الجمعة، 20 يناير 2012

في قبوي



الفوارغ
في طفولتي، لم يكن من السهل أن نقدم لضيوفنا زجاجات المياه الغازية، إلا في وجود "علي هزاع". و"علي هزاع" كان بقالا دكانه مواجه لبيتنا. لم يكن الحصول على المياه الغازية يحتاج أكثر من أن يرسلني أبي إلى دكانه، بفلوس أو بغير فلوس، فأحصل على العدد المطلوب من الزجاجات وأرجع. ونعمل الواجب مع الضيوف، وبعد أن ينصرفوا، تجمع أمي الزجاجات الخاوية بحرص، وتضعها في كيس بحرص، وترسلني إلى الدكان لإرجاعها، موصية إياي بالتزام أقصى درجات الحرص.
وبحرص، كان "عم علي" ـ أو زوجته "فايزة"، أو أي من أبنائه "تامر" و"وليد" ـ يتسلم الزجاجات، يعدها جيدا، ويطمئن إلى أنه يتماثل مع العدد المدون في دفتر عنده، ثم يتحسس فوهات الزجاجات بإصبعه، وحينما يطمئن إلى أنها جميعا بخير، لا كسر فيها، ولا شرخ، ولا شظية منها مفقودة، يعيدها إلى أماكنها في الصندوق البلاستيكي.
وحدث مرة أن بعثت لأشتري فوجدت الدكان مغلقا. وكذلك دكان "مصطفى صالح" الملاصق. وعرفت أن دكاكين القرية كلها مغلقة، بعد أن وصل إلى أصحابها خبرٌ بأن موظفي الضرائب حلُّوا بالقرية لأداء واجبهم الثقيل على النفوس. لم يكن أمامي من حل إلا الذهاب إلى المكان المشبوه الوحيد في القرية: المقهى.
(توقفت القرية عن اعتبار المقهى مكانا مشبوها، قبل أن أكبر بما يكفي لأعرف فعلا لماذا كانت تعتبره كذلك. أعرف طبعا أن المقهى كان فيه فيديو، وأنهم ربما كانوا يذيعون أفلاما وثائقية ـ بطريقتها ـ في آخر الليل، ولكن لماذا يبقى المقهى مكانا مشبوها ممنوعا على أولاد الناس في بقية أوقات اليوم؟)
ما علينا. ذهبت إلى المقهى القريب، وبحثت عن المسئول هناك، وطلبت زجاجات المياه الغازية بمثل البساطة التي كنت أطلبها بها من "عم علي"، فإذا بالقهوجي يسألني: فين الفوارغ؟ ولما بدا على وجهي أني لم أفهمه. قال: الرهن؟
لا داعي للاستفاضة في هذه النقطة، النقطة التي تبدأ من سؤاله بهذه اللغة الشفرية المجهولة تماما للطفل الذي كنته، وتنتهي بخروجي من المقهى. لنقطع على أبي وهو يوضح لي أن "الفوارغ" هي زجاجات مياه غازية فارغة تكون لدى الناس، فإن أرادوا شراء زجاجات ملآنة يأخذون الفوارغ معهم ويستبدلون بها زجاجات ملآنة. أما الرهن فمبلغ مالي يعطيه من لا يمتلكون الفوارغ، ثم يستردونه بعد أن يعيدوا الزجاجات سليمة. شرح لي أبي، وأعطاني عشر جنيهات، ذهبت بها "رهنا" إلى المقهى، وعدت بزجاجات المياه الغازية.
ظللت لفترة أحاول أن أفهم: وكيف يمتلك الناس زجاجات فارغة أصلا، إذا كانت الزجاجات تعاد دوما إلى "عم علي"؟ حدست أنهم يؤخرون إرجاع الزجاجات إلى أن ينسى "عم علي" أمرها، فتصبح ملكا لهم، أي أنهم يسرقونها. ولأننا ناس محترمون، لم تكن لدينا زجاجات فارغة.
ولكنني اكتشفت مؤخرا، بعدما أصبح هذا النمط التجاري كله في ذمة الذكريات، أن عندي فوارغ لم أسرقها، لم أؤخرها إلى أن نسيها "عم علي"، بل لقد ظهرت في حياتي هكذا، من تلقاء أي شيء.
من هذه الفوارغ إنسان. إنسان مثلنا يمشي على قدمين، وإن أدهشني في البداية أنه لا يمشي على بطنه، أو على أربع، أو حتى يطير بجناحين رشيقا كذبابة.
إنسان، يسير على قدمين، ويتكلم، تصدر عنه هذه الضوضاء المتقطعة التي لا تعني أي شيء لي على الأقل. سنوات وهو يفعل هذا. وسنوات وأنا لا أستطيع أن أتعامل معه بارتياح، وأخيرا فهمت: إنه فارغ، وإن عليّ أن آخذه إلى المكان الذي تعاد إليه فوارغ البشر وأستبدل به إنسانا ممتلئا. ولكن ما هذا المكان الذي نحيل إليه فوارغ البشر؟
هه، اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق