الثلاثاء، 18 فبراير 2014

الشعر والطموح 2

الشعر والطموح
دونالد هول




10
اسحقوا الدراسات العليا! أي شعار رنان هذا لـ كاتو جديد: لا محيص عن دمار أيوا[i]
تعلمنا الورش إنتاج المكقصيدة، وما هي غير "عفن في الجص/لم يضع فيه وقت"[ii]، ولا بذل فيه جهد، ولا طرح سؤال مضن عن القيمة. فنحن حينما نحضر ورشة يتحتم علينا أن نذهب إلى الفصل وفي جعبتنا شيء وإلا فإننا لا نشارك. أي نوع من الورش كان يمكن لهوراس أن يشارك فيه وقد كان يستبقي قصائده بحوزته عشر سنين؟ لا، لن نسمح لهوراس وبوب بالانضمام إلى ورشنا، فيجلسان فيها وكلٌّ ممسك بأعماله، زاعم أنها غير جاهزة بعد، فيا له من تعال، ويا لهما من نخبويين ...
ومن المفيد عندما نستخدم استعارة، أن نمتحنها. ولقد قارنت أنا الورشة بمطعم الوجبات السريعة، وبخط الإنتاج في مصنع سيارات فورد ... أم ترى ينبغي أن نقارن الورشة الإبداعية بورشة للخياطة تعمل فيها النساء في خياطة القمصان بأسعار أقل من التي يوجبها القانون؟ ربما لا تشير الاستعارة إلى شيء مما سبق، فالورشة نادرا ما تكون المكان الذي تبدأ فيه القصائد وتنتهي، بل هي مكان لتصليحها. ورشة الشعر أشبه بورشة ميكانيكي نسوق إليها الآلات منزلية الصنع غير المكتملة أو المعطوبة فيجري هناك التشخيص والإصلاح. ها هي ذي الطائرة منزلية الصنع التي نسي مبدعها أن يزودها بالجناحين، وها هو محرك الحرق الداخلي مكتمل تماما لولا أنه ينقصه الكاربيراتير، وها هو ذا قارب بدون مجذافين، وسلم بدون درجات، ودراجة نارية بغير إطارين. نأخذ آلتنا المعيبة إلى حلقة من صبية المبدعين وإديسون أو إديسونين فيقولون إنها "جيدة جدا، وتكاد تطير، ولكن ماذا عن، أوه، ماذا عن الجناحين؟" أو "دعني أبيّن لك فقط كيف تقوم بتركيب الكاربيراتير ...". مهما يكن الذي نأخذه إلى ذلك المكان، فنحن نتعجل في أخذه. واجتماعات الورشة الأسبوعية تقدم لما في ثقافتنا من تعجل أجل الخدمات. ونحن عندما نأخذ قصيدة جديدة إلى الورشة، متلهفين على الثناء، إنما ندخل أصوات الآخرين إلى جسد القصيدة قبل نضجها، فتشوّه نموها المحتمل. ولقد قال روبرت فروست "إنك حينما تبتعد عن عملك بالقدر الكافي يمكن أن تنظر إليه نظرة نقدية وتتسامح مع نقد أي شخص آخر له". وكان يقول "لا تحضروا إلى الفصل إلا الأشياء القديمة الباردة". ولا يحل القدم والبرود بشيء ما لم تمض على كتابته شهور من المسودات. ومن ثم فالدراسة في الورش مستحيلة.
في الورش يتعلم الشعراء الأمريكيون الاستمتاع بحرج النشر ـ قبل الأوان، قبل الأوان ـ لأن إذاعة القصيدة وإخراجها إلى المجال العام شرط للعمل الورشي. هذه الإذاعة تكشف المرء أمام زملائه الشعراء وحدهم ـ وهذا شرط يتهم به الشعراء دائما ويدانون في الغالب.  نتعلم كتابة قصائد لا ترضى عنها ربة الشعر بل المعاصرون لنا، ومن ثم فهي قصائد تشبه قصائد معاصرينا، ومن هنا وصفة المكقصيدة ... ولو أننا نتعلم شيئا آخر علاوة على هذا فنحن نتعلم النشر المشوش، وسرعة القذف هذه تقوم على العدد والوتيرة والحماقة.
الشعراء الذين يبقون خارج دائرة الأنداد ـ مثل ويتمان الذي لم يدرس في هارفرد، وديكنسن التي لم يكن لها تراث، ومثل روبرت فروست الذي ترك الدراسة في كليتين ليشق طريقه الخاص ـ هؤلاء الشعراء يتخذون هوميروس ندا لهم. وأقتبس من فروست ثانيةً قوله إن "المسألة تتمثل في أن تكتب قصائد أفضل ثم أفضل. ولكن ضبط قلوبنا ونحن في أول العمر على أن تحظى قصائدنا بالثناء يسوقنا إلى ألاعيب السياسة الشعرية وما هي إلا الموت". ولئن وافقنا فروست على هذه الكلمات التي قالها وهو في قلق منتصف العمر لصار لزاما علينا أن نضيف أن ضبط قلوبنا في آخر العمر على أن تحظى قصائدنا بالثناء إنما يسوقنا إلى الشيء نفسه.

11
وبلدنا بلد كبير ...
يحتاج أغلب الشعراء إلى حوار مع غيرهم من الشعراء. لا يحتاجون أوصياء، بل أصدقاء، ونقادا، وبشرا يتناقشون وإياهم. وليست مصادفة أن كان ووردذورث وكوليردج وساوذي أصدقاء في شبابهم، ولو كان إزرا باوند وهيلدا دوليتل ووليم كارلوس وليمز لم يعرفوا بعضهم البعض في شبابهم، فهل كانوا ليصبحوا باوند و"ه د" ووليمز؟ صحيح أن هناك ذئابا فردانية ولكنهم قلة. فتاريخ الشعر تاريخ صداقات ومنافسات لا مع العظماء الموتى وحدهم، بل ومع الشباب الأحياء. لقد تزامنت سنواتي الأربع في هارفرد مع وجود الطلبة [والشعراء الكبار فيما بعد] فرانك أوهارا، وأدرين ريتش، وجون أشبري، وروبرت بلاي، وبيتر ديفيدسن، و"ل. إ. سيسمان"، وكينيث كوك، وفي الوقت نفسه كان يدرس في برينستن كل من "جالاواي كينيل" و"و. س. ميرون". ولست أجزم أننا كنا أشبه بحلقة خياطة، وأننا كنا كثيرا ما نمد لبعضنا البعض أيدي العون السافرة، أو أننا حتى كنا نحب بعضنا بعضا. ولكنني أجزم بأننا كنا محظوظين بوجودنا على مقربة من بعضنا البعض في حالة من الحوار.
لم نكن في ورش، كنا فقط ندرس في الجامعة. وفي أي مكان آخر من هذا البلد كان يمكن لنا أن نتقابل؟ في فرنسا هناك إجابة على هذا السؤال اسمها باريس. في أوربا عواصم تنزح إليها. وبرغم أن انجلترا أقل مركزية من فرنسا أو رومانيا، إلا أن لندن أقرب من نيويورك أو سان فرانسيسكو أو واشنطن العاصمة إلى طبيعة العاصمة. وفي حين يمكن لشاعر فرنسي أن يكتشف في المقهى حياة عصره الثقافية، يحتاج الأمريكي إلى دراسة جامعية. والورشة هي المقهى وقد تمأسس.
مشكلة العزلة الجغرافية في أمريكا مشكلة حقيقية. بوسع أي مكان ناء أن يكون مكانا للشعر ـ متخيلا، حاضرا في الذاكرة، معاشا فيه ـ لكن كل شاعر تقريبا يلزمه منفى يرجع منه إلى وطن، منفى ثريا بالصراع. قد تكون أماكن مثل وسط نيو هامشر أو أوليمبك بينجيولا أو سينسيناتي أو سهول الصويا في غرب مينيسوتا أماكن براقة صالحة للعيش والعمل، لكننا لو لم نترك هذه الأماكن مطلقا فمن غير المرجح أن نكبر بما يكفي لننجز أعمالنا. وما أتعس الفنان الموهوب الذي يخشى الرحيل عن الوطن، فالوطن تعريفا هو المكان الذي ترحل عنه أولا، ثم تؤوب إليه من بعد.
الورشة إذن تغني عن المقهى. ولكني أسميها المقهى الممأسس، وهي تختلف عن النسخة الباريسية في اشتراطاتها المؤسسية وفي توظيفها للأوصياء ودفعها رواتبهم: "اكتب قصيدة على لسان أحد أسلافك الموتى"، "اكتب قصيدة تحتوي هذه الكلمات العشرة بهذا الترتيب مع إضافة ما تشاء من كلمات"، "اكتب قصيدة بلا صفات، أو بلا حروف جر، أو بلا مضمون...". هذه الصيغ، فيما يقول الجميع، شديدة الظُرف ... لكنها أيضا تتدنى بالشعر إلى اللعبة المنزلية، وتتفِّهه، وتصبغ بالأمان ما في الفن الحقيقي من أهوال حقيقية. وهذا التدني ليس اعتباطا. فنحن نلعب هذه الألعاب المنزلية لنتدنى بالشعر إلى مقامها. وإن في الألعاب طابعا ديمقراطيا، ليِّنا، معياريا، يا إلهي ما أبغضها. وبرغم أن الورش، نظريا، تنفع في الجمع  بين الفنانين الشبان، إلا أن ممارساتها ترغمهم على المكقصيدة.
وإليكم هذا الواجب المنزلي المعاكس: كونوا في جودة "جورج هربرت" ولتستعملوا من الكلمات ما يحلو لكم.

12
أشرت من قبل  إلى الفصل الكارثي في الجامعات بين الكتابة الإبداعية والأدب. هناك من يكتبون الشعر ـ يعلمونه ويتعلمونه ـ ولكنهم يرون في القراءة عملا أكاديميا. وهذه الجملة وإن بدت اختراعا تهكميا إلا أنها للأسف نقل موضوعي لخبر.
ثقافتنا تكافئ التخصص. ومن العبث أن نقيم حاجزا بين من يقرأ ومن يكتب، ولكنه عبث ذو تاريخ. هو عبث لأننا في كتابتنا نستقي المعايير مما نقرؤه ويرجع تاريخه إلى الحرب العتيقة بين الشعراء والفلاسفة كما تتجلى في محاورة إيون Ion لأفلاطون حيث يتعالى الفيلسوف على الشاعر. في الثلاثينيات [من القرن الماضي] دخل شعراء من أمثل رانسوم، وتيت، وونترز الوسط الأكاديمي عن غير رغبة فيهم، دخلوه بتنازل من الأكاديمية. فعمد تيت وونترز بصفة خاصة إلى تحري الصرامة الأكاديمية، وبذلك ضمنا موقعيهما، وبات جيش أحفادهما يحتل البلد كله، وهم غالبا أحفاد وحفيدات يؤلفون الكتب ولا يقرؤونها.
فصل قسم الأدب عن قسم الكتابة وبال على الشاعر وعلى الباحث وعلى الطالب. فقد تطول بالشاعر مراهقته إلى يوم يتقاعد إذا هو لم يتعامل إلا مع نتاج عقول الرضّع. (ولو أن الشاعر، كما في بعض الكليات، لا يدرّس الأدب إلا لدارسي الكتابة فأثر ذلك أفضل، لكنه ليس أفضل بكثير. فحينئذ يوجد إغراء إلى تدريس الأدب بوصفه حرفة أو مهنة، والأمريكيون آخر أهل الأرض احتياجا إلى من يعلمهم الحرفة). وعندما يجد الدارسون أنفسهم منفصلين مؤسسيا في قسمهم عن قسم آخر، ففي ذلك تشجيع لهم على تجاهله. وفي العلاقة المثلي بين فريقي الكتاب والدارسين، يستفز الكتاب الدارسين، ويساعد الدارسون الكتاب على الارتباط بماضي الأدب كله. ولكن الطلبة يخسرون المساهمة الخاصة التي يقدمها الكاتب في دراسة الأدب. والكل خاسر.

13
شائع في التراثين الإنجليزي والأمريكي أن يكون الناقد والشاعر هما الشخص نفسه، من كامبيون إلى باوند، ومن سيدني إلى إليوت. بدأ هذا التراث بجدالات بين الشعراء على القافية والتفعيلة الإنجليزية، وبدفاع من الشعراء عن الشعر في مواجهة الهجوم البيوريتاني. وازدهر ذلك التراث ـ محققا الكثير من الأغراض ـ عبر درايدن وجونسن وكوليردج وآرنولد ... وبرغم أن من الشعراء من لم يتركوا نقدا، إلا أنه لا يوجد في التراث الإنجليزي ناقد رفيع المستوى إلا من بين الشعراء، ولا يكاد يشذ عن هذه القاعدة غير هازليت. فلقد بقي الشاعر الناقد حاضرا بغير انقطاع تقريبا، وكأنما كتابة الشعر والتفكير فيه أمران لا ينفصلان.
عندما قيل لـ رومان جاكوبسن ـ أستاذ الألسنيات العظيم بجامعة هارفرد ـ قبل بضع سنوات إن فلاديمير نابوكوف قد يعين أستاذا للغات السلافية، أبدى جاكوبسون شيئا من التشكك، وقال إنه لا يحمل أي غضاضة تجاه الأفيال، ولكن لا يمكن أن يعيَّن من بين الفيلة أستاذ لعلم الحيوان.
آه يا عزيزي.
يقارن التشبيه نابوكوف، البليغ، ذا الأسلوب، الروائي بعدة لغات، جامع الفراشات، المحاضر، الناقد، بالبدين الثقيل الرمادي الهائل غير المعروف بين المثقفين إلا بذاكرته ... ونحن بالنكات والتشبيهات نفضح أنفسنا. لقد كان جاكوبسن يتعالى على نابوكوف، تماما مثلما ربت أفلاطون على رأس إيون، ومثلما تكرم سارتر باستثناء الشعراء في "ما الأدب؟" ومثلما يتعالى الرجال على النساء والإمبرياليون على أبناء البلد. والمعاني واضحة.
1 ـ "الفنانون أقرب إلى الطبيعة من المفكرين، أكثر غريزية، أكثر عاطفية، هم طفوليون".
2 ـ "الفنان أشبه بالألوان الفاقعة، الفنانون إحساسهم بالإيقاع طبيعي، الفنانون مخربون طول الوقت".
3 ـ "لا تسيئوا فهمنا. نحن نحب الفنانين ... في أماكنهم، أي حدائق الحيوان، أو خارج الجمهورية، أو بعيدا عن مقاعد الأساتذة المتفرغين".
(ولا بد أن يعترف المرء، فيما أتصور، أن الشعراء في هذه الأيام غالبا ما يجدون أنفسهم في مقاعد الأساتذة المتفرغين. ولكنهم بصورة متزايدة يدخلون من باب حديقة الحيوانات، وهو في جامعاتنا الباب الذي يحمل اسم الكتابة الإبداعية).
ما الشكلانية، والحلم الذي يراودها بالقدرة المطلقة على القياس، إلا جهل جميل، وخرافة من خرافات المادية. ونحن حينما نجد ما نقيسه وما نقيس به، ينبغي أن نفهم الأسلوب/بوصفه/بصمة، بوصفه تتابعا فونيميا خصائصيا قياسيا، أو مهما يكن. ولكننا على الأرجح سوف نبقى بلا حيلة إلا أن نخمن بعض السمات، كدرجت التوتر مثلا، تلك التي يستحيل قياسها بمقياس موضوعية. ويأتي من بعد ذلك شداد الواقعيين فيزعمون أن كل شيء قابل للقياس، وهذا هو السر في أن الواقعي لا يشتد في واقعيته إلا بمقدار ما يرتخي عقله.
لقد انضممت في يوم من الأيام إلى كورس لجاكوبسن، وهو أمر أشعر بالامتنان تجاهه، فكان الشكلاني العجوز يكلمنا عن العروض المقارن، بظرف وحماس ومعرفة، ضاربا أمثلة بالأردية وخمسين لغة أخرى، مدللا على تعددية الصوت القابل للقياس. كانت الرحلة ساحرة، وإن أخذ السحر يتضاءل قرب النهاية. وتبين أن المحاضرة الأخيرة، المنتظرة على مدار أسابيع، هي عبارة عن تجربة عملية، من خلال منهج موضوعي غير تقليدي، لكيفية تقطيع قصيدة "الغراب" لإدجار آلن بو (وكان التقطيع جيدا، لكنه جرى على غرار ما كان يفعله المرء عند تقطيعه قصيدة وهو في السادسة عشرة).

14
إن نتاج صناعة الكتابة الإبداعية لا يعدو نشرة إخبارية كتابية غايتها الوحيدة هي النشر والمنح والوظائف، ولا شيء جاد. فلو أن الشعراء ممن كانوا يتقابلون سنة 1941 كانوا يتناقشون في ما يحصلون عليه من أجر عن كل بيت يكتبونه، فهم الآن يتبادلون المعلومات بشأن المنح، وقد اتحد اليساريون واليمينيون ليكونوا مؤسسة تتلقى منحة هذه الهيئة أو تلك، والخروج عن المؤسسة معناه النظر إلى الجهات المانحة بوصفها جهات متآمرة... بوصفها تنتمي ـ شأن ما ينتمي الديمقراطيون والجمهوريون معا ـ إلى حزب واحد هو الحزب الرأسمالي.
تصدر منظمة "كتاب وشعراء" الأمريكية منشورا حافلا بالثرثرات المتعلقة بالنشر الذاتي متضمنا قوائم بالمسابقات والجوائز. فهو أشبه ما يكون بمناشير النقابات المهنية ونشرات الهواة، في بهجته الهائلة وتفاهته التي لا حدود لها. وتصدر المنظمة نفسها دليلا هاتفيا "دليل هواتف الشعراء الأمريكيين" متضمنا أسماء وعناوين 1500 شاعرا، وتقدم المنظمة نفسها قمصانا وحقائب تحمل اسمها: "كتاب وشعراء".
وتصدر منظمة "برامج الكتابة المتحدة" نشرة "ب ك م" وفي كل عدد منها مقالة غالبا ما تكون كلمة ألقيت في اجتماع المنظمة، تضيف إليها إعلانات مفيدة، فيتضمن عدد ديسمبر 1982 مثلا نصيحة بشأن "رسالة التقدم ’المتقنة’"، وقوائم بالمجلات التي تطلب أعمالا ("ويؤكد محررو هذه المجلات أنهم بحاجة إلى أعمال مباشرة على أن لا تنقصها الفنية") وقائمة بالمنح والجوائز (جائزة كتاب هاري سميث السنوية الممنوحة من كوزميب للكتاب الذي ...) علاوة على مسابقات ب ك م وملتقياتها ... 
في الحقيقة هذه النشرات تبيع الوهم، فلا ينال الوظائف والمنح في النهاية إلا البارزون. والبروز مثلما نعلم جميعا مسألة حسابية: فهو ينتج عن عدد الوحدات المنشورة مضروبا في مكانة جهات النشر. ولا ينظر مانِحو الوظائف والمنح للجودة ـ فتلك مسألة بالغة الذاتية! ـ لكن بوسع أي شخص أن يضرب عدد الوحدات في المكانة ويخرج بـ النتيجة. والبروز يفضي كذلك إلى الأمسيات. وهل بوسعنا وقد علمنا ذلك أن نفلت من الفساد؟ إن ناشرا يطلب مني أن أقدِّم كتاب شاعر شاب في مقابل السعر المعتاد، ولكنني لم أكن أعلم أن هناك سعرا، وأنه معتاد ... حتى الشهادات على الغلاف باتت سلعة. والمقايضة عليها تكون في مقابل الأمسيات ...

15
تنهيدة
ليس على المرء حينما يبدو الأمل منعدما في كل شيء إلا أن يرفع عينيه إلى صمت النجوم الأمثل ... وينفع المرء حينئذ أن يتذكر أن القصائد هي النجوم، لا الشعراء. وأنفع ما ينفع المرء أن يتذكر أن بوسع الناس دائما أن يسيطروا على أنفسهم ويصيروا خيرا مما هم فيه بالتفكير. ويبقى، للأسف، لزاما علينا أن نبقى مسيطرين على أنفسنا، لو كان لنا أن نبقى على نشداننا طموح الشعر الحقَّ. ولا بد للامبالاتنا أن تكتشف أن نبل الأسبوع الماضي لم يكن غير عفن خفي، وهكذا [كل أسبوع]. فالمرء لا يصل أبدا إلى الحرية والصفاء، ومن ثم فلا بديل عن العمل على التجدد والبقاء ...
حينما أثنى كيتس في رسائله على اللامبالاة ـ وهي فكرته الأخلاقية الأثيرة التي تتحطم تماما حينما يساء استخدامها فتعني شيئا من مرادفات الخمول (وفي اليوم نفسه الذي أكتب فيه أرا الكلمة مستخدمة على نحو خاطئ في نيويورك تايمز وفي "إنسايد سبورتس" وفي "أمريكان بويتري رفيو")، كان يعظ نفسه خشية أن ينسى هذه الفضيلة. (والوعظ بالنصائح الأخلاقية دائما يكون موجها إلى الذات). ليس بيننا من لم تحدثه نفسه أمام الغواية، لكن المقاومة ممكنة. وحينما كان كيتس يخشى على اسمه، من إهانات هايدن أو "ذي كورترلي" أو تعالي شيلي أو تجاهل ووردذورث، كان يذكّر نفسه بإنماء لامبالاته، باجتناب ما يشتته ويحرف عينيه عن التركيز على هدفه الحقيقي، وهو أن يكون أحد شعراء الإنجليز.
وكيتس [ييتس في الأصل] مسئول عن عدد من نجوم السماء، ونحن حينما نقرأ رسائله نجد أن ذلك الشاب كان استثنائيا في استنفاره النقد من أوسكار وايلد والتملق من "كاثرين تاينان" التي كانت أكبر منه وأكثر رسوخا في السباق. ومن بين تعريفات قاموس أكسفورد للطموح، بعد تعريفه إياه بـ "الرغبة المتلهفة إلى المجد"، تعريف له بأنه "المطالبة الشخصية بالمجد". وهو حينما كتب يقول إنني "أنشد صورة لا كتابا"، إنما اعترف أنه في شبابه كان ينشد الكتاب لا الصورة.
وويتمان كان يكتب بنفسه نقدا لأعماله، وروذك كان يجهز حملات للثناء عليه وكأنه عضو برلمان، وفروست كان يداهن [الشاعر والناقد والمحرر لويس] أونترماير من كل الأوجه الممكنة... (فلنجتنب إذن الكليشيه القديم القائل بأن الترويج للذات وبناء الإمبراطوريات يعني رداءة الشعر، فأغلب أصحاب هذه المشاريع شعراء متواضعون ولكن أغلب الشعراء عموما متواضعون). الترويج للذات يبقى موضوعا هامشيا فيما يتعلق بالشعر والطموح. قد يعني الجشع أو الشره إذ يحل أيهما محل الطموح النبيل ـ الشره  الذي ينظر إلى الحياة بوصفها تعاش فقط لتكون مصدرا للقصائد، فيقول القائل عن أي شيء يلم به "ولكني خرجت بقصيدة". أو أن بوسعه أن يظهر الجانب التافه من شخص يقوم في حالات أخرى بإنتاج فن عظيم. وعلى أية حال، ينبغي أن ننفق وقتنا لا في القلق على سوءات الناس بل في القلق على سوءات أنفسنا.
وأخيرا، وبطبيعة الحال، أنا لا أتكلم إلا عن الموضوع الأبسط على الإطلاق: كيف لنا أن نعيش حياتنا؟ أتكلم وفي ذهني شخص أحبه مثلما يحبه سواي، هو النحات الإنجليزي هنري مور الذي يبلغ الرابعة والثمانين أثناء كتابة هذه السطور، والذي كان في الثمانين حينما تكلمت وإياه لآخر مرة. سألته "أنت الآن في الثمانين، هلا أخبرتني بسر الحياة؟" ولكونه رجلا بليغا واثقا من يوركشاير، فما كان له أن ينكر عليّ سؤالي. قال لي:
"ليس أعظم حظا لأحد، أي أحد، من أن يكون ثمة ما بعني له كل شيء ... أن يعمل ما يحب أن يعمله، وأن يجد من الناس من يدفعون له لقاء ذلك، وأن يكون لديه ما هو مستحيل المنال. فلا معنى لهدف ما كان قريب المنال. ذلك هو اللب الأكبر: أن يكون لك مثال، هدف، غاية، وأن لا يكون إليه وصول ...".

16
ما من رقابة يمكن أن نفرضها على أنفسنا فنعلم إن كنا نعمل وفقا للطموح الملائم. من المفيد بالطبع أن نتحلى بالحذر، فنراجع، ونأخذ وقتنا، ونمضي مع القصائد ما شاءت، وأن ننشد البعيد. إننا نعلم أن القصيدة، إرضاءً لغايات الطموح، لا بد ألا تعبر عن مجرد الذاتي الشخصي من المشاعر والآراء، فذلك شأن المكقصيدة الآن. لا بد أن تصنع بلغتها قطعة جديدة من الفن. لا بد أن نحاول أن نبقي أنفسنا على الدرب، فلا نكتب لننشر أو لننتشر.  وليس من منهج يمكن أن يوصى به في هذا الصدد إلا المراجعة، وتكرار المراجعة...
وتكرار المراجعة لا يضمن ألا نخدع أنفسنا، فسوف نخدع أنفسنا. ولا الساعات التي نقضيها في العمل مؤشر على ما لدينا من طموح أو جدية. ومع أن هنري مور يسخر من الفنانين الذين لا يعملون في اليوم غير ساعة أو اثنتين، تراه يعترف أن من النحاتين من يمكن أن يقضي في العمل ست عشرة ساعة كل يوم لسنين يطرق الحجر بلا كل ومع ذلك يبقى كسولا. يمكننا أن نراجع قصيدتنا خمسمائة مرة، يمكن أن نوصد الغرفة على القصيدة عشر سنين، وتبقى مساعينا متواضعة. في المقابل، يمكن لكل من يلقي نظرة عابرة على السير الذاتية أو تاريخ الأدب أن يقطع بأن قصائد عظيمة كتبت من دون أدنى جهد يذكر.
ولكنني أتكلم الآن فأخلط بين العوالم. ذلك أن الطموح ليس سمة في قصيدة بل في شاعر. والفشل والإنجاز يخصان الشاعر، ولئن بقي هدفنا مستحيل المنال، فلا بد أن يكون معيارنا هو الفشل. ولعل السعي خمسة وثمانين حولا إلى هدف مستحيل المنال ـ كما هو حال هنري مور ـ يشير إلى مزاج معين ... ولئن لم يكن ثمة منهج عمل يمكننا أن نعوّل عليه، فلعلنا نشجع أنفسنا بأن يكون لنا مزاج لا سبيل إلى إرضائه. وفي بعض الأحيان حينما تحبطنا قصائدنا، قد يكون لنا عزاء حينما نلاحظ أن القصائد العظيمة نفسها، وهي مصادر معاييرنا، تبدو أقل قليلا مما ينبغي، فـ"أنشودة للعندليب" تبقى محدودة النطاق، و"خروجا من المهد" بحاجة إلى تشذيب، و"إلى عشيقته الخجول" مفرطة في الانضباط، و"بين التلاميذ" مطولة ...
...
ربما يصبح الطموح مستحيل المنال بحق حينما نعترف بما ينبغي لنا أن نعترف به، وهو أنه ما من قصيدة تبلغ من العظمة مبلغ العظمة التي نريدها للشعر.


*نشرت هذا الجزء من الترجمة في شرفات اليوم





[i]  كان السيناتور الروماني "كاتو" أكثر من ترددت على لسانه العبارة الشهيرة "لا محيص عن دمار قرطاج". وإحلال أيوا محل قرطاج هنا بسبب ورشها الإبداعية الشهيرة 

[ii] من قصيدة Hugh Slwyn Bauberly لإزرا باوند

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق