الاثنين، 19 مايو 2008

رسالة إلى حفيدتي عشية حرب أخرى

عزيزتي سارة

قررت منذ شهور أن أكتب إليك هذه الرسالة، ومرة بعد الأخرى كنت أؤخر، ودائما للسبب نفسه، وهو أنه منذ سنوات عديدة، عندما كانت أمك وأخواتها أنفسهن فتيات صغيرات يدخلن إلى طزاجة المراهقة وبهائها، ظللت أؤخر ثم أجلت نهائيا كتابة رسالة مماثلة إليهن. كان ينبغي أن أكتبها إليهن وهن في مثل عمرك الآن، في الخامسة عشرة، بينهن وبين إكمال السادسة عشرة شهور قليلة، جميلات ذكيات واقعات في غرام جديد مع الحقيقة وبعض تجلياتها في العالم الواسع الواقع خارج حدود العائلة. كنت أشاهدن في تلك السنوات البعيدة، مثلما أشاهدك الآن، شغوفات وأيضا خائفات، يخطون خطواتهن الأولى منتقلات من دائرة العائلة المغلقة إلى مجتمعات أوسع وأكثر تجريدا تقايضهن بلا هوادة على ولائهن. كنت أود لو كنت قادرا أن أشير عليهن أو أحذرهن، أو حتى أمنعهن بالقوة فيبقين في البيت في حمى الكهف الأسري، فقد كن في النهاية بناتي الأربع الحبيبات، وكنت أشعر بحاجة أبوية إلى حمياتهن من أشراك ومزالق أعرف أنها بانتظارهن هناك في العالم. وكنت في الوقت نفسه أود أن أشجعهن حتى يحتضن ذلك العالم بملء قلوبهن، تماما كما أفعل معك الآن. وذلك لأن حيواتهن الحقيقية، كنساء راشدات، كانت هناك، وليس هنا في البيت إلا ماضيهن، وطفولتهن القصيرة.

ولكن ذلك كان منذ عشرين عاما وأكثر، وكنت في ذلك الوقت لم أزل أكافح في ترتيب ولاءاتي إلى الأسرة، والقبيلة، والأصحاب، ودائرتي الاجتماعية الأكبر، والمؤسسات والمجتمعات العديدة التي كنت أعتبر نفسي منتميا إليها، والأمة كلها، والإنسانية نفسها. كان الطريق الذي قادني من النظر إلى نفسي بوصفي مجرد مراهق من آل بانكس، إلى رؤية نفسي كراشد ينتمي إلى سلالة الإنسان، لم يزل بالنسبة لي وإن بلغة الأربعين آنذاك طريقا ملغزا غير معرَّف في أغلب أجزائه، حافلا بالدروب المسدودة والحواري المغلقة، وكنت حتى ذلك الوقت لم أعثر لي على مخرج منه بعد، فلم أر في نفسي من يصلح لنصح أمك وأخواتها الثلاثة، خالاتك، حتى يجدن أفضل طريق لهن في العالم.

ترتيبنا لولاءاتنا، التي سرعان ما تتصادم مع بعضها البعض، وتنظيمنا لها وفقا لهرم واضح، هو تكويننا لذواتنا نفسها. من نحب، وإلى من نخلص، من الأول فالثاني فالثالث وهكذا، ذلك في النهاية نحن. عن من وعن ماذا سندافع، ولمصلحة من سوف نقدم أنفسنا ضحايا، ذلك ما يكشف لنا وللعالم عن طبيعتنا. وذلك مغزى السؤال القديم: من الذي تنقذه من النار، لوحة لرمبرانت، أم قطة؟ وذلك ما نعنيه حينما نتكلم عن شخصية إنسان. والآن، في حالة أمك وخالاتك، ولأنني لم أكن أنا نفسي رتبت ولاءاتي بوضوح وقد بلغت منتصف الأربعينيات، وكنت عاجزا لم أزل عن إجابة سؤال رمبرانت والقطة، فقد غاليت في التحوط. وعلى أمل أن تكون تجربتي مثالا كافيا يجدن فيه دليا وناصحا، لزمت الصمت وعزفت عن التدخل وربما في السياق نفسه أكون منحتهن حرية زائفة. وها أنا كما ترين، لا أفعل هذا معك.

