الأحد، 19 يوليو 2009

هكذا أصبحت الكتابة سلاحا


هكذا أصبحت الكتابة سلاحا

منذ فوزها بجائزة بوكر عام 1997، أوقفت أرونداتي روي نشاطها الإبداعي لتنضم إلى زمرة الأصوات العالمية المنددة بالقهر، و"التقدم" الاقتصادي، والسدود. في هذا الحوار، الأوبزرفر البريطانية في 12 يوليو 2009، يستكشف تيم آدمز جذور ولعها بالسياسة

لأرونداتي روي صوتان: صوت شخصي لاعب هو الذي كتبت به روايتها الاستثنائية الأولى "إله الإشياء الصغيرة" التي حملت سردا شبه ذاتي لنشأتها في كرلا. وصوت ثان هو الأكثر غضبا وقتالا وارتيابا في مراوغات الفرد. تصف روي هذا الصوت الثاني بـ "الكتابة من قلب الزحام". وهو الصوت الذي قصرت استخدامه لمدة اثنتي عشرة سنة منذ نشر روايتها على إصدار أربعة كتب غير روائية، صدر آخرها ـ وعنوانه "الإنصات للجنادب: ملاحظات ميدانية عن الديمقراطية" ـ الأسبوع الماضي.

تصف روي ـ التي تبلغ من العمر سبعة وأربعين عاما ـ الفارق بين الصوتين بأنه كالفارق بين
"الرقص والمشي". فما أبعد العهد بيننا وبين آخر رقصة لكتابات روي. تقول إنها لم تختر أن تحمل خيالها على المشي، مطلقا، ولكن لم يبد أن هناك ما يمكن عمله غير هذا. "لو كان بيدي، لسرني أن أنفق وقتي كله في كتابة الرواية. فبالنسبة للمقالات، هناك كتاب واحد أردت أن أكتبه، وثلاثة كتبتها دون أن أريد ذلك".

هذا الاضطرار ـ إلى الجدال والكشف ـ تعزوه روي جزئيا إلى نجاح رواية "إله الأشياء الصغيرة"، التي قضت روي أربعة أعوام ونصف العام في كتابتها سرا، لم تكشف عنه حتى لزوجها، المخرج السينمائي باردب كريشن Pradip Krishen الذي لم يعرف بأن ثمة رواية إلا عندما اكتملت الرواية فعلا. كتبتها لنفسها. وكانت من قبل قد كتبت سيناريوهين فانتهت إلى احتقار العمل الإبداعي الجماعي. كانت الرواية ممارسة للتمهل والتأمل. وكانت تتصور أن الرواية ستبيع عند طباعتها "ربما خمسمائة نسخة بالكثير في دلهي". فإذا بها تبيع ستة ملايين نسخة في شتى أرجاء العالم وتصل بكاتبتها إلى الفوز بجائزة بوكر.

الآن تقول روي إن "الجائزة كانت في واقع الأمر مسئولة من جوانب كثيرة عن نشاطي السياسي. فما إن فزت بها حتى صرت بغتة طفلة مدللة لدى الطبقة الوسطى الهندية الناشئة، كانوا بحاجة إلى أميرة. ووقعوا على المرأة غير المناسبة. كان الضوء يسطع عليّ في ذلك الوقت، فعرفت أنني أمام المنصة، وأن علي أن أقول شيئا ما عما كان يحدث في بلدي. والمثير فيما أقوم به منذ ذلك الوقت هو أن الكتابة أصبحت سلاحا، أصبحت ذخيرة من نوع ما".

مقالات "الإنصات للجنادب" هي قنابلها اليدوية التي كتبتها على مدار السنوات الثماني المنصرمة. تقول روي إن جمع هذه المقالات في كتاب واحد كان "أمرا محزنا لي بطريقة ما، حين ترى أنك قلت منذ ست سنوات إن شيئا ما سوف يحدث، ثم إذا به حدث. ليس ذلك عن عبقرية أو سحر. بل لأنك حينما تنظر إلى أسلوب عمل الآلة ككل، تتضح بنيتها تماما أمام عينيك".

تلك الآلة هي محرك "تقدم" السوق الحر التي يطلق عليها الساسة في الهند "السطوع الهندي" الذي تراه روي دمارا لكل ما يجب على بلدها أن ترعاه من مصالح عامة شاملة لمختلف القوميات هناك. يبدأ كتاب "الإنصات للجنادب" بسؤال هو "هل هناك حياة بعد الديمقراطية؟" ويمضي الكتاب ليرصد أساليب الحكومات الهندية المتعاقبة ويعرض للحرب الشعواء التي شنها رجال الأعمال لقهر الفقراء والأقليات، وتدمير البيئة لصالح المكسب السياسي والاقتصادي.

عادت آرونداتي روي لتوها من منطقة تشاهاتيسجراهChhattisgarh التي "تستهدفها الشركات حاليا نظرا لغناها بخام الحديد. وباسم مقاومة الثوار الماويين، تم إخلاء مئات القرى من سكانها، وتم إكراه نحو أربعين ألف إنسان على الحياة في مخيمات الشرطة". تقول روي إن مشاهدة ما يجري هناك تكسر القلب فـ "لو أن ما يجري هناك من عنف، ونزع الملكية، يجري في إيران أو في أي بلد ليست فيه سوق حرة وديمقراطية، لصار في صدارة الصحف العالمية كل يوم. ولكن لأنها الهند، لا يذكر أحد شيئا".

وتمضي روي فتصف "إقامة مئات السدود في أعالي الهيمالايا. "حينما ترى ما يجري هناك فكأنك تراه يحدث في جسمك". في عام 2002، تم اعتقال روي لفترة وجيزة لاحتجاجها على مشروع سد نرمادا Narmada. وتراها حين تتحدث الآن عن هذه الأشياء ـ وعن أهوال الحرب الجارية في كشمير ـ فإذا هي تتحدث بغضب وحزن، حتى أنك توشك أن تتصور أنها سوف تنفجر.

تقول إن "الوقت ينفد. والأنهار تجف. ولكنك لا يمكن أن تشن حربا على السدود. فهي حرب عدوك فيها ليس البشر وحسب، بل نظام اقتصادي كامل وأنماط إنتاج للمحاصيل. و لا يمكن أن تقيم نضالا مسلحا في مواجهة نهر يفيض".

تقول روي إن في الهند ـ في الوقت الذي تتحقق فيه معجزتها الهندية ـ ثالث أكبرعدد في العالم من الأطفال الذين يعانون نقص التغذية. وما كان لشعب غير شعبها أن يحتفل بفوز "المليونير المتشرد" في ليلة الأوسكار. "فوز الفيلم ـ وهو ليس حتى فيلما هنديا ـ بهذه الجوائز وضع هؤلاء الناس في دائرة الضوء. ولكن يبقى من الغريب أن تفخر بلد قديمة كالهند بفيلم كهذا. فما الذي كنا نحتفل به فعلا؟ بالفقر؟ إنه فيلم لو لم يكن بالغ المأساوية لكان بالغ الكومديا".

حين سألتها على أي شيء تعلق أملها، هزت كتفيها. فهي على ضآلة جسمها، تشعر بخيبة يمكن أن تملأ غرفة. وليس لديها إيمان بمقدرة السياسات المعهودة على تغيير أي شيء. أوباما "قد يكون رمزا" ولكنها تسلم أنه "لن يطرأ أي تغيير على علاقة الرأسمالية الأمريكية ببقية أرجاء العالم. ولكي أجيب سؤالك، أقول إن الأمر لا علاقة له بأملي، إن له علاقة بالـ دي إن آيه. هناك ناس يرتاحون للسلطة وناس لا يرتاحون لها ولا يرتاحون إلا بمساءلتها".

وبهذا المعنى، تكون روي ابنة أمها بحق. فقد كانت ماري روي ـ قبل مولد آرونداتي ـ مناضلة بارزة من أجل حقوق المرأة. وقد أقامت ـ وهي المرأة المطلقة ـ مدرسة تجريبية للفتيات كانت آرونداتي نجمة تلميذاتها. فهل تشعر آرونداتي أنها صنيعة أمها؟ "لا. نحن مزاجيا مختلفتان كل الاختلاف". هكذا تسرع إلى الرد، مضيفة أن "أمي تدير مؤسسة ضخمة، لديها مئات ممن يعملون لحسابها، بينما أنا أرتاح للوحدة، فليست لدي سكرتيرة ولا يعمل معي أي شخص. ترعبني هذه الفكرة أصلا. أريد أن أشعر في خيالي أنني قادرة أن أكون في أي مكان. وذلك طيش تسمح به الوحدة".

تركت روي بيت أمها بمجرد أن استطاعت ذلك، وقد تركته في أول الأمر لتعمل معمارية ثم لتسعى إلى أحلام أخرى. فقد كتبت في بعض كتاباتها تقول "حينما كنت في الثامنة عشرة، آثرت الحرية على أمان البيت، والملابس الجيدة، وكريم بيبي جونسن للأطفال. ومن حسن حظي أنني لم أكن أريد أن أتزوج، ولم أكن مقهورة، ولم أتعرض للضرب حينما قررت الاستقلال وتحمل شتى تبعاته".

تتكلم روي كثيرا عن أمها النشطة ولكن أباها يختفي من القصة. فما الذي حدث له؟

"انفصل أبواي حينما كان عمري سنتين، ولم أر أبي حتى بلغت من العمر أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين. كان مدمنا على الكحول، تماما. مات السنة الماضية. لم أعرفه بصورة حقيقية، ولكني كنت موجودة في النهاية. كانت لي عمة هي التي تولت العناية به وكنت أساعد في بعض الأحيان ولكنه كان شخصا لا يمكنك أن تكلمه، وأعني هذا".

لا بد أنه حضوره كان مماثلا للغياب؟

"أرى أحيانا أن فقداني للأب لم يكن شيئا سيئا. وذلك لسبب واحد هو أنه أتاح لأمي المجال لتغرس شخصيتها، وكانت فعلا تحتاج إلى مساحة شخصين على أقل تقدير لتفعل ذلك. كما أنه أتاح لي أن أتفادى أي نوع من المعارك الأبوية. وبذلك أصبحت خبرتي كلها وأصبحت أنا نفسي نسوية بالطبيعة، لم أكن بحاجة إلى التعلم. حدث الأمر لي ببساطة".

قررت روي وهي بعد صغيرة ألا تنجب أطفالا. فهل كانت تلك استراتيجية أخرى لحماية حريتها؟

"كنت أكبر والأطفال من حولي طوال الوقت. في مدرسة أمي، كنت أكون في الرابعة من عمري فتتعين علي رعاية البنات اللاتي في الثالثة، وهكذا. مارست التدريس كثيرا. وما إن بلغت السادسة عشرة حتى صرت غير راغبة في رؤية أي طفل آخر مرة ثانية".

تستمد قوتها من نضال كتاب آخرين، لعل أبرزهم نعوم تشوسكي وجون برجر اللذين تردد اسميهما كثيرا. "أراهما كثيرا، وأقرأ لهما. هناك في ظني مشاعر مشتركة بين ثلاثتنا".

لو لم تكن فازت ببوكر، هل كانت لتكتب مزيدا من الروايات منذ روايتها الأولى؟

"لا أعرف هل كنت سأكتب أكثر أم أقل أم لم أكن لأكتب أي شيء. الآن أشعر أنني جاهزة للكتابة من جديد، ولكنني لا أجد المجال. يصعب الاختيار دائما حين يكون هناك طوال الوقت شيء ما يحدث. لو نظرت للأمر نظرة فلسفية فأنا امرأة بلا قيمة، ولكنني في اللحظة الراهنة أشعر أن بوسعي إحداث فارق ولو بسيط". وهذا الاعتقاد يجعل منها إزعاجا متواصلا للساسة الهنود، فهي سوط الوطنيين الهنود، لا سيما حزب باراتيا جناتا BJP. وهي مستمتعة بهذا الدور.

تقول مبتسمة: "على مدار العقد الماضي، جربوا معي الطريقتين المعروفتين لكي أسكت. جربوا إلقائي في السجن وجربوا منحي جوائز. وفي الحملة الانتخابية السابقة على هذه الانتخابات كان الوزير ل. ك. آدفاني يذكرني بالاسم في خطاباته الشعبية، مدينا إياي باعتباري مناهضة للوطنية ..."

أقول لها إن جزءا من الحرية التي تسعى إليها هي حرية الفاشلين، فقد شعرت من خلال حديثي معها أنها لا تثق مطلقا في فكرة كونها أيقونة أدبية. تقول روي: "هذا صحيح، هذا النجاح ممل إلى أبعد الحدود، وهش أيضا، بينما الفشل أكثر عمقا. النجاح خطر. وعلاقتي مع هذه الكلمة بالغة التعقيد. أعتقد أنني كنت طفلة ناضجة كثيرا، ثم صرت في نضجي طفولية كثيرا. حين كنت صغيرة جدا، جاء خال لي ـ وهو من شخصيات روايتي الرئيسية ـ فانتحى بي جانبا وعرض علي دمية بشعة. وقال هل تريدينها؟ كنت في الثالثة من عمري أو نحو ذلك، وطبعا كنت أريدها. فقال لي: هي لك بشرط أن تعديني بالفشل طول الوقت. وقد بقيت هذه الفكرة معي منذ ذلك الحين".

يصعب وأنت تتكلم مع روي أن ترى في حياتها البهجة التي تتألق في بعض جمل روايتها. لقد أصدر زوجها مؤخرا كتابا عن أشجار دلهي، وصار ـ على غير توقع ـ من أكثر الكتب مبيعا. فهل يشتركان في هذا الميل؟

تقول روي إن علاقتها بالطبيعة تختلف عن علاقته بها. "فهو شخص نشأ في دلهي بينما نشأت أنا على نهر في كرلا. وطالما كنت أخشى أن أبقى عالقة هناك وينتهي بي الأمر زوجة لصبي سخيف فكنت أحلم طوال الوقت بالهروب إلى المدينة الكبيرة. بينما أحلام زوجي كانت تسير في الاتجاه الآخر".

وإذن، فقد وجدا أرضية مشتركة في أشجار المدينة؟

"هو شخص أكثر منهجية مني بكثير، هو يحب أن يسمي الأشياء. حين أذهب أنا إلى الغابة أتذوق جمالها بالطبع، ولكنني أبحث فورا عن السياسات الكامنة وراءها. أريد أن أعرف من يشتري المانجا، وما الذي يوجد تحت الأرض".

في أثناء حديثنا، تعرب روي من وقت لآخر عن تخوفها من إظهار شخصيتها. تقول "هذا ليس عن حياة أرونداتي. أنا لست مهتمة إطلاقا بهذا". تكره أن يتم تعليبها، ولو في بروفيل. وأتساءل إن كان يقلقها أن تفقد الصوت الفردي الصغير، الصوت الأول من صوتيها؟

تقول "لو فقدته، ما المشكلة؟ أنا أكتب حاليا شذرات روائية، ثم يأتي حدث ما فيخرجني عن طريقي".

هل تعتقد أن الرواية قد تكون في بعض الأحيان أكثر تأثيرا في عرض وجهات نظرها السياسية؟ تقول إنها لا تعرف، وبسرعة تغير الموضوع فتصف قسوة سياسات التعدين في مناجم الألومنيوم في ولاية أوريسا.

عنوان الكتاب: "الإنصات إلى الجنادب. ملاحظات ميدانية عن الديمقراطية"

الناشر: هامش هاملتن

السعر: 15 استرليني تقريبا


عن ملحق قراءات في 19 يوليو 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق