الثلاثاء، 21 فبراير 2017

حوار إيتالو كالفينو في باريس رفيو


ثلاث مقدمات لحوار مع إيتالو كالفينو

عندما سمع [الكاتب الأمريكي] جون أبدايك بوفاة إيتالو كالفينو في سبتمبر من عام 1985، قال إن "كالفينو كان كاتبا لطيفا بقدر ما كان عبقريا. ولقد سبق بالقص إلى أماكن جديدة لم يصل إليها من قبيل، وارتد به إلى منابع السرد الرائعة العتيقة". وفي ذلك الوقت كان كالفينو هو الكاتب الإيطالي البارز الذي وصل أثر رواياته وقصصه الفنتازية بعيدا إلى ما وراء البحر المتوسط.
قبل ذلك بعامين، كانت مجلة "ذي باريس رفيو" قد كلَّفت وليم  ويفر بإجراء حوار  مع كالفينو ينشر ضمن سلسلة حوارية بعنوان "الكاتب أثناء عمله"، وويفر هو مترجم كالفينو التاريخي إلى الإنجليزية. غير أن ذلك الحوار لم يكتمل قط، وإن أعاد ويفر كتابة مقدمته في الفترة الأخيرة على سبيل التأبين. ولكن باريس رفيو اشترت لاحقا تفريغ حوار متلفز مع كالفينو (من إنتاج وإخراج دميان باتيجرو وجسبار دي كارو) وسيرة كتبها الناقد الإيطالي بييترو سيتاتي. وما يلي هو صورة ما، مؤلفة من لصق هذه الأقسام الثلاثة معا علاوة على تفريغ لأفكار كالفينو قبل إجراء الحوار معه.
روان جايذر ـ 1992
***
أن تكون مترجما لإيتالو كالفينو
وليم ويفر
ولد إيتالو كالفينو في 15 أكتوبر 1923 في سنتياجو دي لاس فيجاس، إحدى ضواحي هافانا. كان أبوه ماريو عالما زراعيا قضى عددا من السنين في بلاد استوائية، أغلبها في أمريكا اللاتينية. أما إيفا والدة كالفينو فهي من سردينيا، وهي الأخرى كانت عالمة متخصصة في النباتات. ما كاد يولد ولدهما حتى عاد آل كالفينو إلى إيطاليا واستقروا في ليجويرا التي ولد ونشأ فيها البروفيسير كالفينو الأب. في نشأته كان كالفينو يقسم وقته بين بلدة سان ريمو الساحلية التي كان أبوه يدير فيها محطة لتجارب استزراع الزهور، ومنزل العائلة الريفي في التلال التي كان كالفينو الأب رائد استزراع الجريب فروت والأفوكادو فيها.
درس الكاتب ـ باعتبار ما سيكون ـ في سان ريمو ثم التحق بكلية الزراعة في جامعة تورينو فلم يبق فيها إلا إلى حين حلول أول الامتحانات. ولما احتل الألمان ليجويرا وبقية شمال إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، هرب كالفينو وشقيقه البالغ من العمر ستة عشر عاما من التجنيد الفاشي وانضموا للثوار.
بعد ذلك بدأ كالفينو الكتابة عن تجاربه الحربية. نشر قصصه الأولى واستأنف كذلك دراساته الجامعية بعدما انتقل من الزراعة إلى الأدب. وفي تلك الفترة كتب روايته الأولى "الطريق إلى عش العناكب" [The Path to the Nest of Spiders] وتقدّم بها إلى مسابقة كانت ترعاها شركة موندادوري للنشر. ولم تفز الرواية في المسابقة لكن الكاتب تشيزاري بافيزي سلمها للناشر جيلو أيناودي في تورينو فقبلها، ونشأت علاقة مع كالفينو لتستمر على مدار أغلب حياته. عندما صدرت "الطريق إلى عش العناكب" سنة 1947 ـ وهي السنة التي حصل فيها كالفينو على شهادته الجامعية ـ كان قد بدأ بالفعل يعمل لحساب أيناودي.
في فترة ما بعد الحرب كان الوسط الأدبي الإيطالي ملتزما التزاما عميقا بالسياسة، وكانت تورينو ـ العاصمة الصناعية ـ مركزا وبؤرة. انضم كالفينو للحزب الشيوعي الإيطالي وكان يكتب مندوبا لجريدة الحزب اليومية في شركة فيات.
بعد صدور روايته الأولى، حاول كالفينو بضع مرات أن يكتب رواية ثانية، ثم لم يحدث حتى عام 1952 ـ أي بعد مرور خمس سنوات ـ أن أصدر عملا آخر هو رواية "الفسكونت المشطور" القصيرة. حظيت الرواية برعاية إليو فيتورينوي ونشرت في سلسلة كتب مخصصة للكتاب الجدد تحمل اسم توكنز، وحظيت على الفور بثناء كتّاب المراجعات الصحفية، على الرغم من أن انفصالها عن الأسلوب الأميل للواقعية في روايته الأولى قد أفضى إلى انتقادات من الحزب الذي استقال منه سنة 1956 إثر غزو الاتحاد السوفييتي للمجر.
في عام 1956 أصدر كالفينو مجموعة من الحكايات الشعبية الإيطالية. وفي العام التالي نشر "بارون الأشجار" ثم "الفارس اللاموجود" سنة 1959. وقد جمعت هاتان القصتان مع الفسكونت المشطور في كتاب عنوانه "أسلافنا". في عام 1965 أصدر كتابه Cosmicomics، وفي عام 1979 ظهرت روايته أو (لاروايته) "لو أن مسافرا في ليلة شتاء". ثم كانت آخر الأعمال الصادرة في حياته هي رواية "السيد بالمار" (1983)
توفي كالفينو في 19 سبنمبر 1985 في مستشفى بـ سيينا بعد ثلاثة عشر يوما من إصابته بجلطة.
التقيت بكالفينو للمرة الأولى في متجر للكتب بروما، في وقت ما من ربيع 1965، وفي ذاكرتي البصرية أن كلينا كنا نرتدي بذلات خفيفة. كنت أعيش في روما لما يربو على عقد، وكالفينو كان قد رجع إلى المدينة لفترة قصيرة فقط من قبل، وذلك بعد إقامته فترة طويلة في باريس. سألني فجأة ـ ولم يكن قط رجل ثرثرة ومناورات ـ إن كنت أحب أن أترجم كتابه الأخير Cosmicomics. برغم أنني لم أكن قرأته، قلت له نعم على الفور. واشتريت نسخة قبل أن أخرج من المتجر ورتبنا أن نلتقي مرة أخرى بعد أيام قليلة.
كان يعيش مع أسرته في شقة صغيرة حديثة التجهيز في الحي القروسطي من المدينة قرب نهر التيبر. شأن بيوت كالفينو التي تهيّأ لي أن أعرفها لاحقا، كانت الشقة تعطي الانطباع بأنها متناثرة الأثاث، قليلته، أتذكر منها جدرانها شاهقة البياض، وطوفان ضوء الشمس.  تكلمنا عن الكتاب الذي كنت قد قرأته قبل لقائنا. علمت أنه استعان بمترجم إنجليزي، واستبعده، وكنت أريد أن أعرف سبب استبعاده زميلي. وبتهور أطلعني كالفينو على المراسلات. كانت في الكتاب قصة عنوانها "بلا ألوان". وكان المترجم في سعي أعمى إلى الأصالة قد عنونها بـ "بالأبيض والأسود"، فأشارت رسالة الاستبعاد التي بعثها كالفينو إلى أن الأبيض والأسود لونان. وقبلت المهمة.
كان لأولى ترجماتي لكالفينو تاريخ عصيب. فالمحرر الذي كان يتولى ترجمتى ترك الناشر بينما كنت أنهي ترجمتي، وبنصيحة مؤسفة مني، انتقل كالفينو مع المحرر إلى الشركة الجديدة. ثم حدث أن انتحر المحرر، وتراجعت الدار عن نشر Cosmicomics ، وما كانت الدار السابقة لتقبلنا من جديد، وضل الكتاب طريقه. فرفضه ناشرون آخرون، إلى أن قبلته هيلين وولف في هاركورت بريس جوفانوفيتش، لتبدأ رحلة ارتباط كالفينو الطويلة مع الدار. حظي الكتاب بمراجعات نقدية متوهجة (واستعراض شرس وحاد كتبه كما يمكنكم أن تتوقعوا المترجم الأول المرفوض) وفاز بالجائزة الوطنية للكتاب في الترجمة.
منذ عام 1966 وحتى وفاته لم يمض عليّ وقت تقريبا دون أن أكون مشغولا بترجمة شيء له (أو بالاستعداد لترجمة محتملة). في أحيان كان يتصل بي ويطلب أن أترجم له بضع صفحات بأقصى سرعة، ويكون ذلك على سبيل المثال بيانا كتبه لبرنامج تليفزيوني كندي أو مقدمة قصيرة لكتاب عن الموصلات الكهربائية. كان يحب تلك المهام الغريبة، فقد ولدت "قلعة المصائر المتقاطعة" (1966) من تعليق له على مجموعة من كروت التاروت ترجع إلى عصر النهضة.
مع كالفين كان لا بد من مراعاة كل كلمة. كنت أتردد دقائق كاملة أمام أبسط الكلمات ـ كـ bello  (جميل) أو cattivo (رديء). كان لا بد من تجربة كل كلمة. وحينما كنت أترجم "مدن لا مرئية"، كان لاا بد لمن يحلون ضيوفا عليَّ في الريف أثناء الإجازات الأسبوعية أن يستمعوا إلى مدينة أو اثنتين تتليانن عليهم.
والكتّاب ليسوا بالضروة حنونين على مترجميهم. فقد كان ينتابني شعور في بعض الأحيان بأنه لو بيد كالفينو لآثر أن يترجم كتبه بنفسه. وفي السنين الأخيرة كان يحب أن يرى مسودات الطباعة الخاصة بالترجمة، فيدخل تعديلات، بلغته الإنجليزية. ولم تكن تلك التغييرات تصحيحات بالضرورة، بل مراجعات، وتعديلات على نصه. وكانت إنجليزية كالفينو نظرية أكثر منها اصطلاحية. كما كان يقع في غرام بعض الكلمات الأجنبية. فعند ترجمة السيد بالمار وقع في غرام كلمة "التغذية الارتجاعية feedback ". ظل يقحم التغذية الارتجاعية في النص فأتعقبها وأحذفها بلباقة. لم أستطع أن أوضح لهه أن التغذية الارتجاعية شأن الكاريزما charisma  والمدخلات input  والقعر bottom line قد تكون جميلة صوتيا في أذنه الإيطالية لكنها ليست ملائمة لعمل أدبي باللغة الإنجليزية.
ذات أصيل أغسطسي سنة 1982، ذهبت إلى بيت كالفينو الصيفي، وهو عبارة عن فيللا واسعة حديثة في مجمع سكني معزول بـ بروكامير على ساحل بحر توسكانيا في شمالي جروسيتو. بعد تبادل التحيات، جلسنا على كراسي وثيرة مريحة في الشرفة الظليلة الواسعة. لم يكن البحر ظاهرا، لكن كان محسوسا في الهواء اللاذع المحمل برائحة الصنوبر.
لم يكن كالفينو في أكثر الأوقات كثير الكلام، ولا اجتماعيا على الإطلاق. فلم يكن يميل إلا إلى مخالطة أصدقائه القدامى أنفسهم، وزملائه في دار نشر إيناودي. وبرغم أننا كنا نعرف بعضنا بعضا لعشرين سنة، ونتزاور في بيتينا، ونعمل معا، إلا أن أحدا منا لم يكن موضع أسرار  الآخر. بل لقد كنا حتى أوائل الثمانينيات نتخاطب برسمية، فأناديه بسنيور كالفينو، ويناديني بويفر دون أن يعرف كم أكره مناداتي باسم العائلة التي كانت تذكرني بأيام المدرسة الإعدادية. وحتى بعدما انتقلنا إلى مرحلة الأسماء الأولى، كان يتصل بي في البيت فأشعر بسكتة قبل أن ينطق "بيل؟". كان به شوق جارف إلى الرجوع لأيام ويفر.
لا أريد أن أعطيكم انطباعا بأنه لم يكن يستطيع أن يكون ودودا. فمثلما أتذكر صمته أتذكر ضحكه الذي كان ينبعث من شيء يحدث أثناء عملنا معا. وأتذكر هدية أهدانيها، هي إصدار صغير أنيق عن لوحة حديثة الترميم لـ لورنزو لوتو من سان جيروم. كتب كالفينو في صدر الكتيب "إلى بيل، المترجم القديس".
لا أزال أشعر كلما فكرت في ما مضى كم كنت أقتحم حياته.