هناك سبب، وبرغم أنه يعتمد إلى حد ما على التغيرات التي لحقت بي في السنوات التي تجاوزت فيها أمك وخالاتك عمرك هذا، إلا أن هذا السبب يتعلق أكثر بتغيرات طرأت على أمريكا. أتذكرك في يوم مولدك، جميلة مثلما بدت لي أمك في يوم مولدها. من نواح كثيرة كان العالم الذي ولدتِ فيه عام 1987، شبيها بالعالم الذي ولدتْ فيه أمك عام 1960، وأمها في عام 1941، وجدتك، بل وأم جدتك في عام 1914، وكل هذه العوالم المتشابهة تختلف عن العالم الذي ينبغي عليك أن تواجهيه اليوم وتفهمي مكانك فيه. ذلك ما أريد أن أكلمك عنه، وأفيدك بذكريات أكثر من ستين عاما في أمريكا والعالم، عسى أن تعرفي بسهولة وثقة ولاءاتك وانتماءاتك، عساك تعرفين عمن تدافعين، ومن أجل من تضحين بنفسك. وكما ترين، لا يعنيني ضد من ستدافعين وتضحين أو من سينبغي عليك أن ترفضيه. فأنا واثق في قلبك وعقلك وأعرف أنهما لا يحتاجان مني إلى سند أو تشجيع. ولكن ما يشغلني حقا هو الجوانب الغامضة من الرفض والمواجهة والتبعات السلبية لهما.

كما أنك أنثى بيضاء، وأنا ذكر أبيض، فكلانا أمريكيان. ليس لنا أن ننكر ذلك أو نهرب منه. لقد ولدنا أمريكيين، وكان يمكن بنفس السهولة أن نولد سويسريين أو صينيين أو نيجيريين. ولكنا ولدنا في الولايات المتحدة، فصار تاريخها تاريخنا. ولعلي أقول إنه أحد تواريخنا، إذ إن لكل منا خيوطا تاريخية مستقلة لا حل لتضافرها. وكل خيط من تلك يحمل عبئا ووعدا، سواء كان ذلك الخيط شخصيا، أو عائليا، أو قبليا، أو إقليميا، أو عرقيا، أو دينيا، أو لغويا. ولكنني أتكلم هنا عن تاريخنا كأمريكيين، وعما يضعه على كاهلنا من عبء ومسئولية، لا سيما الآن وقد جعل الرجال والنساء الذين يحكموننا بلدنا هذا يبدو وحشيا مخيفا، ونشروا كراهيته وأعدموا الثقة فيه على نطاق واسع.

أنت شابة رقيقة محبة لا تخاف، وتمتلئ حتى تفيض بمحبة واحترام للبشر الآخرين. وقد ساعدك والداك على قدر المستطاع لكي تتخففي من الهوى والانحياز اللذين يولد بهما الأطفال أينما يولدون. ولكن الذين يحكمون بلدنا يتصرفون مع البشر في العالم ومع الكوكب نفسه بطريقة مناقضة، وكأنما كان والداك على خطأ، وكأنما كانا غافلين ضيقي الأفق، وكأنما محبتك للبشر واحترامك لهم، وطيبتك وانعدام خوفك الطبيعيان هي جميعا وفي أفضل الحالات قيم مثيرة للشفقة. بل إنك تسمعين كل يوم وبآلاف الطرق المختلفة من يقول لك إن شخصيتك هذه وقيمك تلك تعرقل تحقيق مصير أمتنا. وإن هذه القيم في جوهرها غير أمريكية، وأن شخصيتك وقيمك تضع إخواننا الأمريكيين في خطر بالغ.

لعلك تتساءلين أهذا صحيح يا جدي؟ والمحزن أن المزيد والمزيد من الحكماء والحكيمات الذين يأتون إلينا بأخبار اليوم يقولون هذا، والرجال والنساء الذين حققوا الثراء والنفوذ في أمريكا يقولون إن هذا صحيح، وكثير من معلميك على الأرجح وغيرهم من الراشدين المحترمين في حياتك يؤمنون فيما يبدو بأن هذا صحيح. ولعل كثيرا من أصحابك الأذكياء المتعمقين، وأترابك في المدرسة، يرون أن هذا صحيح. ثم إن رئيس الولايات المتحدة نفسه أعلن أننا إما أن نكون في جانبه وجانب مساعديه، أو في جانب الإرهابيين، في جانب الخير أو في جانب الشر.

لا شك أن أغلب الأمريكيين يعادون الإرهاب والشر غريزيا، ولكن منذ 11 سبتمبر 2001، تجدد روعنا من وجودهما، حتى وإن كان وجودهما في العالم قد تجاوز آلاف السنين، منذ قتل قابيل لهابيل. ولكن يبدو منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، أن الإرهابيين وقوى الشر قد ركزت حقدها الأسود كله علينا، ليس عليك وعليّ بصورة شخصية، وإنما على بلدنا، وشعبنا، و"طريقتنا في الحياة" بحسب ما يسمي الرئيس ومعاونوه عاداتنا وقيمنا وافتراضنا أن لنا الحق المطلق الذي نمارسه كل يوم في الحياة والحرية والسعادة. وللحفاظ على هذه الطريقة في الحياة، الغالية علينا جميعا، يقال لنا إننا يجب أن نقف معا، ونتكلم بصوت واحد، هو صوت رئيسنا ومعاونيه. ونتيجة لذلك، فكل من يحاولون الكلام بصوت مختلف، هو صوتنا الخاص، قد تعرضوا إما للتهميش أو الإسكات الواضح.

لقد صارت وطنيتنا وحبنا لإخواننا وأخواتنا في الوطن موضع تساؤل، وكذلك ذكاؤنا وأخلاقنا. جعلونا نشعر كأنما لا حول لنا ولا قوة، أننا أقرب إلى أقلية لا دخل لها، فصرنا نشعر كما يشعر كل يوم الأفروأمريكيون وغيرهم من الأقليات المحتَقَرة.

حفيدتي العزيزة، اريدك أن تعرفي أن ذلك ليس من طبائع الأمور، ففي ماض غير بعيد كان المنشقون والمعارضون يعدون بشرا محترمين وهم ينظمون مسيراتهم في الشوارع فيراها الناس ضرورة من ضرورات الحفاظ على طريقتنا العزيزة في الحياة، حين ذلك لم يكن أحد ينفي صفة الأمريكية عن محاولات توسيع نطاق الحريات التي تكفلها "وثيقتانا المقدستان" ـ كما أطلق الروائي العظيم رالف إليسن Ralph Ellison على إعلان الاستقلال والدستور ـ لتشمل النساء والأقليات والفقراء وشعوب العالم المقهورة. ذلك عهد لم نبتعد عنه كثيرا، وفيه لم تكن أمتنا ترى من خارج الحدود بوصفها امبراطورية مارقة تعمل لفرض رغبتها على العالم بكل وسيلة سواء كانت الابتزاز الاقتصادي أو القهر أو "الحرب الاستباقية" أو "تغيير أنظمة الحكم" أو التهديد بالتدمير النووي.

أعرف أن أمريكا لم تُعَدَّ يوما بلدا طيبا أو متجردا من الأنانية والمصلحة، بل ولا ينبغي أن تُرى على هذا النحو، ولكن حتى وقت قريب، كانت شعوب العالم ترى أن في نظامنا الديمقراطي الحاكم ـ بفضل الوثيقتين المقدستين ـ احتياطات تمنع تحول جمهوريتنا إلى إمبراطورية فاشية، وأن لدى الشعب الأمريكي سلطة كافية على رئيسه أيا من يكون، فلا يستطيع هو ومعاونوه أن يتجاهلوا طويلا رغبات الشعب، وأنه سوف يضطر بمرور الوقت ومن خلال سياساته إلى التعبير عن سخائهم وكرم أخلاقهم. إن أغلب الأمريكيين مثلك، وأغلب شعوب العالم تعرف ذلك. ففي أغلب أسفاري إلى أوربا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية يؤكد لي الناس أنهم محبون للشعب الأمريكي معجبون به، واثقون فيه، ولكن ذلك كله لا ينصرف على الحكومة الأمريكية. إنهم يعرفون أن أغلبنا ـ مثل أغلبهم ـ نناضل من أجل الحفاظ على حياتنا البسيطة دون أن نلحق بالآخرين أذى لا داعي له. وهم يعرفون أننا لسنا أكثر خيرا أو شرا من سوانا من الناس. وحتى وقت قريب للغاية، وبسبب هذه الاحتياطات والتوازنات وسلطة صندوق الاقتراع، كانوا يظنون أننا نتحكم في حكومتنا، وأننا قادرون ولو بقد ر من الصعوبة على جعلها انعكاسا لقيم الشعب الأمريكي وشخصيته، وليس قيم وشخصية مجموعة صغيرة من الرجال والنساء المعنيين بتحقيق الثراء لأنفسهم ولأصحابهم على حساب فقراء العالم. ولكن منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حينما تهاوى نظام الاحتياطات والتوازنات، وأبطلت المحكمة العليا إرادة الشعب، وضربت بالاقتراع عرض الحائط، وجعلت من جورج دبليو بوش رئيسا لنا، تغير ذلك كله.

وهكذا تضاعف الكفاح عليك، وعليَّ، وعل كل من لا يملكون إلا التفكير في أنفسهم كأمريكيين يحملون عبء تاريخ أمتنا ووعده. هناك ميل كبير ـ وإن يكن غير ملحوظ إلى حد كبير ـ فيما يختص بموقفنا من هذه القضايا إلى أن نترك معارضتنا لحكومتنا ومؤسساتنا الجمعية بالانزلاق إلى مجرد اغتراب ساخر عن إخواننا الأمريكيين الذين يسهل وسمهم بمعاداة الأمريكية. لقد نال منا الضجر والضعف وأحيانا الخوف، ولكي نحافظ فقط على القيم والشخصية التي نتشبث بهما على المستوى الشخصي، فإننا ننسحب أحيانا من الشجار تماما، ونلقي بالإدانات على كل ما هو أمريكي، لا نستثني من ذلك إخواننا في الوطن. وننسحب إلى "مستعمرة الناجين الصغيرة" بتعبير الشاعر روبرت كريلي. أريد أن أحذرك من هذا الميل. علينا ألا نتخلى قط عن إخواننا في الوطن الذين يكافحون مثلما نكافح أنا وأنت لعمل الصواب، والذين في الوقت نفسه ولأسباب مفهومة ومقبولة ولا حصر لها لا يملكون من وضوح الرؤية أو القوة ما يجعلهم يعارضون سلطة الرئيس ومعاونيه، ويقاومون الإعلام الخبري المحيط بحواسهم، ويدينون الاقتصاد الاستهلاكي، ويتخصلون من خوفهم من الناس الذين لا يشبهونهم ولا يفكرون مثلهم.

على مدار السنوات الماضية منذ حرب فييتنام، والغزو المجنون لجرانادا وبنما وحرب الخليج الأولى، وفي مواجهة مسيرة الحكومة القاسية نحو التنصت والتحكم في أفكار المواطنين وسلوكهم وتدويل اقتصادنا الاستهلاكي كثيرا ما شعرت أنا وخالاتك وأمك برغبة عميقة في التخلص تماما من أي شعور بالولاء إلى هذه الأمة وهذا الشعب. ولكننا عموما كنا نقاوم هذا الميل، وبطريقة ما استطعنا برغم كل هذا أن نحافظ على إيماننا بالأصيل لدى الشعب الأمريكي من سخاء وكرم أخلاق وحكمة. وذلك كل ما أطلبه منك. أن ترفضي التخلي عن جيرانك. أن ترفضي الانسحاب إلى أمان الاغتراب الساخر عن الشعب الذي يقاسمك تاريخك كأمريكية حتى إن كان يساند الرئيس ومعاونيه، وإن كان يقف ضدك، بل وإن قالوا لك حينما تبينين لهم أنهم مخدوعون إنهم راضون بالأمر الواقع.

لا، ذلك غير صحيح، ليس ذلك كل ما أطلبه منك. أريدك أيضا أن تصري على الإعلاء من "وثيقتينا المقدستين" اللذين سبق أن كلمتك عنهما، إعلان الاستقلال والدستور. لأننا أمريكيون، فهاتان الوثيقتان حق لنا بحكم الميلاد. لقد قال الكاتب الأفروأمريكي جيمس بولدون الذي تعلمت من أعماله وأنا أكبر منك ببضع سنوات عن معاملة أمريكا لقومه: "لقد كان تراثي مفيدا، محدَّدا ومحدِّدا". وحين قرأت تلك الكلمات للمرة الأولى ظننتها لا تنطبق إلا على الأمريكيين السود. ولكنني في السنوات الأخيرة عرفت أنها تنطبق على الأمريكيين كلهم، البيض والسود والبنيين، وتنطبق عليهم كل يوم أكثر من سابقه. ولكن فيما بعد، وفي ثنايا كلامه عن الوعد الأمريكي، قال بولدون "كان الحق الذي استحققته بالميلاد عريضا، يصل بيني وبين حيوات أخرى، يصلني بالجميع، وإلى الأبد". تلك الوثيقتان المقدستان هما اللتان أسستا ولا تزالان تحافظان على حقوقنا المكتسبة بالميلاد، يا سارة، وعلينا ألا ننساها، وعلينا ألا نكف عن المطالبة بها. وفي خضم هذه السنوات العصيبة الخطرة، علينا أن نتذكر ما انتهى إليه جيمس بلدون وهو "أنه لا يحق للمرء أن يطالب بحقوق الميلاد ما لم يقبل بالتراث". وذلك كل ما أطلبه منك، ومن نفسي، ونحن نتقدم معا في هذا العالم، وفيما يقود رئيسنا ومعاونوه أمتنا إلى حرب، لعلها أكثر الحروب التي تحمل شعبنا مسئوليتها مدعاة للسخرية، وأقلها ضرورة.

مع حبي

جدك

** راسل بانكس روائي أمريكي غزير الإنتاج صدرت أعماله العديدة في أمريكا وأوربا وآسيا، وتحولت بعض أعماله إلى أفلام هوليودية واسعة الانتشار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق