ملاحظات
حول النوفيلا
أيان مكيوان
عندما تقوم إحدى
شخصيات كتابي الأخير " Sweet Tooth"[i]
بنشر عملها القصصي القصير الأول، تجد بعض النقاد يقولون إن هذا الذي فعلته شيء لا شرف
فيه ولا أمانة. وما تجربة هذه الشخصية إلا انعكاس لتجربتي أنا. نوفيلا؟ ربما لا
تكون لديك العصارة الإبداعية اللازمة؟ أليس حجم الخط أكبر مما ينبغي، والمسافات
بين السطور، أليست واسعة جدا؟ لعلك تحاول ترويج بضاعة غير مطابقة للمواصفات أو
لعلك تخدع جمهورا أولاك ثقته.
لم يواجه المؤلفون
الموسيقيون ـ بمن فيهم أرفعهم مقاما ـ مشكلة الحجم تلك على الإطلاق. فمن هذا الذي
يشك في عظمة سوناتات بيتهوفن للبيانو أو رباعياته الوترية أو أغنيات شوبرت؟ بل إن
البعض ـ وأنا منهم ـ يفضلها على سيمفونيات كلا الرجلين. من هذا الذي لا يلين قلبه
للدراما الحميمية في ثلاثية موتسارت من مقام جي الصغير، أو لا تتوه منه نفسه في
تنويعات جولدبرج أو لا يقف من فرط الروع في رقصة مقام دي الصغير حينما تعزفها
الكمان المنفردة؟
الغريب أن القصة
القصيرة لا تثير مطلقا هذه الشكوك المتعلقة بالغش التجاري، ربما لأن قالبها مغاير
بصفة جوهرية لقالب الرواية.
عن نفسي، أعتقد أن
النوفيلا هي القالب المثالي للقص النثري. هي الابنة الجميلة للعملاق الهائم
المنتفخ حليق الرأس (والعبقري أيضا في أيام عزه). وطفلته هي السبيل الذي من خلاله
يتعرف الكثيرون للمرة الأولى على أعظم كتابنا. فالقراء يتعرفون على توماس مان من
خلال "الموت في فينسيا" وعلى هنري جيمس من خلال "Turn
of the Screw"[ii]
وعلى كافكا من خلال "التحول" [المسخ] وعلى جوزيف كونراد من خلال
"قلب الظلام" وعلى ألبير كامو من خلال "الغريب". وبوسعي أن
أستمر: فولتير، تولستوي، جويس، سولجنتسين. وأورول وشتاينبك وبينشون. وميلفيل
ولورنس ومونرو. التراث مديد مجيد. وبوسعي أن أمضي قدما فأقول إن الاقتصاد يوجب على
الكتاب بل ويدفعهم دفعا إلى أن يصقلوا جملهم فتكون أشد دقة ووضوحا، وأن يحدثوا
تأثيراتهم بتوتر غير معهود، وأن يركزوا طول الوقت على الغاية من إبداعهم، فيمضون
بهذه الغاية دون أن يكون في أذهانهم إلا الدافع الوظيفي وتحقيق الغاية مع المحافظة
على وحدتها. وهم لا يهيمون، ولا يعظون، ويعفوننا من جميع الحبكات الجانبية
والتورمات المحشورة حشرا.
تعالوا نتخذ لنا
مقياسا اعتباطيا، أي شي يقع فيما بين عشرين ألفا وأربعين ألفا من الكلمات، طويلا
بما يكفي قارئا أن يستوطن عالما أو وعيا ويبقى فيه، قصيرا بما يسمح بقراءته في
جلسة أو اثنتين وبقاء بنيته الكلية عالقة في الذهن منذ اللقاء الأول ـ فمعمار
النوفيللا هو واحد من أسرع ملذاتها إدراكا. ما أكثر ما يقرأ المرء رواية كاملة
معاصرة فيفكر ـ بما يشبه الثورة ـ في أنها كانت ستصبح أفضل لو اقتصرت على نصف
حجمها أو ثلثيه. إنني أشك في أن كثيرا من الروائيين يحققون ستين ألف كلمة بعد عمل
سنة ويعتقدون (ربما بشيء من الضجر) أنهم ما وصلوا بعد إلا إلى منتصف الطريق. هؤلاء
عبيد لدى العملاق لا سادة على القالب.
أما الجلوس إلى
نوفيلا فشبيه بمشاهدة مسرحية أو فيلم طويل بعض الشيء. بل إن هناك في واقع الأمر
تشابها بين السيناريو (ويتألف من نحو عشرين ألف كلمة) وبين النوفيلا، فكلاهما
يعملان داخل حدود الاقتصاد المفيدة ـ الحيز المتسع لحبكة (أو اثنتين على الأكثر)،
الشخصيات التي يتم رسمها بضربات سريعة لكنها كافية لأن تعيش هذه الشخصيات وتتنفس،
والفكرة المركزية، حتى إذا كانت في آخر الأفق لكنها دائما تمارس قدرتها على الجذب.
التشبيه بالفيلم أو المسرح لا يرمي إلا إلى أن يذكرنا بعنصر الأداء في النوفيلا.
فنحن نكون شديدي الوعي بالستار والخشبة، والكاتب بوصفه صانعا للوهم. غالبا ما يكون
حضور الدخان والمرايا، والأرانب والقبعات، وكل هذه الأدوات السحرية أشد من حضورها
في الروايات الطويلة. النوفيلا هي القالب الحداثي وما بعد الحداثي بامتياز. وإسهام
كونراد في تراث النوفيلا نموذجي. وهو يبدأ بحيلة فنية بارعة، "في مكان
مضيء"، حيث يجهز مارلو نفسه ليحكي حكايته بينما هو وأصحابه جلوس في يخت راسٍ
عند مصب نهر التيمز عند الغسق. وبينما يخفت النور، تنجلي أمام أعيننا فكرة الظلام،
ويستمر تتبعها بلا هوادة على مدار مائة صفحة أو نحو ذلك.
"قلب
الظلام" ليست من بين النوفيلات الأثيرة لديّ. فكونراد يعجز فيها عن الالتزام
بوصفته المحددة في مقدمته الشهيرة لـ "زنجي السفينة نرجس"، وهي "أن
أجعلك ترى" ما هو في القلب. ولكن تلك الصفحات الاستهلالية، أو الإطارية، فيها
من الجمال العارف بذاته ما يشرف قالب النوفيلا كله.
القصيدة والقصة
القصيرة قابلة نظريا للكمال، ولكنني أشك في أن يكون ثمة وجود لشيء اسمه الرواية
الكاملة (حتى لو بدأنا نتفق بيننا وبين أنفسنا عما تتكون منه الجملة الكاملة).
الرواية أشد اتساعا وشمولا واستعصاء وشخصية من أن تبلغ الكمال. وهي في طولها المفرط
غالبا ما تبدو في بعض الأحيان شبيهة بالحياة ذاتها. هي ليست بحاجة إلى الكمال وهي
لا تسعى إليه. والروايات "العظيمة" ليست روايات كاملة. فأنت قد تستطيع
تحسين "أنا كارنينا" بالتعديل في الوصف الأخرق لقبعة ناظر المحطة
المدببة ـ وهو نموذج لقي من النقاش الكثير. وأنا دائما ما تنتابني الرغبة في
استعمال قلم أزرق على سكرات موت إيما بوفاري المطولة (طولها المفرط يجعلني أشك أن
فلوبير كان يبكيها) برغم أنني لم أشك مطلقا في عظمة الرواية.
في حين أنني أستطيع
على الأقل أن أتصور نوفيلا كاملة. أو أن أتخيل بالأحرى نوفيلا تقترب من الكمال شأن
"المحور المقارب" an asymptotic line في الهندسة الإحداثية. لا أعتقد أن
النوفيلات التي طالما اعتززت بها (ومن بينها "إيثان فروم" لـ إديث
وورتن، و"لص الثكنات" لـ توبياس وولف، و"المراقب" لإيتالو
كالفينو) كاملة، على أي نحو يفوق كمال أصدقائي القدامى. ولكن سمات النقاء والسلامة
والصقل التي تنطوي عليها هذه النوفيلات تضعها على طريق الكمال. إنه إحساس بالطموح
الجمالي يستشعره المرء في السلطة الملزمة في صفحات الكتاب الأولى.
النوفيلا العظيمة هي
الموتى لجويس. بنية ثنائية بسيطة (حفل، غرفة في فندق) تخلق وسطا اجتماعيا بأكمله
(تتناوب عليه اللياقة والعناد) في
حالة استثنائية من الدفء. تبدو الشخصيات كما لو أنها تتحرك في الزمان الحقيقي،
فالرقص والغناء قائمان في حفل العشاء الذي يقام سنويا في بيت العمتين، وهناك
التوترات العائلية، والحديث الشائك حول الهوية الوطنية. وما يدور من حديث بين
جابرييل وجريتا في غرفتهما بالفندق، والدراما الخرساء بين حماسته الخائبة
واكتشافها الحزين القاسي لصبي كان يحبها ومات، وفي النهاية تأملات جابرييل
الختامية النعسانة في عدم قدرته على الحب، في الموت، تحفزه إلى ذلك ذكريات صخب
المساء ـ وهذه الفقرات من بين أروع ما كتب على الإطلاق في القص النثري كله. أنا عن
نفسي أشتري صفحات "الموتى" الختامية بأي خمس عشرة صفحة من
"عوليس". لقد تفوق جويس الشاب على نفسه. بل إنني أتخيل في بعض الأحيان
أنني سأكون في فراش الموت، فلا تكون في وداعي إلا عبارات من هذه النوفيلا:
"أظن أنه مات لأجلي"، "واحدا بعد واحد أخذوا جميعا يتحولون إلى
ظلال"، "لقد حان الوقت لكي يشرع في رحلته باتجاه الغرب"، الجليد
"ينهمر في نعومة على موجات شانون الثائرة السوداء"، "الجليد يتساقط
بخفة عبر الكون وفي خفة يتساقط، كما تهبط النهاية الأخيرة على الأحياء وعلى
الموتى". ستكون نهاية أجمل من نهايات كثيرة.
أنا على يقين أن
النوفيلا ـ بعيدا عن عبقرية جويس ـ ترغم الكاتب على ذلك، تجعل لزاما عليه أن يراعي
الوحدة وأن يسعى إلى الكمال، وأن هذه الاشتراطات والإلزامات هي التي جعلته يصوغ في
هذه النوفيلا واحدة من أجمل الأعمال القصصية في اللغة الإنجليزية.
مجلة ذي نيويوركر ـ29 أكتوبر 2012 و شرفات اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق