الأربعاء، 6 يناير 2016

التاريخ السري لمائة عام من العزلة

قبل نصف قرن، وبعد زيارة أخرى إلى محل الرهونات، بعث جابرييل جارثيا ماركيز إلى ناشره مخطوط الرواية التي باتت بصمته الخالدة. الآن، و"مائة عام من العزلة" تبلغ الخمسين، يحاور بول إيلي من مجلة "فانيتي فير" وكيلة جابو التاريخية، قبيل وفاتها غن خمسة وثمانين عاما، متمهلا أمام الأساطير المحيطة برواية ماركيز الأهم.

 

التاريخ السري لمائة عام من العزلة


كارمن بالسيلز

 

في بيت، يقع في حي هادئ من مكسيكو سيتي، غرفة مكتب، وفي غرفة المكتب تلك عثر جارثيا ماركيز على العزلة التي لم يعرفها من قبل، ولن يعرفها من بعد. كانت السجائر على منضدة العمل (وقد دأب على تدخين ستين سيجارة في اليوم). الأسطوانات التي كانت على المسجل هي: ديبوسي، وبارتوك، وليلة يوم شاق. وعلى الحائط جداول بتاريخ بلدة كاريبية أطلق عليها اسم ماكوندو وسلسال عائلة أطلق عليها آل بوينديا. خارج البيت ستينيات القرن العشرين، وداخل البيت أعماق زمان ما قبل الأمريكتين الحديثتين، والكاتب الجالس إلى آلته الكاتبة في عنفوان قوته.

أنزل بأهل ماكوندو وباء الأرق، وجعل قسًّا يسبح في الهواء بقوة الشوكولاته الساخنة، وأطلق سربا من الفراشات الصفراء. قاد شعبه عبر مسيرة طويلة من الحرب الأهلية والكولنيالية وجمهوريات الموز، اقتفى أثرهم إلى غرف النوم فرأى فحشهم ومغامراتهم الجنسية. وتذكّر قائلا "لقد كنت في أحلامي أخترع أدبا". وشهرا بعد شهر تضخمت المخطوطة مبشرة بالرواية العظيمة "وعزلة الشهرة" التي ستفرض على كاتبها بحسب تعبيره لاحقا.

بدأ ماركيز كتابة "Cien Años de Soledad" [أو: "مائة عامة من العزلة"] قبل نصف قرن، وانتهى من كتابتها سنة 1966، وخرجت الرواية من المطبعة في بيونس أيرس في الثلاثين من مايو سنة 1967 قبل يومين من صدور ألبوم Sgt. Pepper’s Lonely Hearts Club Band  لفريق البيتلز، فكان رد الفعل وسط قراء الأسبانية شبيها بحالة البيتلزمانيا [الولع بفريق بيتلز]: زحام وكاميرات ودهشة وإحساس بأن عصرا جديدا قد بدأ. في عام 1970 ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية متبوعا بطبعة شعبية على غلافها شمس ملتهبة صارت طوطم ذلك العقد. وبحلول الوقت الذي حصل فيه جارثيا ماركيز على جائزة نوبل سنة 1982 كانت الرواية تعد بمثابة دون كيخوتة الجنوب العالمي، والدليل على براعة أمريكا اللاتينية الأدبية، وصار كاتبها جابو مشهورا في القارة كلها باسمه الأول شأن صديقه الكوبي فيدل.

وبعد سنوات كثيرة لا يزال الاهتمام بجابو وروايته العظيمة كما هو لم يتضاءل. فقد دفع مركز هاري رانسم ـ التابع لجامعة تكساس ـ أخيرا مبلغ 2.2 مليون دولار لشراء أرشيف الكاتب ومن ضمنه مخطوطة مائة عام من العزلة بالأسبانية، وفي أكتوبر الماضي اجتمع أفراد من عائلته وأكاديميون لإلقاء نظرة جديدة على إرثه الذي تمثل هذه الرواية درته.

على المستوى غير الرسمي، هذه هي الرواية الأحب لدى الجميع في عالم الأدب، وهي الرواية التي ألهمت ـ أكثر من أي رواية غيرها في ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ روائيي زماننا بدءا من توني موريسن وسلمان رشدي ووصولا إلى جونوت دياز. وفي فيلم "الحي الصيني" [Chinatown  لرومان بولانسكي] هناك مشهد يقع في مكان بمزرعة في هوليود تسمى "مساكن إل ماكوندو". وبيل كلينتن في فترة رئاسته الأولى أعرب عن رغبته في مقابلة جابو عندما كان كلاهما في جزيرة مارثا فاينيارد، وانتهى المطاف بهما وهما يتبادلان الآراء حول فوكنر على عشاء في بيت بيل وروز ستايرن (وكان على المائدة كارلوس فوينتس، وفيرنون جوردان، وهارفي فاينشتاين). وعندما توفي ماركيز في ابريل 2014 انضم باراك أوباما إلى كلينتن في رثائه وقال عنه إنه "أحد المفضَّلين لديّ منذ أن كنت شابا" مشيرا في ثنايا ذلك إلى نسخته الأثيرة الموقَّعة من "مائة عام من العزلة". "هذا هو الكتاب الذي لم يُعِد تعريف الأدب الأمريكي اللاتيني وحده، بل الأدب كله، نقطة" بحسب ما يصر إيلان ستيفانز، الباحث الأمريكي المرموق في الثقافة الأمريكية اللاتينية الذي يقول إنه قرأ الرواية أكثر من ثلاثين مرة.

كيف يتأتَّي لهذه الرواية أن تكون مثيرة، وممتعة، وتجريبية، وراديكالية في السياسة، وواسعة الانتشار، في وقت واحد؟ لم يكن نجاحها مؤكدا، وقصة كتابتها فصل حاسم وغير معروف على نطاق واسع، وهو واحد من أهم فصول تاريخ الأدب في نصف القرن الأخير.

الرحيل عن البيت

خالق أشهر قرية في الرواية المعاصرة كان ابن مدينة. ولد سنة 1927 في قرية أراكاتاكا الكولمبية، على مقربة من الساحل الكاريبي، ودرس في ضاحية داخلية تدعى بوجوتا. ترك جابرييل جارثيا ماركيز دراسة القانون ليعمل صحفيا في مدن كارتاخينا، وبارانكويلا (بكتابة عمود) وبوجوتا (بكتابة نقد سينمائي). ولما ضيّقت الدكتاتورية خناقها، ذهب في مهمة عمل إلى أوربا، بعيدا عن الأذى. وعاش هناك فترة عصيبة. فكان، في باريس، يعيد فوارغ زجاجات المياه ليحصل على المقابل المالي الزهيد، وفي روما حضر فصولا في السينما التجريبية، وذاق البرد في لندن، وراسل من ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. وعند عودته إلى الجنوب ـ فنزويلا تحديدا ـ أوشك أن يتعرَّض للاعتقال أثناء حملة عشوائية للشرطة العسكرية. ولما استولى فيدل كاسترو على السلطة في كوبا، وقّع جارثيا ماركيز عقدا مع وكالة برينسا لاتينا الصحفية الممولة من الحكومة الشيوعية الجديدة، فلما ضاق عليه الحال في هافانا انتقل إلى نيويورك سنة 1961 مع زوجته مرسيدس وابنهما الصغير رودريجو.

قال لاحقا إن المدينة "كانت تتعفن، ولكنها كانت أيضا في طور ميلاد جديد، مثل غابة. وافتتنت بها". بقيت الأسرة في فندق وبستر، عند تقاطع شارع 45 مع الجادة الخامسة، ثم أقاموا مع أصدقاء في كوينز، لكن جابو كان يقضي أغلب وقته في مكتب الصحيفة على مقربة من مركز روكفيلر، في غرفة ذات نافذة وحيدة تعلو خرابة مليئة بالجرذان. وكان الهاتف لا يكف عن الرنين، وكانت الاتصالات جميعا من كوبيين في المنفى اعتبروا الوكالة الصحفية جزءا من نظام كاسترو الذي كانوا يمقتونه، فكان يحتفظ بسيخ المدفأة قريبا منه، متأهبا للدفاع به في حالة تعرضه لهجوم.

وطوال ذلك الوقت كان يكتب أدبا: "الأوراق الذابلة" في بوجوتا، و"في ساعة نحس" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" في باريس و"جنازة الأم الكبيرة" في كاراكاس. ولما سيطر الشيوعيون المتشددون على قطاع الصحافة وأطاحوا برئيس التحرير، استقال جارثيا ماركيز متضامنا معه. وانتقل إلى مكسيكو سيتي وبدأ تركيزه ينصب على الأدب. ولكنه قبل ذلك شاهد جنوب وليم فوكنر، الذي قرأ كتبه من قبل مترجمة وهو في مطلع العشرينيات. وأثناء السفر بأتوبيسات جرايهاوند، عومل وأسرته بوصفهم "مكسيكيين قذرين" حسبما حكى، فمنعوا من دخول المطاعم والمراحيض. ويتذكر "المزارعين في قيلولتهم أسفل مظلات الحانات على جنبات الطريق، وأكواخ السود الباقية وسط البؤس والشقاء ... وعالم مقاطعة يوكناباتاوفا [الخيالية التي اخترعها وليم فوكنر] الرهيب مرَّ أمام عيني من وراء شباك الأتوبيس، وكان صادقا وإنسانيا في الواقع بقدر ما هو في روايات الشيخ المعلم".

تعب جارثيا ماركيز. تحوَّل إلى كتابة السيناريو. وعمل محررا لمجلة نسائية مصقولة الورق هي "لا فاميلياLa Familia" وأخرى متخصصة في الفضائح والجريمة. عمل في الإعلانات لوكالة جيه والتر طومسن. وفي حي زونا روسا ـ بالضفة اليسرى في مكسيكو سيتي ـ كان معروفا بالفظ متعكر المزاج.

وتغيرت حياته. أبدت وكيلة أدبية في برشلونة اهتماما بأعماله، وبعد أسبوع من اللقاءات في نيويورك سنة 1965 توجهت إلى الجنوب لمقابلته.

قطعة ورق

"هذا الحوار احتيال". هكذا أعلنت كارمن بالسيلز بحسم كفيل بإنهاء الحوار قبل بدايته. كنا في شقتها التي تعلو مكاتب وكالة كارمن بالسيلز في وسط مدينة برشلونة. وكانت قد تقدمت بمقعدها المتحرك لمقابلتي عند المصعد ثم دارت به نحو منضدة عملاقة محملة بمخطوطات وصناديق حمراء للملفات. (مكتوب على أحدها اسم فارجاس يوسا، ووكالة وايلي على آخر). في الخامسة والثمانين، ذات شعر كثيف أبيض، ذات حجم هائل أدى بها إلى أن تحمل اسم "الأم الكبيرة"La Mamá Grande. ترتدي فستانا أبيض فضفاضا فكأنها البابا ولكنه امرأة.

"احتيال" قالتها بالإنجليزية، بنبرة عالية وصوت خافت. "عندما يموت نجم، أو فنان، عندما يموت شخص كهذا، ولا يعود موجودا فيجيب الأسئلة الكثيرة، تكون الخطوة الأولى هي محاورة سكرتيرته، وحلاقه، وطبيبه، وزوجته، وأبنائه، والخياط الذي كان يتعامل معه. أنا لست فنانة. أنا وكيلة. أنا هنا بوصفي شخصا كانت له أهمية في حياة جابرييل جارثيا ماركيز. لكن هذا ليس الشيء الحقيقي. فحضور الفنان المبهر نفسه مفقود".

كانت كارمن بالسيلز تتهيأ لمستقبل لن تكون حاضرة لتراه، وهي تستعد لإبرام صفقة تبيع الوكالة بموجبها لـ آندرو وايلي الوكيل الأدبي في نيويورك، ولكن الصفقة انهارت أخيرا (ويرد المزيد عن هذا لاحقا). وصار هناك طامحون آخرون يقدمون عروضهم، لتقرر كارمن بالسيلز من بينهم الذي سوف يعتني بأكثر من ثلاثمائة عميل لديها، من بينهم تراث جارثيا ماركيز. قالت لي في ضجر إن حوارنا هذا سوف يليه اجتماع مع محاميها، قالت "أعمال حقيرة".

في مساء ذلك اليوم، وفي حيوية بليغة، أزاحت كل تلك الأمور عن تركيزها، وتذكرت اليوم الأول الذي شعرت فيه "بحضور الفنان الهائل" بين يديها.

كانت هي وزوجها لويس يحبان القراءة في الفراش. "كنت أقرأ جارثيا ماركيز، في أحد كتبه المبكرة، وقلت للويس ’هذا كتاب رائع يا لويس، ولا بد أن نقرأه أنا وأنت في الوقت نفسه’. ونسخت له العمل. وتحمسنا له نحن الاثنين: كان شديد الطزاجة، والأصالة، والإثارة. كل قارئ يحدث نفسه عن كتاب معين قائلا ’هذا من أفضل الكتب التي قرأتها في حياتي’. وحينما يحدث هذا مع كتاب معين مرارا وتكرارا، في مختلف أنحاء العالم، فبين يديك رائعة. وهذا ما حدث مع جابرييل جارثيا ماركيز".

عندما وصلت بالسيلز ولويس إلى مكسيكو سيتي، في يوليو 1965، لم يعن ذلك لجارثيا ماركيز لقاء مع وكيلته الأدبية الجديدة، بل لقاء مع شخصين يعرفان أعماله معرفة حميمية. اصطحبهما بالنهار ليريهما المدينة، وبالليل تناول ثلاثتهم العشاء مع كتاب من المدينة. فأكلوا وشربوا، ثم أكلوا وشربوا المزيد. ثم جاء جارثيا ماركيز ـ وقد شعر بالألفة الشديدة تجاه ضيفيه ـ بقطعة ورق وبدأ هو وبالسيلز، في حضور لويس، يخططان لعقد يجعل من كارمن ممثلته في العالم كله على مدار السنوات المائة والخمسين التالية.

قالت لي بالسيلز مبتسمة "ليست مائة وخمسين سنة، بل مائة وعشرون في ظني. كانت مزحة، عقدا هزليا، فاهم؟".

ولكن كان هناك عقد آخر، ولم يكن هزليا. فقبل أسبوع في نيويورك، كانت بالسيلز قد عثرت لأعمال جارثيا ماركيز على ناشر أمريكي هو هاربر آند راو. وأبرمت صفقة بالحقوق في اللغة الإنجليزية لأربعة من كتبه. والمقابل؟ ألف دولار. وأحضرت العقد، وقدمته له لتوقيعه.

بدت الشروط مجحفة، بل بدت سرقة واضحة. كما منح العقد لهاربر آند راو الأفضلية بين الناشرين لما يلي من أعماله القصصية مهما يكن. قال لها "هذا العقد هراء" ووقع العقد.

رجعت بالسيلز إلى برشلونة، وذهب جارثيا ماركيز بأسرته في رحلة شاطئية إلى أكابولكو، على مسافة يوم بالسيارة باتجاه الجنوب. وفي منتصف الطريق، أوقف السيارة ـ أوبل بيضاء، حمراء من الداخل، من طراز 1962 ـ وارتدّ راجعا. في تلك اللحظة، كان عمله التالي قد خطر له على حين غرة. كان على مدار عقدين قبل ذلك يعيش حالة من الجذب والشد مع حكاية عائلة كبيرة في قرية صغيرة. وفي تلك اللحظة أبصرها بوضوح رجل يقف أمام الفصيلة المكلفة بتنفيذ الإعدام، رأى الحياة كلها في لحظة واحدة. وسيقول في وقت لاحق "إنها بدت لي في تمام النضج، بحيث كان بوسعي أن أملي الفصل الأول، كلمة بعد كلمة".

 في غرفة المكتب، أقعد نفسه أمام الآلة الكاتبة. "ولم أقم لمدة ثمانية عشر شهرا". وشأن بطل الكتاب، الكولونيل أورليانو بوينديا المختفي في ورشته بماكوندو صانعا سمكاته الهذبية ذات العيون الجواهرية، ظل الكاتب يعمل في هوس. وكان يعدِّل في الصفحات المكتوبة على الآلة الكاتبة، ثم يبعثها إلى جامع ليكتبها في نسخ نظيفة. وكان يدعو الأصدقاء ليقرأ عليهم بصوت مرتفع. ومرسيدس كانت تتولى شؤون الأسرة، فتملأ الخزانة بالويسكي استعدادا للحظة انتهاء العمل، وتبعد عنه محصلي الفواتير، وترهن أغراضا من البيت تدبيرا للنقود: "التليفون، والثلاجة، والراديو، والحليّ" بحسب ما يكتب جيرالد مارتن كاتب سيرة جارثيا ماركيز الذاتية. وباع الأوبل. ولما اكتملت الرواية، وذهب جابو ومرسيدس إلى مكتب البريد لإرسال مخطوطتها إلى الناشر، إديتوريال سود أمريكانا، في بيونس أيرس، لم يكن معهما اثنان وثمانون بيسو ثمن الإرسال. فبعثا نصف المخطوطة فقط، ثم بعثا النصف الثاني بعد زيارة لمحل الرهونات.

دخَّن ثلاثين ألف سيجارة، وأنفق 120 ألف بيسو (قرابة 10 آلاف دولار). وتساءلت مرسيدس "وماذا لو تبيَّن بعد ذلك كله أنها رواية رديئة؟"

عقل يحترق

مرة قال فوكنر إن "الماضي لا يموت. بل إنه لا يمضي"، وفي مائة عام من العزلة جعل جارثيا ماركيز حضور الماضي شرط حياة في ماكوندو، شأن الفقر، أو الظلم. على مدار سبعة أجيال يبقى خوسيه أركاديو بوينديا ونسله حاضرين بلا هوادة، بأسمائهم الموروثة، ونوبات الغضب والغيرة التي تنتابهم، ونزاعاتهم وحروبهم، وكوابيسهم، وتيار زنا المحارم الساري فيهم، قوةً تجعل التشابه العائلي لعنة والانجذاب الجنسي قوة تنبغي مقاومتها، وإلا فإنك وحبيبتك (وهي أيضا قريبتك) ستنجبان طفلا له ذيل خنزير.

صارت "الواقعية السحرية" هي المصطلح الذي يصف خروج جارثيا ماركيز على قوانين الطبيعة بالفن. ولكن سحر الرواية، في المقام الأول والأخير، يتمثل في القوة التي تجعل بها آل بوينديا وجيرانهم ماثلين أمام القارئ. فتشعر وأنت تقرأ الرواية أنهم أحياء، وأن هذا حدث.

ثمانية آلاف نسخة بيعت في الأسبوع الأول في الأرجنتين وحدها، وهو رقم غير مسبوق لرواية أدبية في أمريكا الجنوبية. قرأها العمال. وربات البيوت، وأساتذة الجامعة، والعاهرات: يتذكر الروائي فرانشيسكو جولدمان أنه رأى الرواية على كمدينو في بيت دعارة على الساحل. سافر جارثيا ماركيز إلى الأرجنتين، وبيرو، وفنزويلا ممثلا لروايته. في كاركاس، جعل مضيفيه يكتبون لافتة بخط اليد نصها: ممنوع الكلام عن مائة عام من العزلة. قدمت النساء أنفسهن له، إما بأنفسهن، أو من خلال الأوتوجرافات.

كارمن بالسيلز مع يوسا

اجتنابا للتشتيت، نقل أسرته إلى برشلونة. والتقى به نيرودا هناك، وكتب عنه قصيدة. وفي جامعة مدريد، كتب ماريو فارجاس يوسا ـ الذي كان معروفا وقتها بروايته "المنزل الأخضر" ـ أطروحة دكتوراه عن كتاب جارثيا ماركيز الذي حصل على جوائز أدبية في إيطاليا وفرنسا، وبات يعد الكتاب الأول الذي وحَّد الثقافة الأدبية للناطقين بالأسبانية بعد طول انقسام بين أسبانيا وأمريكا اللاتينية، وبين المدينة والقرية، وبين المستعمِرين والمستعمَرين.

اشترى جريجوري راباسا الكتاب في منهاتن وقرأه في افتتان وبلا توقف. كان أستاذ اللغات الرومانسية في كلية كوينز، وكان قد ترجم أخيرا رواية "لعبة الحجلة" لخوليو كورتاثار ونال عنها الجائزة الوطنية للكتاب. كان قد سبق له العمل في حل الشفرات مع مكتب الخدمات الاستراتيجية أثناء الحرب، والرقص مع مارلين ديترتش Marlene Dietrich  عندما حضرت للتسرية على الجنود. وكان يعرف الشيء الأصيل حينما تقع عليه عيناه.

"قرأتها بدون أدنى تفكير في ترجمتها" هكذا يقول راباسا في شقته بشارع 72 الشرقي. هو الآن في الثالثة والتسعين، ضعيف البدن لكنه حاذ الذهن، لا يزال يحضر لقاءات قدامى المحاربين الذين خدموا في مكتب الخدمات الاستراتيجية. "كنت معتادا على مناهج الحكي المجرَّبة المضمونة. أوه ... كنت عملت على كورتاثار. وكنت أعرف أعمال بورخس. وتضع الاثنين معا فيكون لديك شيء آخر: يكون لديك جابرييل جارثيا ماركيز".

استطاع كاس كانفيلد الابن، المحرر المسؤول في هاربر آند راو ـ وقد دفع ألف دولار مقابل الكتب الأربعة السابقة ـ أن ينال الموافقة على خمسة آلاف دولار تدفع لوكالة بالسيلز على أقساط. طلب جارثيا ماركيز من صديقه خوليو كورتاثار أن يرشح له مترجما فقال له كورتاثار "عليك براباسا".

في عام 1969، وفي بيت في هامتن بايز، في لونج أيلند، شرع راباسا في ترجمة الرواية، مستهلا بجملتها الافتتاحية العصية على النسيان: "بعد سنوات كثيرة، وأمام الفصيلة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام، لم يجد الكولونيل أورليانو بيونديا سبيلا إلا تذكر تلك الأمسية البعيدة  حينما حمله أبوه ليرى الثلج". وضع راباسا قواعد محددة: "كان عليّ أن أتأكد أن الأب دائما هو خوسيه أركاديو بوينديا، وليس أي نسخة أخرى، تماما كما أن تشارلي براون لا يطلق عليه أي اسم سوى تشارلي براون في سلسلة قصص Peanuts المصورة".

كان المحرر ريتشارد لوك قد سمع للمرة الأولى عن الكتاب سنة 1968 من الروائي توماس مكجوان زيارة له في مونتانا. يقول لوك "كان توم قارئا شديد البراعة. وقال إن هذا هو الرجل الذي يتكلم عنه الجميع. وبحلول الوقت الذي أرسلت فيه هاربر آند راو المسودات الأولى في مطلع عام 1970، كان لوك قد أصبح محرر المهام في قسم الكتب بنيويورك تايمز. يتذكر لوك: "حينما وصلتني الرواية، أدركت أنني أمام كتاب شديد الأهمية، لنوع شديد الاختلاف من الكتّاب، وفي قالب جديد لم نر له مثيلا من قبل. فكتبت عنه تقريرا حماسيا".

في الوقت نفسه، كان كانفيلد قد غنّى أغنيته لمحرر التايم، فظهر في الصحيفة استعراضٌ بجميع عناوين أدب أمريكا اللاتينية الموشكة على الصدور بالإنجليزية ـ وكلها تنتمي إلى حركة البوم ـ وفي صدارة الصف جابرييل جارثيا ماركيز. وتنبأ كانفيلد قائلا "إننا على يقين من أن جارثيا ماركيز سيحدث أثرا شبيها بأثر بعض كتاب ما بعد الحرب الفرنسيين والألمان في المشهد الأدبي الأمريكي".

نشرت مائة عام من العزلة [بالإنجليزية] في مارس سنة 1970، بغلاف أخضر وطباعة متواضعة أخفيا ما تنطوي عليه الرواية من طاقة. وفي ذلك الوقت، مثلما الحال في وقتنا هذا، كانت المقالات الأساسية المؤثرة في المبيعات والجوائز هي مقالات التايمز. وامتدح قسم الكتب الرواية بوصفها "سفر التكوين الأمريكي اللاتيني، والعمل السحري المؤثر". ولم يدخر جون ليونارد شيئا فيما كتبه للتايمز اليومية: "إنك تخرج من هذه الرواية الرائعة خروجك من حلم، وقد اضطرمت النار في عقلك" وانتهى قائلا "إن جابرييل جارثيا ماركيز، يثب وثبة واحدة، فإذا به على المسرح بجوار جونتر جراس وفلاديمير نابوكوف، بشهية عارمة عرامةَ خياله، وقدَرية تتجاوز كليهما. مذهل".

بخمسة آلاف دولار وفقا للعقد "الهرائي"، بيعت الرواية التي باعت خمسين مليون نسخة في العالم، لتصبح من عام إلى عام من ثوابت قائمة الكتب التي لا تتوقف طباعتها. وشاهد جريجوري راباسا بمزيج من الفخر وعدم الارتياح عمله الذي حصل في مقابله على نحو ألف دولار كبستاني ينثر السماد في حديقة ـ وهو يصبح فورا أهم رواية مترجمة، وأكثر الروايات المترجمة رواجا. ووصل الأمر إلى أن جارثيا ماركيز نفسه قرأ مائة عام من العزلة [بالإنجليزية] في طبعة هاربر آند راو وقال إنها أحسن من أصلها الأسباني، وقال إن راباسا "أفضل كاتب أمريكي لاتيني يكتب باللغة الإنجليزية".

المشاجرة

حلم الكثيرون بتحويل مائة عام من العزلة إلى فيلم. ولم يقترب أحد من تحقيق ذلك الحلم. في بعض الأحيان كان الكاتب والوكيل يشترطان سعرا فلكيا للحقوق. وفي أحيان أخرى، كان جارثيا ماركيز يضع شروطا فنتازية. فقد قال جابو لهارفي واينشتاين إنه سيمنح الحقوق له هو وجيسيبي تورناتور، ويتم تنفيذ الفيلم، بشرط أن "نصور الكتاب كله، ثم لا نعرض إلا فصلا واحدا منه، بطول دقيقتين، في العام، وعلى مدار مائة عام" كما يقول واينشتاين.

بدلا من تحويلها إلى السينما، كان هناك كثير من لفتات التقدير من الروائيين، فمنها ما كان صريحا (كروايات أوسكار هيجيلوس Oscar Hijuelos المطولة عن أمريكا الكوبية) ومنها الخفي غير المباشر (كرواية نبتة الفيرنونيا Ironweed لوليم كينيدي التي يكلم فيها طفل ميت أباه من مقبرته). ثنت أليس ووكر قضبان المنطق الحديدية في "اللون القرمزي" حينما قوبلت الرسائل المبعوثة إلى الله بردود حقيقية. أما إيزابيل أليندي ـ وهي قريبة حاكم تشيلي الذبيح (وواحدة من عميلات بالسيلز) ـ فقد حكت قصة تشيلي الحديثة عبر ملحمة عائلية في روايتها "بيت الأرواح".

وتقول توني موريسن "كنت جالسة في مكتبي بدار راندم هاوس" وكانت في ذلك الوقت محررة بالدار وروائية لها روايتان منشورتان. "وبدأت للتو أقلب صفحات مائة عام من العزلة. كان ثمة شيء مألوف للغاية في الرواية، قريب للغاية مني. كان ثمة نوع معين من الحرية، الحرية البنائية، مفهوم [مختلف] للبداية والوسط والنهاية. شعرت على المستوى الثقافي بحميمية معه لأنه كان يسعد حينما يمزج بين الموتى والأحياء. شخصياته كانت متوافقة تماما مع العالم فوق الطبيعي، وتلك هي الطريقة التي كانت تُحكى بها القصص في بيتي".

كان والد موريسن قد مات، وكانت في ذهنها فكرة رواية جديدة أبطالها رجال ـ ابتعادا منها عن نفسها. "كنت من قبل قد تردَّدت قبل الكتابة عن أولئك الرجال. لكنني، وقد قرأت مائة عام من العزلة، لم أعد مترددة. فقد حصلت على إذن من جارثيا ماركيز" إذن لكتابة "نشيد الأنشاد Song of Solomon "، وهي الأولى في سلسلة روايات ضخمة جريئة. (وبعد سنين كثيرة،  اشتركت موريسن وماركيز في التدريس بجامعة برنستن، وكان ذلك في عام 1998 أو "العام الذي ظهر فيهت فيه حبة الفياجرا" كما تتذكر موريسن. "كنت في الصباح أقله من الفندق الذي كان يقيم فيه  هو ومرسيدس وكان يقول "الحبَّاااة: الحبَّاااة ليست لنا نحن الرجال. بل لكن يا نساء. نحن لسنا بحاجة إليها، ولكننا نريدها إرضاء لكن").

كان جون إيرفنج يدرِّس الأدب ويدرِّب على المصارعة في كلية ويندهام في فيرمونت، وقد تخرّج في ورشة أيوا للكتّاب مبهورا بجونتر جراس. ومثل "الطبل الصفيح"، بهتته رواية جارثيا ماركيز باتساع قماشتها وثقتها الملائمتين لروايات القرن التاسع عشر. يقول إيرفنج "ها هو حكّاء من القرن التاسع عشر لكنه يعمل في زماننا هذا. يخلق شخصيات ويوقعك في غرامها. يكتب عما وراء الطبيعي فإذا بها الكتابة الاستثنائية لا العادية. زنا المحارم وزيجات الأسرة الواحدة ... كل ذلك  مقدور سلفا، كما عند [توماس] هاردي".

جونوت دياز، ابن الجيل اللاحق، يرى جابو هاديا إلى الواقع المعاصر. قرأ دياز الرواية في شهوره الأولى في روتجرز سنة 1988. يقول إن "العالم تحوّل من الأبيض والأسود إلى الألوان. كنت كاتبا لاتينيا أمريكيا كاريبيا يبحث في لهفة عن مثل عليا. سرت هذه الرواية بداخلي سريان البرق الصاعق، اخترقتني من أعلى رأسي حتى أخمص قدمي، مترددة بداخلي طوال العقود العديدة التالية، وحتى هذه اللحظة. أدهشته حقيقة أن مائة عام من العزلة قد كتبت بعيد  تعرض بلده، جمهورية الدومينيكان، لغزو قوات الولايات المتحدة سنة 1965، فبات يرى الواقعية السحرية أداة سياسية، أداة "تمكِّن الشعب الكاريبي من الرؤية بوضوح في هذا العالم، العالم السريالي الذي يفوق موتاه أحياءه، وفيه من المحو والصمت أكثر مما فيه من الكلام". يوضح: "في آل بوينديا سبعة أجيال. نحن الجيل الثامن. نحن أبناء ماكوندو".

كان سلمان رشدي يعيش في لندن ويفكر في بلد طفولته حينما قرأ الكتاب للمرة الأولى. وبعد سنين كثيرة كتب يقول "كنت أعرف كولونيلات جارثيا ماركيز وجنرالاته، أو نظراءهم الهنود والباكستانيين على الأقل، الأساقفة لديه هم الملالي لديّ، والأسواق عنده بازارات عندي. عالمه عالمي، ولكن بالأسبانية. وقعت في غرام معجزاته الصغيرة، لا لسحريتها، بل لواقعيتها". في ثنايا استعراضه لرواية "سرد وقائع موت معلن" لجارثيا ماركيز، أوجز رشدي شهرة الروائي بمبالغة محسوبة يشترك فيها مع جابو فقال "إن خبر صدور كتاب جديد لماركيز يتصدر صفحات الجرائد اليومية الأسبانية والأمريكية. ينادي عليها الباعة الجوالون في الشوارع. وينتحر النقاد عجزا عن العثور على ما يلزم من صفات المديح الطازجة". سمَّاه رشدي "الملاك جبريل"، وهي إشارة مرتجلة إلى تأثير جارثيا ماركيز على "الآيات الشيطانية" التي يحمل بطلها اسم "الملاك جبريل".

بحلول ذلك الوقت، كان ماركيز قد فاز بنوبل، وصار له في الولايات المتحدة ناشر أمريكي هو دار نوبف. وفي واقعة نادرة، نشرت "سرد وقائع معلن" كاملةً في العدد الأول من الإصدار الجديد لمجلة "فانيتي فير" Vanity Fair  سنة 1983 عندما كان ريتشارد لوك رئيسا للتحرير. كلف لوك وألكسندر ليبرمان ـ مدير التحرير في كوندي ناست Condé Nast ـ  الرسام الكولمبي بوتيرو بتنفيذ الرسوم المصاحبة. كان الإعجاب بالكاتب قد صار عالميا. كان الكاتب الذي يحبه الجميع.

الجميع، طبعا، باستثناء ماريو فارجاس يوسا. كانا صديقين لسنين: كلاهما مغتربان في برشلونة عن أمريكا اللاتينية، وكاتبان مرموقان في حركة البوم، وعميلات لكارمن بالسيلز. وكانت بين زوجتيهما باترشيا ومرسيدس علاقة اجتماعية. ثم حدثت القطيعة. في عام 1976، حضر جارثيا ماركيز في مكسيكو سيتي تصوير فيلم "أوديسة الانديز" الذي كتب له يوسا السيناريو. ولما رأى جارثيا ماركيز صديقه مضى إليه ليعانقه، فلكمه فارجاس يوسا في وجهه فطرحه على الأرض وترك له عينه مزرقّة.

حكت لي كارمن بالسيلز: "قال جارثيا ماركيز ’الآن وقد لكمتني فطرحتني أرضا، لم لا تقول لي لماذا فعلت هذا؟". ومنذ ذلك الحين، يتساءل الوسط الأدبي في أمريكا اللاتينية عن السبب. إحدى القصص أن جارثيا ماركيز قال لصديق مشترك إنه يرى باترشيا أقل من جميلة. وقصة ثانية تقول إن باترشيا كانت تشك أن ماريو في علاقة، ولما طلبت من جابو النصيحة، نصحها جابو بأن تتركه. أما فارجاس يوسا فقال إن الأمر "يتعلق بمشكلة شخصية".

تحكي بالسيلز أن "كاتبا آخر قال لماريو ’احذر. أم تريد أن تعرف بالرجل الذي لكم كاتب مائة عام من العزلة’".

على مدار أربعة عقود، ظل فارجاس يوسا يرفض رفضا قاطعا منافشة المسألة، وكان يقول إن بينه وبين جابو "معاهدة" على أن يصطحبا القصة معهما إلى القبر. ولكن يوسا ـ وهو نفسه حاصل على نوبل ـ تكلم في حوار حديث عن صديقه ومنافسه بمحبة وبإسهاب، تكلم عما كان يعنيه له جارثيا ماركيز، منذ اللقاء الأول بأدب جابو (في باريس، وفي ترجمة فرنسية)، ولقائهما الأول في مطار كاراكاس سنة 1967، إلى سنوات صحبتهما في برشلونة، إلى خطتهما للاشتراك في كتابة رواية عن حرب 1928 بين بيرو وكولمبيا. وتكلم عن مائة عام من العزلة التي قرأها فكتب عنها "فورا، فورا" حينما وصلته في كركلوود، بشمالي لندن، بعد أسابيع من صدورها. "ذلك هو الكتاب الذي وسّع الجمهور القارئ بالأسبانية ليشمل مثقفين وقراء عاديين بسبب أسلوبه الواضح الشفاف. في الوقت نفسه، كان كتابا صادق التمثيل: ففيه حروب أمريكا اللاتينية الأهلية، والتفاوت الطبقي في أمريكا اللاتينية، وخيال أمريكا اللاتينية، وحب أمريكا اللاتينية للموسيقى، وفيه لونها، كل ذلك في رواية امتزجت فيها الواقعية والفنتازيا على أمثل ما يكون" أما عن القطيعة مع جابو فلزم الصمت قائلا "هذا سر للكاتب الذي سوف يكتب سيرتي في المستقبل".

زيجة مثلى

كارمن بالسيلز مع ماركيز

سوف تعرف كارمن بالسيلز دائما بوصفها وكيلة كاتب مائة عام من العزلة. التقت بي في برشلونة، وهي تعرف أنها سوف تتكلم بوصفها الوحيدة التي ـ بحسب عنوان سيرة جابو ـ التي "تعيش لتروي الحكاية".

ولسوف يتبيّن أن في لقائنا انعطافة ماركيزية. كنا جالسين إلى المنضدة العملاقة في الصالة، مثل شقة واسعة في بارك أفنيو. على أحد الجدران بورتريه لبالسيرز يرجع إلى سنوات كثيرة مضت: نفس العينين الخاطفتين، نفس الفك القوي، فبدا وكأن بالسيلز الشابة حاضرة معنا هي الأخرى، شاهدة على القصة الطويلة لعلاقة الوكيلة بالكاتب. العلاقة التي سميت بـ "الزيجة المثلى un matrimonio perfecto ".

قلت لها إنني أعمل محررا في دار فارر شتراوس آند جيرو، فقالت "أها، أنا ذاكرتي فوتغرافية في الوجوه، ولا بد أنني رأيت وجهك حينما كنت هناك في زيارة لروجر [شتراوس ـ الناشر]. لك نفس الوجه الذي كان لك عند زيارتي".

ومضت تقول "وبما أنني قابلتك، فبوسعك أن تسألني في ما تشاء" فتكلمنا لساعة ونصف الساعة. وبما أنها وكيلة أبدية، فقد وضعت للحوار شرطا. قالت لي ("على أن لا يكون لمقالتك") ما الذي دفع ماريو إلى ضرب جابو في تلك الليلة من عام 1976. وحكت لي ("على أن تعدني أولا بأن لا تنشر قبل أن أموت") كيف أنها استغلت مائة عام من العزلة مرارا وتكرارا في "عقد صفقات سرية" مع ناشريها حول العالم، معطية لهم حقوق الكتب الجديدة بشرط أن يعدلوا عقودهم الخاصة بكتاب جابو، بحيث تعود الحقوق إلى الوكالة.

وبلا شروط تكلمت عن حالة الوكالة. قالت "تقاعدت سنة 2000، وبقي العمل لثلاثة أشخاص، ابني، والرجل الذي يحرر العقود، [وشخص ثالث]. لكنني اضطررت للرجوع عن تقاعدي بسبب الديون والخسائر". وصفت صفقاتها مع أهم وكيل في العالم الناطق بالإنجليزية: "آندرو وايلي من الذين أرادوا شراء وكالتي لعشرين عاما. كان ينبغي أن تتم الصفقة منذ ستة أشهر. آندرو كان هنا هو وسارة (سارة تشافلانت، نائبته]، وناشر آخر تحوّل إلى وكيل...". هزّت رأسها، غير قادرة على تذكر اسم كرستوبال بيرا الذي كان يدير مجموعة راندم هاوس في المكسيك قبل انضمامه إلى وايلي في أغسطس.

في مايو 2014، وقَّعت وكالة كارمن بالسيلز مذكرة تفاهم مع وكالة وايلي بشأن البيع، وأوردت تايمز أن الصفقة اكتملت. بلغت ثقة بالسيلز في وايلي هذا المدى. فلماذا لم تكتمل الصفقة؟ قالت بالسيلز إن السبب هو شعورها أن وايلي يعتزم إغلاق مقر الوكالة في برشلونة ونقل الوكالة إلى مقر أعماله في نيويورك ولندن. وهذا ما كانت تعترض عليه بشدة، فبدأت في النظر إلى عروض أخرى، من الوكيل الأدبي اللندني آندرو نورنبرج ـ الذي يمثل كتابا يتراوحون بين هاربر لي وطارق علي (وكذلك الراحلة جاكي كولنز) ومن ريكاردو كافاليرو الذي كان يدير سابقا موندادوري في إيطاليا وأسبانيا.

قالت لي "ثلاثة عروض، جميعها مثيرة، ولكن العملية متجمدة، لأنني لم أجد بينها العرض الجيد". كان ينتظر أن يقبل المحامون في أي وقت ليناقشوها في الخيارات المتاحة. وبيّنت لي أكبر مخاوفها: أن تخون كتّابها، أن تحل احتياجات الشريك الجديد محل احتياجات كتّابها. "مهنة الوكيل الأدبي مهنة متواضعة. لكنها مهنة مهمة بالنسبة للكاتب. مهنة تتيح لشاغلها أن يتخذ قرارات بالنيابة عن عملائه. والمشكلة أن الأنا [لدى الوكلاء] قد تعترض الطريق. مهم جدا أن تكون الوكالة شخصا، شخصا واحدا. المسألة لا تتعلق بالمال".

فبأي شيء تتعلق؟ أندرو وايلي لا يريد ان يتكلم عن النقاشات التي دارت مع بالسيلز، وبذا تكون كلمة بالسيلز هي الكلمة الأخيرة. الأمر بالنسبة لها كان يتعلق بشيء آخر، بحضور الوكيل في حياة كتّابه، كشخص هو الذي سيظل حاضرا  حين ينعدم "حضور الفنان الرائع".

بحركة جميلة على مقعدها المتحرك، اقتادتني كارمن بالسيلز إلى المصعد. قبلت يدي وأنا أودعها. وبعد سبعة أسابيع توفيت بسكتة قلبية أصابتها في شقتها في برشلونة. وبرغم تقدمها في العمر، أصابت وفاتها عالم النشر بالدهشة. وبوفاتها ستصبح، شأن كاتبها الساحر، ذات حضور مطلق، روحا تستولي على الصراع القائم حول وكالتها، وحول تركة جابو.

من الذي سوف يمثل مائة عام من العزلة؟ في الوقت الراهن، لا أحد يعلم. لكن آل بوينديا وقريتهم ماكوندو ليسوا بحاجة إلى ممثل: نحن أنفسنا أحفادهم، وهما حاضرون في حياتنا، حضورا حقيقيا، شأنهم شأن الفراشات الصفراء في صفحات رواية جارثيا ماركيز المذهلة.

 


نشر أصلا في فانيتي فير، ونشر الترجمة على حلقتين في شرفات أمس وثلاثاء الأسبوع الماضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق