الثلاثاء، 7 مايو 2013

ملاحظات نحو فلسفة للنوم

 
ملاحظات نحو فلسفة للنوم
ريموند تاليس

المقال الذي تطالعونه الآن نتاج جزئي لحادثة ـ أسارع فأقول إنها سعيدة. قبل بضعة أسابيع كنت جالسا في ندوة مع الفيلسوف "كرستوفر هاملتن" نتناقش فيها عما إذا كان من  الملائم أن تسعى البشرية إلى عالم يخلو من الألم، أم أن للألم غرضا إيجابيا فضلا عن غرضه البيولوجي الواضح وهو إبعادنا عن أشياء قد تضير بنا (وذلك قد يكون موضوع مقال في المستقبل). ذكّرتني مقابلة هاملتن بكتابه الممتاز "الفلسفة الحية: تأملات في الحياة والمعنى والفناء" (الصادر سنة 2001). وفي ذلك الكتاب مقالة آسرة عنوانها "الاحتياج إلى النوم"، وفيها يلاحظ هاملتن أن الفلاسفة لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى هذه الظاهرة الاستثنائية. حسن، ها هي ذي بعد عقد من الزمن استجابتي لنفير الصحيان الذي أطلقه هاملتن. 

ريموند تاليس
وذلك لأن النوم استثنائي حقا. فلو أنني قلت لكم إن مرضا عصبيا أصابني فأفقدني على مدار ثماني ساعات أو أكثر من اليوم السيطرة على ملكاتي، وودعت خلالها العالم الخارجي، وكنت فيها عرضة للمعقد من الهلاوس والأوهام من قبيل أن دبا متوحشا يطاردني في محطة سكك حديد ستوكبورت، لظننتم أنني كنت في حالة يرثى لها. ولو أنني قلت لكم إن تلك الحالة معدية لتمنيتم لي الحظ السعيد مع هذا المرض الرهيب وسارعتم مودعين إياي.
وليس النوم مرضا بطبيعة الحال، بل هو شرط الحياة النهارية (الليلية) للغالبية الساحقة منا. وإن تقبلنا جميعا ـ ودونما أي قدر من الدهشة ـ لحاجتنا إلى فترة توقف طويلة نراها جزءا من حياتنا اليومية لهو تأكيد على نزوعنا إلى التسليم بأي شيء فيه طابع العمومية المطلقة هذا. نحن لا نرى مدى غرابة النوم لأن الجميع (تقريبا) ينامون. والحق أن أولئك الذين لا يعانون من الأوهام والهلاوس اليومية المعروفة بأعراض تاليس هم الذين في حال يرثى له. وهم الجديرون حقا بالتعاطف، فهم المصابون بـ الأرق المزمن.
إننا نفترض أن للنوم غرضا بيولوجيا، ما دامت الحيوانات جميعا تنام. ولكن المشكلة تكمن في أننا لا نعرف ماذا يكون هذا الغرض، وإن تكن هناك نظريات عديدة: الحفاظ على الطاقة، تحفيز النمو، الشلل في ساعات الظلام التي قد يكون الخروج والتسكع فيها خطرا، تثبيت الذكريات ـ ولكن ثمة اعتراضات جدية على جميع هذه النظريات. ولقد خلص "وليم ديمنت" ـ وهو من رواد الباحثين في نصف القرن الماضي وشريك في اكتشاف نوم "حركة العين السريعة Rapid Eye Movement " ـ بعد خمسين عاما قضاها متصدرا هذا المجال إلى أن "السبب الوحيد الذي يجعلنا نحتاج أن ننام، السبب الوحيد المتماسك فعلا وقولا، هو الشعور بالنعاس".

الفلاسفة نياما

من السهل أن نفهم السبب الذي جعل الفلاسفة ـ إجمالا ـ يتجنبون الحديث عن النوم. فأولئك الذين يعتبرون الغرض من الفلسفة هو إنماء حالة الصحو والإفاقة هم أجدر الناس باتخاذ النوم عدوا لهم. لقد كانت الهيبنوفوبيا [رهاب النوم Hypnophobia] ثيمة شائعة في الفكر الوجودي. فكتب نيتشة ساخرا "طوبى للناعسين، ما أسرع ما يسقطون". وكان يحاول أحيانا أن يستغني عن النوم، ففي إحدى المرات جرب أن يكتفي بأربع ساعات من النوم كل ليلة على مدار أسبوعين. (قرأت هذا محبطا وأنا طالب دكتوراه في سبعينيات القرن الماضي حيث كان جدول عملي الممتد على مدار 104 ساعة في الأسبوع يحتوي على فترات أكون فيها تحت الطلب لمدة 48 ساعة متصلة). ويعرب "أنطوان روكونتان" بطل "الغثيان" (الصادرة سنة 1938) لجان بول سارتر عن ازدرائه لصاحب المقهى الذي يتردد عليه بقوله "هذا رجل عندما يكون وحيدا، فإنه يستسلم للنوم". وفي إحدى رواياته الأخرى شخصية رجل يلاحظ في فزع الشخص الجالس قبالته في القطار، غارقا في النوم، يتمايل في سلبية مع حركة العربة، وقد تقلص إلى مجرد جماد من الجمادات. هذا الاستمرار لحياتنا في غيبة من ذاتنا الصاحية، حيث تحل أنوار الليل شبه الحية محل نور النهار الحي، ما هو إلا تذكرة لنا ـ ولكنها تذكرة تبعث فينا القشعريرة ـ بأن حيواتنا الاختيارية حافلة بما نحن مرغمون عليه.
ديكارت
لا يقتصر أمر النوم على مجرد تذكرته إيانا بقلة حيلتنا المطلقة، أو حتى بمحدودية المكان الذي يلعبه التفكير أحيانا في حيواتنا، فعلاوة على ذلك هناك الخوف من العدوى، وكأنما الكلام عن النوم يغري به، تماما كما أن هذه الإشارة إلى التثاؤب سوف تجعل خمسين بالمائة منكم يتثاءبون خلال الدقائق الخمسة عشرة القادمة (وهذه حقيقة، صدقوني). طبعا، ليس هناك سبب يلزم العقل بعدم التفكير في نقائضه أو يلزم الفلاسفة ذوي العقول السامية بألا يبذلوا اهتمامهم باللعنات العادية التي حشينا بها حشوا نحن غير ذوي العقول. فالفيزيائيون في نهاية المطاف يكرسون الكثير من جهودهم العقلية المتوقدة الاستثنائية لإيضاح طبيعة المادة ـ طبيعة ما هو موجود بمعزل عن المعاني التي يمتلئ بها وعيهم. أما الفلاسفة فيشعرون بخوف من نوع معين من النوم: هو النوم الذي قد يكون كامنا داخل أعمالهم. تلك الحجج المصوغة ببراعة، والجمل المنقحة بمشقة، والمعبرة ـ فيما يرجو لها أصحابها  ـ عن رؤى لأكثر أوجه العالم أصالة وجذرية، كل هذه الجهود التي تبدو أقل مقدرة من قصة كرتونية مصورة أو مقالة نميمة على انتزاع القارئ من غفوته التى تذيب قوتها العالم. والصادقون من الفلاسفة مع أنفسهم يعرفون أنهم لا يستطيعون أن يعرضوا لآلئهم الفلسفية على خنزير نعسان، لأنهم [أي الفلاسفة أنفسهم] سبق أن غلبهم النوم وهم بين أيدي أعمال فلاسفة أعظم منهم. وأنا هنا أتكلم بوصفي لاعبا ثانويا سبق أن نال منه النعاس وهو يقرأ "الوجود والزمن" لهيدجر الذي قد يعد أعظم عمل فلسفي أنتجه القرن الماضي، والذي كان موضوع دراسة كتبتها ونشرتها قبل عقد من الزمن، فنام عليها آخرون. وفي مرات كثيرة كنت أفيق لأجد "نقد العقل المحض" لكانط وقد سقط من يدي المرتخية. فهل ثمة ما هو أشد نقدا للعقل من هذا، محضا كان أم غير محض.
التوقف عن التفكير بالنسبة لديكارت كان يعني التوقف عن كونه "أنا" ـ وعليه فلقد كان النوم باعثا على الضيق ولا شك، أو هو فجوة عضوية نباتية في حياتنا الروحية. ولقد أوضح "جيمس هيل" (الذي أدين بأكثر ما في هذه الفقرة من مقالي إلى مقاله "فلسفة النوم: ديكارت، لوك، لايبنز" المنشور في مجلة ريتشموند للفلسفة عدد ربيع 2004) أن رؤية ديكارت للعقل بوصفه "جوهرا" لم تسمح بأي نوع من التوقف في استمرارية التفكير. فلو أن العقل من نوعية الأشياء التي قد يصيبها بالفتور  صوتُ محاضر يتلو محاضرته ثم تبث فيها الروح من جديد فوطةٌ مبلولة، فما هو جدير إذن بمقام الجوهر الذي ينبغي أن يكون محصنا من الحوادث. ومن هنا خلص ديكارت إلى أننا لا نتوقف مطلقا عن التفكير، حتى في أعمق حالات النوم، وإن كنا في أعمق حالات النوم لا نحتفظ بذكريات عن ما نفكر فيه.
جون لوك لا يقبل بشيء من هذا. فهو يقول إن الدليل التجريبي يدلنا على أننا لا نفكر ونحن نيام، وبهذا تنتهي القصة: "كل إطراقة نعاس تهز المبدأ [الديكارتي]". أما لايبنز فاحتج ـ متنبئا بارتباكات السيد فرويد ـ إلى أن ديكارت كان على حق: نحن نفكر في نومنا الذي نحلم خلاله ولكنه تفكير غير واع ـ فذلك أشبه بالحدس الذي يأتينا بدون أن نلاحظه. وإنني أترك للقارئ أن يلعب دور الحكم في هذا النقاش، ولكن عدم قدرة هذا النقاش على الإشباع تقدم لنا سببا آخر من أسباب إحجام الفلاسفة عن النوم.

إلى الحلم

للأحلام بطبيعة الحال موضع أكثر أهمية في الفلسفة. فلأن الأحلام حالة من حالات الوعي، وجد أرسطو فيها حافزا له على القول بأن "الروح تستغل الأحلام للتأكيد [على ما تريد]"ـ إذ الأحلام تبدو أعلى بخطوة من الغطيط. وأقرب إلى الموضوع أن الأحلام تضع علامة استفهام حول ثقتنا في طبيعة العالم الذي يبدو أننا نشترك فيه مع الآخرين ـ وهي علامة استفهام مثيرة من وجهة النظر الفلسفية. فأحلامك حسب ما تراه تبدو مقنعة وحقيقية بقدر إقناع وحقيقية أنك تقرأ هذه المقالة (معانيا ربما من النعاس) فلقد أشار ديكارت في التأملات إلا أنه "ما من مؤشرات مؤكدة أستطيع من خلالها التمييز بين الصحو والنوم". رد الفعل العفوي على هذا القول (وهو أننا لا ينبغي أن نبحث عن مجرد "مؤشرات" لأننا لا نعتمد على مثل هذه الأشياء لاكتشاف ما إذا كنا صاحين أم نياما) لا ينفع، ومن ثم نجد أنفسنا وقد انطلقنا في رحلة لا نهاية لها ولا حدود لجمالها ساعين إلى نوع من اليقين الذي لا تريد غير ذواتنا الفلسفية، أو تزعم أنها راغبة فيه، أو بحاجة إليه، أو يبدو أنها بحاجة إليه.
إن هناك نوعا من التعاطف تجاه ذواتنا النائمة الضعيفة المسكينة والأحلام شيئ من أنفسنا ولكنه في الوقت نفسه ليس من أنفسنا، وهو يساعدنا في أن نمنطق ما يجري في أمخاخنا وأجسامنا حينما تكون شبه منفصلة تمام الانفصال عن العالم. وإشباعا لشهيتنا اللانهائية إلى المعنى المتماسك فإننا نستخرج مشهدا بأكمله من مجرد إحساس، أو نمنطق حركة مفاجئة قام بها طرف من أطرافنا بأن نخترع جرفا نسقط من عليه. وحقيقة مقدرتنا على إنتاج معنى من أي شيء يؤتى إلينا به يمثل إضاءة مثيرة للاهتمام لمسألة العلاقة بين الواقعي والعقلاني: فكل ما يتسنى لنا عقلنته يبدو لنا واقعيا، وكل ما يبدو لنا واقعيا نحاول عقلنته  ـ بمعدلات نجاح مدهشة. والفاصل القائم في أحلامنا (المقامة ذهنيا) بين الـ "أنا" التي تمنطق كل ما هو موجود والـ"موجود" الذي تجري مَنطقته ـ حتى أننا نصل إلى حد انتظار ما سوف يحدث من بعد ـ هو فارق صادم بصفة خاصة. 
بول فاليري
لقد اخترع الشاعر والمفكر الفرنسي العظيم بول فاليري شخصية "مسيو تيست". وكان "مسيو تيست" هذا "متصوفا بلا إله" ملتزما بالتفكير الذي لا يقطع اتصاله قاطع ولا يشوش عليه شيء. وكان منجز حياته كلها هو "قتل الدمية" الآلية، الكامنة في نفسه. وفي "أمسية مع مسيو تيست" الشهيرة، يترك فاليري بطله والنوم يجرفه، مراقبا مراجل انطفائه التدريجي، مهمهما "تعال ننعم التفكير ... أنت بوسعك أن تسقط في النوم وأنت تعالج أي موضوع ... إذن النوم استمرار ممكن لأية فكرة" بينما يتلاشى وعيه بذاته إلى نقاط التوقف. فاليري شخصيا كان يسجل يومياته على مدار أكثر من خمسين عاما (وصدرت بعنوان "دفاتر" Cahiers). كان من بين أهم ما يشغله أن يراقب مراحل صحوه المتتابعة كما في ساعات الصباح الأولى حين كان يراقب نهوض عقله.  كانت الأحلام ـ بصورة طبيعية ـ تستولي عليه بقدر ما يستولي عليه انبعاث ذاته النهاري. واقترح أن تكون الأحلام محاولة لمَنْطَقة رحلة الجسد من النوم إلى الصحو. وهو لم يكن راضيا ـ مثلي ـ بالمزاعم الفرويدية المفتقرة إلى الدليل عن كون الأحلام "طريقا ملكيا إلى اللاوعي"، ويا لها من قلعة كلامية واهية عديدة الطوابق يتعامل معها كثير من الأذكياء تعاملهم مع فكرة علمية. ولا قبل فاليري بفكرة أن الأحلام قد تكون نبوئية، وأن العقل ينسرب عبر الزمان فيمكننا من رؤية مستقبل العالم أو مشيئة الرب.
تلك المغامرات الليلية المغزولة من وعي مسموح له بالتحرر والانفصال عن العالم المعروف ـ تكون ذات أهمية قصوى عندما نقع في قبضتها فتكون قائدة لنا أو مركزا للأحداث لا نملك حياله أي شيء. ولكن المفارقة أنه ليس أكثر تحريضا على النوم من حكايات شخص لا يرى غير نفسه عن أحلامه. فكم نتوق إلى أن نسمع قولهم "ثم صحوت من النوم".
وبيدي أن أستمر، لكني لن أفعل، خشية أن تسقط هذه المجلة من بين أيديكم وقد انسللتم من فلسفة النوم إلى النوم نفسه ...

كاتب المقال: فيزيائي وفيلسوف وشاعر ومذيع وروائي. صدر أحدث كتبه مؤخرا بعنوان "دفاعا عن الدهشة"
نشر المقال أصلا في مجلة فيلوسوفي ناو، ونشرت الترجمة اليوم في شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق