الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

أي سبب يدعو إلى دراسة الفلسفة؟

أي سبب يدعو إلى دراسة الفلسفة؟
دانيال جونسن

في خريف هذا العام التحقت صغرى بناتنا بالجامعة لدراسة الفلسفة، ولم يكن بعض أفراد الأسرة مطمئنين إلى أن اختيار هذا الموضوع فكرة جيدة، وتساءلوا: كيف تساعد شهادة في الفلسفة شخصا على كسب لقمة عيشه؟ ودافعت أنا عن قرارها ـ ولا أقول إن دفاعي هذا ذو شأن فالشابة صاحبة قرارها ـ بناء على أن الفلسفة لا تعلّم فقط المهارات العملية كالتفكير والمحاججة وإجادة الكتابة، ولكن الدراسة من أجل الدراسة أمر طيب. الفلسفة هي حجر الزاوية في الثقافة الرفيعة، أو هذا ما آمنت أنا به منذ اكتشفت في المدرسة مسرّات حوارات أفلاطون ومقولات نيتشه. ولا ينبغي لمتعلم أن يكون جاهلا كل الجهل بالفلسفة أو بالعلم أو الرياضيات، أو الأدب أو الفنون. فكيف لنا أن نفهم عالم الناس وعالمنا بغير الأدوات التي أمدنا بها كبار الفلاسفة؟ وأهم من ذلك كله أن الفلسفة يمكن أن تكون متعة. فأين كنا لنصبح الآن لولا شفرة أوكام أو سهم زينو أو مبدأ السبب الكافي، أو الأمر المطلق، أو حجاب الجهل أو مفارقة الكذاب؟ فالتفلسف ليس مجرد تعلم لكيفية الموت، بل لتعلم كيفية الحياة أيضا في تمامها.
ذلك على الأقل ما قلته لأسرتي ولنفسي. لكن هل هذا صحيح؟ هناك على الأقل ثلاثة أوجه من الخطأ في طريقة ممارسة الفلسفة وتعليمها في جامعاتنا اليوم. أولها (الاعتراض 1) هو أن أغلب الفلسفة اليوم يميل إلى التخصص والمغالاة في الطبيعة التقنية وغالبا ما تأتي تعليقا على أعمال الفلاسفة الآخرين ويكون تعليقا ينزع إلى الإبهام. وليست هذه بالظاهرة الجديدة، إذ اشتكى مونتان في القرن السادس عشر من هذا الإبهام العليم: "إن الاهتمام بشرح الشرح أكبر من الاهتمام بشرح الأشياء والكتب المؤلفة عن الكتب تفوق الكتب المؤلفة عن أي موضوع: كل ما نفعله هو أننا نعلِّق على بعضنا بعضا". وحتى لو كان الاسكولائيين قد تجادلوا حول عدد الملائكة الذين يمكنهم الرقص على طرف دبوس، وهم في حقيقة الأمر لم يفعلوا ذلك قط، فهم ما كانوا مطلقا لينخرطوا في كثير من الجدالات الفلسفية غير المجدية المنتشرة اليوم.
الشكوى الثانية (أو الاعتراض 2) هو أن الفلسفة المعاصرة تخلص إلى نتائج ذكية، لكنها في الأغلب تافهة. وانظروا على سبيل المثال إلى كتاب "ما يهم" لفيلسوف جامعة أوكسفورد "ديريك بارفيت"، وهو سفر من مجلدين صدر في 2011. أكثر من 1400 صفحة تأتي على غير العادة واضحة مقنعة، وقيل في حقها إنها عمل أساسي وإسهام حقيقي في الجدالات الفلسفية السائدة اليوم. غير أن إجابته لسؤال "ما الأهم؟" فاترة لا تثير الاهتمام. ففي المجلد الأول يكتب أن "الأهم اليوم هو أن نتخلى نحن الأثرياء عن بعض أسباب رفاهيتنا فنكف عن رفع حرارة مناخ كوكب الأرض، ونعتني بهذا الكوكب فيستمر في دعم الحياة الذكية. وهذا القول لا يرقى كثيرا في نظري عن الحكمة الشائعة ـ التي ربما تكون سريعة الزوال. ليس للفلاسفة رأي خاص في ظاهرة طبيعية مثل تغير المناخ، وليس أحد بحاجة إلى دراسة الأخلاق لينبذ الرفاهية أو يعتني بالكوكب. أما المجلد الثاني فيخلص إلى أن "الأهم هو أن نتفادى إنهاء التاريخ البشري". وقد يكون هذا صحيحا، لكن باستثناء الطغاة المجانين والمتعصبين دينيا من أمثال زعيمي كوريا الشمالية وإيران كيم يونج أون وآية الله خامني، من على وجه الأرض يختلف على هذا؟ لو أن هذا غاية ما يستطيعه الفلاسفة لشرح معنى الحياة، فلعل من حقنا أن نفكر أننا قادرون أن نجنّب أنفسنا مشقة قراءتهم.
المشكلة الثالثة والأخيرة (الاعتراض 3) هو نزوع الفلسفة المعاصرة إلى تقويض الحضارة الغربية بدلا من دعمها. وهذا جزئيا من لوازم المهنة: لقد اعتبر الفلاسفة من جملة البديهيات أنهم ينتمون إلى قمة الهيراركية الفكرية، في ما يتعلق على أقل تقدير بجانبها النظري، والأخلاقي والميتافيزيقي منه بوجه أخص. ولكن هذا لا يبدو واقع الحال اليوم في كثير من الأحيان. فحينما تسيطر على الرأي العام أسئلة عويصة تتعلق بالأخلاقيات أو السياسة أو الجمال ينظر المرء عبثا إلى الفلاسفة فلا يرى الإعلام يستشيرهم أو الساسة أو أي أحد على الإطلاق، اللهم إلا فلاسفة أمثالهم. ولقد أفضى فقدان المكانة المرموقة هذا بكثير من الفلاسفة إلى التشكيك في النظام الذي أنزلهم عن عرشهم بل إلى رفضه. وفقدان الذاكرة الثقافي الذي يعاني منه الغرب حاليا يعني أن يحتل المجال العام في أغلب مساحته أفراد مجادلون لا يعرفون شيئا عن الجدال. ولم يبق للفلاسفة إلا تبرير وجودهم بتعليم "التفكير النقدي" أو تسطيح vulgarise  موضوعهم تسطيحا مبتذلا في المجال العام. لكنهم نادرا ما يؤدون مهمتهم اللائقة بهم وهي الدفاع عن المجتمع الحر ضد الهمج أو مناصرة الثقافة الرفيعة ضد من ينالون منها. وكثيرا ما يبدون في واقع الأمر غير مستريحين إلى حضارتنا، فيؤثرون الهدم على البناء.
ودفاعا عن فلاسفتنا اليوم لا بد أن نقول إن أغلبهم سينكرون أن تكون مهتهم اللائقة هي تبرير أي شيء. فمنذ عهد سقراط ـ الذي أرغم على شرب سم الشوكران لإفساده شباب أثينا ـ رفض كثير من الفلاسفة الاعتراض 3 على أساس أنهم لا بد أن يتبعوا إملاءات العقل لا المجتمع أو الدولة. منهم من قاوم الطغاة: فسان أنسلم من كانتربري الذي استنبط الحجة الأنطولوجية على وجود الله كان أيضا أول أسقف يعصى الملك بعد الغزو النورماني حاميا حرية الكنيسة مبطلا العبودية في إنجلترا. وجسّد بعض الفلاسفة ما نعتبره اليوم الحضارة الغربية. فالإنسانويون في عصر النهضة على سبيل المثال من قبيل الكردينال نيكولاس من كوسا وإيراسمون روتردام عملا على توحيد المسيحية، مثلما كان الفلاسفة المتأخرون من أمثال جوتفريد فيلهلم وليبنتز وبينيدكت سبينوزا وجون لوك من رواد التسامح الديني. وغالبا ما كان الفلاسفة في مقدمة المدافعين عن حقوق الرجال والنساء ضد مختلف القوى. ولعل أوضح أساتذة الفلسفة أثرا على التاريخ الحديث هو كارول فوجتيلا المشهور بالبابا (والقديس حاليا) يوحنا بولس الثاني الذي لولا عصيانه النظام الشيوعي في ثمانينيات القرن الماضي، ربما ما كان الشعب البولندي قد بدأ ما انتهى في آخر المطاف إلى هدم سور برلين. لكن قضيته تبيّن أيضا أن للفلسفة حدودها، فبرغم أن الفينومينولوجيا ـ وهي الاتجاه الفلسفي المسيطر على بولندا آنذاك ـ هي التي صاغت فوجتيلا فكريا بلا شك، فقد كانت عقيدته هي التي مكّنته من زحزحة الجبال.
ومن الفلاسفة الأحياء من لديه شكوك عميقة في الحضارة الغربية لكن لا يمكن اتهامه بالغموض، وهو بيتر سينجر المعروف بآرائه المتطرفة في ما يتعلق بحقوق الحيوانات والإجهاض والقتل الرحيم. في كتاب حديث عنوانه "الأخلاقيات في عالم حقيقي: 82 مقالة قصيرة عن أمور مهمة" (برينستن) يبيِّن سينجر كيف تمكن الكتابة بحدة وإيجاز عن فلسفة الأخلاق، برغم أن كثيرا من هذه المقالات أعمدة نشرت في موقع بروجت سينديكيت الإلكتروني. في أحدها يطلق مزاعم جريئة عن الفلسفة بناء على تصنيف عام 2013 لأبرز قادة الفكر في العالم أعده معهد جوتليب دوتفيلير وهو مركز أبحاث سويسري.
من بين المفكرين الخمسة الأوائل أربعة فلاسفة هم سلافوي جيجيك ودانيال دينيت ويورجن هابرماس وبيتر سينجر نفسه (أما غير الفيلسوف فمن المضحك أنه آل جور). كان التصنيف ـ ولا مناص من ذلك ـ معتمدا على الإعلام الاجتماعي ومقاييس إنترنتية أخرى، ومن ثم فهو قابل للاعتراض والمحاججة ولكنه ينبئنا بمؤشر عمن يحظون بالمشاهدة ويدور عنهم الكلام ويقرأ لهم الناس. يخلص سينجر من بروز الفلاسفة على هذا النحو في المجال العام إلى أن البليون إنسانا الذين لا يشغلهم الطعام وغيره من الأساسيات متعطشون إلى إجابات لأسئلة الحياة الكبرى وهو جوع لا يملك إشباعه غير الفلسفة. يكتب سينجر "إنني أعرف من واقع تجربتي الشخصية أن الانتظام في كورس لدراسة الفلسفة قد يفضي ببعض الطلبة إلى أن يصبحوا نباتيين أو إلى البحث عن مهن تمكّنهم من منح أنصاف دخولهم لأعمال الخير بل وإلى التبرع بكلية لغريب. فأي مجال دراسي آخر  يمكن أن يقول هذا عن نفسه؟"
وسينجر محق لكن حجته تدعم طرفين نقيضين. بوسع الفلسفة ولا شك أن تفعل هذا، ولكن بوسعها أيضا أن تجعل من الطلبة مثيري عواصف. ولنا مثال هنا في أكثر الفلاسفة الألمان تأثيرا في القرن العشرين وهو مارتن هيدجر. هيدجر هو أهم تلاميذ إدموند هوسرل ـ مؤسس الفينومينولوجيا ـ وقد حقق الشهرة منذ كتابه الأول "الوجود والزمن" ولكن ما فعله بشهرته ـ ومن ضمنه خيانته معلمه وزملاءه اليهود ـ سيبقى وصمة عار لا تزول. حينما وصل هتلر إلى السلطة أصبح هيدجر نازيا وحاول كرئيس لجامعة فرايبورج وضع الجامعات الألمانية في خندق الاشتراكية القومية التي كان يعتبرها حركة مقاومة تاريخية عالمية لتخريب الحداثة. وفي نهاية الحرب فقد هيدجر كرسيه ولكن مع تبدد ماضيه النازي بدأ يمارس نفوذا فريدا على الحياة الفكرية في القارة [الأوربية]. واستمرت مكانته في العلو بفضل كبير لتلاميذه اليهود السابقين من أمثال حنة أرنت والمعجبين به من أمثال الشاعر بول تسيلان، ولم يبد ندمه على ماضيه إلى أن مات غير تائب سنة 1976.
شئنا أم أبينا تظل أفكار هيدجر حية لا في كتاباته فقط بل وفي كتابات تلاميذه. وأحد أولئك هو إرنست نولت Ernst Nolte  الذي توفي في أغسطس عن 93 عاما. ونولت مشهور كمؤرخ لكن أطروحته للدكتوراة كانت في الفلسفة وكان هيدجر صاحب أهم تأثير على حياته وأعماله. ساعد نولت ـ وهو لا يزال طالبا ـ هيدجر وزوجته على الهرب من اعتقال الفرنسيين في نهاية الحرب، وبقي صديقا للأسرة. وفي ستينيات القرن الماضي حقق نولت شهرة عالمية كمؤرخ للفاشية ولكن بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الجامعة الحرة في برلين سنة 1979/1980، كانت سمعته تقوم على تعاطفاته الرجعية وإن لم يكن من الممكن وصفها بالنازية الجديدة.
حضرت له محاضرات عديدة عن مجموعة من نصوص الأيديولوجية الفاشية التي كان من أوائل من تعاملوا معها على نحو جاد. كانت له طريقة فريدة في الدخول، إذ يسبقه موكب من الطلبة المحببين لديه حاملين كتبه ودفاتره. وكان أسلوبه في المحاضرة جافا عتيقا ولكن المحتوى كان محرضا على التفكير. ذهب نولت إلى أن الفاشية والشيوعية كانتا حركتي معارضة للديمقراطية اللبرالية الغربية، ولكن لينين وستالين كانا أكثر أصالة وراديكالية من موسوليني وهتلر. ورأيت أن نولت منحاز فتوقفت عن الحضور له، ثم سمعت بعد ذلك أن احتجاجات تسبَّبت في إنهاء الكورس قبل موعد نهايته الطبيعي. بدا أن نولت يستمتع بتلك السمعة السيئة، لكن ليس لدرجة أن يستمتع بتفجير حركة الحكم الذاتي Autonomen سيارته سنة 1988. وبدلا من أن يدين نولت أولئك الرعاع الأناركيين المقنّعين، لام "المحرض الفكري" على الهجمة، وهو المؤرخ اللبرالي اليساري هانز أولريتش فيهلر Hans-Ulrich Wehler. ولم يردعه عن إطلاق ذلك الاتهام أنه اتهام لا أساس له (ولم يردع ذلك البعض عن الإيمان بصدقه).
بل لقد ازداد نولت اتجاها إلى اليمين. ففي عام 1986 أطلق الـ هستوريكرشتريت ["جدال الفلاسفة" Historikerstreit] في مقالة صحفية عنوانها "الماضي الذي لن يولّي" وهي مقالة لم تزال صادمة إلى اليوم. طالب نولت ألمانيا بأن تضع "خطا [Schlussstrich] تحت الماضي [النازي]" وسعى إلى أن يبيّن أنه لم يكن ثمة جديد في الهولوكوست "اللهم إلا استثناء وحيدا يتمثل في تقنية الإعدام بالغاز". أطلق نولت فرضيته في سلسلة أسئلة بلاغية مصرا أن هتلر والنازيين لم يرتكبوا الإبادة بحق اليهود إلا خوفا من الإبادة على أيدي البلاشفة: "ألم يكن جولاج أركيبيلاجو أكثر أصالة من أوشفيتز؟". وكان أثر قنبلة نولت المدوية فضيحة علنية، أثارت ضجة دولية لم تزل لها أصداؤها إلى اليوم. كان خصمه الأساسي هو هابرماس، الفيلسوف اليساري الذي لا يزال بعد ثلاثين عاما المفكر السياسي الرائد في ألمانيا. عمد هابرماس إلى إضفاء طابع استقطابي على الجدال بقوله إن هناك مؤامرة من المؤرخين "المحافظين الجدد" لترويج "فلسفة للناتو" تهوّن من شأن الهولوكوست وغيرها من جرائم النازية تعزيزا لمكان ألمانيا في الحلف الأطلسي. وشعر مؤرخون آخرون في خط النار مثل مايكل شتومر Michael Stürmer  وجواكيم فيست Joachim Fest وإن لم يتبنوا سياسات نولت اليمينية المتطرفة أو موقفه الاعتذاري تجاه النازيين أنهم مكرهون على الرد على هابرماس الذي جمع بدوره أنصارا عدة، ودامت الضجة سنتين.
كان الأثر بعيد المدى لنزاع المؤرخين ذلك هو استبعاد إنكار الهولوكوست من العالم الأكاديمي، ومن عواقبه أيضا محاكمة ديفيد إرفينج ديبورا ليبشتاد David Irving-Deborah Lipstadt  سنة 1996 بتهمة القذف وذلك موضوع فيلم في هولويد الآن. لكن كتابات نولت اتسمت بالمزيد من صبغة معاداة السامية إذ ذهب إلى أن هتلر كان مخولا باتخاذ إجراءات ضد اليهود (وإن لم تصل إلى القتل الجماعي) بسبب تحالف حركة الزعيم الصهيوني حاييم فايتسمان Chaim Weizmann  مع الحلفاء سنة 1939. ونأت الدولة والمجتمع بنفسيهما عن تلك الحجج الوحشية، فرفضت أنجيلا ميركل أن تجلس على منصة واحدة مع نولت في حفل توزيع جوائز. لكن نولت الذي تعرضت سمعته الأكاديمية للمزيد من اللطمات بسبب سلسلة من الكتب متزايدة التطرف والغرابة عاش حتى رأى أفكاره تلهم صعود حزب Alternative für Deutschland (أي "بديل ألمانيا") الذي تقدم في السنتين الماضيتين حتى أصبح قوة أساسية في مشهد السياسة الألمانية.
يزعم حزب "بديل ألمانيا" أن الماضي النازي يستغَل ظلما ضد ألمانيا لحملها على قبول الهجرات الجماعية. وبعد وفاة نولت نشرت دي فيلت مقالة بعنوان "هو الذي قال أولا ما يفكر فيه بديل ألمانيا الآن". أشار الكاتب ريتشارد هيرتسنجر إلى التماثلات بين نظرة نولت النسبية إلى الهولوكوست وافكار الهوية الألمانية لدى ألكسندر جولاند رئيس حزب "بديل ألمانيا": "أعتقد أن أوشفيتز كرمز قد حطَّم الكثير فينا". يسعى حزب بديل ألمانيا إلى إصلاح المعجم النازي من قبيل كلمة Volksgemeinschaft (أي "المجتمع الشعبي") محظورة الاستعمال منذ عام 1945. ولئن استطاع بديل المانيا في الانتخابات التالية أن يكرر النجاح الذي حققه الشهر الماضي بدفعه حزب ميركل الديمقراطي المسيحي إلى المركز الثالث في ولايته الأم ميكلنبيرج فوربوميرن ويزيحه من السلطة في برلين، فسيكون نولت قد حقق بعد الوفاة انتصارا في حملته من أجل تبرئة صفحة أستاذه هيدجر.
ما علاقة حكاية إرنست نولت بدراسة الفلسفة؟ تعني الحكاية بالنسبة لي أن دراسة الفلسفة لا تحصّن الطالب بالضرورة من تبنّي رؤى زائفة أو حتى خطرة. لقد كان نولت متمكنا من الفلسفة القديمة والحديثة، ويقرأ بلغات عديدة، وكتب أطروحته للدكتوراه عن ماركس. وكانت خلفيته الراقية تنعكس في غموض لغته المتعمد الذي كان يقنِّع به أفكاره الرديئة وأهواءه. وكان يطبق الديالكتيك الهيجلي على دراسة الفاشية: فالـ Action Française  هي الدعوى thesis والفاشية الإيطالية هي الدعوى المضادة antithesis ، والاشتراكية القومية الألمانية هي التركيب synthesis ، والنتيجة أن كتاب "أوجه الفاشية الثلاثة" ظل طوال سنين كثيرة نصا معياريا على قوائم القراءة للطلبة. كما كانت لتفسيره النصف الأول من القرن العشرين بوصفه "الحرب الأهلية الأوربية" أصداؤه أيضا. ربما كان نولت سيئا في الفسلفة كما في التاريخ، ولكنه برع في كلتا الحرفتين براعة مكنته من السيطرة على وعينا.
ليست الفلسفة إذن دواء أخلاقيا لكل داء. فتأثيرها يحتمل الرداءة مثلما يحتمل الجودة. وبالطبع كان يمكن أن يصبح نولت مناصرا للنازية بدون تعلمه على يد هيدجر. والناس على أي حال يختلفون حول ما إذا كانت تلك التأثيرات ترقى إلى مرتبة "إفساد الشباب"، فقليل اليوم هم الذين قد يدافعون عن قرار مواطني أثينا بإعدام سقراط. وابنتي ليست بحاجة إلى بيتر سينجر يعلمها فضائل النباتية، فقد توصلت بنفسها إلى أن تربية الحيوانات لقتلها والاقتيات عليها أمر لا يمكن تبريره أخلاقيا. لكنها لو لم تكن تبنت من قبل تلك الرؤية، ولو كان سينجر حملها على التحول إلى النباتية، لكان محتملا أن ينتابنا القلق كأبوين لها من تلقيها العلم على يديه، ولتساءلنا عن مدى أمان ذلك. فهو في كتابه الجديد الموجه للطلبة والقارئ العام يدافع عن سفاح الأخوة الراشدين واستنساخ البشر والقتل الرحيم للأطفال المعاقين. وجميع حجج سينجر بشأن الأخلاقيات البيولوجية يمكن إيجازها في جملة: "لسنا ملزمين بالسماح لكل كائن لديه إمكانية أن يصبح كائنا عاقلا أن يحقق هذه الإمكانية". غير أنه يعترض في موضع آخر من الكتاب على السماح بانقراض سلالات معينة لأننا إن فعلنا ذلك "سنطيح بفرصة خلق شيء بديع: هو عدد فلكي من أجيال البشر يعيشون حياة ثرية مشبعة، ويبلغون من المعرفة والحضارة ذرى تتجاوز حدود خيالنا". ولا يمكن أن يختلف مع هذا غير قليل من المتشائمين المتزمتين من أمثال آرثر شوبنهاور أو حواريه الجنوب أفريقي ديفيد بيناتار. لكن هذه الأجيال المستقبلية ليست سوى كائنات بشرية بالإمكانية ولسنا ملزمين تجاهها بحسب سينجر نفسه. فلماذا نبالي بمستقبل الحضارة إذا كنا لا نرى الحياة الإنسانية هنا والآن أمرا ذا شأن؟ وما الذي نعرفه عن الوسط الفلسفي حين نعرف أن سينجر اليوم هو أكثر ممثليه جماهيرية؟
برغم كل هذه الشكوك عما لو أن الفلاسفة يصلحون حقا حماة لأبنائنا، أنا متحمس للغاية إذ أضع ابنتي بين أيديهم لثلاث سنوات قادمة. فلا أحد يقاوم رؤية الفلسفة إذ تتشكل، ناهيك عن متعة أن تمارسها بنفسك. ولا أنسى قط نشوة تقديمي بحثا لمنتدي آيه جيه فريدي آير في أكسفورد. كما استمتعت برئاسة مناظرة ستاندبوينت ديالوج بين بيتر سنجر ـ وهو على المستوى الشخصي مثير للإعجاب برغم شذوذ بعض رؤاه ـ واللاهوتي نايجل بيجار. بوسع الطلبة الأذكياء أن يقرروا بأنفسهم ما إذا كانت عقولهم تنفتح أم تنغلق بما يسمعونه في قاعة المحاضرات وغرف المؤتمرات. ولكن لا بأس أيضا من شيء من تواضع الأساتذة. فالفلاسفة اليوم يريدون تغيير العالم، في حين أن ما يحسب لهم حقا هو محاولة فهمه.

عن ستاندبوينت مجازين ـ نشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق