إنصاف
السوق الحرة
مارتن أونيل
ـ ثاد ويليمس
لو أنك
تعتبر نفسك من مؤيدي الليبرتارية libertarian، فقد لا تكون هناك كلمتان أشد إرهابا لك في اللغة كلها من كلمتي
"العدالة الاجتماعية".
هناك طرق
عديدة للنظر إلى العدالة الاجتماعية، ولكن الفهم الأعم لها هو أنها مطالبة
المؤسسات والهيئات الاجتماعية بتشجيع بعضها البعض على الازدهار والحيلولة دون خضوع
إحدى الجماعات لهيمنة الأخرى. هذه الرؤية للعدالة لا تتسق مع الزعم الليبرتاري بأن
لبعض الناس حقوقا "مطلقة" في التملك، حقوقا لا يمكن النيل منها حتى
بداعٍ من احتياجات الآخرين إلى نصيب من الموارد يوفر لهم الحياة الكريمة. يصر هذا
الزعم أيضا على أن يبرر لأصحاب الأملاك دونما قيد أو شرط أن يستبعدوا غيرهم من
استخدام أملاكهم، فيما يتجاوز الالتزام الضريبي الضروري للدولة في حدها الأدنى.
روبرت نوزيك |
وهذا الموقف
ـ الذي يشتهر بارتباطه بـ روبرت نوزيك Robert Nozick ـ ينكر متطلبات العدالة الأساسية: أن يحظى الأفراد (وعوائلهم)
بنصيب عادل ومناسب من الموارد، والتقدير الاجتماعي، أو بفرص تنمية قدراتهم
وتطويرها، نصيب يكفيهم ويجعل من المنطقي بالنسبة لهم أن يقبلوا بالنظام الاجتماعي
الذي يعيشون بين ظهرانيه. أمر بالغ السوء أن يعاند الحظ بعض البشر، لكن ليس من
الممكن خرق قوانين التملك بغية تحسين أوضاع هؤلاء.
ولأن نوزيك
كان كاتبا مؤثرا منتجا للكثير من الأفكار، ولأنه أكد استحالة الجمع بين السوق
الحرة والمساواة الصارمة في توزيع الناتج، فقد بقي له موقع ثابت في الجدال المتعلق
بالعدالة. ولكنه غالبا ما يتم استخدامه كمضرب للأمثلة، للتدليل على أن آراء أنصار الليبرتارية
لا علاقة لها من قريب أو بعيد بفكرة العدالة، إنما هي محاولة لعقلنة مبدأ استبعاد
الكثرة وسيطرة القلة من أصحاب الأملاك.
يأتي كتاب
"عدالة السوق الحرة" لمؤلفه الفيلسوف السياسي جون توماسي ليقدم محاولة
بارعة ودقيقة للفت النظر إلى ما غاب طويلا عن هذا الجدال: وهو مفهوم للعدالة
الاجتماعية لا علاقة له بالمساواة أو المنفعة أو الأرستقراطية، وهو برغم ذلك مفهوم
للعدالة الاجتماعية. حيث أن توماسي يرفض الآراء الليبرتارية التي تعرّف حقوق
التملكة المطلقة انطلاقا من الحق المطلق للفرد في تملك ذاته. ويرمي بدلا من ذلك
إلى إحياء ليبرالية "ف. أ. هايك" و"ملتن فريدمان" الكلاسيكية، وأن يوسع
الحوار ليشمل أفكار "جون رولز" عن المجتمع العادل، المجتمع ذي الترتيبات
الاقتصادية والسياسية المقبولة والمبررة لدى كل فرد من أفراده.
يأتي الكتاب
في لغة ودودة ونبرة مريحة يرمي منهما الكاتب إقامة جسور في اتجاهين. الأول: أن
توماسي يهدف إلى إقناع أصحاب العقلية اللبرتارية أنهم في غنى عن العدائية تجاه
فكرة العدالة الاجتماعية. ويؤكد على أن كبار اللبراليين واللبرتاريين ـ من أمثال
"آين راند" نفسه ـ أشاروا تلميحا أو تصريحا إلى ما يشبه الفكرة الرولزية
[نسبة إلى جون رولز] القائلة بأن على النظام الاجتماعي أن يكون في خدمة الجميع.
وتوماسي نفسه يقر بالزعم الرولزي الأساسي ويذهب إلى أن نقد هايك للعدالة
الاجتماعية لا يقوض جوهر المشروع الرولزي.
ثانيا، يسعى
توماسي إلى إقناع القائلين بالمساواة من اللبراليين ـ وهؤلاء قريبون من النموذج
الرولزي ويسطلق عليهم توماسي اسمم "أنصار الليبرالية العليا high
liberals" ـ والذين يعجز
فكرهم عن إدراك الأهمية المعنوية لـ "الحريات الاقتصادية". يعتقد توماسي
أن هذا العجز يؤدي بدوره إلى ربط فكرة المساواة اللبرالي بتقييم شديد المغالاة في
انتقاده للرأسمالية. والرؤية البديلة التي يقترحها الكاتب ـ أي فكرة
"ديمقراطية السوق" ـ تعتبر أن المؤسسات "الحماسية في
رأسماليتها" هي السبيل الأمثل لا إلى احترام الحريات السياسية والاقتصادية
وحسب، بل وإلى تحقيق المجتمع العادل. وهذا بشكل عملي قد يعني استخدام النظام الضريبي
لضمان عدالة الوصول إلى السلع الشعبية الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية والحد
الأدني للدخل ولكنه في الوقت نفسه يعني التخلي عن "المساواة المادية"
والسعي ـ كلما أمكن السعي ـ إلى طرق لتحقيق الأهداف الاجتماعية لا تكون للدولة
علاقة بها. وفي حين تهدف ديمقراطية السوق إلى رفع دخل الأقل دخولا بمرور الوقت،
يذهب توماسي إلى أن أفضل سبيل إلى تحقيق هذا هو السماح بتفاوتات ضخمة وبسوق حرة
قدر الاستطاعة.
وفي حين أن
نقد توماسي للمساواتية egalitarianism ودفاعه الصلب عن
الرأسمالية يثري الموقف اللبرالي الكلاسيكي ويوسع النقاش ليشمل العوامل المؤسِّسة
للعدالة، إلا أنه لا يصمد حتى النهاية.
***
رولز |
تضم نظرية
العدالة لدى رولز مبدأين. يستوجب الأول منهما أن يتمتع الكل بالحريات الأساسية.
والثاني يستوجب المساواة الحقيقية، بمعنى المساواة في الفرصة والتقليل من التفاوت
بما يعمل على تنمية جماعة المعوزين. والمبدأ الأول مقدم على الثاني.
في القلب من
محاولة توماسي لإحياء اللبرالية الكلاسيكية زعم بأنه ينبغي اعتبار الحريات
الاقتصادية حريات أساسية بقدر ما تعتبر الحريات السياسية حريات أساسية في النظام
الرولزي. والحريات الأساسية ليست مطلقة: فمن الممكن والشرعي النيل منها حمايةً
لحريات أساسية أخرى أو ضمانا لممارسة الجميع لها. ولكن ثمة قيمة معنوية كبرى ترتبط
بالحريات الأساسية، ومن ثم فينبغي على كل دعوة إلى الحد من هذه الحريات أن تصل إلى
مستويات تبريرية عليا. ويلاحظ توماسي أن رؤية رولز للحريات الأساسية تنكر على
الحريات الاقتصادية الوضعية الخاصة التي تحظى بها الحريات السياسية، فهو ينكر أن تكون حرية التبادل التجاري والحق في
الاحتفاظ بالموارد المنتجة من جملة الحريات الأساسية. فالحريات الأساسية لدى رولز
تتكون فقط من الحريات السياسية والمدنية مثل الحق في الصوت السياسي المتساوي،
والحريات الشخصية مثل حرية التنقل والإقامة وحرية حيازة ممتلكات شخصية.
في حين يبدو
أن الحريات الاقتصادية ـ بالنسبة لتوماسي ـ تتضمن حق حيازة الملكيات المنتجة، وحق
إبرام عقود تجارية لمصلحة الشخص، وتتضمن حق الشخص في بيع مجهوده بالشروط التي تصب
في مصلحته، وحقه في اتخاذ القرارات المتعلقة بمدخراته وتخطيطه المالي بعيد الأجل،
وحقه بصفة عامة في الاستفادة من نشاطه الاقتصادي. ولو تم الاعتراف بأن هذه الحريات
أساسية، فلن يكون من الممكن ـ حتى ضمن النظام الرولزي ـ النيل منها تعزيزا لمبدأ
المساواة الثانوي.
تأييد
توماسي للحريات الاقتصادية لا يضرب بجذوره في الزعم الليبرتاري الخاص بامتلاك
الذاتself-ownership ، أو النظر إلى الضرائب بوصفها سرقة، أو تبرير تقعيد [من وضع
القواعد الحاكمة] العمليات السوقية. وهو في مواضع
عديدة يعترف بالمبررات الأربع لتقعيد أعمال السوق: حماية العمال من الاستغلال،
وحماية المستهلكين، وحماية الأطراف الثالثة من أن تؤذيهم معاملات السوق، والمحافظة
على استقرار الاقتصاد أو المجتمع كله (من خلال تقعيد القطاع المالي على سبيل المثال).
قضية توماسي المتعلقة بالحريات الاقتصادية تضرب بجذورها بدلا من ذلك في
مزعميين معنويين. الأول أن النشاط الاقتصادي الحر هو تعبير أساسي عن الحرية
الإنسانية وهو ميكانيزم أساسي للتحقق الذاتي. وهو يشير كثيرا إلى مثال يضربه بمتجر
آيمي وهو عبارة عن نشاط تجاري صغير مقام خارج بروفيدنس بولاية رودآيلاند ويعني
بتوفير أطعمة الحيوانات الأليفة وترتيب التزاوج بينها. لقد استثمرت آيمي ـ والعهدة
على توماسي ـ ما هو أكثر من مالها، استثمرت وقتها وجهدها لتجعل من هذا المتجر
واقعا ملموسا وهي تعرف أن آفاق النجاح غير كبيرة أو مضمونة. وعليه فمن حقها أن
تعتز كثيرا بمشروعها وتجد بسببه حالة من الرضا عن الذات. لقد صنعت آيمي حياة لها
إذ أقامت نشاطها الاقتصادي ذلك.
يخلو كتاب "عدالة السوق الحرة" إلى حد كبير من المساءلة الجادة
للمجتمعات السوقية وكيفية عملها، ولكن هناك دعما قويا لقصة آيمي. يخلص كتاب روبرت
لين الصادر سنة 1991 بعنوان "تجربة السوق" إلى أن فائدة الأسواق
الأساسية هي ما تضفيه من إحساس بالإنجاز لدى الكثيرين، لا من أصحاب المشاريع مثل
آيمي وحسب، بل وكثير من الموظفين أيضا. يرى توماسي أن "أنصار
الليبرالية العليا" غالبا ما يقللون من
شأن الأهمية المعنوية لهذا الإحساس الرضا. ويرى أن المنظِّرين السياسيين التقدميين
تنقصهم التجربة المباشرة في عالم المشاريع، وأنهم منحازون ضد الحريات السياسية.
ولو أنهم نظروا إلى العالم بعيني آيمي ـ أو لو أنهم جربوا اتباع خطاها ولو لفترة ـ
لانتهوا ربما إلى تقديرات أكثر صحية للحريات الاقتصادية.
المزعم المعنوي الثاني لدى توماسي يقوم على أثر الرأسمالية بعيد الأجل.
فلقد أثمرت الرأسمالية ـ حسب ما يبين ـ نموا اقتصاديا هائلا ورفعت من مستويات
المعيشة في الدول المتقدمة والنمو الاقتصادي المستمر هو الوصفة الأكيدة للمزيد من
آفاق التعزيز لطبقتي العمال والفقراء الذين استفادوا بالفعل. ومن ثم فنحن ملزمون
أخلاقيا بالسعي إلى النمو الرأسمالي. وينتقد توماسي إيحاء رولز بأن اقتصادا بلا
نمو قد يسفر عن مجتمع عادل.
***
يقدم توماسي حججا مهمة لمزعميه المعنويين، لكنها حجج غير مقنعة. ولنبدأ بآيمي
وفائدة العمل في تحقيق الذات.
ما تثبته قصة آيمي أقل بكثير مما يقترحه توماسي. فلو أن ما يعنيه ببساطة هو
أن على المجتمع العادل أن يقبل ويشجع حق الأفراد الأساسي في التحكم في الملكيات
المنتجة مثل المشاريع التجارية الصغيرة فمن الممكن أن يوافقه "أنصار
الليبرالية العليا" على ذلك. إذ أن حماية
حق تشغيل مشروع اقتصادي صغير أمر يتسق مع ديمقراطية حيازة الممتلكات التي قال بها
رولز. صحيح أن رولز لم يقل بحرية الفرد الأساسية في امتلاك مورد منتج، إلا أنه كان
يؤمن بإمكانية تحقيق العدالة في ظل أنظمة ملكية مختلفة، سواء كانت رأسمالية بصفة
أساسية أم اشتراكية في طبيعتها. ولكن ضمان التوزيع الواسع لـ "السيطرة"
على الموارد المنتجة مطلب مركزي وفق رؤيته للعدالة الاجتماعية. فقد تجد آيمي الرضا
في نجاح مشروعها في المجتمع الرولزي تماما مثلما تجد الرضا في عالم توماسي القائم
على السوق الحرة.
وآيمي تعد مثالا مثيرا للاهتمام، وليس ذلك فقط لأن أنشطتها تلقى الحماية في
الإطار الرولزي، بل لأن نشاطها الاقتصادي نفسه يمثل قطاعا صغيرا يتعرض للتهديد في
الاقتصاديات الرأسمالية الحديثة. فالقالب المهيمن من قوالب التنظيم الاقتصادي
اليوم ليس النشاط الاقتصادي الصغير بل الشركات هائلة الأحجام. ولكن هل يجب أن يكون
ثمة افتراض عام يؤيد حق الشركات الكبرى في إبرام التعاقدات أيا كانت، ولو أن الأمر
كذلك، هل لا بد من حماية هذا الحق باعتباره من جملة الحريات الأساسية؟ هذا ما لا
يتعرض له توماسي، لكن من الواضح أن الدفاع عن حق آيمي في تشغيل مشروعها الخاص لا
يستلزم أن تكون للشركات الكبرى حقا قويا في الحد الأدنى من التقعيد.
وقصة آيمي مضللة أيضا لأنها تقتصر على تجربة صاحب المشروع الصغير. فماذا عن
العامل في الشركة الضخمة؟ إن العمال ذوي الياقات الزرقاء في المشاريع الصناعية
يشعرون أيضا بالرضا الناجم عن منجزاتهم الاقتصادية ومقدرتهم على خلق حياة لأنفسهم
ولأسرهم ولمجتمعاتهم. وتوماسي يخطّئ المنظرين السياسيين في اليسار لعدم معرفتهم أو
تعاطفهم مع تجارب كتجربة آيمي، ولكن كتاب "عدالة السوق الحرة" لا يكاد
يقدم ما يثبت أن لتوماسي معرفة أو تعاطفا مع العمال العاديين وتجاربهم المعنوية.
بل إن الكاتب يثبت قدرا أقل من المعرفة بأساليب الشركات الكبرى في تدمير مجتمعات
الطبقة العاملة من خلال إغلاق المصانع وتقليص الأجور وتوفير ظروف عمل رديئة.
لقد كانت المساومة الجمعية تاريخيا من بين الوسائل الأساسية التي استطاع
بها العمال أن يقتطعوا لأنفسهم قطعة من الفطيرة الرأسمالية، وبناء عليه ألا ينبغي
أن يكون هناك حق أساسي للتنظيم داخل مكان العمل؟ إن الاعتراف بحق كهذا يتعارض
فوريا مع التزام توماسي بحماية حق الأفراد الأساسي في التفاوض على عقودهم: فالعقود
النقابية تكون بلا حول ولا قوة إذا هي لم تشمل كل العاملين في شركة. كما أن من شأن
حق التنظيم أن يثير أسئلة شائكة حول كيفية معالجة الصراعات بين مزاعم أشخاص كآيمي
ومزاعم العمال الراغبين في المساومة جماعيا.
وثمة صراع آخر ينشأ بين مزاعم آيمي ومصالحها ومزاعم ومصالح الكيانات الاقتصادية
الأكبر مثل وول مارت Walmart. فلقد أفضى توسع وول مارت عبر القارات إلى تخريب
وتدمير حياة ومنجزات العديد من المشاريع الصغيرة المستقلة. فلو أن آيمي وأمثالها
دليل على المنفعة المعنوية التي يمكن أن تجلبها الأسواق، فلا بد إذن من تقعيد
وتدخل [من الدولة] لحمايتهم من التعرض بشكل منظم للخروج من السوق بدفع من الشركات
الكبرى القادرة على غزو الأسواق المحلية بأسعار أرخص. والحق أن القيمة المعنوية
للرأسمالية والمطلب الرأسمالي بتحرير الأسواق من القواعد لا يمكن أن يكونا رفيقين
طبيعيين، بل هما ببساطة أمران متعارضان.
وهكذا يبدو توماسي أسير صورة جذابة ولكنها غير واقعية للمنتجين المتحققين
الممارسين لحرياتهم الاقتصادية بغية أن يقيموا لأنفسهم مكانا في العالم. ولكن هذا
ما لا نكاد نحصل عليه إلا لماما حينما نحرر الأسواق من القواعد. وهو ما يكون ـ في
حقيقة الأمر ـ أكثر اتساقا مع تصورات "أنصار الليبرالية
العليا" للعدالة الاجتماعية التي يختلف معها توماسي. وهكذا ففي
حين يرغب توماسي في الترويج لرؤية التنظيم الاقتصادي اللبرالية الكلاسيكي التي
يتبناها، تدفع قوة رؤيتة المعنوية في اتجاه مغاير بالكلية.
إن أي نظام يهدف إلى تقعيد علاقة التوظيف أو العلاقة بين صغار المنتجين
وكبارهم في السوق سوف يشتبك بالضرورة مع غابة من القضايا المعقدة الشائكة. ونحن
نشك أن هذا كان من بين الأسباب التي دعت رولز إلى استبعاد الحريات الاقتصادية من
قائمة الحريات الأساسية. لقد كان رولز واعيا بالقيمة المعنوية للنشاط الاقتصادي
المستقل، ولكنه رأى أن التشريعات المعنية بوضع سياسة اجتماعية ملموسة هي المكان
المناسب لإحداث توازن بين الحقوق الاقتصادية والمصالح التنافسية الأخرى. وبالمثل،
ما دامت السلع التي يمكن للمجتمع الرأسمالي أن يقدمها ـ نعني سلع الرضا والتحقق ـ
تتوفر من خلال ميكانزمات مؤسسية (بعضها
فردي، بعضها جماعي) يكون ثمة منطق قوي ضد التمييز المعنوي لحرية مالك المشروع
الصغير.
***
وماذا عن مزعم توماسي الثاني بأن الرأسمالية رفعت مستوى معيشة العمال بل
والفقراء (نسبيا)؟ العمال في الدول النامية ـ الذين يتم استغلالهم لحساب الدول
المتقدمة في ظروف عمل أقرب ما تكون إلى العبودية في بعض الأحيان ـ قد يعترضون على
هذا الزعم، ولكن من الممكن تفنيد الزعم أيضا داخل الإطار المحلي بثلاثة طرق على
الأقل.
أولا، في الولايات المتحدة، تم تأمين هذه المكتسبات
الاقتصادية بينما كان القطاع العام ينمو دراماتيكيا. في عام 1930 بلغ الإنفاق
الفدرالي 3.4 في المائة من إجمالي الناتج الوطني. في 2008 بلغ 21 في المائة. كانت
قوانين العمل تشجع على تكوين الاتحادات والنقابات في الفترة من أواسط ثلاثينيات
القرن العشرين وحتى سنوات حكم ريجان، ونشأت دولة الرفاة جنب إلى جنب نظام ضريبي
تقدمي منصف، ولعبت الحكومة دورا رئيسيا في تطوير تقنيات جديدة ومهمة مثل الطائرات
الحديثة والكمبيوتر. وهذا سبب وجيه يدعونا إلى التفكير في أن هذه التغيرات ساعدت على
استقرار الرأسمالية في مواجهة نكسات وفترات كساد متواترة، وأن هذه التغيرات حسَّنت
كثيرا من أوضاع الطبقة العاملة. ولا ينبغي أن يوعز النمو الاقتصادي الأمريكي إلى
الرأسمالية وحدها على الإطلاق، بل إلى اقتصاد مختلط يحتوي على جرعة كبيرة من نشاط
القطاع العام والتقعيد الاقتصادي.
ثتنيا، مع تراجع الاتحادات ـ وليس ذلك لتراجع اهتمام العمال بحسب ما يزعم
توماسي وإنما بسبب تكتيكات عدائية مناهضة للعمال ـ ازداد إنفاق الشركات لأغراض
سياسية، وتجمد النمو الاقتصادي بالنسبة للطبقة العاملة والفقراء في الولايات
المتحدة تجمدا واضحا. فلم يرتفع أجر الساعة بالنسبة للعامل المتوسط ـ منذ أواسط
السبعينيات ـ إلا بمقدار عشرة في المائة، برغم أن إنتاجية العمال زادت اليوم بنسبة
ثمانين في المائة عما كانت عليه في عام 1975. أما معدل الفقر الرسمي، وبعد انخفاضه
إلى النصف في ستينيات القرن الماضي، فقد أصبح اليوم أعلى عما كان عليه في مطلع
السبعينيات. هذا وتسوء الأوضاع في بيئة العمل، ويسوء الأمن الاقتصادي، لا سيما في
أوساط غير الحاملين للشهادات الجامعية. وارتفع التفاوت ارتفاعا متسارعا: حيث أن
عشرة في المائة كانت تحصل على مائة في المائة من إجمالي نمو دخول العائلات فيما
بين 1970 و2008، في حين أن واحد في المائة فقط تحصل على أكثر من نصف المكتسبات فيما بين 1993 و2010.
إن المجتمعات السوقية ـ وإن أحدثت نموا اقتصاديا ـ لا تفضي بصورة آلية إلى
تحسينات مستمرة في الأوضاع الاقتصادية للنصف الأدنى من السكان (بل للتسعين في
المائة الأدنى منهم). والرأسمالية لا تعمل لصالح الفقراء إلا عندما تكون القواعد والقوانين
فعالة ومانعة للشركات الكبرى من قلب قواعد اللعبة لصالحها. ومع تراجع مقدرة
الحكومة على تحجيم الشركات والأثرياء، تراجعت أوضاع الفقراء الاقتصادية.
ثالثا، حتى إذا كان كل فرد يستفيد من النمو الاقتصادي، يبقى ثمة سبب للشك
في أن النمو اللامحدود يفضي إلى تحسن لامحدود في الوضع البشري. فبعد تحقيق الحد
الأدنى من الأمن الاقتصادي، يظل أغلب الناس لا يجدون أنفسهم أكثر سعادة بفضل
الدخول الأكثر ارتفاعا. فما يريدونه بدلا من الدخول الأكثر ارتفاعا، هو مزيد من
الوقت لأصدقائهم وعائلاتهم، وهو ما يضفي المعنى على حياتهم. وحسب ما يوضح لين في
"ضياع السعادة في الديمقراطيات السوقية (الصادر سنة 2000 ، يضحّي كثير من الناس في الدول المتقدمة بسعادتهم
وبأصحابهم بغية المزيد من الدخل.
لعل كل هؤلاء الناس يختارون بحرية أن يعملوا أكثر مما ينبغي. ولكن هذا غير
محتمل. أما التفسير الأرجح فهو أن كثيرا من العمال لا يستطيعون أن يكسبوا كفايتهم
ما لم يعملوا أكثر مما ينبغي. ولأنه لا توجد دوافع كافية تحفز الشركات على تقديم
شروط عمل أكثر سخاء، فالعمال ليسوا أحرارا في العثور على ثلاثين ساعة عمل في
الأسبوع بأجر مكافئ ومواعيد مرنة. وإن التركيز على الحريات الاقتصادية الفردية
يشتت الأنظار عن قضية ذلك الذي يضع قائمة الاختيارات المتاحة أمام العمال
العاديين. وفي حين تزداد المجتمعات ثراء من حيث السلع، وفقرا من حيث الوقت، تكون
ثمة أسباب وجيهة لأن تقوم كل من العدالة الاجتماعية والعقلانية الاجتماعية بإعادة
هيكلة قواعد الأسواق والتوظيف بحيث يكون العمال العاديون أكثر حرية في إيثار الوقت
على المال.
يرفض توماسي الزعم القائل بأن مراعاة العدالة الاجتماعية يستوجب السعي إلى
المساواة الحقيقية في التوزيع. وهو بدلا من ذلك يقول بمعيار أضعف كثيرا هو
"كفاءة التوزيع"، حيث ينبغي لكل فرد في المجتمعات السوقية أن يستفيد من
الترتيبات الاقتصادية والسياسية، فإن تحسنت أوضاع الجميع، فلا غضاضة في أن يكون
البعض أفضل من البعض. وفي مقابلة صارخة مع رؤية توماسي، يبين روبرت فرانك ببراعة
في كتابه الصادر سنة 2011 بعنوان "الاقتصاد الدارويني" السبب الذي
يدعونا إن كنا مهتمين بتحقيق الرفاهية للجميع إلى القلق من تفاوت الثروات والدخول
حتى إذا حقق المجتمع حدا أدنى من كفاءة التوزيع وهو ما ليس حاصلا الآن على أية
حال.
يلفت فرانك النظر إلى "سلع المكانة positional goods " وهي بطبيعتها نادرة. هذه
السلع تتضمن مقاعد الصفوف الأولى في المسابقات الرياضية، والمساكن المقامة على
السواحل، والممتلكات العقارية قرب الميادين، وفرص الالتحاق بجامعات النخبة الخاصة،
وامتلاك المرء بيتا أكبر من بيوت جيرانه. وندرة هذه السلع هي التي تجعلها وثيقة
الصلة بالنقاشات المتعلقة بالعدالة.
في سياق التفاوت المعتدل، لن يكون بوسع أحد أن يحتكر كل هذه السلع
المختلفة. سوف يتسنى لبعض الناس شراء أفضل التذاكر في المباريات الرياضية، وللبعض
شراء المنازل المقامة على السواحل، ولكن أحدا لن يستطيع أن يستولي وحده على كل
شيء. أما في سياق التفاوت اللامحدود، فسوف يتسنى لشديدي الثراء أن يحتكروا كل هذه
السلع النادرة ـ ومن بينها السلع التي تمثل قمة الأولويات الشخصية. فجماهير كرة
السلة المتحمسون الذين يتنفسون هذه اللعبة لا يملكون من الدخول ما يكفيهم للحلم
بالجلوس يوما على مقربة من الملعب (بل إن كثيرا منهم سوف يكون محظوظا إن هو استطاع
حضور مباريات في الملعب من الأساس). ولن يحل بدلا منهم فقط الذين يماثلونهم في
شغفهم ولكنهم يزيدون عليهم ثراء، بل سيحل بدلا منهم أشخاص ربما لا تعنيهم كرة
السلة أصلا.
يبين فرانك كيف أن التفاوت المتطرف
يؤدي إلى حالة غير منطقية من الإنفاق، فلأن للناس اهتماما بالمكانة والوضع
الاجتماعي، فإن لهم اهتماما بالحصول على نصيب كبير نسببيا من السلع التي تدل على
علو الشأن، حتى وإن لم يكن في امتلاك هذا النصيب الكبير أي نفع. والمثال الأثير
لدى فرانك هو حجم البيت. فالناس لا تريد مجرد بيت كبير بما يناسب احتياجاتهم
ورغباتهم، بل يريدون بيتا أكبر مما لدى أغلب الناس. وفي حين يكسب الأثرياء المزيد
والمزيد من الأموال، يقيمون الأكبر والأضخم من المنازل. وهو ما يضيف بدوره عبئا
على الجماعات الأدنى منهم دخولا، فتقوم بدورها بإقامة منازل أكبر. والحق أن الشك
يحيط بفكرة أن البيوت الأكبر تمنح ساكنيها مزيدا من السعادة. فالشخص الذي يقيم
بتكلفة 6 ملاين دولار منزلا أكبر من منزل جاره البالغة قيمته 5 ملايين دولار كان
سيكون راضيا بنفس القدر لو أنه يعيش في بيت تبلغ قيمته 3 ملايين دولار لو أن جاره
يعيش في بيت تبلغ قيمته 2.5 مليون دولار.
كل تلك الملايين التي يتم إهدارها على المنازل الفاخرة لا تجعل الناس أكثر
سعادة، وكان يمكن أن ينتفع بها المجتمع لو تم توجيهها إلى الفقراء والعمال وأبناء
الطبقة الوسطى الذين طردوا من منازلهم لما عجزوا عن تسديد أقساط الديون التي
اشتروها بها. من الواضح إذن أن النظام الاقتصادي السياسي القائم لا يصب في صالح
الجميع.
***
توماسي |
يصيب توماسي الحق حينما يقول إن المجتمع العادل ينبغي أن يسمح بالسيطرة
الخاصة على رأس المال المنتج، لكن استنتاجه من ذلك أننا لا بد أن نتبنى الرأسمالية
المطلقة بلا قواعد هو استنتاج خاطئ. فالسلع المعنوية من قبيل ممارسة الحرية في
الأنشطة السوقية ستكون أكثر توفرا في ظل النظام الرولزي القائم على ديمقراطية
حيازة الممتلكات منها في ظل رأسمالية لا تخضع إلا للحد الأدنى من القيود بحسب ما
يقترح توماسي.
عن بوسطن رفيو
نشرت الترجمة صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق