الثلاثاء، 7 يونيو 2011

في مديح الكذب



أيان ليزلي

قبيل موته بقليل، كان مارلن براندو يعمل على سلسة مصورة بالفديو لتعليم التمثيل، وكان من المنتظر أن يكون عنوانها "أن تكذب لتعيش". يمكن أن نرى براندو ـ فيما تبقى من المادة المصورة لهذا المشروع ـ وهو يستلهم من صنعته نصائح خرافية يسديها لجماعة من نجوم هوليود المتحمسين. كان من بين أفراد هذه المجموعة ليوناردو دي كابريو وشين بين. كما أتى براندو ضمن هذه المجموعة بمجموعة عشوائية من أهل لوس آنجلس وأقنعهم بالارتجال. ويقال إن في المادة المصورة الباقية مشهدا خالدا بين قزمين وسامون عملاق. وفي المادة المصورة أيضا يروى أن براندو يقول للكاتب جود كفتان (وهومؤلف فيلم "الحجر الدائر"Rolling Stone  وأحد القلائل الذين اطلعوا على المادة المصورة) "لو أن بوسعك أن تكذب، فبوسعك أن تمثل". فيسأله كفتان "وهل أنت ماهر في الكذب؟" فيقول براندو "يا يسوع، إنني بارع فيه".
لم يكن براندو أول من لاحظ أن الخط القائم بين الفنان والكاذب بالغ النحول. فلو أن الفن نوع من الكذب، فالكذب إذن نوع من الفن، وإن يكن أحط مرتبة حسب ما لاحظ أوسكار وايلد ومارك توين. كلا الفنان والكذاب يرفضان القبول بطغيان الواقع. وكلاهما يبدعان بحذر قصصا جديرة بالتصديق، وهي مهارة تقتضي براعة ذهنية وحساسية عاطفية وسيطرة مادية على الذات (فالكذابون هم مؤلفو أعمالهم وممثلوها في الوقت نفسه). وتلك التوازيات لا يمكن ـ إلا بمنتهى الصعوبة ـ أن تكون وليدة الصدفة، وذلك ما تبين لي وأنا أقوم بأبحاثي السابقة على تأليفي كتابي عن الكذب. ففي واقع الأمر  ينبع الكذب والحكي الفني من جذر عصبي مشترك ـ هو الجذر الذي ينكشف في حالات المرضى النفسيين الذين يعانون من نوع معين من التلف المخي.
في دراسة حالة نشرت سنة 1985 لعالم الأعصاب أنطونيو داماسي، تروى قصة عن امرأة في منتصف العمر مصابة بتلف مخي ناجم عن سلسلة من الجلطات. كانت لا تزال تحتفظ ببعض القدرات المعرفية، من بينها الكلام المتماسك، غير أن ما كانت تقوله كان في واقع الأمر شيئا لا يمكن التنبؤ به. ولاختبار معارفها بالأحداث المعاصرة، سأل داماسيو المريضة عن حرب فوكلاندس(1)، فبعفوية وصفت المريضة إجازة سعيدة قضتها في تلك الجزيرة، وتكلمت عن المشي لأوقات طويلة مع زوجها، وشرائهما الكثير من الهدايا والتذكارات من المحلات هناك. ولما سألها عن اللغة التي يتكلمها الناس هناك قالت "الفوكلاندية طبعا، وماذا غيرها؟".

بلغة الطب النفسي، هذه المرأة كانت تخرف(2) confabulating .ويمثل التخريف المزمن نوعا نادرا من مشكلات الذاكرة يؤثر على نسبة ضئيلة من الأشخاص الذين يتعرضون للتلف المخي. وهو يعرف في الأدب بـ "إنتاج المرء عن نفسه أو عن العالم ذكريات مفبركة مشوهة مغلوطة، ولكن دونما نية واعية للخداع". وفي حين يرتكب فاقدو الذاكرة amnesiacs  أخطاء بسبب الحذف ـ فتكون في تذكرهم فجوات يستحيل عليهم ملؤها، يرتكب المخرفون أخطاء بسبب الإضافة: إذ أنهم يؤلفون أشياء. وهم بدلا من أن ينسوا، يبتكرون.
يكاد مرضى التخريف ينسون ـ طوال الوقت تقريبا ـ طبيعة حالتهم، فيقدمون بجدية شديدة أسبابا بالغة الهزلية لسبب وجودهم في المستشفى، أو حديثهم إلى طبيب. وحينما سئل أحد المرضى عن سبب ندبة ناجمة لديه عن عملية جراحية، أوضح أنه أثناء الحرب العالمية الثانية بوغت بفتاة مراهقة أطلقت عليه ثلاث طلقات في رأسه، فقتلته، لولا عملية جراحية أعادته إلى الحياة. وحينما سئل المريض نفسه عن عائلته، وصف كيف أن كثيرين من أفرادها ماتوا بين ذراعيه، أو قتلوا أمام عينيه. وقد يحكي آخرون حواديت أكثر خرافية، عن رحلات إلى القمر، وقتال في جيش الإسكندر في الهند، أو عن رؤية يسوع على الصليب. والمخرفون لا يفعلون ذلك خداعا، ولكنهم يعانون ما يطلق عليه عالم الأعصاب موريس موسكوفيتش بـ "الكذب الصادق". وهم لانعدام يقينهم في شيء، وللكآبة التي تنتابهم بسبب انعدام اليقين هذا، يكونون مكرهين على السرد، تتنازعهم حاجة ماسة إلى الصياغة والتنظيم والشرح لكل ما لا يملكون فهمه.
وشأن تلك المرأة التي حكت عن إجازتها على جزيرة فوكلاند، فإن القصص التي تنساب على ألسن المخرفين تأتي فوريا، فما على المحاور إلا أن يطرح السؤال، أو ينطق كلمة معينة، فيكون ذلك أكثر من كاف، إذ ينطلق المريض كأنه عازف ساكسفون في فرقة جاز وألقيت إليه عبارة من زميله على البيانو فانطلق في عزف لحنه المنفرد. قد تشرح مريضة لصديق يزورها في المستشفى أنها موجودة في المستشفى لأنها تعمل حاليا معالجة نفسية، وأن الرجل الواقف بجوارها (وهو المعالج النفسي الحقيقي) ما هو إلا أحد مساعديها، وأنهما على وشك أن يقوما بزيارة مريضة الآن. وغالبا ما يكون المخرفون المزمنون أشخاصا ذوي قدرة ابتكارية عالية على المستوى اللفظي، فهم يجمعون بين المفردات بطرق مخالفة للمنطق ولكنها بالغة الإيحاء، فحينما سئل مريض عما جرى لملكة فرنسا ماري أنطوانيت قال إنها "انتُحِرَت" على يد أسرتها. هؤلاء المرضى هم ـ بمعنى من المعاني ـ مثل الروائيين ـ حسب وصف هنري جيمس لهم بأنهم أناس "لا يضيع عليهم شيء، ولا يفوتهم شيء". غير أنهم ـ خلافا للكتاب ـ لا يملكون السيطرة إطلاقا أو تقريبا على الخامة التي يشتغلون عليها.
عادة ما يكون التخريف المزمن مرتبطا بتلف في الفصوص الأمامية في المخ، لا سيما المنطقة المسئولة عن التنظيم الذاتي self-regulation والرقابة الذاتية  self-censoring. وجميعنا ـ بطبيعة الحال ـ حساسون للارتباطات، فنحن ما أن ننسمع كلمة "ندبة" حتى نفكر ربما في إصابات الحرب، أو سينما الأبيض والأسود أو حكايات معايَنة الموت. ولكننا نادرا ما نسمح لهذه الأفكار العشوائية بالاقتراب من الوعي، وقلة منا هم الذين يتبينون بوضوح هذه الأفكار من الأساس. ذلك أننا نمارس رقابة ذاتية لأجل خاطر الحقيقة، والمواءمة الاجتماعية والحسية. أما المخرفون المزمنون فلا يملكون أن يفعلوا هذا. وهم يربطون ربطا عشوائيا بين ذكريات حقيقية بأفكار ضالة وأمنيات وآمال، خالقين من كل ذلك التشوش قصة متماسكة.
تكمن الأهمية الكبرى لهذه الحالة  فيما تنبئنا به عن أنفسنا. فمن الواضح أن هناك نهرا متدفقا من الإبداع اللفظي في العقل البشري الطبيعي، ومن ذلك النهر يتفرع الإبداع الفني، والكذب. إننا نولد حكائين ننسج الحكايات من تجاربنا وخيالنا لنرخي ذلك اللجام الذي يحددنا بالواقع. وذلك أمر رائع، فهو الذي يمنحنا المقدرة على تخيل مستقبل بديل وعوالم مختلفة. وهو الذي يعيننا على فهم حياتنا من خلال قصص الآخرين الممتعة. ولكنه في الوقت نفسه قد يوقعنا في مشاكل، لا سيما حينما نحاول إقناع الآخرين بأن ابتكاراتنا حقيقية. نحن في أغلب الوقت نعمل ـ كلما تصاعدت قصصنا إلى الوعي ـ على تشغيل رقاباتنا المخية للتحكم فيما نقول من قصص، وللتحكم فيمن نقحكي لهم هذه القصص. ولكن الناس يكذبون، لكل أنواع الأسباب، ومنها طبعا أن التخريف ممتع بصورة خطرة.
في قضية قذف شهيرة جرت وقائعها سنة 1996، سرد جوناثان آيتكن ـ وهو وزير سابق في الحكومة البريطانية ـ حكاية يوضح بها الأهوال التي عاناها بعد أن قامت صحيفة وطنية بتلويث اسمه. حكي كيف ـ وهو يغادر بيته في وستمنستر ذات صباح وبصحبته ابنته المراهقة ـ طارده فريق عمل تليفزيوني صحفي. وبسبب الخوف والفزع من سلوك الفريق العنيف، انفجرت ابنته في البكاء، فما كان من آيتكن إلا أن انطلق بها في سيارته الوزارية. ولكنه وهو منطلق بسيارته أدرك أن الصحفيين يتعقبونه في شاحنتهم. وبدأت مطاردة مرعبة في وسط لندن. ولم يتخلص آيتكن من الصحفيين إلا حينما قام بخدعة بارعة، حيث توقف في السفارة الأسبانية، وخرج منها هو وابنته، ولكن في سيارة أخرى.
تلك القضية التي استمرت وقائعها لفترة تجاوزت السنتين كانت تتعلق بسلسلة ادعاءات أطلقتها صحيفة الجارديان عن تورط آيتكن في علاقات مع تجار سلاح سعوديين، وعن اجتماعات له معهم عقد بعضها اثناء رحلة في باريس قام بها وهو وزير في الحكومة. الذي أدهش الكثيرين عند معاودة النظر في القضية هو الطلاقة الرهيبة التي كان يكذب بها آيتكن أثناء إدلائه بأقواله. صحيح أن بعض تلك الأكاذيب كان ضروريا لدعم كذبته الأصلية، ولكن أكاذيب أخرى  قيلت ـ فيما يبدو ـ لمجرد متعة الاختراع. ففي حين كان آيتكن واقفا للإدلاء بأقواله مراكما الكذبة فوق الكذبة ـ ممارسا ذلك بارتجالية وإبداعية واضحتين ـ يحتمل أنه كان يشعر بمثل ما كان يشعر به براندو أمام الكاميرا. ولقد انهارت قضية آيتكن في يونيو 1997 عندما عجز فريقه الدفاعي في نهاية المطاف عن تقديم دليل مقنع لا يرقى إليه الشك بشأن رحلة باريس. ولكن حتى ذلك الحين، كان يبدو أن النصر سيكون من نصيب آيتكن، لما أظهره من طلاقة وبراعة وقدرات مسرحية وصدق في الأداء. ولم يظهر أول انبعاج كبير في واجهة حكاياته إلا قبل أيام قليلة حينما أذاعت قناة الشريط الكامل للقاء الذي انتهى بالمطاردة. لا يقتصر الأمر على أن آيتكن خرج من بيته في ذلك الصباح بدون ابنته، ولكنه ركب سيارته، وقادها، ولم تتبعه أية سيارة أخرى.
طبعا، خلافا لآيتكن، لا يحاول الفنانون والمسرحيون والروائيون أن يخدعوننا بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك لأن القواعد موضحة سلفا: أنت عليك أن تأتي إلى المسرح، أو تفتح الكتاب، ونحن علينا أن نكذب عليك. ولعل ذلك هو السبب الذي جعلنا نستشعر في المقام الأول بضرورة إيجاد الفن: ليكون مكانا آمنا، تأوي إليه أكاذيبنا، وتجد لنفسها من خلاله قنوات اجتماعية مفيدة. وبما أن الإنسان بطبيعته مكره على اختلاق الحكايات، يكون الفن خير وسيلة لتنقيح الغريب والعميق من هذه الحكايات والاستمتاع بها. ولكن تلك ليست القصة كلها. فالفارق الأساسي الذي يختلف به "الكذب" الفني عن الكذب الطبيعي وعن "الكذب الصادق" لدى المخرفين المزمنين، هو أن للكذب الفني معنى وصدى يتجاوزان خالق هذا الكذب. فالكاذب يكذب بالأصالة عن نفسه، بينما الفنان يكذب بالنيابة عنا جميعا. ولئن كان الكتاب مكرهين على الحكي، فهم يكرهون أنفسهم على التوغل في أعماق الظرف الإنساني. ولقد كتب ماريو فارجاس يوسا أن الروايات "تعبير عن حقيقة مثيرة لا مجال للتعبير عنها إلا  على نحو سري محجوب، فتتنكر فيما ليست هي إياه".
الفن كذب، قوامه السري، هو الصدق.

 أيان ليزلي مؤلف كتاب "الكذابون بالفطرة: لماذا لا يمكن أن نعيش بلا كذب" Born Liars: Why We Can’t Live Without Deceit الصادر عن كويركوس

(1) حرب قامت بين الأرجنتين والمملكة المتحدة حول تبعية جزيرة فوكلانس بين ابريل ويونيو 1982 وانتهت بانتصار إنجليزي حاسم ـ ويكبديا
(2)لا بد أن تكون هذه ترجمة خاطئة لـ confabulating التي يترجمها المورد إلى "المسامرة"، غير أن الترجمات الرائجة في حدود ما يبدو من الإنترنت تتراوح ما بين "خلط الذاكرة" و"التحادث الزائف" أو حتى "أذية الفص الجبهي بالتخريف!" هي جميعا لا تستوعب معنى هذا المرض، علاوة على ما فيها من ركاكة. والتخريف، والمخرف confabulator، وهما الكلمتان المستخدمتان بكثرة في ترجمة هذا المقال ليستا أكثر من اقتراح أو اجتهاد، أو حتى حل مؤقت للتعامل مع هذا المقال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق