد الآن أن أعتبر نفسي كاتبا، بعدما كنت أتوق إلى ذلك توقا شديدا. أعتقد أن الأمر كان ضروريا في وقته، ولكنه الآن غير ضروري، لأن المهم الآن هو إدراكي بأنني لست أيا من هذه الأشياء.
أنا شخص يفعل هذا الذي يفعله، ويتعب فيه. أعتقد أن "توماس مان" هو الذي قال إن "الكاتب هو ذلك الشخص الذي تكون الكتابة أصعب عليها مما تكون على غيره"، وهو قول أعتقد أنه شديد الظرف. أعتقد أن الأمر قريب من هذا، فالكتابة، إن أخذتموها مأخذ الجد، نضال. ومن المثير لي أنني أناضل في هذه الخطبة منذ وقت طويل. منذ شهور وشهور طويلة وأنا أقول لهم إنني سآتي لألقي هذه الكلمة، فكانت هذه بطريقة ما هي وظيفتي: أن أجلس إلى مكتبي دون أن أعرف ماذا أفعل.
الأمر قريب جدا من أن أكون في معرض بكتابة سيناريو. أعتقد أنني كنت أريد أن أفعل شيئا صادقا ومفيدا. ولكن ما يعقّد الأمر، علاوة على أنه صعب فعلا، هو أنني أناضل أيضا لأنني أريد أن أعجبكم. وفي خيالي أنني أترك هذا المكان وثمة من يقول "خطبة عظيمة"، "إنه ليس كاتبا عظيما فقط يا أخي، ولكنني الليلة تعلمت شيئا بجد، لقد وصل إليها". وبقدر ما كنت أعرف أن هذا الاحتياج موجود بي فعلا، بقدر ما قضيت وقتا عصيبا في محاولة تحرير نفسي منه، أو على الأقل في محاولة الانتباه إليه عند حدوثه.
وهي مسألة خادعة، فليس هناك من يريد أن يأتي إلى هنا ليفشل. الأمر فعليا، وحرفيا، من نفس خامة الكوابيس. ولقد انتابني ذلك الكابوس مرات كثيرة، وأعرف أنكم تريدون أن تستمتعوا، وأرى بصدق أنني إذا لم أمتعكم، بهدف أن أكون صادقا، أكون أنانيا بشكل ما. وهكذا أجد نفسي أنا ورغباتي المتعارضة في علاقة الشد والجذب هذه، وهو في تصوري جزء كبير من ماهية الشخصيات، ومن ما تفعله الشخصيات في الحياة الواقعية، أعني الناس في الحياة الواقعية، وهو أيضا حال الشخصيات في الأفلام.
فكرت في نسخ مختلفة مما ينبغي أن تكون عليه هذه الأمسية. ومن هذه النسخ ما كان جنونيا بحق. فمثلا كنت في سبيلي إلى أن أجعلها مسرحية، وتشهد تريشيا [منسقة الفعالية] على هذا. وفرحوا جدا هنا بالفكرة وإذا بي أقول "يا للخراء المقدس! أهي أصبحت مسرحية!". وكما تفهمون، كنت أريد أن أعجب تريشيا.
لكنني في الحقيقة قررت في نهاية المطاف أن ما أنا بحاجة فعلية إليه هو أن آتي إلى هنا وأكون صادقا فلا أرقص لكم أو أغني. وقصدت أن يكون الأمر مرتجلا، صحيح أنني دونت ملاحظات ولكنني تركت الأمر كله للارتجال، وضاعف القرار من قلقي ألف مرة، لأن الملاحظات معي، ولكنني بصدق لا أعرف هل ستخرج هذه المحاضرة في خمس دقائق أم في ثلاث ساعات. لا أعرف لأنني لم أقسها زمنيا، ولا أعرف وسيلة لأعرف.
والأمر نفسه في عملي، إذ إنني أشعر بحاجة ما إلى أن أبقيكم حيثما أنتم، في هذه اللحظة، مع العمل. فرأيت أنه قد يكون من المفيد أن أبدأ بهذا، لأنني لو كنت أكتب سيناريو عن هذه الفعالية لأنفقت وقتا كثيرا أفكر في ماذا يكون هذا الحدث، كيف هو في شعور الشخص المتحدث، وكيف هو في شعور الجمهور، وما معنى أن تكون جمهورا، سواء كمجموعة ـ فالجمهور كيان ـ أو كشيء مؤلف من أفراد. وأرجو أن أعرج على هذا لاحقا لأنني كتبت عنه أيضا.
لكن مما فعلته هذه الفعالية أيضا أنها أتاحت لي الشعور بأنني قادر أن أتقدم لأفعل هذا. فهي تتيح لي المجيء إلى هنا لأكون كائنا حيا بسيطا مكافحا، ومن ثم فإن ما أقدمه هنا  كخلاصة تخرجون بها من كل هذا هو أنه من المهم أن تحرروا أنفسكم بأية طريقة تهيئ لكم أن تقوموا بعملكم.
إليكم مقتطفا عثرت عليه مؤخرا: "نحن لا نتكلم، إنما نحن نلكم بعضنا البعض بمعلومات ونظريات نلملمها من قراءات عابرة لجرائد ومجلات ودوريات". هذا الكلام في حقيقة الأمر كتب سنة 1945، وكاتبه هو هنري ميلر، وأعتقد أنه جاء في وقته. أعتقد أن ما يقوله هو أن العالم ماضٍ في مساره الراهن هذا منذ فترة طويلة. فالناس في شتى أرجاء العالم يقضون من الساعات ما لا أول له ولا آخر وهم عرضة للحشو بالتسلية تأتيهم على هيئة أفلام ومسلسلات تليفزيونية وجرائد وفيديوهات يوتيوب وإنترنت. وإنه لمن المضحك أن نتصور أن كل هذا الحشو لا يبدل عقولنا تبديلا.
من المضحك بالقدر نفسه أن نتصور أن كل هذا التشتيت والخداع الهائلين ليسا ملائمين ـ على أقل تقدير ـ لمن في أيديهم زمام الأمور. الناس تتضور جوعا، ولكنهم قد لا يكونون مدركين لذلك وهم يُحشون بزبالة كثيفة الإنتاج، في تغليف ملون صاخب، تنتجه نفس المصانع التي تنتج مقرمشات "بوب تارتس" وكمبيوترات أيباد اللوحية، والتي ينتجها أشخاص يجلسون فلا يشغلهم إلا هذا السؤال: "ما الذي يمكن أن نفعله لنحمل الناس على شراء المزيد من هذا الأشياء؟"
وكم هم بارعون في وظائفهم. ولكنكم تنالون ما تنالون، لأنكم تفعلون ما تفعلون. هم يبيعون أشياء. والعالم اليوم قائم على هذا. السياسة والحكم قائمان على هذا، والشركات قائمة على هذا. العلاقات الدولية قائمة على هذا. ونحن نتضور جوعا، كلنا، ونقتل بعضنا البعض، ونكره بعضنا البعض، ونكذّب بعضنا البعض، ونشيطن بعضنا البعض، لأن كل شيء صار تسويقا وكلنا نريد أن نفوز لأنه لا يوجد بيننا من يريد أن يكون وحيدا خاويا خائفا، وإننا نساق إلى الاعتقاد بأن الفوز سوف يغير كل هذا. في حين أنه: ما من فوز.
فما العمل؟ قل من أنت، قلها فعلا في حياتك وفي عملك. قلها لشخص ما، شخص لم يولد بعد، شخص لن يولد في غضون خمسمائة سنة. لتكن كتابتك سجلا لزمنك. ولا نفع في هذا، لكن افعله. لكن الأهم، أنك إن صدقت في كتابتك من أنت بحق، فإنك ستعين شخصا على أن يكون أقل إحساسا بالوحدة في عالمه، لأنه سيرى فيك نفسه، وهذا سيمنحه أملا. هكذا يجري الأمر معي ولا بد لي أن أواصل إعادة اكتشافه، فهذا أمر عميق الأهمية في حياتي. فامنحوا هذا للعالم، بدلا من أن تبيعوا له غيره. لا تسمحوا لأنفسكم بالوقوع في شرك التفكير بأن العالم على ما هو عليه هو العالم كما لا بد أن يكون، وأن البيع في نهاية المطاف هو ما يفعله الجميع. حاولوا أنتم ألا تفعلوا هذا.
وما يلي من الشاعر إ. إ. كانينج: "لكي لا تكون إلا نفسك في عالم يبذل أقصى الجهد، في ليله ونهاره، ليجعلك كل من هو غير نفسك، فمعنى ذلك أن تخوض أقسى المعارك التي يمكن لبشري أن يخوضها، وأن لا تتوقف وهلة عن القتال". إن العالم يحتاجك. لا أعني أنه يحتاجك في حفلة وقد قرأت كتاب كيف تبدو ذكيا في الحفلات ـ وهذه الكتب موجودة ومغوية، ولكن عليك أن تقاوم الوقوع في الشرك. العالم يحتاجك في الحفل تفتح مواضيع حقيقية، تقول "لا أعرف" وتكون طيبا.
لقد كانت أولى تكليفاتي الكتابية مسلسلا تليفزيونيا اسمه " Get A Life" من بطولة "كريس إليوت". كان المسلسل في أغلبه تجسيدا لصوتي مبدعيه "كريس إليوت" و[الكاتب] "آدم ريسنيك" اللذين كانا قد عملا معا في مسلسل "The David Letterman Show"، ومن ذلك المسلسل جاءت شخية كريس. كان صوت آدم ريسنيك هو أفضل ما في المسلسل، وحاولنا جميعا أن نكرره، تلك كانت المهمة.
أحبطتني النتائج التي توصلت إليها، ولكن خطر لي أنه ما من حل لتلك المشكلة طالما أن مهمتي هي محاكاة صوت شخص آخر. كان يمكن أن أقترب، لكن لم يكن ليمكنني أبدا أن أتفوق على آدم. فـ "ريتش ليتل" [الموهوب في تقليد الأصوات] لا يمكن أن يتفوق على "جوني كارسون" [المذيع الشهير] في أن يكون "جوني كارسون" نفسه، فاهمين؟
كان الحل الواضح أن لا أستسلم، بل أن أحاول العثور على نفسي في موقف يتيح لي أن أكتب صوتي أنا لا صوت سواي. فهل أنتم ...؟ ليس الأمر سهلا، ولكن لا غنى عنه. ليس سهلا لأن هناك الكثير في الطريق. وتكون عقبتك الكبرى في كثير من الحالات هي اعتقادك الأكيد والعميق بأنك غير مثير للاهتمام. وبما أن إقناعك نفسك بأنك شخص مثير للاهتمام أمر قد لا يحدث، فدعك منه تماما. قل لنفسك "قد لا أكون مثيرا للاهتمام ولكن ليس لدي ما أقدمه غير نفسي، وأنا أريد أن أقدم شيئا، فلو أنني قدمت نفسي تقديما صادقا أكون أسديت للعالم خدمة عظيمة، لأن هذا نادر ونافع".
وبينما أمضي في الزمن، تتغير الأحوال. أنا أتغير، والعالم يتغير، والطريقة التي يراني بها العالم تتغير. أكبر، أفشل، أنجح، أخسر. أمر بلحظة هدوء. غير أن بقايا مما كنته تبقى تحوم من حولي مسببة لي الحرج، تصيبني بالانقباض، تنزل عليّ بالحزن. الإشارات إلى ما سأكون إياه تصيبني بالاكتئاب، تبعث بي الأمل، تخيفني، وتحرجني. وها أنا واقف دائما عند مفترق الطرق، محرجا، حزيناـ مكتئبا، غاضبا، مشتاقا، ناظرا إلى الوراء، ناظرا إلى الأمام.
قد أتخذ قرارا وأتحرك من هذا المفترق، ولكنني في أي موضع أجد نفسي فيه أجد نفسي من جديد في مفترق طرق آخر. وإذن فلا سبيل سوى الحركة. والسيناريو حركة. يكتب في زمن معبرا عن زمن. يصنع في زمن ويشاهد في زمن. هو فيلم، وهو يتحرك.
"ساعتان ضاعا من عمري ولن ترجعا". تلك جملة قد يقولها غاضب عن فيلم كرهه. ولكن الأمر أن كل ساعتين هما في الحقيقة ساعتان لن ترجعا إليه.
والآن، ها أنتم، وها أنا، نقضي وقتنا كما لا بد أن نقضيه، فلا بد من قضائه. وأنا أحاول ألا أقضي هذا الوقت، مثلما أقضي أغلب وقتي، في محاولة أن أثير إعجابكم، محاولا أن أسيطر على أفكاري، محاولا استخدام سحري بسرعة الضوء، بسرعة الصوت، بسرعة التفكير، محاولا إقناعكم أن ساعتيكم معي لن تكونا موضع ندم فيما بعد.
وهذا النمط من أنماط استغلال الوقت قديم بالغ القدم، وسأحاول أن أكون أكثر عمقا، عسى أن أكون أكثر نفعا. هذا النمط من أنماط استغلال الوقت يغطي جرحا قديما، يغطيه بغطاء ساطع الألوان. ولكي أسعى إلى تغيير النمط اسمحوا لي أن أكشف عن الجرح. إنني الآن أخطو إلى هذه المنطقة أعمى، فأنا لا أعرف ما الجرح، كل ما أعرفه عنه أنه قديم. أعرف يقينا أنه حفرة في كياني. أعرف يقينا أنه حي. أعرف يقينا أنه لا يمكن أن يُعرف، أو هو على أقل تقدير غير قابل للإيضاح.
وإنني أعتقد جازما أن بك جرحا أيضا. وأعتقد جازما أنه خاص بك ومشترك في الوقت نفسه مع الجميع. أعتقد أنه الشيء الذي فيك، وعليك أن تخفيه وتحميه، وهو الشيء الذي لا بد من الرقص عليه بحذاء حديدي خمس مرات كل يوم، وهو الشيء الذي لن يبدو مثيرا لأحد إن أزيلت عنه الحجب. هو الشيء الذي يجعلك ضعيفا ومثيرا للشفقة. هو الشيء الذي، بصدق شديد، يجعل الوقوع في حبك مستحيلا. هو سرك، حتى عن نفسك. ولكنه الشيء الذي يريد أن يعيش.
هو الشيء الذي يولد منه فنك، ورسمك، ورقصك، وموسيقاك، وبحثك الفلسفي، وسيناريوهاتك. ولو لم تعترف بهذا فسيأتي عليك الدور لتقف وقفتي هذه وتلقي خطبتك فتتكلم عن مهنة السيناريو. ستقول إنك ككاتب سيناريو لا تعدو أن تكون ترسا في آلة الشغل، ستقول إنه ليس بقالب فني.  ستقول "شوفوا، هكذا يكون السيناريو" وتناقش منحنيات الشخصية، وكيفية رسم شخصيات مثيرة للإعجاب. ستتكلم عن شباك التذاكر. هذا ما سوف تفعله، هذا ما سوف تكونه، وبعدما تنتهي سأشعر بالوحشة والخواء واليأس. وسأطلب منك ساعتيّ اللتين راحتا. وسأفعل هذا لأفهمك ضمنا أنني لا أحبك.
سأفعل هذا لأبلغك أنك مضيعة للوقت كإنسان. سيكون قول ذلك قبيحا مني. ستكون غايته إيذاؤك. سيكون قولي له خطأ. سيكون قولا خاليا من الرحمة. وسوف يؤذيك. وإنك إما أن ترفضه أو تقبله، لكنك في الحالتين ستسمعه وسوف يؤثر عليك. وسوف تفكر في ما يمكن أن تفعله في المرة القادمة لتكون ألطف على الناس، وبذلك يدفن جرحك أكثر. أو تحدثك نفسك بمدى غلظة الناس وفظاظتهم وبضرورة أن تزيد من سمك دروعك فيتسنى لك المضي قدما في تنفيذ ما وضعت لنفسك من خطط. وبذلك يدفن جرحك أكثر.
وإنني واثق أنكم تعلمون أن هناك فطرا ـ هو فطر الـ أوفيوكورديسيبس الأحادي ـ يصيب أدمغة النمل الحفار carpenter ants  فيحوله إلى عبيد من الزومبي لا أكثر ولا أقل. ما يحدث هو أن النملة تصعد إلى الجانب السفلي من ورقة شجرة قريبة من أرض الغابة، فتخبئ نفسها هناك، لتموت وقد تحولت إلى مصدر غذائي مضمون للفطر.
وفي النهاية تتيح وضعية جثة النملة للبويغات أن تنمو من رأس النملة وتنهمر على النمل الآخر لتصيبه كما سبق لها هي أن أصيبت. هذا حقيقي. وناجح تماما. وهناك حفريات تؤكد أنه يحدث منذ 48 مليون سنة. الشيء الفاتن لي في هذه المسألة هو أن النملة تتصرف بلا عقل ضد مصالحها ومصالح رفاقها بأن تصبح أداة في يد الفطر. وإنني أتصور أن نظاما مماثلا قد نشأ في ثقافتنا.
عندما بدأت العمل للمرة الأولى في مسلسل تليفزيوني لم أكن بحاجة إلى دراسة كيفية كتابة نصف ساعة من الكومديا. كنت أعرف ما ينبغي عليّ القيام به لأنني نشأت مستهلكا لمسلسلات التليفزيون. كنت أفهم الإيقاع، وأنواع النكات المقبولة، وأفهم طبخة الشخصيات النمطية. وكان كل ذلك يصب بالطبع في خدمة تأبيد النوعية السائدة من مستهلك الثقافة التي أنشأتني وزرعت بي الرغبة إلى أن أكون جزءا منها. كنت زومبي.
وإن هذا لموضوع هائل، لأن المهنة التي أعمل فيها هي نفس المهنة التي يعمل فيها الساسة والشركات الكبرى. مهنة بيع شيء مهم لهم، من خلال تغليفه على شكل شيء مهم بالنسبة لكم. وهي المهنة القائمة أنّى نظرنا. ولا أعتقد أن المنفعة منها متبادلة. اللهم إلا بقدر ما يمكن أن أقول إن النملة تنتفع بأي شيء لعين من علاقتها مع الفطر. وعليه فإن ما أفكر فيه بوصفي نملة حفارة هو أن أفهم ذاتي كنملة حفارة بدلا من أن أغيّب عقلي وأنهمك بلا وعي في نشر بويغات أسيادي. وهذه الجملة تعجبني.
أعتقد أن الطريقة المثلى لمكافحة التلقين الممنهج هو النظر في النوايا. والمثل يقول إن "الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة" لكنه لا يبدو صحيحا بالنسبة لي. فأنا أعتقد أن النية تقع من كل شيء موقع القاعدة. وإن نواياي لتتحول وتتعقد وتتعارض في بعض الأحيان مع بعضها البعض. ولو أنني أعرف ماذا تكون، وأراقبها عن كثب  وهي تنسرب وتنتشر في شتى أرجاء المكان، فإن فرصي تزداد في أن أضع في العالم شيئا صادقا، وهذه هي غايتي. وذلك هو قسم أبوقراط الذي أقسمت به، أنني لا أريد الإيذاء.
أعي، ويؤلمني وعيي، بما يحدث من أذى جراء المشاركة في الميديا انطلاقا من نوايا تفتقر إلى الوضوح. أنا لا أريد أن أكون مندوب مبيعات. لا أريد أن أصيح "اشتروني" أو "شاهدوني". ولا أريد أن يكون هذا هو ما أفعله الليلة. إن ما أحاول التعبير عنه، أو ما أود التعبير عنه، هو فكرة مفادها أنه بحرصك على الصدق والرقة والوعي بوجود غيرك من الكائنات الحية، يمكن أن يبدأ حدوث تغيير في الطريقة التي نفكر بها في أنفسنا، وفي العالم، وفي أنفسنا في العالم. نحن لسنا جمهورا سلبيا يشاهد مسرحية السلطة الكبيرة المرتبكة.
ولسنا مرغمبن على أن نكون كذلك. بوسعنا أن نقول من نكون، أن نؤكد حقنا في الوجود، بوسعنا أن نقول للطغاة والنصابين، لمن يحاولون أن يكللونا بالعار والحرج، لمن يداهنوننا، لمن لا تؤنبهم ضمائرهم إذ يكذبون علينا لينالوا نقودنا وولاءنا، بوسعنا أن نقول لهم جميعا إننا نفكر، ونجدّ في التفكير، لنعرف من نحن، وإننا سوف نعبر عن أنفسنا، وإن الآخرين ليسوا وحدهم إلى هذه الدرجة.
وإليكم هارولد بنتر: "ما حياة الكاتب إلا نشاط شديد الضعف والعري، وما ينبغي لنا البكاء على هذا، فالكاتب يختار، ويبقى على اختياره. ولكنه يبقى مشرعا في وجه كل الرياح، ومنها ما يهب ثلجيا لا قبل لأحد به. والكاتب وحده، في العراء، لا مأوى له، ولا حماية، ما لم يكذب. ففي هذه الحالة بالطبع يكون قد أنشأ لنفسه الحماية، ويكون قد تحوّل ـ فيما يمكن أن يقال ـ إلى رجل سياسة".


تشارلي كوفمان (1958 ـ ) سينمائي أمريكي، يكتب السيناريو بالدرجة الأساسية، لكنه منتج ومخرج أحيانا. هو واحد من أهم كتاب السيناريو الحاليين في السينما الأمريكية، وأكثرهم اختلافا، ونجاحا على المستوى النقدي. من أهم أعماله Being John Malkovich،  Adaptation،Eternal Sunshine of the Spotless Mind. وHuman Nature، وغيرها. كما أنه حصل على عدد جيد من أهم الجوائز السينمائية.


هذه هي الحلقة الأولى المنشورة اليوم في شرفات من محاضرة ألقاها كوفمان في 30 سبتمبر 2011 في الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون BAFTA. وعنوان الترجمة اجتهاد من المترجم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق