الثلاثاء، 12 أبريل 2011

أهداف سويف ... روائية في ميدان التحرير

-->
كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير حدثا استثنائيا في مصر: انتفض ملايين المصريين متوحدين على الاحتجاج السلمي مطالبين بحياة يظللها الأمل والكرامة. وقفوا، وطالبوا، وفازوا على الأرض، وهم يهتفون "سلمية سلمية"، في مواجهة الخطر والاستفزاز، ثم في مواجهة العنف السافر. ذلك الشعب، بشبابه وشيوخه، بمسلميه ومسيحييه، برجاله ونسائه، بعمل هؤلاء جميعا معا، أسقطوا دكتاتورا، واستهلوا حقبة جديدة من التغيير، قد يكون الغموض يشوبها، ولكنها حقبة تبعث قطعا على البهجة. وفي ثنايا ذلك، أعادوا اكتشاف أنفسهم، فإذا هم كتاب مصيرهم. "لقد رفضنا السلبية التي كان حكمانا يفرضونها علينا فرضا"، هكذا قالت الروائية والكاتبة الصحفية أهداف سويف، التي قضت أغلب تلك الأيام المرعبة تكتب تقاريرها الصحفية من ميدان التحرير نفسه.



أهم أساطير الثورة
هذه الروح المصرية التي طال عليها القمع عادت فبثت الحياة في المصريين، وهدمت كذلك جدارا من سوء التفاهم بينهم وكثيرٍ ممن يهللون لهم الآن. فهذه الثورة التي قاموا بها مطالبين بحقوقهم غلبت صور العرب والمسلمين النمطية في الخارج، فأزاحت التصورات التي تختزل العرب والمسلمين في التطرف والخضوع والإذعان، لتحل بدلا منها صور مصر الجديدة وشعبها الذي قد يكون أهم أساطير هذه الثورة كلها. فما الثورة الأخرى التي سوف نشهدها في الفهم العالمي، ناهيكم عن السياسة الخارجية، لو أن الاختلافات بينـ"نا" و"هم" بدأت تعد "مثيرة للاهتمام لا للخوف، بعدما باتت ترى ومن ورائها خلفية من التشابهات".
تلك الكلمات المتفائلة ترد في مقالة قديمة لسويف التي برز صوتها ـ عن استحقاق ـ وسط أصوات من يحكون قصة مصر المعدلة للناطقين بالإنجليزية. ولدت سويف في القاهرة، وتعلمت في مصر وإنجلترا وتعيش اليوم في كلتيهما. اشتهرت قبل مرحلة التحرير بروايتها الثانية التي وصلت إلى قامئة بوكر القصيرة "خارطة الحب" (الصادرة في 1999). كما عرفت أيضا ـ وهي التي تكتب بالإنجليزية وبالعربية ـ بكتاباتها المتواترة في الجارديان، وفي الأهرام ويكلي، وفي لندن رفيو أوف بوكس، وإصدارات أخرى كثيرة.
مواجهة تشويه الغرب
تشيع كثيرا في أعمال سويف ثيمة إساءة الغرب تقديم العالمين العربي والإسلامي. تتذكر سويف حينما كانت تعيش في لندن في ثمانينيات القرن الماضي فكانت تعثر بسهولة في وسائل الإعلام الكبرى على آراء متنوعة في الشئون البريطانية والأوربية ثم هي لم تكن تجد نفسها مطلقا في تغطيات الشرق الأوسط:
"تقريبا في كل كتاب، أو مقالة، أو فيلم، أو برنامج تليفزيوني أو إذاعي، مما كان يزعم تناوله لذلك الجزء الذي جئت منه في العالم  لم أكن أستطيع مطلقا أن أتعرف على نفسي أو على أي ممن أعرفهم. كنت كل مرة أجد نفسي في مواجهة تشويه لواقعي".
في كتاباتها، تواجه أهداف سويف هذه التشوهات من خلال استكشافاتها الرهيفة لذلك الواقع. ففي "لغة الحجاب" [نشر هذا المقال في الجارديان بتاريخ 8 ديسمبر 2001] على سبيل المثال، تؤكد سويف على التعقيد والاختلاف، في الوقت الذي تنحو فيه أغلب الكتابات الغربية إلى التبسيط والاختزال:
"وهكذا أجدي نفس الآن ـ وأنا التي رفضت مرارا الكتابة عن ’الحجاب’ ـ أحاول أن أجمع بعض الأفكار حول ’زي’ النساء العربيات أو المسلمات. وسرعان ما أقع في المشكلات. فالمسلمات لسن جمعا عربيات. وأوضاع الإيرانيات مختلفة عن أوضاع الباكستانيات، أو التركيات، أو الإندونيسيات، أو الأفغانيات اللاتي اشتهرن الآن. وكلهن تختلفن عن العربيات. وليس كل العربيات مسلمات. وقبل ثلاثين عاما فقط ما كنت لتعرف من زي المصرية أهي مسلمة أم مسيحية. وإلى الآن لا تستطيع أن تعرف هذا في القرى فلسطينية. فعن أي زي إذن أتكلم؟ وأين؟ إن جماعات النساء اللاتي ترونهن في محلات شارع نايتسبردج مرتديات الأسود، مغطيات وجوههن ببراقع من الجلد والنحاس هن نساء من دول الخليج، وهن إن بدون لكم هنا أنهن في غير مكانهن، فقد يبدو أيضا، بل يبدو بالفعل في متاجر القاهرة أو بيروت أنهن في غير مكانهن، وبالمثل، فإن النساء ذوات الطبقات على الطبقات من الشيفون الأسود حول الوجوه والأحذية الراقية الناتئة من أسفل العباءات هن سعوديات، وأغطية وجوههن تبعث رسالة مختلفة عن التي تبعثها أغطية الوجوه المصرية أو الجزائرية".
نقاط التماس بين الثقافات
في مقالات من قبيل "اغنيات النيل الحزينة" ["Nile Blues" ونشر في الجارديان في 6 نوفمبر 2001] تواجه سويف نزوع الإعلام الغربي إلى وسم "العرب والمسلمين بأنهم ينطلقون من دوافع سريعة وبسيطة وكأنهم كائنات أحادية الخلية". ولأن سويف نفسها تعيش في واحدة مما تسميه بـ "نقاط التماس بين الثقافات" فهي في الموضع المثالي لإحداث حالة دقيقة من الفهم بين ثقافتين.
في رواياتها، تقدم سويف أكبر إسهاماتها في مشروع إقامة "قناة دقيقة ومباشرة بين القارئ باللغة الإنجليزية ومفاهيم ومشاعر وأفكار الناس الذين تمثل دولهم ـ وحياتهم في واقع الأمر ـ المسرح الرئيسي للأحداث الدرامية التي شهدتها السنوات العديدة الماضية". روايتها الأولى "في عين الشمس" (الصادرة في 1992) تفعل هذا ضمنيا بمجرد كونها رواية واقعية تروى من وجهة نظر امرأة عربية اسمها "آسيا العلما"  Asya al-Ulama. تغطي الرواية تطورات مهمة في تاريخ مصر المعاصر، من بينها حرب الأيام الستة، ووفاة جمال عبد الناصر، وتراجع القومية العربية، وتحالف السادات مع أمريكا، ومعاهدة السلام مع إسرائيل، وصعود التيار الإسلامي في الثمانينيات، ولا تتوقف الأخبار عن الظهور عبر قصة آسيا، مبرزة التقاطعات بين الحياة الخاصة والأحداث العامة. غير أن تركيز الرواية يبقى منصبا بقوة على الذاتي، مقدما الشعوري على السياسي. فتجربة صديقة فلسطينية "تعيش في ظل الاحتلال" تدفع آسيا مثلا إلى تفكير مدوخ في "كل الشعوب المضطهدة: الفلسطينيين، الأرمن، الأكراد، بل واليهود أنفسهم بطبيعة الحال" ثم التفكير في "كل هذه الأشياء التي تقع الآن ... وهما جالستان تذاكران استعدادا لامتحان الشعر":
"صفقات سرية تعد في مكاتب الحكومة، وصفقات مضادة في اجتماعات الأمن السري، جيوش من الجهلة تتحرك في صمت بالليل، ناس تطرد من بيوتها، أطفال تعذَّب، ناس تعذّب، ها هنا يبدأ ذهن آسيا يتوقف. الناس تعذب. الآن. ونحن جالستان هنا. تعذب. وماذا نحن فاعلتان؟ نكمل المذاكرة للامتحان ... وماذا أيضا؟ وما الذي يمكن عمله أيضا؟ هل بوسعك الآن أن تقومي وتجري إلى سجن ـ إن كنت تعرفين موضع سجن ـ وتدقين الباب دقا؟ لا، لا، طبعا لا، هذا غباء ـ ولكن كيف تبقين جالسة هنا بينما شخص ما في موضع ما توضع في مؤخرته أسلاك الكهرباء، أو تنتزع أسنانه من جمجمته، أو يحشى فرجها بالفئران الجائعة، أو ترغم على مشاهدة رأس طفلها يتهشم على الـ 
تثب آسيا. ودائما تثب آسيا حين تصل إلى هذا الحد. تخرج الآن إلى الشرفة  فتقف ممسكة سورها الحجري لاهثة الأنفاس ناظرة إلى مصابيح نادي الشرطة المضاءة. لا تجرؤ أن ترفع عينيها إلى السماء خشية أن تدفعها العتمة والنجوم أن تتصور الأرض كرة ضئيلة تدور حول نفسها وحول الفضاء، الفضاء الذي لا تقوى حتى على تخيله".
آسيا نفسها ليست شخصية رمزية أو ممثلة لغيرها، وإنما هي شخصية مركبة بالغة التعين. وشأن بطلات الأدب الأخريات ـ الذين غالبا ما تستولين على تفكيرها من قبيل دوروثي وماجي وآنا وإيما ـ تجاهد آسيا عساها تفسح مكانا لرغباتها الخاصة في عالم لا يرحب برغباتها. تنتمي آسيا وروايتها إلى هذا التراث الأدبي، وهي موجودة وسط هذا التراث بوعي ذاتي بذلك في واقع الأمر. والفزع الذي يستولي على آسيا من جراء إدراكها لما يعانيه الآخرون يحيلنا إلى تصدير الرواية بمقتطف من رواية ميدلمارش Middlemarch لجورج إليوت ("لو كانت لدينا رؤية وإحساس بحياة كل الناس العاديين، لكان ذلك بمثابة أن نسمع العشب ينمو وقلب السنجاب يخفق، وللقينا حتفنا على يد ذلك الدوي الكامن في الناحية الأخرى من الصمت")، ذلك أن قيام سويف بتمرير التطورات السياسية عبر مرشحات تجربة آسيا يشبه أسلوب إليوت في "التأريخ غير المباشر".
الأرض المشتركة
كما أن الزاوية المنحرفة التي تنظر بها سويف إلى السياسة في روايتها "في عين الشمس" هي تعليق ضمني على توقع الغرب دائما لشكل معين تأتي عليه جميع قصص الشرقأوسطيات وما هذا الشكل إلا نتاج تصورات الغرب المسبقة. تقدم رواية "في عين الشمس" آسيا  بفرديتها كاملة غير منقوصة: فتطورها لا يعتمد مثلا على "خلع الحجاب" حرفيا أو مجازيا، كما أنها لا تعرِّف نفسها من خلال النضال لا ضد التطرف الإسلامي ولا ضد الإمبريالية الغربية. يعمل والدا آسيا أستاذين في الجامعة، والإنجليزية والثقافة الأوربية في وسطهما الاجتماعي شائعتان شيوع اللغة والثقافة العربية أو المصرية. تنشأ آسيا إذن فيما تسميه أهداف سويف بـ"البين بين" أو "ما بين المناطق" و"هي ملتقى ثقافات وتقاليد كثيرة". تتذكر سويف في مقدمتها لكتابها الصادر عام 2004 متضمنا مقالات لها بعنوان "البين بين  Mezzaterra: شذرات من الأرض المشاع":
"أن تنشأ مصريا في ستينيات القرن العشرين فقد كان ذلك يعني أن تنشأ مسلما / مسيحيا / مصريا / عربيا / أفريقيا / متوسطيا / عدم انحيازي / اشتراكيا / راضيا برأسمالية محدودة النطاق. وفوق ذلك كله، لو كنت نشأت في مدينة مصرية لسنحت لك فرصة أن تتكلم الإنجليزية و/أو الفرنسية وأن ترقص على موسيقى ستونز مثلما ترقص على موسيقى عبد الحليم".
ولا يحدث قبل انتقال آسيا إلى انجلترا (شأن سويف تماما) أن تجد نفسها محاصرة بتصورات ضيقة الأفق عن هويتها، بعضها خرافات استشراقية لدى حبيبها الإنجليزي جيرالد. وهناك تواجه أيضا تناقض ولائها المزدوج للشرق والغرب.  ففي حين تمشي على ضفة التيمز في لندن، تحملق في "منجزات الإمبراطورية" وتسأل نفسها لماذا لا تستطيع أن "تجد في قلبها إحساسا بالاشمئزاز أو المرارة بل هو الإعجاب والاستمتاع بالجمال، وبما في المشهد الذي أمام عينيها من تناغم وسحر". هل إعجابها هذا بعض "مما غرسه الاستعمار الآثم الغادر في روحها؟" ألا بد أن تتخندق مع جبهة؟ وفي بريطانيا، لا في مصر، يتحتم على آسيا أن تناضل لكي لا تعرَّف فقط على أنها عربية ومسلمة.
لأن الرواية تروى من وجهة نظر آسيا وحدها في الغالب، فليس متاحا لنا أن نشبع رغبتنا إلى أن نفرض عليها هذا التصنيف الاختزالي أو ذاك. بل نحن أسرى حياتها الخاصة، لا سيما علاقتها المزعجة مع زوجها ثم علاقتها التي تحررت فيها جنسيا وإن لم يتحقق لها أي نوع من الرضا. وفوق كل شيء، نحن متورطون في سعيها إلى اكتشاف ذاتها. تقول آسيا "ألا يمكن أن أعرف كيف أكون لو تحررت من كل شيء، أن أعرف ما الذي يمكن أن أفعله لو تسنى لي أن افعل ما أشاء؟". هذا الشوق الجارف تصر شبكة الإحالات الأدبية في الرواية كما يصر شكلها نفسه على عاديته، وعلى أنه مماثل لما يمكن أن نفهمه [كغربيين] من أشواق، وإن وضع في سياق مختلف عن السياق الذي نعرفه.
خارطة الحب
رواية أهداف سويف الثانية وهي "خارطة الحب" (الصادرة سنة 1999) مبنية بوضوح حول تحدي التفاوض في الاختلافات الثقافية والسياسية. في الرواية حبكتان متوازيتان حول غربيتين تفصل بينهما قرابة القرن، فهناك سيدة من العصر الفكتوري اسمها آنا ونتربورن، ومن زماننا هناك إيزابل باكرمان، وكلتاهما في زيارة لمصر. تقع السيدتان في حب مصريين: آنا تقع في حب "شريف" الوطني الملتزم بالنضال ضد الاحتلال البريطاني، وإيزابيل في حب "عمر" الموسيقي الساحر والمفكر الكوزموبوليتاني المعروف لدى خصومه بـ "مايسترو المولوتوف" (والتوازي واضح هنا مع صديق أهداف سويف المقرب "إدوارد سعيد" الذي كان أعداؤه يسمونه على سبيل السخرية "بروفيسير الإرهاب"). تتكامل قصتا آنا وإيزابل وتؤطرهما ملاحظات "ليلى"، شقيقة شريف، و"أمل" شقيقة عمر. صداقات النساء في نهاية المطاف هي الأهم من حكايات الرواية الرامية إلى خلق بيئة تستشعر فيها التشابهات، وترى فيها الاختلافات ثراء لا خطرا. إن أمل تتساءل وهي تقرأ يوميات آنا "ما الفارق الذي تمثله مائة سنة، قرن من الزمن؟"
ذلك وعد الرواية، الذي ينعكس في قالبها، وعدها بأن بوسع الناس أن يتواصلوا برغم الزمان والمكان، وبأن قصص الناس يمكن أن تصاغ ـ على تنوعها ـ في كيان يجمع بين التعدد والتوحد. وتحقق هذا الأمل يعتمد على مثل ما تدفع إليه "في عين الشمس" من إزاحة تصورات ذهنية لصالح تصورات أخرى. فبغير رغبة المرء في تغيير وجهة نظره أو مقدرته على ذلك، ستبقى اللقاءات بين الثقافات مفضية إلى الجمود، أو ما هو أسوأ. رواية "ميدلمارش" حاضرة ضمنيا في هذه الرواية أيضا، وتشديد سويف على النظر إلى المواقف من زوايا مختلفة يضع مغزى سياسيا للعبة إليوت الشهيرة في الفصل التاسع والعشرين من رواياته: "وذات صباح، بعد أسابيع من وصولها إلى لوفيك، إذا بدوريثي ـ ولكن لماذا دوريثي دائما؟ هل كانت وجهة نظرها هي وجهة النظر الوحيدة الممكنة فيما يتعلق بهذه الزيجة؟" كلا الكاتبين يدربان خيال القارئ الأخلاقي، إليوت من خلال سردها، وسويف بالمزج بين ضميري المتكلم والغائب مع الرسائل واليوميات، بحيث تبقى القصة التي نقرأها متعددة الأوجه.
بالحب وحده
الحب في "خارطة الحب" هو الذي يجذب الناس ـ ولا عجب في ذلك ـ إلى اجتياز الحدود، الذهني منها والجغرافي على السواء. فتشكك آنا في دعايات بريطانيا الإمبريالية ينشأ لديها نتيجة اليأس الذي ينتاب زوجها الأول بعد خدمته العسكرية في السودان. فبسبب ألمها الناجم عن عجزها عن التسرية عن ذلك الزوج، تسافر آنا إلى مصر بعد موته، محاولةً أن تكوِّن بنفسها رأيا في الصراع الذي كسر زوجها. كما يقودها أيضا افتتانها بـ "الجمال البهي" في لوحات فردريك لويس المستوحاة من مصر والمعروضة في متحف ساوث كينسنتن:
"على سرير واطئ، غارق في كومة من الوسائد الحريرية، تستلقي امرأة نائمة. تعلوها ستارة كبيرة وموجات من حرير يبرق بالاخضرار تميز من خلال ثنياته المتكسرة ظلال المشربية، ومن ورائها الضوء. ومن الشباك المفتوح يتسلل نور الشمس ليسقط على رأسها، يبين رأس هذه النائمة ونحرها، وقميصها الداخلي الحليبي المكشوف تحت أزرار ثوبها المفكوكة. وثم حجاب صغير معلق في رقبتها".
تحب آنا ألوان لوحات لويس  الساخنة "والوداعة، والرضا، المنصهرين فيهما". ولا يقل وصف سويف للصحراء المصرية عن ذلك:
"أخرجت الشمس الغاربة الأحمرَ والسود من بين الجبل لينعكس كل شيء أسودَ على البحر. كل درجات الأحمر والأصفر والبرتقالي والقرمزي كانت في ذلك الأفق، وفيما أخذ الأفق يأفل، والألوان تندغم جميعا، فكرت أن شيئا ما ينبغي أن يحدث، اعترافا رسميا ما بهذا الجلال اليومي. برغم أن الفكرة تشكلت في ذهني، إلا أننا توقفنا كما لو كنا متفقين على هذا. جثت الحيوانات، وترجل الرجال واتجهوا إلى الجنوب الغربي. وعلا صوت قائلا ’الله أكبر’ وراحوا يصلون في صمت. أخذت أمشي من ورائهم ناظرة إلى البحر، والمياه المعتمة التي قبل لحظة واحدة كانت فضية تغتسل هي نفسها بالنور، وأديت أنا الأخرى صلاتي ..."
هذه الاستجابة الجمالية العاطفية من آنا تجعلها هي نفسها تتساءل في دهشة "هل هذا العالم موجود بحق؟" ذلك أن الفن يفتح الأعين والعقول.
بمجرد أن تجد نفسها في مصر، تبدأ آنا تضيق بتعصب البريطانيين العرقي. فتسجل في يومياتها "لقد بدأت أعتقد أن ما نفعله نحن هو أننا ننكر على المصريين أن يكون لهم ’وعي ذاتي’" فسويف بهذا تنقل إلى المستوى الأممي بما أدركته دوروثي في مديلمارش من أن لدينا جميعا "نفس القدر من مركزية الذات". إن توق آنا إلى الاندماج مع مصر بشروطها هو الذي يفضي إلى لقائها بليلى وشريف، وحبها لكليهما هو الذي يجعلها تبدأ حياة جديدة في بيتهما. وشغف إيزابيل بحب عمر هو الذي يزيدها اهتماما بمصر المعاصرة، وبإعادة بناء تاريخ أسلافهما المشتركين: أي آنا وشريف. أما أملنا الرومانتيكي في أن تكون لقصتي الحب نهايتان سعيدتان فهو الذي يجعلنا نتحزب لمحاولتهم أن يحولا ما تسميه أمل "بالأرض المشاع بين الشرق والغرب" إلى مساحة بينية مشتركة وجميلة هي الـ بين بين Mezzaterra.
أرض تختفي
ولكن التجربة تفشل في نهاية المطاف، ولا يتحقق الوعد. فشريف يغتاله المتطرفون. وآنا تعود إلى انجلترا لتربي ابنتها "نور" التي سوف تقع حفيدتها "إيزابل" في غرام عمر حفيد ليلى، ليضيع منها هي الأخرى (أو أن ذلك ما نستنتجه) بسبب تعصب أعدائه. ذلك التوازي بين المأساتين يدفع إلى التشاؤم القاتل، الذي يتردد صداه في وصف سويف للـ بين بين Mezzaterra التي تزاد انحصارا "ففي حين يسعى البعض إلى التقدم والاستيلاء على مساحات، يسعى آخرون إلى وضع حواجز، وبين هؤلاء وأؤلئك تتقلص مساحة الأرض من تحت قدميّ وتضطرب فلا ثبات لها". إن بوسع آنا وأيزابل أن تقيما في هذه الأرض، الجذابة والخطرة في الآن نفسه، وذلك لأن كلتيهما تعترفان بمحدودية ما تعرفان، وهما على استعداد لأن تراجعا تصوراتهما المسبقة وأطرهما المرجعية. تكتب آنا في مستهل رحلاتها قائلة "أنا لا أعرف غير القليل عن البلد ولا بد أن أرضى بمحاولة تعليم نفسي إلى أن يأتي الوقت الذي أجهر فيه برؤاي الخاصة". وإيزابل تقول لأمل "أعرف أن ما لا أعرفه كثير للغاية. وهذه في حد ذاتها بداية، صح؟". وفي مقابل هذا التواضع الإبستمولوجي الذي يمكّن من الاكتشاف والبحث والتعاون، ثمة أيضا ثوابت قوية تجيز التحيز والعنف وانعدام الإنسانية.
روايتا سويف تناهضان هذه الثوابت. بل إن نهاية "خارطة الحب" المفجعة نفسها هي نهاية مثمرة، إذ الحزن يجعلنا نتساءل عن السبب، ونطالب بالحل الأفضل، والأكثر عدلا، والأحفل بالأمل. كلتا الروايتين أيضا تخلقان نسختهما الخاصة من البين بين Mezzaterra: أي الأرض الأدبية المشتركة، ذلك الحيز الباعث على التفاؤل ـ وإن يكن هو نفسه مهددا ـ والذي تهيئه أدوات الروائية نفسها. ذلك الحيز هو الذي تسميه أليس ديبلجيك بـ "جمهورية الأدب": "إنه المكان الذي لا شرط للحصول على المواطنة فيه إلا القدرة على التعاطف مع الإنسان ـ أي القدرة على أن تضع نفسك مكان الآخر". بخلقها لقرائها مكانا من هذا النوع، تكون أهداف سويف قد قدمت بديلا للسرديات المحدودة والمحدِّدة التي رأتها لبلدها. وهي بجلوسها في ميدان التحرير في يناير وفبراير من هذا العام، كان يحيطها ملايين من المتحالفين مع مشروعها هذا. لقد كانوا يكلمون بعضهم البعض، ويتكلمون عن بعضهم البعض، ما كانوا يتوجهون بكلامهم إلى الغرب، ولكنهم بذلك الذي فعلوه أكدوا بصورة هائلة الجهود التي طالما بذلتها أهداف سويف من أجل "نزع الصورة الأسطورية عن تمثلات العرب والمسلمين". فلا غرابة أن تكون أهداف سويف ـ التي ينبغي لنا أن نستلهم تفاؤلها المتجدد ـ هي التي تروي هذا الفصل الجديد من تاريخ مصر.

كاتبة المقال: أستاذ مساعد بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة دالهوزي بهوليفاكس. وهي رئيس تحرير مجلة أوبن ليترز، حيث نشر المقال مؤخرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق