الجمعة، 3 فبراير 2012

لما كنا نسهر طول الليل مع الأفلام



تشارلز سيميك
تشارلز سيميك


قبل سنوات اشتريت دليل هوليول السينمائي الذي يحتوي آلاف الأفلام ابتداء من عهد السينما الصامتة، والذي لا يقتصر على تقديم أسماء الممثلين والكتاب والمخرجين والمنتجين، بل ويقدم ملخصاات حكائية ومقتطفات من مقالات نقدية كتبت عن هذه الأفلام. كنت أخطط أن أستخدم هذا الدليل للتعرف على الأفلام القديمة التي يعرضها التليفزيون أو المتاحة في متاجر الفيديو، وفعلت ذلك فعلا من وقت لآخر. غير أنني بين الحين والآخر كنت أجده هنا أو هناك فأفتحه عشوائيا وأبدأ في قراءته، مشدودا في أغلب الحالات باسم فيلم يتعذر عليَّ أن أقاومه، خاصة حينما يكون العنوان من قبيل "الاتصال بطبيب الموت" أو "جزيرة الخطايا المنسية" أو "حجة غياب عارية"، أو "الحذر والقرص" والذي تتناول أحداثه قيام "فتاة بوضع أقراص الأسبيرين لأمها بدلا من أقراص منع الحمل مما يفضي إلى تعقيدات لا نهاية لها". وذات مرة أذهلني أنه من كل اثني عشر أو خمسة عشر فيلما في كل صفحة من هذا الكتاب، هناك على الأقل فيلم واحد شاهدته، ومرات عديدة في الغالب.
حتى حين لم يكن العنوان يعني لي أي شيء للوهلة الأولى، فإن الملخص الحكائي وأسماء بعض الممثلين كانت تثير لديَّ ذكريات عتيقة، وكنت أرى نفسي متكورا على نفسي في سينما معتمة، هاربا من المدرسة، أو شاعرا بملل قاتل ـ حينما أصبحت أكبر سنا ـ وأنا أشاهد فيلما بريطانيا اسمه "ظل القطة". وصدمني الكشف صدمة حقيقية فسألت نفسي: لو كنت رأيت فعلا كل تلك الأفلام، فكيف كنت أجد الوقت لأنام وآكل وأقرأ الكتاب وأعلم الطلبة وأربي أولادي  وأكتب مئات القصائد؟ قضيت من حياتي ـ مثل ملايين غيري ممن نشأوا في أربعينيات القرن الماضي ـ وقتا لا بأس به أبدا في مشاهدة المئات والمئات من الأفلام، مشاهدة كل شيء، من الروائع الأصيلة إلى الزبالة السينمائية التي لا قيمة لها.
باستر كيتون

 وذلك ذنب أبوي. فقد كان كلاهما يحبان الأفلام. ومن أقدم ذكرياتي في بلجراد التي نشأت فيها في زمن الحرب العالمية الثانية أني ذهبت إلى السينما لحضور فيلم لـ باستر كيتون. ما كان بوسع الدبابات النازية أو الروسية أن توقف أمي عن الذهاب إلى السينما واصطحابي معها، برغم أنني لا أستطيع أن أتخيل أنه كان ثمة عروض دورية في ظل قصف الحلفاء قنابلهم فوق رءوسنا تقريبا وفرض الألمان حظر التجوال في الليل. وكانت شكواي الوحيدة هي أنها كانت في الغالب تأخذني إلى أفلام للكبار يتكلم فيها الممثلون بلا نهاية، بينما أنام أنا وأصحو، وأغفو، لأفيق فجأة في منتصف الفيلم على صورة بالأبيض والأسود فيها مثلا ـ  رجل وامرأة مسافران في سيارة في طريق سريع وخاو، بحر يضرب الصخور تحت سماء مليئة بغيوم متراكمة، أو صورة أكثر إثارة لكلب يطارد ديكا. حتى يومنا هذا لا يزال رأسي ملآن بشذرات بصرية من هذا النوع، منها العادي ومنها الاستثنائي، لكنها جميعا تمثل ألغازا دائمة بانفصالها عن حبكاتها ومن ثم بوجودها خارج الزمن. في وقت كانت الأفلام فيه لا تكاد تلقى أي منافسة في استيلائها منفردة تقريبا على عالم أحلامنا.
لطالما استغربت من ندرة ما قاله كتاب جيلي وشعراؤه وكتاب الجيل الأكبر من جيلنا قليلا وشعراؤه عن تأثير الأفلام على أعمالهم، بل وعدم اعتراف الكثيرين بأننا ما عرفنا العالم أول ما عرفناه إلا من الأفلام. فبفضل الأفلام عرفنا نيويورك وباريس ولندن وعشرات غيرها من المدن والبلاد للمرة الأولى. خضنا مئات الحروب، تقارعنا بالسيوف مع الفيالق الرومانية وفرسان القرون الوسطى، تلاكمنا في الحلبات، وتطاعنا بالسكاكين في الحواري المظلمة، وهربنا من الملاجئ، والسجون والعصابات، وقابلنا الأشباح والكائنات الفضائية، عُلِّقنا من رقابنا، وتلقينا رصاص كتائب الإعدام، ونلنا العفو في الدقيقة الأخيرة قبل أن تهوي علينا المقصلة أو تسري الكهرباء في كرسي الإعدام. رقصنا مع فريد أستير وجينجر روجرز، مضينا إلى الفراش بعد ساعات من المقامرة مع مجرمين وعاهرات، تعاطينا الأفيون في هونج كونج، وعملنا جواسيس، ومفتشين سريين، ورعاة بقر، هربنا أمام جنكيز خان، ونابليون ، وهتلر، واصطدنا النمور والجاموس الوحشي، استكشفنا الأدغال، والصحارى، واليباب القطبي. وكل ذلك في ثنايا مشاوير بعثتنا فيها أمهاتنا وجداتنا، ومذاكرة وواجبات مدرسية، ولعب وقتال في الشارع مع أطفال الحي الآخرين.
رقصنا مع فريد أستير وجينجر روجرز

حدث في تسعينيات القرن الماضي أن تلقيت مكالمة هاتفية مثيرة من محرر صحيفة في أوربا. سألني إن كان يمكن أن أتذكر أول فيلم شاهدته وأعجبني وأنا طفل، لا بسبب قصته، بل بسبب شيء آخر فيه، شيء لم أكن أملك في ذلك الوقت من الكلمات ما أعبره به عنه. وبدون أن يكون ذلك الأمر قد خطر على ذهني من قبل، عرفت بالضبط ما في ذهن ذلك المحرر. تذكرت على الفور محاولتي أني أشرح لاثنين من أصحابي في بلجراد ما أعجبني في "لصوص الدراجات" لـ فكتوريو دي سيكا، فإذا بي أقول كلاما مفككا، على الأقل من وجهة نظرهما، وفي حدود اهتمامهما. كان كلاهما مثلي من أشد المعجبين بأفلام الغرب والعصابات، ولكن كان هناك نقص في تلك الأفلام في بلجراد في سنوات الشيوعية بعد الحرب حيث لم يكن لنا خيار إلا بين الأفلام السوفييتية المبهجة عن النضال ضد النازيين وإقامة الشيوعية أو الأفلام الإيطالية والفرنسية المنتمية إلى الواقعية الجديدة والتي كانت تحاول أن تلقننا دروسا بإظهارها مدى بؤس الطبقات العاملة في العالم الرأسمالي.
اليوم الذي شاهدت فيه "لصوص الدراجات" هو اليوم الذي تحولت فيه إلا استاطيقي دون أن أعرف، تحولت إلى شخص تعنيه كيفية تنفيذ الفيلم أكثر مما تعنيه القصة وانحرافاتها وتعقداتها. فجأة، باتت تهمني كثيرا الطريقة التي تتحرك بها الكاميرا، والتي يتم بها تقطيع المشهد، والتي يتم بها تأطير صورة معينة. كنت أستلقي في السرير بالليل معيدا بعض مشاهد الفيلم المرة بعد الأخرى، جاعلا هذه المشاهد أكثر إثارة، أو ايروتيكية، أو شعرية بالطبع، ومحققا من ذلك لذة لا حدود لها. ولا عجب أن بدأ زملائي يرونني شخصا غريبا بعض الشيء فيما يتعلق بالأفلام. كنت في الثانية عشرة، لا أعرف شيئا عن أغلب أمور الحياة، ولكنني أحمل في رأسي مكتبتي الخاصة والحصرية والممتلئة بالأفلام، صحيح أنها ليست في امتلاء دليل هوليول السينمائي، ولكنها شاسعة بالقدر الكافي لاحتلالي وإثراء حياتي الداخلية كلما كنت أستلقي في سريري سهران بالليل.

مدونة نيويورك رفيو أوف بوكس في 18 يناير 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق