الثلاثاء، 7 يونيو 2011

تشارلز سيميك: بدون الخيال لا يمكن أن نرى الواقع





حوار: جيمس بايرن

ـ دعني أبدأ من حيث التقينا، من مدينة نيويورك، التي رأيتها للمرة الأولى من على متن سفينة سنة 1954، فـ "أخرستك الإثارة"، وذلك بعد أربع سنوات من محاولتك أنت وأمك الهجرة من أوربا التي أفسدتها الحرب. وصفت نيويورك بأنها مدينتك الأثيرة، بأنها المكان الذي تأثرتَ فيه بكل شيء ابتداء من محلات الجزارة في إيست فيلدج وصولا إلى حانات الجاز الشهيرة مثل فايف سبوت. ولأنني أعيش هنا فقد سمعت الشعراء كثيرا ما يتكلمون عن "الأيام الخوالي" في بيتداون وعن البوهيمية في فيلدج. ماذا عنك أنت وقد حملت ضميرع الإبدجاعي بنحو خمسين عاما من العيش النيويوركي، هل لا يزال للمدينة تأثير عليك ككاتب، وكيف ذلك؟
ـ لها تأثير، وتأثير كبير. في مدينة نيويورك يشعر خيالي أنه في بيته. أنا ابن مدينة كبيرة، نشأت في بلجراد التي كانت تبدو لي في طفولتي مدينة ضخمة. كان بيتنا على بعد شارعين فقط من الطريق العام فكانت الضجة تستولي عليّ ـ كانت بلجراد في ذلك الوقت ملأى بدور السينما والمقاهي والمطاعم، فكانت مكانا يمكن فيه لطفل مثلي أن ينشغل بمراقبة الناس. سنة 1953، حينما غادرت بلجراد أنا وأمي وأخي، قضينا سنة في باريس. فقلت لنفسي "والله، هذه أكبر من بلجراد". ثم جئنا بعد سنة إلى نيويورك، فبدت مرة أخرى بالغة الاختلاف. كانت أوربا في ذلك الوقت رمادية وفقيرة. ولكننا وصلنا إلى نيويورك في الصيف فبهتني لون المدينة على الفور، بدا أنه وليمة لعيني. كنت في ذلك الوقت مهتما كثيرا بالرسم والفنون البصرية، وحتى اليوم لا تزال نيويورك المدينة التي تثيرني بصريا. كنت أقضي قدرا كبيرا من الوقت متجولا في المدينة، ولا يزال ذلك إلى الآن مصدر متعة كبيرة وإلهام.
ـ لا تزال مرتبطا بنيويورك، حيث تقوم بالتدريس في جامعة نيويورك لفترات من كل عام. ولكن قاعدتك الأساسية منذ فترة هي نيوهامشر. هل الحياة في البرية غرست فيك كشاعر شيئا من الرعوية؟
ـ أنا أعيش هنا منذ 1973، أي منذ بعض الوقت بالقطع. في فترة الصيف، يتضاعف حجم القرية التي نعيش فيها بسبب وجود بحيرة كبيرة يجري استخدامها. في بقية السنة، لا يكاد يوجد شيء هنا بالفعل (هناك متجر واحد فقط). هذا مكان يمكن للمرء فيه بدافع الملل المحض أن يكون فيلسوفا وشاعرا. في شبابي ما كنت لأتصور إطلاقا أن أغرم بمكان من هذا النوع. أنا هنا تحيط بي أميال تلو أميال من الغابات وغير بعيد عن البحيرة وأشعر أني في بيتي تماما. لقد عشت هنا أكثر مما عشت في أي مكان آخر طوال حياتي. وفي بضع مرات تلقيت عروزضا جادة من جامعات أوشكت أن تنزعني من هنا نهائيا. وقد كنت ميالا إلى القبول نظرا لكونها جامعات جذابة ولكونها مناصب رفيعة ذات رواتب ضخمة. ولكنني كنت أدرك ـ كلما أعود إلى البيت لأفكر في الأمر ـ أنني سأفتقد شجرة بعينها، منظرا بعينه. كل تلك الأشياء التي قد تجعلني أعاني سيكولوجيا.
ـ بعد قليل من وصولك إلى نيويورك، بدأت تأخذ الرسم مأخذ الجد، وتكتب الشعر في الوقت نفسه. لا شك أن غريزة الرسم لم تغادرك قط، ولا شك أنها نافعة في الكتابة.
ـ نعم، الرسم والتصوير الفوتغرافي أيضا. ولكنني في شبابي، كرسام شاب يعمل بدون مرسم، في شقة صغيرة، كنت محدودا بمساحات صغيرة من القماش. فكنت أقول لنفسي "ما الذي يمكن أن أحققه على هذه القماشة الصغيرة؟" في تلك الفترة بدأ الشعر يزداد إغراء لي.
ـ أين خزنت تلك اللوحات؟ هل تصرفت في كثير منها؟
ـ نعم، كلما كنت أقابل فتاة، حتى أنني فقدت الآن 90% منها على الأقل.
ولكنني أنتفع كثيرا عند مراجعتي للقصائد وتحريري لها بتذكر كيفية عملي كرسام. قد أتذكر على سبيل المثال كمية الأحمر التي قد أحتاجها في لوحة، أو حتى عندما كنت أضطر أن أعيد رسم لوحة لعينة من البداية. وثمة كثير من التوازيات بين هذه الحالة وبين مراجعة القصائد. أنا في البداية مثلا كنت لا أعرف متى ينبغي أن أرفع يدي عن قصيدة، وهي مشكلة حقيقية، لكن ربما احتفاظي ببعض من غريزة الرسام هي التي نفعتني في هذا الصدد.
ـ كما يحدث لي غالبا وأنا أقرأ شعرك، يسرني أن أتخذ دور مفتش المباحث. وأنا أقرأ كتابك الأخير "أستاذ التنكر Master of Disguises ". يبدو أن كثيرا من القصائد تجري في أمريكا ريفية مجهولة، وأن كثيرا من الشخصيات واقعة في هوات متنوعة ـ فكأنما الحياة قادرة أن تحرر هذه الشخصيات أو تلتهمها التهاما. وكثيرا ما كنت أسأل نفسي عن المكان الذي تمضي إليه هذه الشخصيات بعدما ينتهي عرض فيلم القصيدة القصير. إلى أي مدى تتعمد ألا تجعل لشخصياتك قدرا أكبر من الوضوح؟
ـ أنا أريد من القارئ أن يتخيل البقية. طالما أحببت الأفلام التي أشاهدها من المنتصف، والصور الفوتغرافية التي أجدها في مكبات النفايات ومتاجر الكتب القديمة، والمشاهد والوجوه التي لا يراها المرء إلا لمحا في الشارع ثم لا يملك أن ينساها. ومن ثم، نعم، الأمر متعمد.
ـ أحببت قصيدة "ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثون" وأعتقد الآن أن على كل شخص أن يكتب قصيدة عن السنة التي ولد فيها، ولو من أجل أن يقحم نفسه على سلسلة من الأحداث ...
ـ جاءت هذه القصيدة نتيجة تفكيري في الفترة الأولى من حياتي، في دهشتي من أن هتلر وستالين كانا مشغولين بتخريب حياة الملايين من البشر بينما أنا كنت مشغولا بالتبول في أقمطتي، بجانب كل تلك الأشياء الأخرى التي أذكرها في القصيدة. صعوبة مثل هذه القصائد التاريخية أن هناك الكثير جدا مما يمكن للمرء أن يدرجه فيها، وما لا يمكنه أيضا.
ـ كتاب آخر لك هو "ذلك الشيء الضئيل That Little Something " تستهله بجوهرة نوستالجية تبدؤها قائلا "لم يحدث قط أن صادفت أحدا من أهل الزمان القديم". كثير من القصائد تتعامل مع الماضي والحاضر، مثل قصيدة "شماعات معدنية" ومتتالية "أبديات" المدهشة. ماذا كنت تريد من هذا الكتاب؟ أن يكون مثلا رحلة عبر الزمن؟
 ـ لا مفر في سني هذا من أن تتعامل القصائد مع الذاكرة أكثر فأكثر. بل إنني في واقع الأمر أتذكر أن ناقدا كتب في استعراض لأحد كتبي يقول شيئا من قبيل أن "سيميك كان ظريفا من قبل، لكنه اليوم لم يعد يكتب إلا عن الموت". فقلت في نفسي "طيب انتظر أنت إلى أن تكبر وترتاد الجنازات مرة كل شهر، أيها القفل".
هناك رواية، هي رواية فردايدورك للكاتب البولندي جمبروفيتش الذي كتب فيها عن رجل يزوره أستاذ هرم يسأله "لماذا لم تعد تذهب إلى المدرسة؟". فيعود الرجل إلى المدرسة برغم سنه الكبير. تركت هذه القصة انطباعا دائما لدي نظرا لامتلاء حياتي بكثير من المنعطفات الغريبة والتوقفات المفاجئة. في حياتي أجزاء كثيرة توقفت، لأجد نفسي أعيش شيئا آخر تماما.
ـ هل بدأت تلك التوقفات أثناء الحرب في بلجراد؟
ـ نعم، فقد نشأت في عائلة قديمة ذات جذور قديمة رأت الأشياء تتغير بحدة أثناء الحرب وبعدها. غادر بعض أفرادها إلى الخارج والذين بقوا لم يتمكنوا من التآلف مع الشيوعيين. وتغيرت حياتي أنا الآخر تغيرا دراماتيكيا. وقضيت أنا وأمي وأخي وقتا قليلا في السجن.
ـ نعم، أتذكر أني قرأت في سيرتك "ذبابة في الحساء A Fly in the Soup " أنك اعتقلت على مقربة من الحدود في بلجراد ووضعت في زنزانة مع عدد من المسجونين الكبار الذين طالبوك بحكاية قصة هرروبك.
ـ كان علي أنت أرتجل أكاذيب لتسليتهم جميعا. ولكنه كان وقتا عصيبا بالفعل. كان أبي بالفعل في الولايات المتحدة بينما كنا نحن في يوغسلافيا نلقى معاملة المشبوهين. وحتى بعد السماح لنا بالخروج، ظللنا عالقين في باريس لمدة عام. في تلك الفترة كان دخول أمريكا أمرا صعبا بالفعل، فقد كانت هناك أنصبة لعدد المسموح لهم بالدخول، وكان نصيب يوغسلافيا نحو 850 شخصا في السنة. كان هناك احتمال بأن نضطر إلى البقاء في باريس إلى الأبد، وكان ذلك يثير قلقي بالفعل. فالمدارس الفرنسية كانت في غاية الصعوبة ولم تكن ودودة كثيرا تجاه الأجانب.
ـ ألم يكن النظام أيضا فاسدا بالقدر نفسه، فكل يوم يفحصون أوراقك ويجدون هذا السبب أو ذاك لمنعك من الهجرة؟
ـ لم تكن البروقراطية الفرنسية وحدها هي التي تصيبنا بالجنون، ولكننا كنا نخشى ألا نمر من الاختابارات الصحية في السفارة الأمريكية. كانت صحتنا جيدة، ولكن لم يكن أحد يعرف ما الذي يمكن أن يكتشفوه. كان هناك الكثير من الأشياء الخيالية والواقعية التي يمكن أن تعوق المرء من الهجرة، لدرجة أنني قضيت أسابيع قبل الاختبارات دون أن أنام.
ـ في القسم الثاني من "ذلك الشيء الضئيل" تخيم الحرب على كل شيء. فـ "رقصة الفئران القاتلة" وفيها "المشارح نظيفة تبرق" و"القناصة فوق أسطح البنايات يترقبون الحمام"، هذه القصيدة تبرز بوصفها تعليقا على لانهائية الحرب. كيف ترى صعوبة الرجوع طوال الوقت إلى الكتابة عن الحرب دونما إشارة إلى مناطق معينة لهذه الحروب؟
ـ منذ فترة مبكرة توصلت إلى أنه من العبث الإشارة إلى مكان بعينه عند الكتابة عن الحرب. لقد نشأت في فترة الحرب العالمية الثانية، وبعد فترة بسيطة كان أخي يحارب في فييتنام (أنا شخصيا كنت سأشارك فيها لو قاموا باستدعاء الاحتياطي). وبعد ذلك انتابني القلق على ابني حينما حان موعد الجرعة الحربية التالية. ومن ثم فقد رافقتني الحرب طوال حياتي، ولم يبد لي من الصواب أن أميز بين الحروب أكانت في فييتنام أم في البوسنة أم في العراق. الحروب جميعا في جوهرها حرب واحد تسقط فيها القنابل، وتطير رقاب الأبرياء والقليل من الأشرار أيضا. لقد تعبت بحق من الكتابة عن مثل هذه الأشياء، ولكن لا مفر من أن تجدد كل حرب جديدة غضبي. الأمر الذي يزعجني الآن بشدة هو أننا في أمريكا بتنا في طريقنا إلى اعتياد أن نكون بلدا في حالة حرب دائمة. فحين قال لنا ذلك الجنرال أو السياسي في التليفزيون إن تورطنا العسكري في الشرق الأوسط قد يستمر لنحو 65 عاما يأتي رد فعلنا وكأن أبشع ما قد يحدث لشخص أو لبلد هو الأمر الأكثر طبيعية في العالم. ذلك ما يجعلني مستمر في الكتابة عن أهوال الحرب وعن لامبالاتنا إزاءها.
ـ أعتقد أنه من الإنصاف القول بأنك على علاقة مخاتلة بصربيا منذ أن تركتها طفلا، ويعجبني بصفة خاصة إدانتك لصعود تيار الوطنية فيها (حيث أشرت في مذكراتك إلى أن الوطنية تغذي العنصرية). إلى أي مدى كانت الفائدة ـ وربما المصالحة؟ ـ التي جنيتها من قيامك ـ في مواجهة السباب والإهانة ـ بالاستمرار في التعرف على بلدك من خلال ترجمة أهم شعرائه؟
ـ حسن، لقد بدأت ترجمة الشعر اليوغسلافي ـ كما كان يسمى في ذلك الوقت ـ في ستينيات القرن الماضي، قبل وقت طويل من ابتداء ذلك الهوس بالوطنية. في سنة 1990 بدأت أكتب لجرائد المعارضة في صربيا. كنت أهاجم ذلك الجنون فيهاجمني الوطنيون زاعمين مثلا أنني أحصل على مبالغ مالية ضخمة لأقول عن صربيا ما كنت أقوله. والحقيقة أن أحب هذه التخرصات إلى قلبي ما قيل عن توجهي إلى واشنطن ومقابلتي بيل كلينتن وطلبي منه أن يقوم بقصف بلجراد. أي أنني دخلت البيت الأبيض فقال لي كلينتن "تشارلي كويس انك جيت، قل لي بقى أعمل إيه في البلقان؟" فقلت له، بداية يا بيل، عليك أن تمحو وطني بلجراد من على الخريطة، ثم نرى ماذا نحن فاعلون.
ـ هذا بعيد تماما عن العقل، ولكن لا بد أنه كان مؤلما بعض الشيء.
ـ ليس في واقع الأمر، فقد كان أسخف من أن يؤثر هذا التأثير. أعني أنه حتى هنا في الولايات المتحدة، هناك من يؤمن بأشياء جنونية، كإيمان البعض بأن أوباما مسلم متعصب وأنه يخطط لتطبيق الشريعة في الولايات المتحدة ذات يوم قريب. إنه نفس النوع من الجنون. ولكن شيئا من ذلك لم يؤثر على عملي كمترجم. الأمر الوحيد الباعث على الحزن في هذا الأمر هو أنه بمجرد أن بدأت الحروب، لم أعد أقدر أن أنشر أنطولوجيا للشعراء اليوغسلافيين، حيث لم يعد الشعراء يريدون النشر مع بعضهم البعض في كتاب واحد، فكان علي أن أنشر للبوسنيين وللكروات كل على حدة.
ـ ماذا عن إصدارك ترجماتك الكاملة؟
ـ لا أعرف إن كان الأمر سهلا هذه الأيام، لا أعرف إن كانت هناك سوق. أعتقد أن أغلب التراجم الشعرية محددة جغرافية، أظن أن [دبليو إس] مرون أصدر هذا النوع من الترجمالت الكاملة.
ـ مؤخرا صدرت طبعة جديدة من الأنطولوجيا التي ترجمتها للشعراء الصرب بعنوان "للحصان ستة سيقان" عن دار جاريوولف. كانت الطبعة الأولى قد توقفت عند نينا زيفانسيفيتش Nina Zivancevic  ولكن الطبعة الحالية تضم إضافات عظيمة إلى الكتاب مثل دانيكا فوكيسيفيتش Danica Vukicevic. ولأن الترجمة عمل لا يكتمل، بمعنى أننا قد نقضي أعمارا وأعمارا نترجم الشعر ويظل هناك دائما ما يمكن عمله، فما مدى المتعة التي تحققت لك من إعادة الاشتغال على ترجمات قديمة ثم إدراج ترجمات لشعراء صريبيين جدد في هذه الطبعة الأخيرة؟
ـ لقد وجدت متعة عظيمة في العمل على هذه الطبعة، لا سيما في العمل على أولئك الشعراء الذين لم تجر ترجمتهم من قبل وكانت هناك ضرورة إلى إتاحتهم بالإنجليزية. أتمنى لو تسنى لي القيام بالمزيد من التنقيح لقصائد الكتاب القديمة. فهناك على سبيل المثال، فاسكو بوبا الذي ترجمت له في مطلع السبعينيات، وكنت أود فعلا لو أشتغل عليه من جديد، لا سيما القصائد الأولى التي تدهشني الآن بما فيها من ارتباك وحاجة ماسة إلى الإصلاح. ولكنك محق طبعا، إذ بوسع المرء أن يقضي عمره في مراجعة مجموعة من الترجمات وإضافة المزيد إليها.
ـ بوبا وإيفان لالتش Ivan Lalic تركا تأثيرا كبيرا عليك، وكانا من أصدقائك أيضا. ما الذي تعلمته من هذين الشاعرين العظيمين، أعني من خلال ترجمتهما؟ هل جعلتك الترجمة ترى في كتابتهما أي نوع من التناغم؟
ـ بوبا ولالتش نتاج تراثين مختلفين للغاية، وجماليتين مختلفتين أيضا. لالتش ابن التراث الممتد حتى الرمزيين الفرنسيين من شعراء القرن التاسع عشر ومن وقع تحت تأثيرهم من الشعراء الصربيين الأوائل. كان رجلا واسع الاطلاع على دراية جيدة بالشعر الألماني والإيطالي والروسي والإنجليزي بل والأمريكي. وكنت أعرف كيف سيكون وقع شعره عند ترجمته إلى الإنجليزية.
بوبا كان حداثيا من السرياليين، الذين كان يعرف كثيرين منهم معرفة شخصية، كما أنه كان في باريس بعد الحرب. فجمع بين هذا وبين معرفة عميقة بالفلكلور الصربي بفوازيره وأغنياته وتهويداته وتعويذاته السحرية، أي السريالية المحلية لو جاز القول، وكان يتخذ من كل ذلك معينا مجازيا. وقد كان أحد أهم المؤثرين علي في بدايتي جنبا إلى جنب مع الشاعر الأمريكي تيودور روذك Theodore Roethke الذي كان يتخذ من العناصر الفولكلورية وحدات بنائية في قصائده. ولكن شعر بوبا كان أكثر تجذرا في اللغة الصربية من شعر لالتش، ومن ثم أصعب في ترجمته.
تعجبني في مقدمة "للحصان ستة سيقان" فكرة أن الترجمة وسيط تمثيلي، بمعنى أن المترجم قد يتحول في بعض الأحيان إلى الشاعر الذي يقوم بترجمته. هل يمكن أن توضح هذه الفكرة أكثر: ما المخاطر والفوائد الأخرى الناجمة عن الاندماج بين الشاعر والمترجم؟
ـ المترجم ـ مثل الممثل ـ يقرر أن يؤدي هذا الدور المعين فلا بد له من رؤيته وإدراكه حتى نهايته القاسية. حينما تكون قد قضيت فترة في ترجمة شخص فإنه يدخل إلى تحت جلدك فتشعر (أو تتصور أنك تشعر) بأن لديك تصورا واضحا حول هويته. غالبا  ما تكتشف أن ذلك الشخص لا يروق لك، أو أن فيه عنصرا معينا مزعجا لك ولكن عليك أن تقطع الطريق حتى نهايته إذا أنت أردت أن تترجم القصيدة. وإنك تشطح في بعض الأحيان في التقمص لدرجة أن تكتب مثله. ولكن ذلك لحسن الحظ لم يستمر طويلا في حالتي. ولكن المخاطر تنشأ من قرب هذه العلاقة. ولحسن الحظ، أنت تكتشف بسبب هذا القرب مدى الاختلافات الكبيرة بين نوعيات القصائد المحتملة. ولو أن الترجمة ناجحة، فإنك تقع في غرام ذلك الشعر الناجم عنها.
ـ أفهم أنك طول عمرك مدمن إذاعة. وقرأت عن كيفية تأثير الجاز على الإيجاز لديك، ولكنني أتساءل كيف أثرت الموسيقى على إحساسك بالإيقاع والتوقيت؟
ـ حسن، لا أعتقد أنها أثرت، ولكن من المؤكد أنك لو كنت تستمع إلى سوناتا لموتسارت فإن جمالها قد يؤثر على تأليفك لقصيدة. أعتقد أيضا أن الفنون متمايزة جدا، وأنك ستتعلم الكثير عن الإيقاع والتوقيت بقراءتك للشعراء أكثر مما ستتعلمه من الاستماع للموسيقى. سيكون من السخف أن يشار إلى إحدى قصائدي والزعم بأنها متأثرة ببيانو ثيولنيس مونك، مع أنها قد تكون كذلك بطريقة أو بأخرى. ربما العلاقة بين الشعر والرسم أقوى، ولكن حتى مع الرسم لا أعتقد أني واثق من أي شيء.
ـ حسب ما أرى، تنزع قصائدك إلى البعد عن الذات، بدلا من الكشف المتعمد عن الذات أو اكتشافها ؟
ـ كنت ولا أزال مهتما بالابتكار. لا يهمني أن تكون القصيدة عني أو عن شخص تخيلته. علاوة على أن لدي بصفة عامة شيئا من التكتم حيال الكلام عن نفسي بكثير من التفاصيل. لعل سبب ذلك يرجع إلى النشأة في الحرب، حيث يصبح من قلة الأدب أن تجد شخصا يقول "أوه، انظروا كم عانيت".
ـ أنت باعترافك تعاني من الأرق (من أحب إشاراتك إلى الأرق على مدار السنين قصيدتك "زفاف في الجحيم" حيث "قطة في فمها فأر تمر أمامي") كيف كان الأرق ميزة أو رفيقا لكتابتك؟
ـ قطعا كان لها تأثير. الأرق يرغمك أن تتفلسف ويعلمك التواضع.
ـ مثل الشاعر الإنجليزي بيتر ريدجروف  Peter Redgrove، أنت أيضا حسبت خطأ على السريالية طوال سنوات. ومثل ريدجروف أيضا، أشهد أنا أن سبب نجاح قصائدك (أعني نجاح رؤيتها) هو أن الواقعية قد تكون أحيانا فوق واقعية وليس سريالية
ـ حينما قيل عني إنني سريالي في الستينيات، أي بعد أربعين عاما من انتهاء السريالية، كان ذلك يبدو سخيفا. لطالما بدا لي أن هناك طريقتين في النظر إلى العالم: إحداهما بعينين مفتوحتين ويكون ثمة بالطبع الكثير من الأشياء المثيرة، والأخرى بعينين مغمضتين حيث يمكنك ربما أن ترى الأشياء بصورة أفضل. في كتابتي، لا أعلن للقارئ مطلقا: "هيه، انتبه، أنا الآن سوف أغمض عيني". بل أتنقل ذاهبا عائدا بين النظرتين كيف أشاء. طبعا أنا أقبل الواقع، ولكنني رأيت من الواقع الكثير طوال حياتي، وأعرف الآن أنه بدون الخيال لا يمكن لأحد أن يفهم ما يراه.
ـ في "ذلك الشيء الضئيل"، ألاحظ أن قطتك الصغيرة تؤدي دورا صغيرا: "ماما تغزل لي/سترة في الظلام/بابا على سيقانه الأربعة/يبحث عن قطة سوداء"، والآن بحق الشيطان ما الذي يجري هناك؟
ـ مثل ما يحدث الآن بالضبط حيث أنا وأنت نتكلم وأحد قططي السوداء جالس يراقبنا عن عمد.
ـ القطة إذن حقيقية؟
ـ بالتأكيد، ولكن يعجبني ما قلته أنت حالا. ربما كان يجدر بالقصيدة أن تحتوي تلك الإضافة، ذلك البيت الأخير ... والآن بحق الشيطان ما الذي يجري هناك؟
ـ فيم تعمل الآن؟
يخطط ناشري لإخراج "القصائد الكاملة" في غضون سنتين. حيث يكتمل لي خمسون عاما من العمل.
ـ تهانئي، ما الذي ستضمنه أعمالك الكاملة، وما الذي سيتم استبعاده؟ بفرض أن مثل هذا سيحدث.
ـ حسن، لا أريد أن أدرج كل شيء. لقد نشرت أشياء أتمنى لو أنني أتعقبها فأدمرها تدميرا. ولكن هذا ظرف مثير ومع ما فيه من إثارة هناك مسئولية اتخاذ القرار، وأنا الآن أحاول أن أقرر إن كان بعض القصائد التي كتبت قبل ثلاثين عاما جديرة بالمراجعة والتنقيح الآن. بعضها فيه مشاكل، ومشاكله هي التي تعطيه سحره. وأخشى أنها لو ضبطت فسوف تفقد هذا العرج، أو تلك العلامة في الوجه التي تجعل بعض الناس واقعين في غرامها. لذلك سيكون الأمر معقدا بعض الشيء، فلا بد من المزيد من ساعات عدم النوم.
ـ مزيد من الأرق
ـ وقد يكون هذا هو عنواني، أو ربما يكون علي الانتظار من أجل إصدار "ليالي الأرق الكاملة"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق