الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

أورهان باموق عن قسطنطين كفافي: بلاد أخرى، سواحل أخرى

أورهان باموق عن قسطنطين كفافي:
بلاد أخرى، سواحل أخرى



نحب الشعراء حبا فيما تقودنا إليه قصائدهم من أشياء نتخيلها، ولكننا بالقدر نفسه، نحبهم حبا في حيواتهم مثلما نتخيلها. والخلط بين حيوات الشعراء وبين أعمالهم وهم قديم قدم ميراث الخلط بين الكلمات والأشياء. ولكننا في الحقيقة، من أجل ذلك الوهم بالذات، نشعر بتلك الحاجة الماسة إلى الشعر، وإلى الرواية، وإلى الأدب. هناك من الشعراء من نقرأ أعمالهم ونحن نضع حيواتهم في أذهاننا، وما نعرفه عن هذه الحيوات هو الذي يضمن أن تترك أعمالهم انطباعات أبقى. وقسطنطين كفافي واحد من هذه الفئة من الشعراء بالنسبة لي. وعلى الرغم من أن كفافي، شأن إدجار آلن بو وفرانز كافكا، لا يحيل إحالات واضحة إلى ذاته في أفضل أعماله وأقواها، إلا أننا مع كل قصيدة نقرأها له، لا نملك إلا أن نفكر فيه.
أتخيله شيخا يهيم في شوارع أليفة في مدينة شائخة. أتخيله عاشقا للكتب يعيش ضمن أقلية هي بدورها ضمن أقلية. أتخيله رجلا من الأقاليم وحيدا واعيا أتمّ الوعي بإقليميته، يحيل هذه المعرفة إلى حكمة.
ولد كفافي بالإسكندرية، في مصر، سنة 1863 لأسرة يونانية ثرية تعمل في تجارة القماش والملابس. (وكلمة كفاف kavaf ، التي نسيها اليوم حتى الأتراك، كلمة عثمانية معناها صانع الأحذية القديمة [فلعل منها "اسكافي"]. كان آل كفافي في الأصل من حي فينير في اسطنبول، وهو حي كانت تقطنه الأسر اليونانية الثرية ذات النفوذ السياسي الكبير. ثم انتقلت الأسرة لاحقا إلى سماتيا، وهو حي لصيادي السمك، ثم هاجرت إلى الإسكندرية، حيث عاشوا وسط أقلية المسيحيين الأرثوذكس وسط الأغلبية المسلمة. وراجت تجارتهم أول الأمر في الإسكندرية وحققت نجاحا ملحوظا، فعاشوا في قصر منيف تخدمهم فيه مربيات وطهاة وخدم كلهم من الإنجليز. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر مات والد كفافي وانتقلت الأسرة إلى إنجلترا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى الإسكندرية بعدما انهارت تجارتهم. وبعد الانتفاضات الوطنية العربية سنة 1882 [لعل باموق يقصد الثورة العرابية] غادروا الإسكندرية مجددا، ولكنهم تركوها هذه المرة إلى اسطنبول، وفي تلك المدينة التي قضى فيها كفافي السنوات الثلاث التالية، أن كتب كفافي أولى قصائده المهمة وشعر بأول دوافع الرغبة المثلية. وفي عام 1855، رجعت الأسرة التي حلّ بها الفقر، مرة أخرى إلى الإسكندرية، نفس المدينة التي أراد أن يرحل عنها.
العودة: ذلك أكثر الفصول حزنا. ذلك مصدر الحزن النافذ في قصيدته التي لا يمكن نسيانها، قصيدة "المدينة" التي قرأتها مرارا وتكرارا بالتركية وبالإنجليزية. ما من مدينة أخرى يمكن الذهاب إليها: فالمدينة التي تصنعنا هي المدينة التي بداخلنا. لقد تغيرتْ بقراءتي "المدينة" لكفافي نظرتي التي كنت أنظر بها إلى مدينتي اسطنبول.
يعرف أولئك الذين يعيشون حياة الأقاليم أن العثور على الحياة وعلى السعادة يبقى مرهونا بمكان آخر، بمدينة أخرى، ببلد آخر. ويبقى هذه المكان الآخر بالنسبة لنا نحن أبناء الأقاليم بعيدا لا نوال له. وحكمة كفافي تتمثل في الجلال والحساسية الجوانية التي يتناول بها هذه الحقيقة المقبضة. وفي نهاية المطاف، وبمعجم لغوي محدد وببساطة فلسفية، يخلص إلى أننا نهدر في تلك المدينة حيواتنا. فندرك في النهاية أننا جميعا نضيع حيواتنا، وأن المشكلة لا تكمن في إقليميتنا، بل في طبيعة الحياة ذاتها. وإن بوسع كبار الشعراء أن يحكوا لنا قصص حياتهم دونما اللجوء إلى الـ"أنا" فيعيرون بذلك صوتهم الخاص للإنسانية كلها.
ولقد قال كيركيجارد مرة إن التعيس يعيش إما في الماضي أو في المستقبل. وفي قصائد كفافي كثير من الطاعنين في السن، فكفافي لم يكن يثق في المستقبل، وتلك آية أخرى من آيات حكمته. ومن ثم فهو يقيم لنفسه ماضيا جديدا، أساسه الكتب، والتاريخ والميثولوجيا الإغريقية. ومن قصائده السردية القائمة على الأساطير اليونانية القديمة ما هو شديد التوتر بالغ القوة حتى لتترك قراءته في النفس إحساس قراءة رواية عامرة بالأحداث.
لقد كنت في الإسكندرية قبل عام من وقوع الأحداث المعروفة بـ الربيع العربي. وذهبت لزيارة بيت كفافي الذي تم تحويله إلى متحف. كان بيت أسرته الأصلي قد تحطم بفعل المدافع البريطانية. فاتخذوا من منزل آخر متحفا. كان ذلك يوم جمعة. والجميع في المسجد للصلاة، والأرصفة خاوية، وليس في المتحف إلى السائحون. وبعون من المحلات المغلقة، وحفنة بقيت من شجر الصنوبر، والبنايات المتداعية، والشوارع الضيقة، والميادين، أدركت أن ثمة نسخا من اسطنبول طفولتي لم تزل قائمة في مدن شتى في أرجاء المتوسط. إنني أحب شعر كفافي لا انعكاسا فقط لحياته النموذجية، ولكن أيضا بسبب الأفق الذي يرسمه، بمبانيه الهالكة، ولأنني أتعرف فيه كل مرة على نسيج الحياة المتوسطية.
وكثيرا ما أعاود الرجوع إلى قراءة قصائد كفافي المجتمعة في كتاب صغير وجميل. فقد أصدر صديق قديم منتخبات بالتركية، معتمدا على ترجمات إدموند كيلي، وعنونها بعنوان قصيدة كفافي الشهيرة "في انتظار البرابرة". ولسنوات طوال ظللنا كلما التقينا يبادر أحدنا الآخر مازحا: "كيف حالك؟"، "أوه، كما تعرف، في انتظار البرابرة". وما كنا نقصده، من الناحية السياسية بالطبع، هو أننا كنا كالعادة نتوقع أياما أشد سوادا. أياما كالتي جاءت بالفعل، بعد الانتفاضات القومية في مصر، حيث رحلت الأقلية اليونانية عن الإسكندرية رحيلا نهائيا. ولكن الانعطافة الأخيرة في هذه القصيدة المتألقة، شبه الحكائية، تشي بنهاية مختلفة كل الاختلاف. ولن يتوقف كفافي عن إدهاش قرائه والتأثير فيهم.

نشرت هذه المقالة في نيويورك تايمز في 19/12/2013 بمناسبة صدور طبعة جديدة من ترجمة أعمال كفافي الكاملة إلى الإنجليزية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق