الثلاثاء، 14 يونيو 2011

آرونداتي روي: الأدب وحده لا يكفي




في عالم يبعث على الغضب والجنون
آرونداتي روي: الأدب وحده لا يكفي

آيمي كازمن*




في طفولتها، أغارت أرونداتي روي ذات يوم على حديقة معلمتها في قريتها بولاية كيرالا الاستوائية الخصيبة الواقعة في جنوب الهند. وأخذت تحفر أرض الحديقة بحثا عن الجزر، فأخذت الجزرات البرتقالية الصالحة للأكل، ثم بحرص عادت فغرست العيدان الخضراء في التربة. ومضت أربعة أيام قبل أن تذبل العيدان الخضراء وتفتضح الجريمة. ولكن هوية الجاني ظلت مجهولة.
تحكي روي هذه الحكاية في ليلة قائظة من ليل شهر مايو الماضي في نيودلهي، في الأمسية التي شهدت الانطلاقة الهندية لكتابها الجديد “الجمهورية المكسورة “. تذهب روي إلى أن مؤسسات الهند الديمقراطية التي يكثر الكلام عنها هي اليوم أشبه ما تكون بالجزرات فيما بعد الغارة على حديقة المعلمة: حيث العيدان الخضراء، الزوائد الإضافية، هي الحاضرة الظاهرة، أما الجوهر، أو الأصل، فمفقودان.
في الصباح التالي كنت جالسة مع الروائية الحائزة على بوكر، والناشطة السياسية، في شقتها الأنيقة الثرية، سألتها عن الدافع إلى غارة الحديقة: هل كان الانتقام مثلا من إساءة ألحقتها المعلمة بها؟ تقول روي “لا بد أنني كنت أريد الجزر، ولا بد أنني قلت لنفسي: ولم لا آخذ الجزر، وأعبث في الوقت نفسه بالسلطة؟” وتميل برأسها إلى الوراء وهي تضحك.
روي الآن على عتبة الخمسين، كانت ذات يوم طفلة الهند الجديدة، وهي الآن من أشد منتقديها وأشهرهم، ويبدو أنها لا تزال تعبث مع السلطة. فلقد ظلت الهند ، على مدار العقد الماضي، تبيع للعالم قصتها وتروجها فيه: قصة القوة العظمى الصاعدة، والدولة الديمقراطية القوية ذات معدل النمو المرتفع. في حين كانت روي تستعمل علاقتها الفريدة مع الكلمات، وشهرتها أيضا، في نقض هذه القصة، وإنتاج صورة دولة لا تقدم خدماتها إلا لطبقة وسطى جشعة، وتسحق الفقراء في طريقها إلى تحقيق مستويات أعلى ومكانة عالمية مرموقة.
يركز كتابها الأخير على أحدث مأساة في الهند: حربها الخفية ضد الثوار الماويين الذين أسسوا لأنفسهم موطئ قدم راسخا بين القبليين المهملين في قلب الهند. فقد دأبت الهند منذ سنوات على تجاهل الحزام القبلي وما يواجهه سكانه من مصاعب. والآن تأتي الحكومة وشركات الهند الكبرى، وقد رغبت في الحفر بحثا عن المعادن المدفونة تحت أرض هذه المنطقة، فتفزع حينما تجد الماويين في طريقها.
يقوم الماويون بتنظيم المجتمعات القبلية منذ سبعينيات القرن الماضي، ومساعدتهم على مقاتلة مسؤولي الغابات وأصحاب حق الانتفاع الذين يشترون أوراق شجر الغابات لتصنيع السجائر الهندية الشعبية الملفوفة يديويا. والآن يقوم الثوار بمقاومة عمليات مصادرة الأراضي القبلية. حتى وصل الأمر بنيودلهي إلى إعلان أن هذه العصابات هي التهديد الأكبر على الأمن الداخلي في الهند.
في أواخر عام 2009، قضت آرونداتي روي ثلاثة أسابيع مع العصابات الماوية في “مناطقهم المحررة” في ولاية تشهاتيسجراه Chhattisgarh. تقول لي إن التجارب التي جنتها من السفر معهم وبينهم تمثل “بعض أكثر لحظات حياتي إدهاشا” وهذه اللحظات تمثل لب كتابها الجديد، الذي أثار تصويره للماويين ـ بقدر سافر من التعاطف ـ اتهامات غاضبة لروي بأنها نظرت نظرة مغالى فيها لحركة عنيفة لا تتورع عن قتل القوات الهندية. ولكنها لم تقدم أي اعتذار 


.
تقول “لقد كان رائعا بالنسبة لي أن أرى هؤلاء الناس يقفون في مواجهة أقوى قوة في العالم. وجدت في مقاومتهم شيئا بالغ الرومنتيكية. أنا مؤمنة بذلك، وأتمنى ألا أفقد يوما المقدرة على السماح للرومنتيكية بالدخول إلى حياتي، دونما خوف، ودونما محاولة للاحتماء منها”.
تصر روي أنها لا تقر العنف، أو النضال المسلح، غير أنها تشعر بأن تلك المجتمعات القبلية ليس لديها الكثير من الخيارات الأخرى لحماية طريقتها في الحياة، في مواجهة جهود منسقة بين مسؤولين في الدولة وشركات كبرى لإبعادهم عن أرضهم، وتشريدهم. تقول “إن النضالات الغاندية غير المسلحة تعامل بمثل الطريقة التي عومل بها النضال المناهض لإقامة سد نرمادا، فينتهي المطاف بالناس وقد انتقلوا إلى منطقة أخرى. الأمر أبعد ما يكون عما إذا كان هؤلاء الناس جالسين يتساءلون: ترى هل ينبغي أن نناضل أم لا ينبغي. هؤلاء الناس ليس لديهم خيار آخر. ليس لديهم مكان آخر”.
تقول إنها ـ في ذروة رحلتها مع الثوارـ لم ترد أن تترك الغابة. “كنت في منتهى السعادة. فأقول لهم: دعوني معكم هنا، فكانوا يقولون: لا، أنت تذهبين. لا نستطيع”. تقول: “كنت في الغابة، وذلك أمر أحبه، وكان أمرا حقيقيا. لم يكن ضربا من ضروب السياحة، أو إجازة من نوع ما. كان كل ما يثير اهتمامي موجودا حولي في مكان واحد”.
بعيدتان نحن الآن عن الغابة، جالستان وجها لوجه، كل واحدة في جانب من أريكة في غرفة المعيشة والعمل في منزل بأحد أرقى أحياء نيودلهي. على أحد الجدران تصطف رفوف الكتب، وشاشة تلفزيونية مسطحة كبيرة. وفي أماكن أخرى تتزين الجدران ببورتريه لهوارد زن، المؤرخ الأمريكي الراحل، وملصق نصه “كفى سدودا” وصورة فوتغرافية كبيرة لمقتل ماوي بجانبه سلاحه.
تأتي الخادمة بطبق فيه شرائح مانجو، وتدعوني روي إلى مشاركتها فيه. تقول في عذوبة “هيا نأكل مانجو. المانجو ليس لها مثيل. مرة تمنيت لو أتقاعد من العمل وأتفرغ لتناول المانجو في نور القمر. تفضلي”.
نشأت روي في رعاية أمها، ماري روي، وكانت امرأة مزاجية خرجت مرارا على تقاليد وأعراف مجتمعها المسيحي السريانية Syrian Christian في مقاطعة كوتايام بكيرالا. تمثل أول خروج على الأعراف في زواجها القائم على الحب من هندوسي بنغالي. وهي زيجة انتهت بالطلاق. ثم عادت إلى قريتها الأصلية، قرية دوتي في كيرالا، وبصحبتها أطفالها، وبينهم روي ولم تبلغ من العمر إلا عاما ونصف العام 

.
كان ذلك في أوائل ستينيات القرن الماضي، وفي ذلك المجتمع المسيحي السوري المحافظ القائم على الروابط العائلية، كانت انتهاكات الأم للتقاليد وصمة لا على جبينها وحدها، بل وعلى جبين أطفالها. تقول روي “إنني نشأت في وضع مرعب. فلم أكن أنا وأخي مقبولين كفردين في ذلك المجتمع ... وأنا بالذات كنت على شفا الهاوية. وكأنما يقال لي كل لحظة ’لن تجدي أي أحد يتزوجك’. الطمأنينة التي توفرها العائلات الطبيعية، والمجتمعات الطبيعية، لأطفالها، لم تكن متاحة لنا بأية صورة. ومن ثم فقد كان ثمة تلك المساءلة، وتلك الغريزة الدافعة إلى رؤية الأشياء من وجهة نظر المقهورين.
تضيف روي “أنا لم يجر تلقيني على النحو الذي يحدث للنساء الهنديات، فلم يكن لدى أحد الوقت لتلقيني ما يجب وما لا يجب. كانت علاقتني بالعالم علاقة مباشرة، لم تكن ثمة وساطة أو حماية”.
في السادسة عشرة من عمرها، تركت روي البيت ووفدت على نيودلهي لتدرس الهندسة المعمارية، وتتولى أمر نفسها بنفسها في مدينة ضخمة. “كنت أذهب لأشرب الشاي مع المتسولين، وكانوا يظنون أنني على علاقة بمروجي المخدرات، ولم أكن أنكر هذا، إذ قلت لنفسي إن هذا الظن سيجعلهم يظنون أن لي حماية، وإنني لست وحدي. ومن احتكاكي بهم، تعلمت أن أطرح السؤال من القاع، لا من القمة”.
حينما صدرت روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة” سنة 1997، أصبحت موضع تملق من طبقات الهند الوسطى، لا لقيمة الكتاب ـ الذي لم يقرأه الكثيرون ـ بقدر ما كان التملق لقيمة الأجر البالغ خمسمائة ألف جنيه استرليني، ثم لجائزة بوكر فيما بعد. وبذلك النجاح، أصبحت روي رمزا حيا لاعتلاء الهند خشبة المسرح العالمي. ولكن بعد أن أدانت روي بحدة اختبارات الأسلحة النووية التي أجرتها الهند في سنة 1998، خارجة بذلك على حالة الهوس والفخر الوطني المؤيد لتلك التجارب، بدأت المواقف تجاهها تتغير.
“ذهلت لما رأيت حتى الموسيقيين والرسامين يحتفلون بتلك الاختبارات النووية، وكان بوسعي أن أشم الفاشية في الهواء. وكانت تلك فرصة سانحة للجهر بشيء ما، ونيل كراهية الجميع ممن احتفوا بي من قبل بطبيعة الحال. شعرت أنني لو لم أفعل ذلك فإنني لن أقدر أن أكتب مرة أخرى. حيث تبدأين في فرض رقابة على نفسك. تبدأين في ملاعبة بعض الجمهور الخيالي الذي تريدين إرضاءه، ثم ينتهي كل شيء”.
ومنذ ذلك الحين أصبحت الكتابة القصصية ذكرى، وصارت روي تكرس كل جهودها للنشاط السياسي، فتسافر إلى أنأى مناطق الهند، لحضور اجتماعات سياسية وكتابة مقالات عن مواضيع تتراوح ما بين بناء السدود والفساد القضائي وانتهاكاته للأغلبية المسلمة في إقليم كشمير. “تجدين نفسك منجذبة إلى عالم يعرفه الناس، وفيه لا يخاف المرء من الجهر بما يشاء. كل ما جرى خلال الأحد عشر عاما الماضية جرى بدون أي تخطيط. كانت كلها عبارة عن عملية تعميق للفهم”.
في كتاباتها السياسية، كانت روي ولا تزال قاسية في وصفها لبرنامج تحرير الاقتصاد الذي تمارسه الهند منذ عقدين من الزمن، وهو البرنامج المشهود له بتحقيق فرص اقتصادية غير مسبوقة، وهو أيضا البرنامج الذي يبدو أنه يستخف بفئات عريضة في المجتمع.
انتقاداتها الحادة جعلتها شخصية مكروهة لدى كثير من الوطنيين الهنود. كما أن ثمة إحساسا بين عدد من اللبراليين والنشطاء اليساريين ـ الذين يشاركونها في تخوفاتها المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وفي كثير من القضايا التي تثيرها ـ بأن أداءاتها اللغوية المزعجة متطرفة أكثر مما ينبغي. تقول “أعرف أنني أزعج الناس، ولكن ما من وسيلة لتحقيق رضا الجميع وموافقتهم عند الكتابة في مثل هذه القضايا. أنا لا أخشى من إزعاجي للطبقة الوسطى. أنا أقول أفكاري. وأعرف أن المؤسسة كلها لا توافق على هذه الأفكار، وتود لو أخرس نهائيا، أو أخفف من لهجتي، ولكنني لا أستطيع أن أفعل هذا، لأنني أقول ما لا يقوله أحد”.
تقول روي “أنا كلما أكتب شيئا، أقضي بضعة أيام قليلة بعد ذلك أنقيه من مثيرات الغضب التي لا لزوم لها. ذلك أنني بالفعل لا أتعمد إثارة غضب أحد”.
من المؤكد أن في الهند كثيرا من الأشياء المثيرة للغضب، بل لأقصى درجات الغضب. ولكنني أتساءل عما إذا كانت بالفعل تشعر بأن الإصلاحات الاقتصادية لم تأت بأي نفع على الإطلاق. أتساءل عن ذلك وأنا أفكر في القرى النائية، والأحياء العشوائية الفقيرة، التي بات سكانها جميعا قادرين على التواصل مع العالم من خلال الإنترنت والمحمول. وبعد لحظة تأمل، تجيب روي:
“الأمر أشبه بالمخض. لديك ممخضة هي عبارة عن مجتمع إقطاعي سافر في الظلم وفي تغييب المساواة. في هذه الممخضة، ينفصل اللبن إلى طبقة كثيفة من القشدة، وكثير من الماء غير الصالح إلا للرمي. تصبح الطبقة الكثيفة المكونة من الطبقة الوسطى التي تم اختراعها هي السوق. بغتة، يصير هناك عدد كبير من الناس الذين يحتاجون إلى سيارات ومكيفات ويصبح ذلك كونا في ذاته. طبعا الأمر في ظاهره عظيم. ثم يكون هناك ذلك الشيء الخفي الذي يجرفه هذا المد في طريقه”.
أليس من المكن أن تكون الطبقة الوسطى الهندية الناشئة هي التي تقوم بالدفع نحو الإصلاحات بما يجعل مؤسسات الديمقراطية في الهند تعمل بفعالية أكبر، بما فيه خير المواطنين؟
تقول وقد بدأ صوتها يعلو قليلا “دليني على شيء واحد يمكن لقروي أن يفعله طلبا للعدالة إن ساءت أموره. لا يوجد شيء يمكن أن يفعله. فلو تم اعتقال شخص وزج به في السجن لخمس سنوات نتيجة خطأ ما، هل تتصورين أن هناك ما يمكن لهذا القروي أن يفعله إلا أن يبتلع غائطه ويعيش وكأن شيئا لم يكن؟”
تقول روي إنها فرحت عندما أثيرت فضيحة قطاع الاتصالات في الهند عند تسريب أشرطة لمكالمات هاتفية مسجلة لبعض أنصار الشركات الكبرى، وأظهرت مدى تشابك العلاقات بين الساسة والشركات والنخبة الإعلامية في الهند.
“لقد كانت أشبه بصورة بالأشعة أكدت لنا التشخيص المرجح، وهو أننا مصابون في كل شيء: في الإعلام وفي القضاء وفي الشركات وفي السياسة ـ انكشف كل شيء على أوسع نطاق. وفي حين كان الجميع يعبرون عن صدمتهم” وتضيف وهي تقهقه “كنا جميعا نستلقي على الشط في استرخاء قائلين: واو، والآن ليس علينا أن نعمل بكل هذا الجد”.
تقول روي إنها باتت مستعدة للتغيير، وربما للعودة إلى الكتابة الروائية التي تعطلت بسبب نشاطها السياسي. “أشعر كما لو أنني قمت برحلة مثيرة للغاية طوال الإحدى عشرة سنة الماضية، والآن بت مستعدة للقيام بشيء مختلف. لقد قلت لنفسي قبل سنتين ’كفى .. كفاك من هذا’ ثم أخذت أعمل على بعض الكتابات القصصية. ثم وقعت تلك الانتفاضة الضخمة في كشمير”.
لن يكون من السهل عليها أن تخرج نفسها من العمل السياسي. فالجيش الهندي يقوي حضوره في المناطق القبلية ومن المرجح أن يحتد الصراع. وبعد هدوء نسبي في أعمال العنف، نجح كمينان ماويان في قتل عشرين من أفراد القوات الهندية. ولن يطول الانتظار قبل أن يأتي رد الحكومة. وحتى الآن، بينما يتهيأ هذا الحوار للانتهاء، تستعد روي لإلقاء كلمة أمام ملتقى يبحث هذه الأزمة.
“لا أستطيع أن أكف عن التفكير في ذلك المكان، فيمن قابلت من الناس وفيما رأيت من عنف ومن أمل، في كل ذلك. ولا أستطيع بسهولة أن أقول لنفسي إنه من المهم جدا أن أكتب رواية أخرى، وأكف عن كل هذا الذي أفعله. ليس ذلك بالأمر السهل، أن أحيد ببصري”.
 

*آيمي كازمن، مراسلة فايننشال تايمز في جنوب آسيا، وقد نشر هذا الحوار في فايننشال تايمز في 3 يونيو 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق