الثلاثاء، 7 فبراير 2012

همسات بولندية في آخر الليل



تشارلز سيميك

من الملفت للنظر بحق ذلك الكم الكبير من الشعراء الجيدين الذين قدمتهم بولندا للعالم في القرن الماضي. إنه بحق إنجاز كبير بالنسبة لبلد لم يستخدم خلال الحربين العالميتين إلا ممرا إما ليعبره الألمان أو الروس، غازين أو متقهقرين، علاوة على حدود ذلك البلد التي أعيد رسمها مرارا واحتلالها لسنوات، والتي تعرض ملايين من مواطنيها للذبح والتهجير. لعل الأمر يرجع إلى مثل ما انتهى إليه تشسلاف مييوش في سنة 1965 في تقديمه للكتاب الذي لقي كثيرا من الثناء وهو أنطولوجيا "الشعر البولندي فيما بعد الحرب"، لعل الأمر هو أن الشاعر الذي يناضل من أجل التملص من عجلات التاريخ الساحقة يكون أكثر تهيؤا للنهوض بالمهام المنوطة به من زميله الشاعر في الدول السعيدة. لقد قال مييوش إن "التاريخ [بالنسبة لنا] واقعي إلى أقصى حدود الواقعية. قد لا يكون كذلك بالنسبة للشعراء الأمريكيين، لكنه بالنسبة لنا جزء أصيل تمام الأصالة من الواقع".
يبدو هذا معقولا، برغم أن مييوش نفسه لاحظ في موضع آخر أن نسبة ضئيلة فقط من المعاناة البشرية هي التي تتحول إلى أدب، في حين يختفي أغلبها دون أن يخلف أثرا. كثير من الدول التي مرت بأهوال مشابهة صمتت على إثر هذه الأهوال صمتا هو أقرب إلى الخرس إن قورن بحال بولندا، ومن ثم فحيوية الشعر البولندي لا بد أن توعز إلى عوامل أخرى بجانب التاريخ. ومع ذلك، فحتى النظرة العابرة إلى حياة الشعراء الثلاثة الذين تتناولهم هذه المقالة تفضي بنا إلى نتيجة محتومة لا مهرب منها وهي أن اليأس والغضب اللذين استنفرهما فيهم ما لقيته أمتهم كانا حاسمين لدى كل واحد منهم.
***
تاد روزيفتش

في عام 1944، عندما كان تاد روزيفتش في الثالثة والعشرين من العمر ـ وكان في ذلك الوقت عضوا في الجيش الوطني المناهض للشيوعية الذي كان يحارب الألمان منذ 1941 ـ تعرض شقيقه الأكبر للاغتيال على أيدي الجستابو، وحملت جثته مع كثير من الجثث لغيره من أعضاء المقاومة على عربة طافت في الشوارع وشاهدها تاد بعيني رأسه. وفي قصيدة مبكرة له عنوانها "مرثية" يصف الحالة الذهنية التي كان يعيشها هو شخصيا، وكثير من البولنديين:
أنا في العشرين
أنا قاتل
أنا أداة
عمياء عمى سيف
بين يدي جلاد
أنا قتلت رجلا

مشوه أنا
لا رأيت السماء ولا الوردة
ولا الطائر ولا العش ولا الشجرة
ولا القديس فرانسيس
ولا أخيل ولا هكتور
لست سنوات
يندفع من أنفي دخان الدم
لا أومن بالماء يصير نبيذا
لا أومن بالخطايا يغفرها أحد
لا أومن بالموتى يبعثون.
***
فسوافا شمبورسكا

كانت فسوافا شمبورسكا، المولودة عام 1932، تعيش على مقربة من محطة سكك حديد كراكو خلال الحرب العالمية الثانية. عملت ـ ابتداء من عام 1943 ـ موظفة في السكك الحديدية في قرية تقطعها القطارات رائحة غادية، تحمل القوات إلى الجبهة، وترجع بالجرحى من حيث كانوا، وبالمدنيين الباحثين لأنفسهم عن ملجأ من الحرب أو المنقولين تحت الحراسة إلى معسكرات الاعتقال سيئة السمعة. رأت إذن الكثير وسمعت الكثير:
اكتبوها. اكتبوا
بالحبر المعهود على الورق المعهود:
اكتبوا أنهم حُرموا من الطعام
وأنهم ماتوا من الجوع.
كلهم؟ وكم هم؟
إنه سهل شاسع.
كم عشبةً للرأس؟
اكتبوه اكتبوا: لا أعرف.
التاريخ يحيل الهياكل العظمية عدما
وإذا الألف وواحد بالألف سواء
وكأن الواحد ما كان
كأنه كان جنينا وهميا، مهدا خاويا،
كتابا فتح لكي لا يتعلم أحد القراءة فيه
هواء يضحك ويبكي ويكبر
كأن السلالم كانت لعدم يقفز منها تجاه الحديقة.

ها هنا يصبح الواحد لحما ودما
ها هنا في هذا السهل الشاسع.
لكن السهل الشاسع شاسع وحسب
صامت لا يتكلم
كشاهد في قضية
ولكنه قبض.
***
آدم زجاجيفسكي

ترجع جذور عائلة "آدم زجاجيفسكي" إلى [مدينة] لفوف التي عاشت فيها أجيال كثيرة من عائلته، والتي تم تهجيرهم منها بعيد مولده سنة 1945 إلى جليفيتش وهي بلدة صغيرة في بولندا، بعدما أصبحت لفوف جزءا من أوكرانيا السوفييتية. جاءت نشأته إذن وسط قوم مشردين مكروبين لم يكن لهم على الأرجح هم طوال سنوات وسنوات إلا الكلام عن الحرب وأهوالها، فلا بد أن أثرا قويا بل هائلا ترسب على نفس زاجاجيفسكي مما كان أهله يتحاكون به:
رأيت في الحلم مدينتي البعيدة
تتكلم لغة الأطفال والجرحى
تنطق أصواتا كثيرة
تنطقها في سرعة
فتتدافع كأنها البسطاء يُدعوَن
إلى لقاء مسئول كبير
حلمت أنها تصيح
"أين العدل"
أنها تصيح في انتحاب
"كل شيء راح"
أنها تقول في خمود
"من الآن يا ترى يذكرنا؟"
***
مختارات تاد روزيفتش هي المختارات الشعرية البولندية الأضخم على الإطلاق في اللغة الإنجليزية. أقدم القصائد الواردة في الكتاب ترجع إلى عام 1945، وأحدثها كتبت في عام 2008. وبين الاثنتين ثمة 124 قصيدة، منها ما يقع في صفحات عدة. بدأ روزفيتش كتابة الشعر وهو تلميذ في المدرسة ونشرت أولى قصائده بعيد الحرب. وظهرت مجموعة منها بعنوان "قلق" سنة 1947 فلقيت نجاحا فوريا كبيرا. وكان منطقيا أن يلقى كاتب هذه المجموعة الكثير من الإعجاب وقد كان صوتا لبلد ابتليت على مدار ست سنوات بفقدان أكثر من ستة ملايين من مواطنيها. كانت القصائد قصيرة، خالية من البهرج الشعري المعهود، مؤلفة بالكامل تقريبا من عبارات قصيرة مكتوبة بلغة واضحة وصريحة وبسيطة حتى أن أي شخص يجيد القراءة في أبسط مستوياتها يقدر على الإحاطة بها تمام الإحاطة. هو شعر خال من الغموض، كما أوضح روزفيتش في إحدى قصائده. شعر لا يبرر شيئا، ولا يفسر شيئا، ولا يحقق أملا، ولا يكدح طالبا الأصالة، لا يأتمر بغير نفسه، ولا يقول إلا ما يشعر مؤلفه بالاحتياج لقوله.
قال روزفيتش "ليس لدي وقت للقيم الجمالية" برغم أنه في فترة لاحقة من حياته تحول إلى مسرحي طليعي وكاتب سيناريوهات تجريبي، ونجح في كلا الأمرين. ولكن الحقيقة العارية كانت مطلبه من الشعر، ذلك أن القناعة الراسخة لدى كل من شاهدوا بأعينهم الشاحنات المحملة بالأطراف البشرية هي أنه حتى الفن نفسه مدان محتمل. سيق إلى الذبح، هكذا قال روزفيتش عن نفسه، لكنه نجا، وضاع منه ذلك الشيء الذي طالما عجزت حضارتنا عن حمايته. الدين، والفلسفة، والثقافة، وإرث العالم الغربي الأخلاقي والمعنوي كله، ذلك جميعا بدا لروزفيتش محض احتيال. يكتب أنه مندهش من كونه لا يزال قادرا أن يرى ويسمع، أن يمسح عن جبهته العرق، وأن يشرب الصودا، ويشتري المقرمشات والفاكهة المجففة، ويخرج ليراقص فتاة حمراء الشعر.
هذه المرأة العجوز
هذه التي تسحب الشاة وراءها
هذه أهم
هذه أقيم
من عجائب الدنيا السبع
وكل من يرى أو يشعر
أنها ليست كذلك
مدان بالإبادة الجماعية
هكذا هو الحكم الذي ينتهي إليه تاد روزيفتش.
مثل هذه الانفجارات هي التي تلطف من وقع عدمية هذا الشاعر. تفيض قصائده بالتعاطف مع الإنسانية المعذبة. وفي مختاراته الكثير من المراثي، والكثير من القصائد المؤلمة عن أمه، والقصائد المهداة إلى أصحابه من الموتى ومن الأحياء، وقصائد الحب المكتوبة في العديدات أو لهن. وهو في كل هذه القصائد يخاطب قراءه دونما ادعاء لمعرفة، أو تظاهر بامتلاك سلطة خاصة أو بصيرة شاعر، وهو ما يضفي على قصائده ـ حتى أكثرها عادية ـ سحرا ما.
مع تقدمه في السن، يصبح روزفيتش أكثر ميلا إلى الكتابة عن ما يطرأ على العالم الذي عرفه من تغيرات. وقصائده المتأخرة، ـ وهي أطول وفيها نبرة نثرية واضحة ـ تتأمل في مواضيع من قبيل مرض جنون البقر، ولوحات فرانسيس بيكون وجلسة تحديد مدى سلامة إزرا باوند العقلية، وراسكولنيكوف [بطل "الجريمة والعقاب"] لدوستويفسكي، وصمويل بيكيت، وزيارة إلى حديقة الحيوان وتولية جورج دبليو بوش رئاسة ما يسميه روزفيتش بـ "القوة العظمى الباكية". هذه القصائد سهلة القراءة، ومسلية شأن مقالات في جريدة الأحد أو في مجلة أسبوعية. وتتجلى فيها أيضا محدودية شعره. ولأن هذه القصائد لا تكاد تقوم إلا على مضامينها، فمن النادر أن تعطي القرئ سببا للرجوع إليها من جديد، سواء بالقراءة أو بالتفكير، إذ أن ما يحصل عليه القارئ من القراءة الأولى هو إلى حد بعيد كل ما هو موجود.
***
في الولايات المتحدة، فسوافا شمبورسكا هي الشاعرة البولندية الأشهر والأكثر قراءة، ومن الممكن لكتاب لها أن يبيع قرابة ثمانين ألف نسخة. وليس سر ذلك فقط أنها فازت بجائزة نوبل، فمييوش أيضا حصل على الجائزة. بل نوعية الشعر الذي تكتبه: هو منفتح أمام القراء كشعر روزفيتش، ولكنه أكثر قدرة على الإشباع وأكثر أصالة. وهي علاوة على ذلك، تحظى بترجمة جيدة. أو ربما يكون أكثر دقة القول بأن مترجميها "ستانسلاف بارنزاك" و"كلير كفاناج" (وهما أيضا مترجما زجاجيفسكي) يعطيان هذا الإيحاء في الكتب الخمسة التي تعاونا على ترجمتها لشمبورسكا حتى الآن. تأسرنا شمبورسكا شديدة الذكاء والطرافة والاتزان باتساع مدى اهتمامتها، وبتواضعها وافتقارها ـ الاستثنائي بين الشعراء ـ إلى النرجسية، وبتشاؤمها الفرحان.
هكذا تبدأ قصيدة بعنوان "منظر مع حبة رمل" وهي من كتاب قديم لها:
نحن ندعوها حبة رمل
ولكنها لا تدعو نفسه لا حبة ولا رملة
هي قانعة تماما بدون أسماء
عامة أو خاصة
دائمة أو عابرة
خاطئة أو صحيحة.

ما لنظرتنا، أو للمستنا
أي معنى لديها.
لا تشعر أنها مرئية أو ملموسة.
وسقوطها على حافة النافذة هو
خبرتنا نحن لا خبرتها.
يستوي لديها بالسقوط على أي شيء آخر
بل سواء لديها
أكان السقوط انتهى
أم لم يزل مستمرا.
شمبورسكا تكتب دائما وكأنها مكلفة بالكتابة عن شيء ـ قد يكون حبة رمل أو الأوتوجراف الأول لهتلر، أو يكون شيئا أكثر مدعاة للتأمل كوجود الروح، أو صمت النباتات من حولنا. تنطلق في تأمل هذا الشيء عن قرب، تصف أول الأمر ما تراه، ثم تستدعي ما تعرفه هي وغيرها من الناس عنه، حريصة على أن يبقى القارئ قادرا على متابعة كل انعطافة يقوم بها ذهنها وهي تفك خيوط أفكارها المتشابكة منطلقة في طريقها إلى نهاية للقصيدة تأتي مدهشة على نحو ما، أو طريفة، أو مقبضة. ولو أن ذلك يبدو لكم وكأنه المعادل الشعري للكتابة التعليمية، فهو فعلا هكذا. فشمبورسكا تعنى ـ أكثر من أي شاعر آخر أعرفه ـ لا بأن تخلق في قارئها حالة شعرية وحسب، بل وبأن تنقل إلى قرائها شيئا كانوا لا يعرفونه، ولم يخطر على بالهم من قبل.
في كتابها الجديد قصيدة تستهلها قائلة: "يسمونه الفضاء". هي مستلقية في الفراش تفكر في رحلة سوف تقوم بها في اليوم التالي. تفكر في الفضاء الذي ينتظرها وتتساءل "ما الذي بحق السماء يحدٌّه؟ ... خاوٍ، وممتلئ بكل شيء في الوقت نفسه؟" تقول لنفسها، هيا نامي "غدا سيكون عندك المزيد من الضغوط": "أن تلمسي أشياء في متناول يدك/أن تنظري .../ أن تسمعي الأصوات" أي أن لديها في غدها الكثير من الأشياء الملموسة المادية، ولكن أين؟ في الفضاء.
في عالم لا يتماثل فيه يومان، أو غيمتان في السماء، أو عشبتان تحت أقدامنا، تصبح الفوارق الرهيفة هي كل شيء. ولشمبورسكا سجل رفيع في التعامل مع الواقع والخيال، ولكنها، تصر على الاطمئنان إلى أن لا يخلط القارئ بين هذا وذاك. في مقارنتها بين غناء "إيلا فيتزجيرالد" و"بيلي هوليداي" في مقالة قصيرة كتبتها شمبورسكا عن سيرة فيتزجيرالد الذاتية، قالت الشاعرة كلمات تصدق على شعرها أيضا:
"غير أن لحظة أتت في الستينيات فشهدت بداية تغير في ذائقة المستمعين. بدأ الناس يلاحظون في غناء إيلا محدودية. لا في صوتها، فقد كان ذلك يعلو على جميع العواقب في يسر بالغ، وإنما في طريقتها. وانظروا مثلا إلى بيلي هوليداي التي تصب قلبها كلها، وروحها كلها، بل وشتى أعضاء جسمها كله في أغنياتها. في حين كانت إيلا تتكلف. كانت تحرص دائما أن تبقي مسافة بينها وبين ما تغنيه، لم تصل يوما بالأغنية إلى ذروتها الحسية. والحمد لله. فأنا أرى في هذا ورقة غار أخرى في إكليلها. فالغناء التعبيري منحدر زلق، لا تضع الواحدة قدمها على أوله، إلا وتهوي إلى النهاية.
كتابها الجديد، وعنوانه "هنا"، ليس في قوة كتابها السابق "مونولوج كلب" الذي صدر في عام 2006. وهذه ليست مشكلة، لأن شمبورسكا جديرة بالقراءة في كل الحالات. هناك في الكتاب قصيدة قصيرة وطريفة تعلمنا أن فظائع الأشياء موجودة في مكان آخر من الكون، وأن حياتنا على هذا الكوكب الصغير محتملة طبعا، حتى لو أخذنا في الاعتبار ما فيها من حروب وشرور. وقصيدة أخرى تتخيل ما قد يحدث لو جاءت شمبورسكا المراهقة لتقف أمام شمبورسكا الحالية: تراها ستعاملها معاملة شخص حميمي قريب أم معاملة غريبة؟ وقصيدة عنوانها "تماهٍ" تحكي قصة مؤلمة عن امرأة ترفض التسليم بوفاة زوجها في حادثة طائرة. وفي قصيدة عنوانها "عربة البريد" تتخيل أنها راكبة في عربة مزدحمة من بين ركابها "يوليوسز سلوفاكي" وهو أعظم شعراء بولندا الرومانتيكيين (ولم أكد أستبدل بسلوفاكي شاعرنا الأمريكي إزرا باوند حتى أصبحت القصيدة بالنسبة لي أكثر من رائعة). محشورا بين الركاب والأمتعة، يشد سلوفاكي رسالة من داخل مظروف منبعج، واضح أنها قرئت مرارا حتى اهترأت أطرافها، وفجأة تقع من داخل المظروف بنفسجة يابسة. ومن حسن الحظ أن الشاعر والزائرة القادمة من المستقبل يريانها وهي في رحلتها في الهواء:
... وما لخيالي أن يحمله
على سمعي ولا إبصاري.
هو حتى لا يشعر بي إذ أشد كمه
بهدوء يسقط البنفسجة بين طيات الرسالة
فإذا هي في المظروف من جديد
وإذا به يضع المظروف في الحقيبة
ينظر من الشبابك الغائم بسبب المطر
يقف، يعدل معطفه
ثم ماذا بعد؟
ينزل في المحطة التالية؟

أبقيه أمام عيني بضع دقائق أخرى.
يسير، في خفة بالغة
حاملا حقيبته
مطأطئ الرأس
كمن يعرف أن لا أحد بانتظاره.

والآن لم تتبق إلا الزوائد
عائلة كبيرة أسفل المظلات،
عرِّيف معه صافرة، وطابور مجندين لا يتحركون
شاحنة ملأى بصغار الخنازير
وحصانان صغيران لا عهد لهما بعد
بالأرسان.
***
"اليد الخفية" هو سادس كتاب يصدر بالإنجليزية لـ آدم زجاجيفسكي. ولن يخيب هذا الكتاب توقعات من يعرفون بالفعل أعمال الشاعر ويعجبون بها. لو أن شمبورسكا شاعرة رحلات خيالية، فـ زجاجيفسكي رحالة حقيقي بتذكرة وحقيبة سفر. حتى أن له قصيدة عنوانها "بورتريه شخصي في الطائرة". كثير من قصائده عن بلدات ومدن في أوربا والولايات المتحدة إما أنه عاش فيها أو قام بزيارتها. ولقد ذهب تشسلاف مييوش يوما إلى أن الشعر والسفر حليفان، بما أن الشعر تعبير عن إعجاب بالأشياء والمناظر والناس والعادات وما هو أكثر.
أدهشتني كثرة قصائد الشوارع في كتاب زجاجيفسكي، بأسمائها الحقيقية في الغالب، سواء شوارع جليفيس التي نشأ فيها أو في كراكو التي كانت فيها دراسته الجامعية والتي يعيش فيها الآن. هذه الشوارع (ومن بينها حي اليهود القديم) تمثل بالنسبة له في وقت واحد أماكن حقيقية وأماكن خارج الزمن، يرجع إليها، إما وحده، أو بصحبة أبيه العجوز، الذي فقد ذاكرته، وكأنما هذه العودة تهدف إلى فهم شيء امتنع عليه فهمه طوال كل تلك السنوات. المزاج المسيطر على الكتاب رثائي. رفات حزنه الخفيف يكسو حتى البلدات الإيطالية الجميلة التي يزورها ونهر جاروني في فرنسا الذي يهديه قصيدتين جميلتين.
فيما يتجول ليلا في ميدان بإحدى المدن، ينظر إلى وجوه الناس، بشَرَه. كل واحد منهم مختلف، هذا يقول قولا، وذلك مقتنع، ثالث يضحك:
ظننت أن المدينة مقامة لا من بيوت
وميادين وشوارع وحدائق وطرق
إنما من وجوه تشع كالقناديل
كالمشاعل
كنيران حدادين يلحمون الحديد بالليل
وسط هالة من الشرر.

هي صورة الحدادين بنيرانهم وهم يعملون في الليل، هي هذه الصورة التي تجعل من "وجوه" قصيدة تستعصي على النسيان. وهذا يصدق على قصائد كثيرة له: أن بانتظار القارئ في كل واحدة منها صورة أخاذة. ومن ذلك مقارنته نهر جاروني الساكن، والماء يتدفق فيه في دعة، بمحارب هندي تكلله أشعة الشمس، ومقارنته طائرة تقلع من مطار بتلميذ يصدق بحماس ما علمه إياه أساتذته القدامى، ومقارنته المصابيح الكهربائية إذ تئز ليلا في القاعات الرمادية بالإشارات الضوئية تبعث بها سفن تغرق. يصف زجاجيفسكي حضوره أمسية شعرية لشعراء شباب، فيتكلم عن لحظة يتلى فيها بيت فاتن، أو استعارة أو صورة تكسر التوقع، معتبرا أن أيا من ذلك كاف ليغفر كل شيء مؤقتا.
في مقالة عنوانها "البالي والمهيب" ضمن كتابه "دفاعا عن الحماسة" ينقل زجاجيفسكي عن موباسان ما يلي:
من وقت لآخر أمر بلحظات رؤية غريبة ومتوترة وقصيرة العمر من الجمال، جمال غير مألوف، مراوغ، لا يكاد يبلغه الفهم، جمال يطفو على سطح كلمات أو مناظر، تلوينات معينة في العالم، لحيظات بعينها ...
ويعلق زجاجيفسكي على هذه الفقرة قائلا إنها تصف تجربة مالوفة، ولكن تصويرها في غاية الصعوبة. ويواصل قائلا إنه "في تلك اللحظات، يخبر المرء شيئا عصيا على الفهم، يخزه وخزا، شيئا هائلا وجذريا". فيدهشني أنا حين أقرأ هذا بأنه يصدق على قصائد زجاجيفسكي نفسها. الرؤية المتزامنة للزائل والباقي، المزيج مما يتبدد ومما يبقى، تلك هي الرؤى التي تنشد قصائده تناولها المرة بعد المرة. ولقد ظلت تسيطر على ذهني وأنا أقرأ قصائد زجاجيفسكي قصيدة "اللنهاية I’Infinito " الرومانتيكية العظيمة لـ جياكومي ليوباردو. فذلك بدوره شاعر لحظات النشوة. ولزجاجيفسكي قصيدة جميلة عن سرب من السنونو يهب ـ بمعنى الكلمة ـ على كنيسة سانت كاترين في كراكو يذكرنا فيها أن هذه الطيور عاجزة أن تجوب الأرض، فهي معلقة في الجو لا تكاد تعرف غيره، ولا تكاد تعرف غير التحليق الأبدي فوق رءوسنا، ذلك التحليق الذي يتطلب ـ فيما يقول الشاعر ـ مُشاهدا فيه من القداسة بقدر ما فيه من القابلية للاهتياج. وهي كذلك تحتاج عيني المرء وقلبه، الأولى لتتعقب مسارات تلك المقذوفات السوداء في السماء، والثاني لكي لا تنطفئ فيها جذوة الحماسة، بل تزداد اضطراما:
للحظة عابرة
يتواشج قلب الناظر والسنونوات
فبينهما تعاقد نادر
أبرماه إجلالا لعالَمٍ يبدو أنه قرر
في هذا المساء من يونيو
أن يكشف أمام أعيننا
أحد أسراره الساخنة
قبل أن يحل الليل
والبعوض والجهل وحياتي المنقوصة
القلقة المؤلفة من البهجة والخوف
والسؤال الدائم الخائف المضطرب:
ترى ماذا سيحدث بعد؟
يكتب زجاجيفسكي أن "الشعراء مثل عمال المناجم/لا يراهم أحد/مختفون في الصدوع/يقيمون من أجلنا البيوت". وبعضهم يفعل هذا، فعلا. أمثاله هو، أو إيميلي ديكنسن، يؤمّنون لنا بيوتا، نمتلك مفاتيحها ما أن نقرأ قصائدهما. أولئك شعراء البحث الدائم المتوتر عن الروح، الممزقون بين الشك والإيمان بكون يبدو لهم مبهما، كل لحظة فيه، سواء كانت لحظة نشوة عابرة أو لحظة صفاء تام، قادرة أن تزيد اللغز صعوبة. أولئك شعراء يكلموننا عن العذاب والنعيم، بهمس تتردد أصداؤه في ليالينا.

نشر المقال في نيويورك رفيو أوف بوكس بتارخ 22 ديسمبر 2011 وفي شرفات اليوم

هناك تعليقان (2):

  1. جميل يا أحمد، تسلم إيدك.
    هاني السعيد

    ردحذف
  2. سعدت بقراءة المختارات أعلاه. شكرا لك.

    ردحذف