***
أفكار قبل الحوار
إيتالو كالفينو
أقول لنفسي كلَّ صباح، لا بد أن يكون هذا اليوم منتجا، ثم يقع شيء يحول دون الكتابة. اليوم ... ما الذي يمكن أن أفعله اليوم؟ أوه، نعم، يفترض أنهم قادمون لإجراء حوار معي. أخشى أن روايتي لن تتحرك ولو خطوة واحدة إلى الأمام. فدائما يقع شيء ما. كلَّ صباح أكون على علم بأنني قادر على إهدار اليوم كله. فدائما يوجد ما يمكن القيام به: الذهاب إلى الضفة، إلى مكتب البريد، دفع بعض الفواتير ... دائما توجد ورطة بيروقراطية ما عليّ أن أتعامل معها. وبينما أنا بالخارج أقوم أيضا ببعض المهام مثل التسوق اليومي: فأشتري الخبز أو اللحم أو الفاكهة. أولا أشتري الجرائد. ولا يكاد الواحد يشتريها حتى يبدأ في قراءتها بمجرد عودته إلى البيت، أو يطالع العناوين على الأقل ليقنع نفسه أنه لا يوجد ما يستحق القراءة. كلَّ يوم أقول لنفسي إن قراءة الجرائد إهدار للوقت، ثم يحدث أن ... لا أستطيع الاستغناء عنها. هي كالمخدرات. باختصار، لا يحدث قبل العصر أن أجلس إلى مكتبي، الغارق دائما في الرسائل التي تنتظر أن أرد عليها منذ وقت لا أستطيع حتى أن أحدده، وهذه عقبة أخرى ينبغي التغلب عليها.
وفي نهاية المطاف أجلس للكتابة فإذا بالمشكلات الحقيقية تبدأ. لو أنني أبدأ من العدم، فهذه أصعب اللحظات، لكن حتى لو كنت أكمل شيئا بدأت فيه منذ اليوم السابق فإنني دائما أصل إلى الطريق المسدود حيث تظهر عقبة جديدة يجب التغلب عليها. ولا يحدث إلا في فترة آخر العصر أن أبدأ في كتابة جمل، وتصحيحها، وغمرها بالعصارة، وملئها بالعبارات الاعتراضية  وأعيد كتابتها. وفي تلك اللحظة بالذات يرن جرس التليفون أو الباب في العادة، وإذا بصديق أو مترجم أو محاور قد وصل. وعلى ذكر الـ .. عصر هذا اليوم ... محاورون. لا أعرف هل سيتاح لي وقت للاستعداد. بوسعي أن أجرب الارتجال، لولا أنني أعتقد أنه لا بد من التجهيز للحوار مسبقا حتى يبدو عفويا. فنادرا ما يطرح المحاور أسئلة لا تعرف إجاباتها. ومن الحوارات الكثيرة التي أجريت معي خلصت إلى أن الأسئلة جميعها متشابهة. يمكنني كل مرة أن أرد بنفس الردود. ولكنني أعتقد أن عليّ أن أغيّر إجاباتي، لأن شيئا ما يتغير مع كل حوار، إما في نفسي أو في العالم. والإجابة التي كانت صحيحة في المرة الأولى قد لا تكون صحيحة في المرة الثانية. وقد تكون هذه انطلاقة كتاب. أتلقى قائمة أسئلة، متماثلة كل مرة، وكل فصل يحتوي الإجابات كما أجيبها في أوقات مختلفة. التغييرات تحتوي الإجابات التي أجيب بها في الأوقات المختلفة. تصبح التغيرات هي المسار، هي القصة التي يعيشها البطل. ولعلي بهذه الطريقة أكتشف حقائق عن نفسي.
لكن عليَّ أن أرجع إلى البيت، فموعد وصول المحاورين يوشك على الحلول.
ساعدني يا رب.
***
إيتالو كالفينو:
كل ما كتبته يقع بين الشعر والسرد
 حوار: وليم ويفر ودميان باتيجرو
ـ ما المكان الذي يحتله الهذيان في حياتك العملية ـ إن كان له من مكان.
ـ الهذيان؟ ... لنفترض أنني أجيب بأنني دائما شخص عقلاني. وأن كل ما أقول أو أكتب، بل أن كل شيء خاضع للعقل، والوضوح والمنطق؟ فكيف يكون رأيك فيّ؟ ستظن أنني أعمى تمام العمى حينما يتعلق الأمر بنفسي، كأنما بي نوع من البارانويا. ولو أنني أجبت في المقابل قائلا أوه نعم، أنا شخص هذياني فعلا، وأكتب دائما كأنما من حالة غشاوة، بل إنني لا أعرف كيف أكتب هذه الأشياء المجنونة، ستظنني مدعيا زائفا، يمثل شخصية غير قابلة كثيرا للتصديق. ربما السؤال الذي ينبغي أن نبدأ منه هو السؤال عما أضعه من نفسي في ما أكتب. وإجابتي أنني أضع عقلي، وإرادتي، وذوقي، والثقافة التي أنتمي إليها، ولكنني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أسيطر، إن شئت، على اضطرابي العصبي، أو هذياني إن شئت أن نستعمل هذه الكلمة.
ـ ما طبيعة أحلامك؟ هل أنت أكثر اهتماما بيونج منك بفرويد؟
ـ حدث مرة بعدما قرأت "تفسير الأحلام" لفرويد أن ذهبت للنوم. وحلمت. وفي الصباح التالي كان بوسعي أن أتذكر حلمي بوضوح تام، فأمكنني أن أطبِّق منهج فرويد على حلمي وأفسِّره حتى أدق تفاصيله. في تلك اللحظة آمنت أن مرحة جديدة لي توشك على البدء، وأن أحلامي اعتبارا من تلك اللحظة لن تعود قادرة على كتمان أسرارها عني. ولم يحدث ذلك. تلك كانت المرة الوحيدة التي أضاء فيها فرويد عتمة لاوعيي. ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم مثلما كنت أحلم من قبل. فأنسى أحلامي، وإن تذكرتها لا أفهمها بل ولا أفهم حتى أوّلياتها البسيطة. وشرح طبيعة أحلامي لن يرضي التحليل الفرويدي أكثر من اليونجي. إنني أقرأ فرويد لأنني أرى فيه كاتبا ممتازا ... كاتبا بوليسيا يستطيع القارئ متابعته بشغف عظيم. كما أقرأ يونج الذي أثار اهتمامي بأشياء عظيمة الأهمية للكاتب كالرموز والأساطير. يونج ككاتب ليس في جودة فرويد. ولكنني على أي حال مهتم بكليهما.
ـ صور الحظ والصدفة تتواتران في أدبك، من خلط بطاقات التاروت إلى توزيع المخطوطات العشوائي. هل تلعب فكرة الصدفة دورا في تأليف أعمالك؟
ـ كتابي عن التاروت "قلعة المصائر المتقاطعة" هو أشد كتبي ارتباطا بالحسابات. ليس فيه شيء متروك للصدفة. ولا أعتقد أن الصدفة قد تلعب دورا في الأدب.
ـ كيف تكتب؟ كيف تمارس فعل الكتابة المادي؟
ـ أكتب باليد، وأُدخل الكثير، الكثير جدا، من التصحيحات. يمكنني القول إنني أمحو أكثر مما أكتب. أقتنص الكلمات وأنا أتكلم، وتواجهني صعوبة مماثلة عند الكتابة. ثم أدخل، أو أقحم، عددا من الإضافات التي أكتبها بخط صغير جدا. ثم تأتي لحظة يستعصي عليّ فيها أنا نفسي أن أقرأ خطي، فأستعمل نظارة معظمة لأستكشف ما الذي كتبته. وأكتب بخطين. أحدهما كبير بحروف ضخمة بعض الشيء، فتجد في حروف الـ o والـ a دوائر ضخمة. وهذا هو الخط الذي أستعمله وأنا أنقل أو وأنا واثق مما أكتب. خطي الآخر يرتبط بحالة ذهنية أقل ثقة، وهو خط صغير للغاية، تجد فيه حروف الـ o أشبه  بالنقاط.
صفحاتي دائما غارقة في خطوط المحو والمراجعات. وكنت في زمن ما أكتب بخط اليد عددا من المسودات. أما الآن فبعد المسودة الأولى، المكتوبة يدويا، والممتلئة تمام الامتلاء بالخربشات، أبدأ في الطباعة مباشرة، حالّا الشفرة في طريقي. وحينما أعيد قراءة النسخة المطبوعة على الآلة الكاتبة، أكتشف نصا مختلفا تمام الاختلاف أمنحه المزيد من المراجعة. ثم أدخل المزيد من التصحيحات. أحاول في كل صفحة أن تكون تصحيحاتي بالآلة الكاتبة، ثم أدخل المزيد من التصحيحات باليد. وغالبا ما تصبح الصفحة غير قابلة للقراءة بحيث يتحتم علي أن أطبعها مرة ثانية. إنني أحسد أولئك الكتاب الذين يستطيعون التقدم في الكتابة دونما تصحيح.
ـ هل تعمل كلّ يوم أم في أيام محددة فقط، وساعات محددة؟
ـ نظريا أحب أن أعمل كل يوم. لكنني في الصباح أخترع أي مسوغ ممكن لكي لا أعمل: عليّ أن أخرج من أجل بعض المشتروات، لشراء الجريدة. أستطيع ـ كقاعدة عامة ـ أن أضيّع الصباح، فينتهي بي الحال جالسا للكتابة عند العصر. أنا كاتب نهاري، ولكن بما أنني أضيّع الصباح، أصبحت كاتبا عصريا. وأستطيع أن أكتب ليلا، لكنني حينما أفعل ذلك، لا أنام. لذلك أحاول اجتنابه.
ـ هل تكون لديك دائما مهمة محددة، شيء معيّن تقرر العمل عليه؟ أم تكون لديك عدة أشياء جارية في الوقت الواحد؟
ـ لدي دائما عدد من المشاريع. عندي قائمة بنحو عشرين كتابا أود أن أكتبها، ولكن تأتي اللحظة التي أقرر فيها أن أكتب كتابا بعينه. أنا روائي على فترات. أكثر كتبي مؤلف من نصوص وجيزة تُجمع، قصص قصيرة، أو كتب ذات بنية كلية لكنها مؤلفة من نصوص متنوعة. بناء كتاب حول فكرة أمر مهم للغاية عندي. أقضي وقتا كبيرا في إقامة كتاب، واضعا الخطوط العريضة التي يثبت في نهاية المطاف أنها عديمة الجدوى بالنسبة لي تماما. أرميها. ما يحدد الكتاب هو الكتابة، المادة القائمة فعليا على الصفحة.
أبطئ كثيرا قبل أن أبدأ.  لو أن لديّ فكرة رواية، فإنني أبحث عن كل ذريعة ممكنة لكي لا أعمل عليها. ولو أنني أعمل على كتاب قصص، أو نصوص قصيرة، يكون لكل منها وقت بدايته. حتى في المقالات أتباطأ قبل البداية. حتى في مقالات الجرائد تواجهني كل مرة نفس مشاكل الشروع في الكتابة. ولا أكاد أبدأ حتى يمكنني أن أكون سريعا إلى حد ما. بعبارة أخرى، أكتب بسرعة، لكنني أمر بفترات خواء هائلة. الأمر أشبه قليلا بحكاية الفنان الصيني الذي طلب منه الإمبراطور أن يرسم سرطانا بحريا فقال الفنان أنا بحاجة إلى عشر سنوات ومنزل عظيم وعشرين خادما. ومضت عشر سنوات، وطلب منه الإمبراطور رسم السرطان البحري. فقال أحتاج سنتين أخريين. ثم طلب أسبوعا آخر. ثم تناول القلم ورسم السرطان البحري في عشر دقائق بخط واحد سريع.
ـ هل تبدأ بمجموعة صغيرة من الأفكار غير المترابطة أم بتصور أكبر تمضي تدريجيا في ملئه؟
ـ أبدأ من صورة واحدة صغيرة ثم أكبِّرها.
ـ قال تورجينيف "أفضِّل المعمار وإن قلَّ عما ينبغي، عن القدر الوافر من المعمار الذي قد يغيِّب حقيقة ما أقول". هل تعلق على ذلك محيلا إلى كتابتك أنت؟
ـ صحيح أنه في الماضي، لنقل في السنوات العشر الماضية، كان للمعمار في كتبي مكان مهم للغاية، وربما أهم مما ينبغي. لكن فقط حينما أشعر أنني أنجزت بناء صارما، أعتقد أن لديَّ شيئا يقف على قدميه، بل عملا مكتملا. فعندما بدأت على سبيل المثال كتابة "مدن لا مرئية" لم تكن لديّ إلا فكرة غائمة عن الإطار، والمعمار الذي سيكون عليه الكتاب. ثم حدث قليلا قليلا أن أصبح التصميم بالغ الأهمية حتى أنه حمل الكتاب كله، صار الحبكة في كتاب لا حبكة له. وبوسعنا أن نقول مثل ذلك عن "قلعة المصائر المتقاطعة" فالمعمار هو الكتاب نفسه. بحلول ذلك الوقت كنت قد وصلت إلى هاجس بالبناء حتى أوشكت أن أصير مجنونا به. ويمكن القول إن رواية "لو أن مسافرا في ليلةة شتائية" ما كانت لتوجد بغير معمار شديد الدقة شديد الوضوح. أعتقد أنني نجحت في هذا، وهو ما يحقق لي رضا عظيما. وبالطبع لا ينبغي لذلك الجهد أن يشغل القارئ على الإطلاق. فالأمر المهم هو الاستمتاع بالكتاب، بغض النظر عن العمل الذي وضعته فيه.
ـ تعيش في مدن عديدة، متنقلا بصورة كبيرة نسبيا بين روما وباريس وتورينو وهذا البيت القريب من البحر أيضا. هل يؤثر المكان الذي تتواجد فيه على ما تفعله؟
ـ لا أظن. تجربة الحياة اليومية في مكان بعينه قد تؤثر على ما تكتبه، وليس مجرد الكتابة هنا أو هناك. أكتب في الوقت الراهن كتابا يرتبط بصورة ما بهذا البيت في توسكاني الذي أقضي الصيف فيه منذ سنوات عديدة. ولكنني أستطيع الاستمرار في ما أكتبه في مكان آخر.
ـ هل تستطيع الكتابة في غرفة بفندق مثلا؟
ـ بل كنت أقول إن الغرفة الفندقية هي المكان المثالي ـ فارغة، ومجهولة. لا تجد فيها كومة رسائل تنتظر الرد (أو الندم لعدم ردك عليها)، ولا يكون لدي فيها مهام أخرى. الغرفة الفندقية بهذا المعنى هي المكان المثالي. ولكنني أجد أنني بحاجة إلى مكان خاص، بل عرين، وإن كنت أفترض أنه لو كان في ذهني شيء واضح فبوسعي أن أكتبه في غرفة فندقية.
ـ هل تسافر مصطحبا ملاحظاتك وأوراقك؟
ـ نعم، غالبا ما أحمل ملاحظاتي معي، والخطوط العامة. ففي السنوات العشر الأخيرة أو نحوها باتت للخطوط العامة عندي مكانة الهاجس.
ـ كان والداك عالمين. ألم يرغبا أن يجعلا منك عالما؟
ـ أبي كان عالما زراعيا، وأمي عالمة نباتات. كان لديهما انشغال عميق بعالم النبات، والطبيعة، والعلوم الطبيعية. ولكنهما أدركا مبكرا جدا أنني لا أميل إلى تلك الوجهة، وليس لدي ميل الأطفال الطبيعي إلى ما يميل إليهم آباؤهم. يؤسفني الآن أنني لم أنهل ما استطعت من معارفهما. ولعل موقفي ذلك يرجع جزئيا إلى أن أبويّ كانا كبيرين. فقد ولدت عندما كانت أمي في الأربعين وأبي على مشارف الخمسين، فكانت المسافة كبيرة بيننا.
ـ متى بدأت الكتابة؟
ـ في مراهقتي لم أكن أعرف ماذا أريد أن أكون. بدأت أكتب مبكرا بعض الشيء. ولكن قبل أن أنجز أي كتابة على الإطلاق، كان لدي ولع بالرسم. كنت أرسم صورا كاريكاتورية لزملائي في الفصل، وللمعلمين أيضا، ورسومات خيالية، لكن بلا تعليم. وحينما كنت ولدا صغيرا أشركتني أمي في برنامج لتعليم الرسم بالمراسلة، وأول ما نشر لي ـ وليست لدي نسخة منه ولا أستطيع الحصول على نسخة ـ كان رسما. كان عمري إحدى عشرة سنة. ونشرت الرسمة في مجلة لمدرسة المراسلة تلك، وكنت أصغر تلميذ فيها. وكتبت شعرا وأنا صغير للغاية. ولما بغلت السادسة عشرة تقريبا، جربت كتابة أعمال للمسرح، فقد كان المسرح ولعي الأول، ربما خلال الفترة التي كانت صلتي بالعالم الخارجي فيها هي المذياع فكنت أستمع من خلاله لكثير من المسرحيات. وإذن فقد بدأت بكتابة المسرحيات ـ أو بمحاولة كتابتها. وفي الواقع كنت أرسم بعض مسرحياتي وقصصي مثلما كنت أكتبها. ولكنني حينما بدأت أكتب بجدية شعرت أن الرسم لدي يفتقر إلى أي أسلوب، أنني لم أنشئ لنفسي أسلوبا. فتوقفت عن الرسم. وبعض الناس يرسمون في الاجتماعات رسومات صغيرة على أي شيء. حتى ذلك علَّمت نفسي ألا أفعله.
ـ ولماذا هجرت المسرح؟
ـ بعد الحرب لم يعد المسرح في إيطاليا يقدم من يصلح مثالا يحتذى. كان القص الإيطالي يشهد انفجارة، فبدأت كتابة القص. وتهيأ لي أن أعرف عددا من الكتاب. ثم بدأت كتابة الروايات. الأمر لا يعدو آليات ذهنية. لو تعوّد امرؤ على أن يترجم إلى الرواية، فإن خبراته وأفكاره وما يريد أن يقوله تصبح رواية، ولا يبقى لديه من خامة لتعبير أدبي آخر. طريقتي في كتابة النثر أقرب إلى طريقة الشاعر في كتابة قصيدة. لست روائيا يكتب روايات طويلة، بل أركز فكرة أو تجربة في نص قصير يسير جنبا إلى جنب نصوص أخرى مكوّنين سلسلة. وأولي اهتماما كبيرا للتعبيرات والكلمات سواء في ما يتعلق بالإيقاع أو بالأصوات وبما تستنفره من صور. أعتقد على سبيل المثال أن كتاب مدن لا مرئية يقع في موضع ما بين الشعر والرواية. ولو كنت كتبته كله نظما، لجاء نوعا نثريا سرديا من الشعر ... أو ربما كان خرج شعرا غنائيا فالشعر الغنائي  أحب الشعر لدي من بين ما أقرا للشعراء العظماء.
ـ كيف دخلت العالم الأدبي في تورينو، أو المجموعة التي كانت تتحلق حول دار نشر جيليو أيناودي وكتابها من أمثال تشيزاري بافيزي ونتاليا جينزبرج؟ كنت صغيرا جدا في ذلك الوقت.
ـ ذهبت إلى تورينو بالصدفة تقريبا. فحياتي كلها بدأت فعليا بعد الحرب. قبل ذلك كنت أعيش في سان ريمو، وهي نائية عن الأوساط الأدبية والثقافية تماما. ولما قررت الرحيل، كنت مترددا بين تورينو وميلانو. كان أول كاتبين قد اطلعا على كتاباتاي ـ وكلاهما أكبر مني بعقد كامل ـ هما بافيزي وكان يعيش في تورينو، وإليو فيتورينوي وكان يعيش في ميلانو. لوقت طويل ظللت لا أستطيع أن أختار إحدى المدينتين. ربما لو كنت اخترت ميلانو، وهي أنشط، وأكثر حيوية، لاختلفت الأمور. تورينو أكثر جدية، وأكثر تقشفا. كان اختيار تورينو اختيارا أخلاقيا إلى حد ما، إذ وجدت نفسي في تراثها الثقافي والسياسي. تورينو كانت مدينة المثقفين المناهضين للفاشية، وذلك هو الجانب الذي غازل لديّ افتتاني بالصرامة البروتستنتية. هي أكثر المدن بروتستنتية في إيطاليا، فهي بمثابة بوسطن الإيطالية. لعل اسم عائلتي [وكالفينو هو النسخة الإيطالية من كالفين، وجون كالفين كان من أهم اللاهوتين أثناء الإصلاح البروتستنتي]، ولعل انحداري من عائلة شديدة الصرامة، هما اللذان قدّرا لي أن أتخذ اختيارات أخلاقية. عندما كنت في السادسة في سان ريمو، كانت مدرستي الابتدائية الأولى مدرسة بروتستنتية. حشاني المعلمون حشوا بالكتاب المقدس، فبات لدي صراع داخلي: إذ أشعر بنوع من المعارضة لإيطاليا المتخففة المتباسطة وأجد نفسي في أولئك المفكرين الطليان الذين يعتقدون أن عثرات إيطاليا ناجمة عن عدم لحاقها بالإصلاح البروتستنتي، وفي الناحية الأخرى، كان طبعي نفسه مغايرا تماما للطهرانيين. فقد يكون اسم عائلتي كالفينو، لكن اسمي أنا في نهاية المطاف هو إيتالو [وتعني طلياني].
ـ هل تجد لشباب اليوم خصالا غير التي كانت لشباب أيامك؟ هل تجد نفسك مع التقدم في العمر أميل إلى النفور مما يفعله الشباب؟
ـ من وقت إلى آخر يصيبني الشباب بالجنون، وأفكر في العظات المطولة التي لم أمارسها قط، أولا لأني لا أحب أن أعظ، وثانيا لأنه لن يستمع لي أحد. وهكذا لا يبقى لي إلا أن أن أواصل تأمل مصاعب التواصل مع الشباب. لقد حدث شيء ما بين جيلي وجيلهم. انقطعت استمرارية التجربة ربما لاختلاف المرجعيات. ولكنني إذا أرجعت النظر في شبابي لاكتشفت أنني لم أكن أولي اهتماما بالنقد، والتوبيخ، أو حتى المقترحات. ومن ثم فليست لي سلطة تخول لي اليوم أن أفتح فمي.

ـ في النهاية اخترت تورينو وانتقلت إليها. هل بدأت فورا العمل لحسات إيناودي، دار النشر؟
ـ سريعا جدا. بعد أن عرّفني بافيزي بجيليو إيناودي وجعله يعيّنني، وعملت في قسم الإعلان. كانت دار أيناودي مركز معارضة الفاشية. كانت لها خلفية تلائمني تماما، حتى وإن لم أكن مارستها بنفسي، لكنني كنت على أتم الاستعداد لأن تكون خلفية لي. يصعب على غريب أن يفهم كيف تتألف إيطاليا من عدد من المراكز المختلفة التي يختص كلٌّ منها بتقاليده المختلفة وتاريخه الثقافي. فقد كنت آتيا من منطقة ليجويرا المجاورة التي لا يكاد يكون لها تراث أدبي، ولم يكن فيها مركز أدبي. والكاتب الذي يشعر أنه ليس من ورائه تراث أدبي محلي يشعر أنه دخيل بعض الشيء. وكانت مراكز إيطاليا الأدبية الكبرى في الجزء الأول من القرن [العشرين] هي فلورنسا وروما وميلانو في المقام الأول. أما الوسط الثقافي في تورينو، لا سيما في دار إيناودي، فكان تركيزه على التاريخ والمشكلات الاجتماعية يفوق تركيزه على الأدب. ولكن كل هذه الأمور ليست مهمة إلا في إيطاليا. في السنين التالية أصبح الوسط الدولي دائما يعني لي أكثر من المحلي.. أقصد كوني إيطاليا في سياق أدب عالمي. حتى على مستوى ذائقتي كقارئ قبل أن أكون كاتبا، كنت مهتما بالأدب في إطار عالمي.
ـ من الكتاب الذين قرأتهم بأكبر قدر من المتعة ومن أصحاب الأثر الأكبر عليك؟
ـ من وقت لآخر، حينما أعيد قراءة كتب مراهقتي ومطلع رجولتي، يدهشني أن أعيد اكتشاف جانب من نفسي كان يبدو أنني نسيته، ولكنه بقي مع ذلك يعمل بداخلي. قبل فترة على سبيل المثال أعدت قراءة Saint Julien l’Hospitalier [القديس جولين الهوسبيتالي، ولفلوبير قصة قصيرة عنه، كما أنه موضوع إحدى قصص الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو، فمن يدري؟] وأتذكر كيف كان لها تأثير عظيم على كتابتي القصصية الأولى ـ برؤيتها عالم الحيوانات وكأنه لوحة قوطية. هناك كتاب قرأتهم في صباي، مثل ستيفنسن، وبقوا بالنسبة لي مُثُلا في الأسلوب، والخفة، والدافع السردي، والطاقة. كتاب قراءاتي في الطفولة مثل كيبلنج وستيفنسن، لا يزالون مُثُلا. بعدهما ياتي ستندال.
ـ نشأت صداقة أدبية مع بافيزي وغيره من كتاب دار إيناودي، أليس كذلك؟ كنت تعطيهم مخطوطاتك لقراءتها والتعليق عليها.
ـ نعم. في ذلك الوقت كنت أكتب قصصا قصيرة وأعرضها على بافيزي ونتاليا جينزبرج التي كانت كاتبة شابة تعمل هناك هي الأخرى. أو آخذها إلى فيتورينوي في ميلانو التي لا تبعد غير ساعتي زمن عن تورينو. وكنت أنتبه لآرائهم. في لحظة معينة قال لي بافيزي نحن نعرف أنك تستطيع كتابة القصص القصيرة، غامر واكتب رواية. لا أعرف هل كانت تلك نصيحة سديدة أم لم تكن، لأنني كنت كاتب قصة قصيرة. لو كنت قلت كل ما كان عليّ أن أقوله في قالب القصة القصيرة لكنت كتبت من القصص عددا لم أكتبه قط. وعلى أي حال نشرت روايتي الأولى ونجحت. ولسنوات طويلة ظللت أحاول أن أكتب رواية أخرى. ولكن المناخ  الأدبي كان قد تحدَّد بالواقعية الجديدة، ولم يكن ذلك يلائمني. في النهاية رجعت إلى الفنتازيا واستطعت أن أكتب الفسكونت المشطور التي عبَّرت فيها عن نفسي فعلا. وأقول "رجعت" لأن تلك قد تكون طبيعتي الحقيقية. تجربتي للحرب وللتقلبات التي مرَّت بها إيطاليا في تلك السنوات هي التي أتاحت لي لفترة أن أعمل سعيدا في اتجاه آخر إلى أن "رجعت" وعثرت على نوع يخصني من الإبداع.
ـ هل الروائيون كذابون؟ ولو أنهم ليسوا كذلك، فأي حقيقة تلك التي يقولونها؟
ـ الروائيون يقولون قطعة الحقيقة القابعة في قاع كل كذبة. بالنسبة للتحليل النفسي ليس مهما للغاية ما إذا كنت تقول الحقيقة أم تكذب، لأن الأكاذيب في مثل إثارة وجزالة ودلالة أي حقيقة مزعومة.
أشعر بالارتياب في الكتّاب الذين يزعمون أنهم يقولون الحقيقة كاملة عن أنفسهم، أو عن الحياة، أو عن العالم. أوثر البقاء مع الحقائق التي أجدها لدى كتّاب يقدمون أنفسهم بوصفهم أشد الكذابين تبجحا. كان هدفي من كتابة لو أن مسافرا في ليلة شتائية وهي رواية قائمة كلها على الفنتازيا هوو العثور بتلك الطريقة على حقيقة ما كنت لأتمكن بطريقة أخرى من العثور عليها.
ـ هل تعتقد أن الكتّاب يكتبون ما يقدرون عليه أم ما يجب أن يكتبونه؟
ـ الكتاب يكتبون ما يقدرون على كتابته. عملية الكتابة لا تنجح ما لم تسمح للمرء بالتعبير عن مكنون نفسه. فالكاتب يشعر بمختلف أنواع القيود ـ هناك قيود أدبية كعدد الأبيات في السونيتا أو قواعد التراجيديا الكلاسيكية، وهذه جميعا جزء من بنية العمل التي تتحرر بداخلها شخصية الكاتب وتتمكن من التعبير عن نفسها. لكن هناك من بعد قيودا اجتماعية كالالتزامات الدينية والأخلاقية والفلسفية والسياسية. وهذه لا يمكن فرضها مباشرة على العمل لكن لا بد من مرورها عبر مرشحات ذات الكاتب. وما لم تكن هذه جزءا من شخصية الكاتب العميقة فإنها لن تجد مكانها في العمل بدون أن تخنقه.
ـ قلت مرة إنك كنت تود لو تكتب قصة من قصص هنري جيمس. هل هناك آخرون تود لو أنك كتبت أعمالهم؟
ـ ماذا أقول الآن؟ رواية "بيتر شليميل" لأدلبرت فون تشاميسو.
ـ هل تأثرت بجويس أو أي من الحداثيين؟
ـ كاتبي هو كافكا وروايتي المفضلة هي أمريكا.
ـ يبدو أنك تشعر أنك أقرب إلى كتاب الإنجليزية ـ كونراد وجيمس، وحتى ستيفنسن ـ من أي أحد في تراث النثر الإيطالي. هل هذا صحيح؟
ـ طالما شعرت بارتباط شديد بجياكومو ليوباردي. فبجانب أنه كان شاعرا رائعا، كان أيضا كاتب نثر استثنائيا وصاحب أسلوب عظيم، وطرافة، وخيال، وعمق.
ـ تعرّضت لاختلاف الوضع الاجتماعي بين الكتاب الأمريكيين والإيطاليين، فالكتاب الإيطاليون أوثق علاقة بصناعة النشر، في حين أن الكتاب الأمريكيين في العادة مرتبطون بالمؤسسات الأكاديمية.
ـ الجامعة، التي تشيع كمكان تجري فيه أحداث الروايات الأمريكية، شديدة الإملال (ونابوكوف هو الاستثناء العظيم الوحيد هنا)، بل هي أشد إملالا من دار النشر كمكان تجري فيه أحداث الروايات الإيطالية.
ـ ماذا عن عملك في إينوادي؟ هل أثَّر على نشاطك الإبداعي؟
ـ إينوادي ناشر متخصص في التاريخ والعلم والفن وعلم الاجتماع والفلسفة والكلاسيكيات. والقص يحتل لديه المكان الأخير. العمل هناك أشبه بالعيش في عالم أبوكالبتي.
ـ يبدو نضال الإنسان في محاولته أن يتحرى الانتظام وسط العشوائية ثيمة منتشرة في أغلب أعمالك. أفكر بصفة خاصة في "لو أن مسافرا في ليلة شتائية" و"القارئ" الذي يحاول العثور على الفصل التالي في كتاب يقرؤه.
ـ الصراع بين خيارات العالم وهوس الإنسان بمنطقة هذه الخيارات نمط شائع في ما كتبته.
ـ في كتابتك تتنقّل ذهابا وإيابا بين المزاجين الفنتازي والواقعي. هل تستمتع بالمزاجين بقدر واحد؟
ـ حينما أكتب كتابا كله ابتكار، أشعر باشتياق إلى كتابة تتعامل مباشرة مع الحياة اليومية، ومع أنشطتي، ومع أفكاري. في تلك اللحظة تكون لدي رغبة في كتابة كتاب غير الذي أكتبه. في المقابل، وأناا أكتب شيئا سيريا للغاية، مرتبطا بخصائص الحياة اليومية الدقيقة، يكون الاتجاه المقابل موضع شوقي. يتحول الكتاب إلى الآخر الابتكاري ذي الروابط الخفية بذاتي، وربما لهذا السبب نفسه، يكون أصدق منه.
ـ وماذا عن حركة كتبك في أمريكا؟
ـ مدن لا مرئية هو الكتاب الذي يحظى بالقدر الأكبر من المعجبين في الولايات المتحدة، وهذا مدهش، فمن المؤكد أنه ليس من أسهل كتبي. فهو ليس رواية بل بالأحرى مجموعة قصائد نثرية. حقق حكايات شعبية إيطالية النجاح هو الآخر، بمجرد أن ظهرت له ترجمة كاملة، بعد خمسة وعشرين عاما منن صدوره في إيطاليا. في حين كان مدن لا مرئية أنجح بين الخبراء، والأدباء، والمثقفين، يمكننا القول إنن حكايات شعبية إيطالية حقق نجاحا شعبيا. صورتي في الولايات المتحدة هي صورة كاتب الفنتازيا،، كاتب الحواديت.
ـ هل تعتقد أن أوربا غارقة في الثقافة البريطانية والأمريكية؟
ـ لا. ليست لدي أي ردود أفعال شوفينية. المعرفة بالثقافات الأجنبية عنصر حيوي لأي ثقافة، ولا أعتقد أن بوسعنا أن نكتفي منها. لا بد أن تنفتح أي ثقافة على التأثيرات الأجنبية لو أنها تريد أن تحافظ على حياة قوتها الإبداعية. في الثقافة الإيطالية طالما كان المكون الثقافي المهم هو الأدب الفرنسي. ولا شك أن الأدب الأمريكي ترك أثرا عميقا عليّ. كان [إدجار آلن] بو من أوائل اهتماماتي، علمني ماذا تكون الرواية. ثم اكتشفت لاحقا أن [ناثانيل] هاوثورن كان في بعض الأحيان أعظم من بو. أحيانا وليس دائما. ميلفيل. في النهاية، أنا تدربت في ظل تشيزاري بافيزي، أول مترجم إيطالي لملفيل. وكان من المُثُل الأدبية الأولى بالنسبة لي كتاب أمريكيون ثانويون في نهاية القرن التاسع عشر من أمثال ستيفن كرين وأمبروز بيرس. أما سنوات نشأتي الأدبية في مطلع الأربعينيات فسيطر عليها في المقام الأول همنجواي وفوكنر وفيتزجيرالد. في الوقت نفسه، عرفنا هنا في إيطاليا نوعا من الافتتان بالأدب الأمريكي. حتى الكتاب شديدو الثانوية من أمثال سارويان و[إرسكاين بريستن] كولدويل، و[جيمس مالان] كين، كانوا يعدّون مثلا أسلوبية. ثم كان نابوكوف الذي كنت ولا أزال من جمهوره. لا بد أن أعترف أن اهتمامي بالأدب الأمريكي مدفوع إلى حد ما بالرغبة في متابعة ما يجري في مجتمع هو بطريقة أو بأخرى صورة مسبقة لما سوف يحدث في أوربا بعد سنوات قلائل. بهذا المعنى، يكون كتاب من أمثال صول بيلو وماري مكارثي وجور فيدال مهمين بسبب اتصالهم بالمجتمع الذي يظهر في إنتاج مقالات جيدة. وفي الوقت نفسه أنا دائم البحث عن الأصوات الأدبية الجديدة، ومن هنا اكتشافي روايات جون أبدايك في منتصف الخمسينيات.
ـ في السنوات الحاسمة الأولى بعد الحرب، عشت في إيطاليا بصورة مستمرة. ومع ذلك، باستثناء روايتك القصيرة "الحارس" لا تعكس قصصك إلا قليلا من الوضع السياسي الذي عاشه البلد في ذلك الوقت برغم أنك على المستوى الشخصي كنت منغمسا في السياسة انغماسا كبيرا.
ـ كان ينبغي أن تكون الحارس جزءا من ثلاثية لم تكتمل قط بعنوان "تأريخ الخمسينيات". لقد كانت سنوات تكويني هي سنوات الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات التالية مباشرة حاولت أن أتفهمم الصدمات الرهيبة التي عشتها، لا سيما صدمة الاحتلال الألماني. كانت للسياسة إذن أهمية كبيرة في حياتي بعد كبري. في الواقع، انضممت للحزب الشيوعي، برغم أن الحزب في إيطاليا كان يختلف كثيرا عن الأحزاب الشيوعية في البلاد الأخرى. مع ذلك كنت أشعر أني مرغم على القبول بأشياء كثيرة بعيدة عني. ثم بدأ إحساسي يتزايد بتزايد صعوبة التصالح مع فكرة إقامة ديمقراطية حقيقية في إيطاليا بناء على النموذج ـ أو الوهم ـ الروسي. وتنامى التناقض إلى درجة أنني شعرت بالانفصال كلية عن العالم الشيوعي، ثم عن السياسة برمتها في النهاية. وكان ذلك من حسن حظي. ففكرة وضع الأدب في المرتبة الثانية، تاليا للسياسة، غلطة جسيمة، لأن السياسة نادرا ما تحقق مُثُلها. أما الأدب في المقابل فقادر في نطاقه أن يحقق على المدى البعيد جدا شيئا من التأثير السياسي. ولكنني الآن بت أومن أن الأمور المهمة لا تتحقق إلا من خلال عمليات بالغة البطء.
ـ في بلد كتب فيه كل كاتب ذي شأن للسينما أو أخرج لها، يبدو أنك قاومت غواية السينما. لماذا وكيف؟
ـ في شبابي كنت متحمسا للسينما كثيرا، وكنت كثير التردد على دور العرض. لكنني ظللت مشاهدا طوال الوقت. فكرة الانتقال إلى الجهة الأخرى من الشاشة لم تجذبني قط بصورة كبيرة. معرفتي بطريقة صنع الأفلام تبدِّد قدرا من الفتنة الطفولية التي توفرها لي السينما. وسر حبي للأفلام اليابانية والسويدية بالذات هو أنها تبدو لي شديدة البعد.
ـ هل شعرت قط بالملل؟
ـ نعم، في طفولتي. ولكن تجب الإشارة إلى أن ملل الطفولة نوع خاص من الملل. ملل حافل بالأحلام، كأنه استحضار لمكان آخر، وواقع آخر. أما ملل الكبر فقوامه التكرار، هو الاستمرار في عمل شيء لم نعد نتوقع من ورائه أي مفاجأة. وليت لدي الآن وقتا للملل. أما ما لدي بالفعل فهو الخوف من تكرار نفسي في عملي الأدبي. وهذا هو السبب الذي يجعلني كل مرة أبحث عن تحدٍّ جديد لمواجهته. عليَّ أن أجد شيئا أفعله ويبدو لي جديدا، شيئا يتجاوز قدراتي بعض الشيء.

نشر الحوار بالإنجليزية في العدد 124 من باريس رفيو الصادر في خريف 1992، ويحمل الرقم 130 في سلسلة حوارات المجلة مع كتاب القص في العالم.
ونشرت ترجمته في ثلاثا حلقات أسبوعية بملحق شرفات آخرها اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق