السبت، 5 أبريل 2014

اكتب ما تعرف .. نصيحة مفيدة أم كليشيه مبتذل؟

اكتب ما تعرف .. نصيحة مفيدة أم كليشيه مبتذل؟

***

اكتب ما تعرفه بحق

زو هيلر

 

كنت لم أزل تلميذة في الابتدائي حينما صادفت المثل السائر عن كتابة المرء ما يعرفه. جاء ذلك المثل في نهاية الملاحظات اللبقة التي أبدتها معلمتي حول قصة قصيرة كتبتها عن قاطع طريق في القرن الثامن عشر. وفي ضيق من رد فعلها الفاتر رفضت النصيحة دونما تفكير. وحدثت نفسي قائلة: يا له من سخف! يا لها من حدود خانقة! وماذا عن الخيال العلمي؟ وماذا عن الفنتازيا؟ وماذا عن أي كتابة ترحل إلى ما وراء جنس كاتبها أو عرقه أو عمره؟

ومضت عقود عديدة، وخفت قليلا الألم الذي أحدثته معلمتي بانتقاداتها، وبت أرى قليلا مما كانت ترمي إليه.

الغلطة الأولى التي وقعت فيها وأنا تلك التلميذة هو أنني افترضت أن المعلمة طلبت مني ألا أكتب إلا عن أشياء وقعت لي. والحق أن الوصية تتعلق فقط بما أعرف، أما مسألة وصولك إلى المعرفة فتركت مفتوحة تماما. لك أن تنقب في حياتك، طبعا. ولكن لك أيضا أن تراقب بتعاطف حيوات الآخرين. يمكنك أن تقرأ وتبحث. ولك أن تستعين بخيالك. وما يعرفه الكتاب الجيدون عن مواضيعهم يكون في العادة مستمدا من مزيج من هذه المصادر.  ويمكنني أن أقول آمنة مطمئنة إن مشكلة قصة قاطع الطريق التي كتبتها وأنا تلميذة تتمثل في أنني لم أعتمد على أي شيء من هذه الأشياء. لم يكن يلزم طبعا أن أكون سطوت بنفسي على قطار، لكن كان يلزم قطعا أن أرهق نفسي فأكتشف أو حتى أتخيل ما الذي يعنيه السطو على قطار.

الغلطة الأخرى التي وقعت فيها، وهي غلطة أدق كثيرا ظللت أقع فيها لوقت طويل بعد ذلك، هي أنني كنت أفترض أن ترجمة المعرفة المستقاة من التجارب المباشرة إلى أدب مسألة بسيطة مباشرة بل وتافهة. يحتاج أغلب الكتاب في واقع الأمر إلى عمل شاق وكثير من البدايات الزائفة قبل أن يجدوا أنفسهم في وضع يسمح باستخلاص الأكثر قيمة وإثارة من وسط سيرهم الذاتية.

في "لغز الوصول" يصف "في إس نايبول" زخم الرحلة التي قام بها قبيل عيد ميلاده الثامن عشر من ترينيداد إلى إنجلترا. بدا أن تلك الرحلة الطويلة ـ من ميناء أسبانيا إلى بورتو ريكو إلى نيويورك جوا ومن نيويورك إلى ساوثهامتن بحرا ـ وفرت له مادة ثرية للكتابة، فكتب بحماس ملاحظاته في يوميات خاصة، يوميات كاتب. ولكنه بعد سنين عندما أعاد النظر في دفتره، وجد أنه استأصل من تلك الوثيقة العناصر الأكثر إثارة مما رآه وشعر به، معتبرا أنها غير أدبية بالقدر الكافي، ولم يبق إلا على ما بد له كاشفا عن شخصية الكاتب "الفصيحة العارفة غير المندهشة" التي كان يسعى إليها. وداع الأسرة له في مطار ميناء أسبانيا، ابن العم الذي انتحى به جانبا وأسر إليه بضرورة أن يجلس في مؤخرة الطائرة فـ "هناك أكثر أمنا"، المشاجرة على متن السفينة، عندما اشتكى الأسود الذي كان يقيم معه في قمرته من أنهما رميا في هذه القمرة معا لأنهما "ملونان" ـ جميع تلك المشاهد كانت غائبة، غياب أي اعتراف منه بإحساسه بالوحدة، بالذعر، أو بأنه مجرد ولد "خام". في حين أن ما سجله لم يعد وقائع ونتفا من حوارات بدا له أنها تعزز فكرته عن عالم الكبار، الفكرة التي استخلصها من الكتب والأفلام. "وهكذا، وخلال سفري من أجل الكتابة، وتركيزي على تجربتي، ولهفتي على التجربة، حلت بين نفسي والتجربة، واستبعدت التجربة من ذاكرتي".

وذلك ما يفعله أغلب الكتاب في مرحلة أو أخرى من مراحل حياتهم الكتابية بسبب الحياء أو العناد أو الخوف من الانكشاف: مارسوا الرقابة على أنفسهم دونما وعي فرموا القمح ظانين أنه التبن الذي لا يصلح للأدب. وبهذا المعنى، فإن النصيحة التي تذكرنا بكتابة ما نعرف فعلا، بدلا من النسخة المبتسرة الداعية إيانا إلى أن نكتب ما نعرف وحسب، تبقى نصيحة مهمة، ليس فقط لفتاة في الحادية عشرة من عمرها، بل للكتاب من كل الأعمار.

 

زو هيلر روائية لها ثلاث روايات: "كل ما تعرفه"، "ملاحظات حول فضيحة" وهذه وصلت إلى قائمة البوكر القصيرة وتحولت إلى فيلم، و"المؤمنون". تكتب المقال وتكتب في النقد الأدبي لعدد واسع من الإصدارات مثل نيويوركر، نيو ريببليك، ونيويورك رفيوأوف بوكس.

***

الحكي يغير الحكّاء


محسن حامد

غالبا ما يسمع الكتاب، لا سيما الشبان منهم، نصيحة نصها "اكتب عما تعرف". وهذا مفهوم. فبعض من أفضل ما كتب من الأدب على الإطلاق يبدو متبعا لهذه النصيحة.

انظروا مثلا إلا رواية "مسألة شخصية" لـ "كينزابورو أوي" الصادرة سنة 1964، وتحكي حكاية رجل ولد له ابن مصابا فيما يبدو بمرض في المخ، فتتداعى حياة بطلنا، ويفكر في قتل ولده. في عام 1963، كان ابن كينزابورو أوي قد ولد مصابا بمرض في المخ. ومن ثم يبدو أن أوي كتب فعلا عما كان يعرفه، وبلغ من ذلك مبلغا  مدمرا.  قرأت الرواية للمرة الأولى منذ عشرين عاما، فلم أنسها منذ ذلك الحين. وهي الرواية المذهلة في صدقها وإنسانيتها. ولقد تركت أثرا على تجربتي أنا في الأبوة، فنزعت عنها ما علق بها من أساطير بينما جعلت من العادي فيها ثمينا مبهرا.

أما "صانع النجوم" لـ "أولاف ستايبلدن" في المقابل فتبدو حالة مؤكدة لكتابة المرء ما لا يعرفه. فما من خبر مسجل برحيل ستايبلدن عن الأرض، وتنقله في الفضاء وعيا منفصلا يصادف أشكالا أخرى من الحياة والحضارات ويختلط بها بل ويلتقي بالنجوم وأخيرا بالكون نفسه. ولكن ذلك على وجه التحديد ما يفعله بطلنا في الرواية الصادرة سنة 1937 لتكون واحدة من أعظم ما كتب من خيال علمي على الإطلاق. فما يصل إليه ستايبلدن، بل ما يلمسه لمسا، هو شيء لا نجد وصفا أفضل له من الإلهي. ومنجزه في هذه الرواية مذهل في خياله وقدرته على التقمص.

 قد يكون دي إن آيه الأدب ـ شأن دي إن آيه البشر ـ لولبا مزدوجا، كائنا ثنائي الجديلة. فجديلة تولد مما خبره الكتاب أنفسهم. والأخرى مما يود الكتاب لو أنهم يخبرونه، من الدافع إلى أن تكتب لتعرف.

يأتي الأدب إلى الوجود عندما ترتبط الجديلتان معا. فرواية "مسألة شخصية" تختلف في عناصر محورية مع حياة أوي: إذ عندما نعرف في نهايتها على سبيل المثال شيئا عن حالة الطفل يتغير إحساسنا بما قرأناه من قبل. أما "صانع النجم" فملحمة موضوعها هو إمكانية العثور على الوحدة قبيل اندلاع صراع كوني، ولا يمكن إلا أن تكون هذه الملحمة نابعة من تجربة ستايبلدن الخاصة وهو الذي عاش في أوربا بعد الحرب العالمية الأولى وعلى شفا الثانية.

في كتابتي أنا، أعي أن أربط الجديلتين. وحينما يسألني أحد أجيب في العادة بأنني لا أقوم بالكثير من البحث قبل التصدي لرواية، بل أعيش حياتي وحسب. (وذلك ما حدا بشخص في محاضرة ألقيتها في كاراتشي السنة الماضية أن يسألني: كيف إذن كتبتَ كل مشاهد تعاطي المخدرات تلك في "دخان الفراشة"؟ فما كان مني إلا أن قلت له: أمممممم ...).

ولكنني أكتب أيضا عن أشياء لم أخبرها بنفسي. فقد كتبت من وجهة نظر امرأة، ومن وجهة نظر نظام مراقبة عالمي، ومن وجهة نظر كاتب يتعرض للإعدام. وأنا ما أكتب هذه الأشياء إلا رغبةً مني في تجاوز تجربتي. أريد أن أتجاوز ذاتي. فالكتابة ليست مرآة لي وحسب إنما هي أيضا أداة إسقاطي. وأعتقد أن هذه هو حالها مع الجميع.

في النهاية، ما نعرفه ليس سلعة ثابتة. بل هو يتغير عند الكتابة عنه. الحكي يغير الحكّاء. والقصة يغيرها الحكي.

الذات الإنسانية قوامها القصص. وهذه القصص تضرب ببعض جذورها في التجربة، وببعضها في الفنتازيا. وقوة الأدب تكمن في مقدرته على النظر إلى ظرف الوجود الغريب الذي نعيشه، متيحا لنا أن نتلاعب بمأزقنا فنؤلف أنفسنا ونحن نفعل ذلك.

أجسامنا آلات بيولوجية معقدة. وطالما هي حية، فهي تخلق عن نفسها قصة تتمكن بها من العمل. هذه القصة هي ما نسميه الذات. ونحن نؤمن بواقعية القصة. ونؤمن أن القصة تسيطر على الآلة. غير أن ثمة ما يذكرنا طول الوقت بأن الأمور ليست على هذا النحو من البساطة. فنحن نفعل في بعض الأحيان أشياء لا تتسق مع قصصنا، وتكون في بعض الأحيان أشياء رهيبة. فحين نفعل ذلك يقول الواحد منا "إنني لم كن ذاتي".

الكتابة هي الفرصة التي تسنح لهذه القصص أن تتسق معنا. فاكتبوا عما تعرفون. واعلموا أنكم أيضا كتابة تكتب.

 

محسن حامد روائي له ثلاث روايات: "دخان الفراشة" التي وصلت إلى نهائيات جازة همنجواي/بن، و"الأصولي الممانع" وكانت من أكثر الكتب رواجا في قوائم نيويورك تايمز ووصلت إلى قائمة مانبوكر القصيرة وتحولت إلى فيلم، وأخيرا "كيف تصبح ثريا قذرا في آسيا الناهضة".

 

نشر أصلا في نيويورك تيامز واليوم  نشرت الترجمة في جريدة عمان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق