الثلاثاء، 22 أبريل 2014

البحث عن الوطن

ما يربطني بالمكان سائل ومعقد. في عالم ليس فيه من البداوة إلا الترحال، هل لا نزال بحاجة إلا وطن؟؟
البحث عن الوطن
روث بيخار 

مر عليَّ وقت، وأنا بعد شابةٌ في منتصف العشرينيات، تصورت فيه أنني سوف أكون رحالة دائمة، امرأة بلا وطن أو عنوان ثابت، جوّالة. لا لأنني كنت يوما أطبّق الآفاق حاملة حقيبتي على ظهري، فقد كنت دائما مغرمة بالقمصان الأنيقة والكعوب العالية، وكنت، في صورتي الفنتازية عن ذاتي، أطفو من مكان إلى مكان في فساتين طويلة هفهافة، بينما كنت، في الحياة الحقيقية، أسافر مثقلة بكثير للغاية من الحقائب الثقال أجرجرها من ورائي حيثما ذهبت.
اخترت أن تكون دراستي العليا في الأنثروبولوجيا، راجية أن يفتح لي ذلك المجال الشيّقُ طرقَ العالم على مصارعها. وما كدت أكمل أطروحتي، حتى علمت أنني لا ينبغي أن أتوقع إشباع شهوتي إلى التجوال، بل أن أرضى بتدريس الأنثروبولجيا. وامتلثت لإجراء مقابلة للتوظف في إحدى كليات "أيفي ليج" الصغيرة. ومنذ اللحظة التي وطأت فيها قدماي أرض الحرم علمت أنني لا أريد الوظيفة، لكنني شعرت أنه عليّ أن أريدها. كانت الوظيفة عبارة عن سنتين أعمل فيهما بديلا لعضو في هيئة التدريس سافر وقد ينتقل نهائيا من الكلية. همسوا لي أنه "قد لا يرجع، يعني من الممكن أن تتحول إلى وظيفة دائمة". كان ذلك إغراءهم. ثم إنه رجع.
جرت المقابلة على أسوأ ما يمكن. كنت أرى الأساتذة يخفون أفواههم الضاحكة في أكمام قمصانهم. تلعثمت في كلمات محاضرتي الطويلة، وتأتأت وأنا أحاول أن أجيب الأسئلة الذكية التي طرحها الأساتذة. وكان أشهرُ أساتذة القسم أشرَّهم معي. والحقيقة أنه سرعان ما انتحر بعد ذلك، ولم يكن لذلك علاقة بي بالتأكيد، ولكنني اعتبرت انتحاره علامة من الآلهة على أنني كنت محظوظة إذ لم أنته بينهم. سأتذكر ما حييت تلك الغرفة اللعينة واطئة السقف في ذلك النزل القديم في نيو إنجلند، حيث مضيت أبكي حتى النوم.
لم أكن مستعدة للاستقرار. ولكنني كنت أحلم بيوم أمتلك فيه بيتا. بعدما هاجرت أسرتي من كوبا، نشأت في شقة بنيويورك، مزدحمة، صاخبة. وكان لآخر بيت سكنته مع أبويّ وأخي الصغير مدخل سريالي كأنه من رسم ماجريتي. فلا تكاد تعبر الباب حتى تجد أمامك درجا عاليا يبدو صاعدا إلى العدم، فإن غامرت وصعدته تجد نفسك في غرفة المعيشة وأمامك شباك عريض يطل على أطلال "المعرض العالمي". قضيت سنوات مراهقي تحت ذلك الدرج، أقرأ ما أحب من الكتب، أعني الروايات وكتب الفلسفة، لا يؤرِّق رغبتي في العزلة والصمت إلا أبي الاجتماعي الذي كان يتهمني بأنني أحلت بيته إلى قاعة عزاء. وقررت أيامها أن بيت أحلامي هو البيت الذي تكون فيه غرف كثيرة وحديقة يصطف على حوافها الأقحوان، ويخلو ممن يوبخني على صمتي.
بلا وظيفة وبلا مرسَى، سافرت إلى المكسيك سنة 1983 مصاحبة زوجي الجديد ديفيد الذي كان يستهل عمله الميداني في بلدة صغيرة تقع أسفل تلال سان لويز بوتوسي الصخرية. كان مثلي قد التحق بالجامعة وهو يخطط لدراسة الأدب لكنه اتبعني إلى دراسة الأنثروبولوجيا. قال "وهكذا يمكن أن نسافر معا" وبدت فكرة لطيفة أن نسافر معا لسنين كثيرة. وكانت سنين سعيدة لكنني كنت خائفة أن أفقد شجاعتي وأجبن عن السفر بمفردي. ولم يكن من داع للخوف. فمع تقدمنا في السن، بات هو يفضل الإقامة، بينما صرت أنا لا أهدأ. وبدأت أسافر بمفردي مثلما حلمت في شبابي.
روث بيخار عند وصولها مع أسرتها إلى الولايات المتحدة سنة 1962.
فكرت أنا وديفيد في الاستقرار في المكسيك. وأقمنا هناك فعلا قرابة ثلاث سنين، اقتنيت فيها أشياء، أشياء جميلة، للبيت الذي لم أكن أمتلكه بعد. اشتريت مفارش بيضاء ثقيلة للمناضد، وأقمشة مطرزة، وأطباقا مصنوعة يدويا، وقوارير من السيراميك، وكؤوسا زرقاء الحواف، وخزانة من خشب مطعم بالصدف، ورسومات بالحبر على لحاء الشجر، وخزانة أدراج محفور عليها طيور وزهور. فكان أغلب تلك الأشياء يبسط جماله على الغرف المستعارة التي كنا نقيم فيها. كنت أجد سعادة إذ يحيط بي جمال صنعته أيدي الآخرين. ولكن قليلا من تلك الأشياء كان يبدو أثمن من حياتي المؤقتة في المكسيك، فادّخرته لبيت أحلامي.
في النهاية، حصلت على وظيفة لتدريس الأنثروبولوجيا، وتجسَّد البيت، في منزل فكتوري في "آن آربر" بـ ميشيجن، فيه أربع غرف، وأقحوان في الحديقة، وكل ما يمكن أن أرغب فيه من هدوء. وملأت البيت بمقتنياتي المكسيكية، إلا خزانة أدراج حالت ضخامتها دون حملها عبر الحدود في سيارتنا الفولكسفاجن، ولم تزل عند أصدقاء لنا في البلدة، لكنني لا أزال أمنِّي نفسي باستعادتها. وأعترف بأن بعض هذه الأشياء الثمينة من المكسيك لا تزال في لفائفها الورقية الشفافة إلى الآن مخبوءة في بيتي.
اشتريت خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشياء أكثر وأكثر من جميع رحلاتي وأسفاري. فمن كوبا، بلدي الأم، التي ظللت أرجع إليها باستمرار منذ التسعينيات، حصلت على أعمال فنية ونحتية، وآلات إيقاع رنانة، وطبول، بل ورمل من شاطئ فاراديرو الذي قضى فيه أبواي شهر العسل. خلافا لمجموعة كبيرة من الكتب بالإنجليزية والأسبانية، وأزواج لا حصر لها من الأحذية عالية الكعوب دعما لكبريائي. ذلك جموح يوازي رغبتي في أن أكون الحارسة على حميمية تاريخي. أنا فرد العائلة الموكول إليه حفظ الصور الفوتوغرافية وجوازات السفر غير السارية، والفستان الذي ارتدته الجدة في ذكرى زفافها الخمسين، فإذا ببيتي فجأة مخزن أو متحف، وإذا به يغرق كقارب ثقلت عليه حمولته.
أدهشت نفسي إذ انتهيت كائنا ذا جذور تفوق ما تخيل أن يكون إياه على الإطلاق. احتفظت بالوظيفة نفسها، والبيت نفسه، والعنوان نفسه، والزوج نفسه (أنا التي ما توقعت يوما لنفسي الزواج). ولما بلغ ابني، ابني الوحيد، من العمر مثل العمر الذي ظننت فيه أنه ليس مكتوبا لي الاستقرار، إذا بي قد وهبته استقرارا هائلا، أرضا شديدة الرسوخ والثبات يقف عليها.
وكلما يسألني غريب في أحد أسفاري إن كنت من ميشيجن أجيبه على الفور بـ"أنني أعيش هناك، لكني لست من هناك"، وأجد أنني مرغمة أن أحكي لكل سائل تاريخ هجراتي، فـ "ولدت في كوبا، وكان أسلافي يهودا يتكلمون اليديشية واليهوأسبانية، ونشأت في نيويورك، وأعيش في ميشيجن لأنني أعمل هناك".
لعلي أخاف أن يكوّن الناس انطباعا خاطئا عني حينما يعلمون أنني من ميشيجن. أو هي الرغبة في أن أصدق الناس عمن أكون، أن أؤكد لهم أنني شخص كثير الشتاتات، من مكان آخر، بلا ولاء إلى مكان بعينه. أني عابرة، ممتنة للمكان أن يتيح لي لوهلة طي جناحيّ.
قد يبدو من العبث أن أشعر بعد كل هذه السنين من العيش في "آن آربر" أني طافية، ولكن إحساسي بالمكان سائل ومعقد، ومعنى الوطن، مثلما بت أدرك، ممتلئ بالتناقضات، لا يمكن احتواؤه في تعريف واحد.
الوطن موقع ملموس على خريطة.
الوطن ذكريات لا يمكن قنصها في خريطة.
الوطن شارع سرتَ فيه أولى خطاك.
الوطن نسَب، هو من جاء بك إلى الوجود، وهو كيف جئت.
الوطن ثبت تاريخي بمن سبقك إلى الوجود.
الوطن أرض قاتل من أجلها أسلافك وضيعوها.
الوطن أرض غزاها أسلافك بالقوة.
الوطن أقارب، ناس أعزاء إليك.
الوطن عش تقيمه مع غريب يصبح شريك حياتك.
الوطن غيط ذرة، بستان زيتون، قطيع شياه، من أيها تطعم.
الوطن موقد، ومدفأة، ومطبخ يلتم فيه الأهل والأصدقاء.
الوطن ثلاجة مكدسة بآيس كريمك المفضل.
الوطن ندهة جدتك عليك كأنها بركة السماء.
والوطن هو الذي توضع فيه جدتك عندما تمرض وتعجز.
الوطن أغنية رددتها لك أمك كي تنام.
الوطن أغنية تود لو تغنيها لك أمك كي تنام.
الوطن لغة مشتركة، فأقل إيماءة منك فيه مفهومة.
الوطن أن تتحرك بالبجامة طول يومك إن شئت.
الوطن مأوى: المنزل، الشقة، الكوخ، الخيمة، حيث لا تعوزك الراحة والملاذ من عناصر الطبيعة، من الحر والبرد والمطر والجليد والعاصفة.
الوطن أحبابك، من تجلب لهم الورد، والهدية، وقطعة الشوكولاتة.
الوطن ضجرك وحلمك بآفاق جديدة.
الوطن واجهة موقعك الإلكتروني، صورة شاشة محمولك.
الوطن موقد وسخ، أرضية مغبرة، كتب متربة، عناكب في الأركان، أصابع اتهام لك بالكسل والفوضى.
الوطن مكان تخرج منه في إجازة ناسيا فوضاك وكسلك.
الوطن مكان تختزن فيه الكنوز وينتظر اللصوص ليغتنموا منه ما يستطيعون.
الوطن عقار، يباع ويشترى.
الوطن أقساط ضيّعت عمرك عليها.
الوطن حيّز بين أربعة جدران لقيت فيه الإهانة والاساءة والاغتصاب والكراهية بلا سبب، على أيدي من انتظرت منهم الحماية والرعاية.
الوطن بيت الدمية الذي تعيش فيه الزوجة على أمل الهروب منها وتعوزها الوسيلة أو تخونها الشجاعة.
الوطن مكان يمكنك فيه أن تكوني امرأة فلا يكون ذلك مدعاة للرثاء من أجلك.
الوطن هو المكان الذي عذبتك فيه حكومة خائفة من مواطنيها.
الوطن هو المكان الذي نمت فيه جائعا.
الوطن هو المكان الذي لم يسمح لك فيه أن تصلي علنا لآلهتك.
 الوطن هو المكان الذي لا تخشين فيه أن تلبسي الحجاب hijab أو الطاقية [اليهودية Kippah] في الشارع.
الوطن هو المكان الذي لا تنتهي حروبه ونزاعاته ولا تشعر فيه مطلقا بالأمان.
الوطن هو المكان الذي طردت منه، إذ قيل: الرحيل أو الموت.
الوطن هو المكان الذي عثر فيه أسلافك على راحتهم الأخيرة.
الوطن هو المكان الذي انتهكت فيه إنسانية أسلافك فحرموا حتى من المقبرة.
الوطن هو المكان الذي عاملك كاليتيم حين لم يكن لك مكان تمضي إليه.
الوطن هو المكان الذي تبقى راغبا في الرجوع إليه.
الوطن هو المكان الذي لا تريد مهما جرى أن ترجع إليه.
الوطن هو المكان الذي لا يمكن القبض عليه في كلمات وقالت عنه "إيزادورا دنكان" مرة إنها لو استطاعت أن تحصر معناه في كلمات لأعفت نفسها من أن ترقصه.
الكاتبة أمام بيتها
وفي عصر التنقل الجماعي والسفر العالمي، هل لا يزال لمفهوم الوطن معنى بالفعل؟ في هذه اللحظة قد يكون هناك نحو مائتي مليون شخص يعيشون خارج مواطن رؤوسهم. وليس أكثر تعطيلا وتدميرا لمفهوم الوطن من المهاجر. ولكن المهاجر أيضا يبدي قدرة غريبة على إعادة خلقٍ، نوستالجية ومن ثم منقوصةٍ، لما بقي من آثار ثقافته المهجورة في مكان مختلف، وذلك في ثنايا تكيفه مع لغة ومجتمع جديدين بل وامتلاكه ناصيتيهما.
ومع ذلك، ومهما بلغ المهاجر من الاستقرار، يبقى مسكونا بقلق مزعج، وتناقض شعوري وجودي. واسمحوا لي أن أتخذ من أبي مثالا. فهو في الرابع من يوليو من كل عام، يعرض باعتزاز العلم الأمريكي في السقيفة الأمامية من البيت الذي اشتراه هو وأمي بعدما مر وقت طويل على استقلالي أنا وأخي كلٍّ بحياته. ولكنه، وبعد خمسين عاما في الولايات المتحدة، لا يستطيع بعد أن يقطع بأنها مقصده الأخير. ولديه خمسمائة ورقة من فئة الدولار مدخرة للحظة قد يضطر فيها هو وأمي إلى الرحيل عن الولايات المتحدة بسرعة، مثلما حدث من قبل في كوبا. وأسأله "فلماذا تكون من فئة الدولار؟" فيقول، بين الهزل والجد "ألا تعرفين فعلا؟ لنرشو حرس الحدود فيسمحوا لنا بالعبور".
إننا نعيش في عالم جنوني التقاطعات، وما أعظم المفارقة المتمثلة في حقيقة أن المسافر اليوم ينشد الوصول إلى أماكن هي بالضبط التي يرغب كثير من المهاجرين في الرحيل عنها. ولقد رأيت تصادم القوى هذا في كوبا قبل عشرين عاما في وقت انهيار اقتصادي وأخلاقي. كانت الحكومة قد فتحت الموانئ على مصارعها لكل من يشاء أن يرحل عن كوبا بطريق البحر. فكان الساخطون يغامرون بالرحيل على أي قارب أو طوف لا يبالون. في الوقت نفسه، كان 1994 هو عام أول بينالي فني في هافانا يرحب بالعالم الرأسمالي منذ ثورة 1959 الكوبية. فكان  تجار اللوحات الأمريكيون يتنقلون بين المعارض منبهرين بالفنون المفتقدة منذ عقود، ثم يرتاحون بعد ذلك الصخب ليسكروا بشراب الموجيتوس في شرفة الأوتيل ناسيونال [الفندق الوطني]. وفي حين كانوا يغرقون في النشوة، كان يغرق في المحيط مهاجرون لن نعرف يوما كم بلغ عددهم.
ميزة عظيمة هي القدرة على السفر، لا سيما في ظل توفر "أسباب الراحة في الوطن". ولكن القادرين على التجول في العالم دون أن ينخلعوا من جذورهم كثيرا ما ينسون هذه الحقيقة. وعلماء الأنثروبولوجيا نمط غريب من المسافرين، فنحن نذهب إلى الأماكن نفسها مرارا وتكرارا، خلافا للسائحين الذين لديهم قائمة يضمنون بها الذهاب كل مرة إلى مكان جديد. لقد قضيت فترات طوالا مع أشخاص لم يسافروا مطلقا، لم تخط أقدامهم خارج البلدان والمدن التي ولدوا فيها ونشأوا. في سانتا ماريا ديل مونتا، وهي قرية تقع أسفل جبال كونتابريان في شمالي أسبانيا، عرفت ناسا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ومطلع الثمانينيات كانوا يعملون في الأرض ورعي البقر والماشية ولم يجدوا قط الوقت أو الرغبة في القيام برحلة لن تستغرق ساعتين يرون من بعدهما المحيط.
وبعدها في المكسيك، في منتصف الثمانينيات، قابلت من عبروا "البركة" ـ أي نهر ريو جراندي ـ وكأنه طقس عبور، بدون أن يحملوا وثائق، وعملوا في الزراعة أو في مطابخ مطاعم داخل الولايات المتحدة دون أن يتجاسروا على النظر حولهم أو التنقل بعيدا، خشية أن يتعرضوا للاعتقال والترحيل. وفي النهاية، عندما يفتقدون أسرهم، أو يستثقلون الوحدة، يعودون إلى وطنهم من تلقاء أنفسهم.
وحديثا في كوبا، اقتربت من امرأة كانت مربية لي في طفولتي، وهي الآن في الثمانينيات ولم تعش إلا في مينيلا ديل سور، البلدة الريفية التي ولدت فيها، وفي هافانا المدينة التي احتضنتها عندما ذهبت إليها وقبلت بالوظيفة المتاحة في الخمسينيات لامرأة فقيرة سوداء: الخدمة في البيوت. لم تركب طائرة، لم تضطر يوما إلى توضيح هويتها لأحد. لكنها تحكي أي خبر يصلها من ابنها المقيم في ميامي منذ عشر سنين لم يرجع خلالها نهائيا، سواء وصلها الخبر مباشرة في مكالمة أو بصورة غير مباشرة من خلال رسالة إلكترونية إلى جار ينقلها إليها، تحكيه بأدق تفاصيله، وكأنها عاشته بنفسها. وما لا تعلمه علم اليقين، تتخيله وتزخرفه وها هنا براعة من لا يغادروا أوطانهم: هم القادرون أن ينسجوا قصصا من أوهى الخيوط.
طالما كان التأمل في العلاقة بين الطمأنينة في الوطن والحنين إلى الوطن هاجسا أنثروبولوجيا. وقد نشأ هذا المبحث كله من فكرة أن عالم الأنثروبولوجيا يضطر إلى الرحيل عن وطنه طلبا لدراسة المختلف otherness في مكان بعيد. وتأسست معرفة من خلال تأمل معنى الداخلي والخارجي، والمألوف والشاذ، والوطني والغريب. غير أنه يغيب عن انتباهنا خلال السعي إلى الانتقال من مكان إلى مكان، كل ما بينهما، كل البنية الأساسية الهائلة في الحياة الحديثة. فلا ننتبه إلى الأماكن العابرة التي أطلق عليها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي "مارك أوجي" اسم "اللاأماكن": المطارات والمراكز التجارية والفنادق والطرق السريعة ومحطات الأتوبيسات والقطارات.
لقد غيّرت هذه اللاأماكن جذريا من مفهوم الوطن، لا بالنسبة لأكثرنا في العالم الأول فقط، بل لعدد متزايد ممن يعيشون في العالم النامي. ولعل شيئا لم يترك أثرا له مثل هذه القوة على هوياتنا مثل الفترات التي نقضيها في السماء وفي المطارات التي تجمع بين أصناف شتى من الأغراب ثم توزِّعهم بين مختلف الطائرات. المطار نقطة توقف بين الأماكن. وما أكثر من يعيشون منا ـ نحن المحظوظين ـ خارج معنى الوطن في ممارساتنا اليومية. فالذين يكثرون من ركوب الطائرات فيقضون أكثر العام يتنقلون بين الأماكن، قد يجدون أن المكان الذي نسميه الوطن أصبح يبدو مجرد طريق إلى مكان آخر. الوطن هو المكان الذي تغسل فيه ثيابك، وتسارع إلى طبيب الأسنان لتنظيف أسنانك، وتهرع إلى إراحة عظامك المكدودة قبل الشروع في أوديسة جديدة. وفي المقابل، تحاول المطارات أن تكون أوطاننا، فتوفر لنا سبل شحن مختلف الأجهزة التي تهيئ لنا الاتصال والتواصل من على البعد، وتوفر لنا فرصة التسوق، والمطاعم، وغرف الصلاة، وغرف المساج.
وفي حين تمتد اللاأماكن من المراكز إلى الأطراف في شتى أنحاء العالم، فإن ثمة ضغطا متزايدا وعملا جادا غايته الحيلولة دون أن يصبح البيت غرفة فندق طويلة الأجل. ويستعان في هذا المقام بالأفكار العاطفية المتعلقة بقداسة الوطن لتكون وسائل لمواجهة خطر اللاأماكن. وما أكثر الأدلة، ومن بينها مواقع على الإنترنت (مثل Apartment Therapy  وHouzz ) غايتها الوحيدة أن تعيننا على أن نجعل من  بيوتنا أماكن متفردة في سحرها، لا يمكن تعويضها ببدائل لها. ولقد أصبح موقعا Home Depot  و Pier One  أيقونتين تجاريتين توفران لمسات ديكور للبيوت تعيننا سواء كانت غايتنا الإفراط في التأنق أم الإفراط في الزهد.
لكن هناك خيارا آخر يمكننا اللجوء إليه، وهو أن نتخلى تماما عن البيت ونصبح مشردين باختيارنا الحر، لا نتيجةً للفقر أو تفكك الروابط الأسرية، بل أن نتخفف من ثقل الأشياء التي تحول دون انخراطنا في العالم إلى أقصى حد ونصبح كوزموبوليتانيين بحق، فنشعر أننا في البيت أنَّى نكون.
لقد كان من حسن حظي أن التقيت مثل هذه الكوزموبوليتانية أخيرا في لافاييت بلويزيانا التي ذهبت إليها لأحاضر حول ثيمة الإفراط في السفر. فقد جاءت لتتكلم معي بعد أولى محاضراتي فقالت لي إنها بدوية حديثة. كانت قد تخلت عن جميع ممتلكاتها تقريبا مكتفية بسيارة هي غرفة نومها وغرفة معيشتها معا. ولا بد أني نظرت إليها في تشكك، فأوصتني بقراءة كتاب في الموضوع قالت إنه كفيل بإيضاح كل شيء. ولم أدوّن العنوان فنسيته وندمت.
من حسن الحظ، أن هذه المرأة تفضلت في اليوم التالي بأن جاءت لتستمع إلى محاضرتي الثانية. وأحضرت لي الكتاب معها. كان عنوانه "حكايات [امرأة] بدوية" (2001) لـ ريتا جولدن جيلمان وهي كاتبة أطفال اتجهت إلى دراسة الأنثروبولوجيا في الوقت الذي شهد انتهاء زواجها. وبعد الطلاق، قررت أن تعيش الحلم الأنثروبولوجي وتشبع شهوتها إلى التجوال، و"تعيش في جنبات العالم كيف تشاء". ولكي يتسنى لها السفر المستمر، ولكي تكفيها نقودها فترة أطول، اختارت أن تقضي أغلب وقتها في العالم النامي، في تلك الأماكن التي لم تغزها اللاأماكن بعد. آمنت باللامكان، فاتخذت من الطريق وطنا.
أثّر الكتاب بي فاحتفظت به على مقربة مني.
كانت المرأة قد قالت لي "أعيريه بعدما تنتهين منه. امنحيه لشخص آخر".
فأومأت قابلة، وأنا أعرف كم يصعب عليّ التفريط في الأشياء. أنا من نسل بدو، من نسل قوم عانوا الطرد والاجتثاث من الجذور، من نسل من هم قادرون في طرفة عين على حزم متاعهم وبدء حياة جديدة من لا شيء. ولكنني لا أقاوم شهوة الاقتناء.
سأحاول أن أطلق الكتاب، هذا وعد. فهل من راغب في نسختي؟ سيكون عليكم من أجل هذا أن تمروا بي في بيتي الذي في ميشيجن تغرقه الأثقال.


روث بيخار كاتبة وعالمة أنثروبولوجيا ثقافية. ولدت في كوبا ونشأت في نيويورك وهي الآن أستاذة للأنثروبولوجيا في جامعة ميشيجن بـ آن آربر. صدر أحدث كتبها في 2013 بعنوان "الإفراط في السفر: مذكرات بين الرحلات".

نشرت أصلا في مجلة أيون ونشرت الترجمة اليوم في شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق