ألبرتو مانجويل
جاك لندن
ألبرتو منجويل
أثناء طفولتي في بيونس آيرس، كنت متابعا دءوبا لمكتبة روبن هود، وهي سلسلة متخصصة فيما كان يسمى آنذاك بـ "أدب الأطفال". بعدم اكتراث بديع، كان ناشرو السلسلة يقدمون ألوانا من الكراهية مثل "بومبا صبي الأدغال" لـ روي روكوود (التي استمتعت بها لأسباب تبدو اليوم غامضة) بجانب كلاسيكيات لم أزل أقرأها إلى اليوم مثل رحلات جول فيرن الخيالية وروايات المغامرات لجاك لندن.
ربما كان لندن ـ أكثر من فيرن ـ يروق لتوقي إلى المغامرة، كما كنت أجد لديه صدى لرغبتي في تغيير العالم، وهي الرغبة التي تأتي دائما مصاحبة لاكتشافنا المعاناة والظلم. لقد كتب لندن في عام 1905 وكان في التاسعة والعشرين يقول
إنني أتطلع إلى زمن يسمو فيه الإنسان إلى ما هو أرقى وأجدر من معدته، فحينئذ سيكون ثمة حافز أرقى يدفع الإنسان إلى الفعل من حافز اليوم، وهو الحافز المَعِدِي. وأظل على يقين بنبل الإنسان وامتيازه، وإيمان بأن عذوبة الروح وإنكار الذات سوف يقهران جشع الحاضر الجمعي".
فكنت أقول لنفسي وإنني مومن بما هو به مؤمن.
أعجبتني قصصه (وعرفت فيما بعد أن ستالين وهتلر وثيودور روزفلت كانوا يشاركوني الإعجاب بها) وحسدته على حياته الحافلة بالمغامرات.
هو ابن لفلكي متجول هجر أسرته على أرصفة سان فرانسسكو، نشأ لندن يتعلم السرقة والشراب والملاكمة، عمل بحارا، وعاملا في مغسلة، حمالا للفحم في محطة طاقة، وصياد محار، ومنقبا فاشلا عن الذهب في كلوندايك، قبل أن يكتشف الأدب في مكتبة الساحل من خلال سلسلة للقصص الشعبية قال عنها:
"باستثناء الأشرار والمغامِرات، جميع الرجال والنساء يفكرون أفكارا جميلة، وينطقون لغة جميلة، ويقومون بأفعال جليلة".
وسرعان ما بدأ لندن نفسه يكتب، فحقق نجاحا كبيرا أتاح له في النهاية أن يكف عن اكتساب المال من الصحافة الرأسمالية التي كان يكن لها من الاحتقار ما لم يكنه لها كاتب في زمنه. قال لندن إنه تعلم كيف يحكي قصة في أثناء تسكعه بين الولايات، حينما كان الحصول على وجبة ساخنة أو الطرد من على عتبة الباب يتوقف على عثوره النبرة المناسبة "لحظة أن تفتح ربة البيت بابها".
في العشرين من عمره، قرأ البيان الشيوعي، وقرر الانضمام إلى الحزب الاشتراكي، ثم استقال منه عام 1916 "بسبب افتقاره إلى النار والقتال، وفقدانه التركيز على الصراع الطبقي".
ولم تمض غير شهور قليلة، وفي الليلة الحادية والعشرين من نوفمبر لعام 1916، وفي قصره المنيف الذي اشتراه في كاليفورنيا من عائدات كتبه المتزايدة، قرر لندن أن يقتل نفسه. فتناول مزيجا من عقارين قاتلين ظنا منه بأنه سوف يعجل بالنهاية. فحدث العكس، إذ أبطل كل عقار أثر الآخر، وظل لندن ملقى على الأرض أربعا وعشرين ساعة يعاني ألما مبرحا قبل أن يموت. وكان في الأربعين.
من بين كتاباته غير المكتملة مخطوطة رواية وعدد من الملاحظات التي تنطوي على نهاية محتملة. تحمل الرواية عنوانا بديعا هو "شركة الاغتيال المحدودة". قرأتها في عام 1978، في طبعة صدرت عن دار بنجون (بعد أن أكملها ـ بنجاح في رأيي ـ كاتب روايات الغموض الأمريكي روبرت إل فيش).
أثناء طفولتي في بيونس آيرس، كنت متابعا دءوبا لمكتبة روبن هود، وهي سلسلة متخصصة فيما كان يسمى آنذاك بـ "أدب الأطفال". بعدم اكتراث بديع، كان ناشرو السلسلة يقدمون ألوانا من الكراهية مثل "بومبا صبي الأدغال" لـ روي روكوود (التي استمتعت بها لأسباب تبدو اليوم غامضة) بجانب كلاسيكيات لم أزل أقرأها إلى اليوم مثل رحلات جول فيرن الخيالية وروايات المغامرات لجاك لندن.
ربما كان لندن ـ أكثر من فيرن ـ يروق لتوقي إلى المغامرة، كما كنت أجد لديه صدى لرغبتي في تغيير العالم، وهي الرغبة التي تأتي دائما مصاحبة لاكتشافنا المعاناة والظلم. لقد كتب لندن في عام 1905 وكان في التاسعة والعشرين يقول
إنني أتطلع إلى زمن يسمو فيه الإنسان إلى ما هو أرقى وأجدر من معدته، فحينئذ سيكون ثمة حافز أرقى يدفع الإنسان إلى الفعل من حافز اليوم، وهو الحافز المَعِدِي. وأظل على يقين بنبل الإنسان وامتيازه، وإيمان بأن عذوبة الروح وإنكار الذات سوف يقهران جشع الحاضر الجمعي".
فكنت أقول لنفسي وإنني مومن بما هو به مؤمن.
أعجبتني قصصه (وعرفت فيما بعد أن ستالين وهتلر وثيودور روزفلت كانوا يشاركوني الإعجاب بها) وحسدته على حياته الحافلة بالمغامرات.
هو ابن لفلكي متجول هجر أسرته على أرصفة سان فرانسسكو، نشأ لندن يتعلم السرقة والشراب والملاكمة، عمل بحارا، وعاملا في مغسلة، حمالا للفحم في محطة طاقة، وصياد محار، ومنقبا فاشلا عن الذهب في كلوندايك، قبل أن يكتشف الأدب في مكتبة الساحل من خلال سلسلة للقصص الشعبية قال عنها:
"باستثناء الأشرار والمغامِرات، جميع الرجال والنساء يفكرون أفكارا جميلة، وينطقون لغة جميلة، ويقومون بأفعال جليلة".
وسرعان ما بدأ لندن نفسه يكتب، فحقق نجاحا كبيرا أتاح له في النهاية أن يكف عن اكتساب المال من الصحافة الرأسمالية التي كان يكن لها من الاحتقار ما لم يكنه لها كاتب في زمنه. قال لندن إنه تعلم كيف يحكي قصة في أثناء تسكعه بين الولايات، حينما كان الحصول على وجبة ساخنة أو الطرد من على عتبة الباب يتوقف على عثوره النبرة المناسبة "لحظة أن تفتح ربة البيت بابها".
في العشرين من عمره، قرأ البيان الشيوعي، وقرر الانضمام إلى الحزب الاشتراكي، ثم استقال منه عام 1916 "بسبب افتقاره إلى النار والقتال، وفقدانه التركيز على الصراع الطبقي".
ولم تمض غير شهور قليلة، وفي الليلة الحادية والعشرين من نوفمبر لعام 1916، وفي قصره المنيف الذي اشتراه في كاليفورنيا من عائدات كتبه المتزايدة، قرر لندن أن يقتل نفسه. فتناول مزيجا من عقارين قاتلين ظنا منه بأنه سوف يعجل بالنهاية. فحدث العكس، إذ أبطل كل عقار أثر الآخر، وظل لندن ملقى على الأرض أربعا وعشرين ساعة يعاني ألما مبرحا قبل أن يموت. وكان في الأربعين.
من بين كتاباته غير المكتملة مخطوطة رواية وعدد من الملاحظات التي تنطوي على نهاية محتملة. تحمل الرواية عنوانا بديعا هو "شركة الاغتيال المحدودة". قرأتها في عام 1978، في طبعة صدرت عن دار بنجون (بعد أن أكملها ـ بنجاح في رأيي ـ كاتب روايات الغموض الأمريكي روبرت إل فيش).
جاك لندن
شركة الاغتيال عبارة عن آلة اجتماعية مصممة بحذق يجعل تدميرها محالا من دون تدمير مخترعها. والمخترع هو إيفان دراجوميلوف الذي أسس جمعية سرية تنفذ الاغتيالات عند الطلب وفي مقابل أجر. غير أن الضحية لا يكون أي شخص يكرهه الزبون. فمبجرد أن تتلقى الشركة مقترحا بالقتل، يجري دراجوميلوف تحريات حول سلوك الهدف وشخصيته. ولا يصدر دراجوميلوف الأمر بالقتل إلا إذا استقر في ضميره أن للقتل "مبررا اجتماعيا". وسوف يجد قراء روبرت لويس ستيفنسن في هذا ظلالا من الأمير فلوريزل و"نادي الانتحار".
شركة الاغتيال آلة تامة الشحذ. فبمجرد تقديم طلب بالاغتيال ودفع الثمن، لا يبقى أمام الزبون إلا انتظار أن يقدم أتباع دراجوميلوف دليلا دامغا على سوء سلوك الضحية المرتقبة. قد يكون الضحية رئيس شرطة قاسيا، مدير فرقة موسيقية متحجر القلب، مصرفيا جشعا، مقاول عمال، سيدة أرستقراطية رفيعة المقام، وفي كل الحالات، لا بد أن يثبت بدليل لا يرقى إليه الشك أن الشخص يلحق الأذى بالمجتمع. وإذا لم يكن الدليل كافيا، أو إذا مات الضحية بالصدفة، ترد النقود إلى الزبون، مع خصم عشرة بالمائة لتغطية النفقات الإدارية. لكن لو قرر دراجوميلوف أن القتل مستحق، فلا مجال للعودة. وهو نفسه يوضح هذا لزبون له قائلا "يصدر الأمر فيحسن تنفيذه. بغير هذا لن نستطيع أن نقوم بعملنا. عندنا قواعد، وأنت أدرى".
ويحدث شيء غير متوقع.
في محاولة لتفكيك الشركة، يتقدم شاب مغامر بطلب اغتيال، ويلتقي بدراجوميلوف ويدفع ثمن قتل شخصية لا يسميها، ولكنه يؤكد أنها شخصية عامة شديدة الأهمية، ويقبل دراجوميلوف الطلب بشرطه المعتاد، وهو أن يثبت أن الشخص مذنب، وعندئذ يكشف الشاب عن اسم الشخصية، إنه دراجوميلوف نفسه. ولأن الشركة لا تتراجع مطلقا عن كلمتها، يقبل دراجوميلوف طلب اغتياله. ودراجوميلوف حينما اخترع آلته الاجتماعية هذه فقد ضمن لها مستوى من الكفاءة يجعل حق مخترعها في الحياة أقل أهمية من هدفها المعلن، وهو القضاء، بالطلب، على الشخصيات غير المرغوب فيها اجتماعيا.
أجد لقصة لندن التي يتجاوز عمرها القرن صدى معاصرا، وذلك برغم "جمال لغتها" المستقى من قراءاته في مكتبة الساحل. فبعد ثلاثين عاما من قراءتي لشركة الاغتيال المحدودة. أجد في قصة لندن شيئا من نبرة خرافات إتش جي ولز الأخيرة الكئيبة. وليس ذلك لقولها إن من الممكن تأسيس شركة للقضاء على من نعتبرهم أوبئة اجتماعية، بل لنظرية لندن القائلة بأن آلة اجتماعية ما قد يبلغ كمال غايتها الخيالية حد أن تدمر صانعيها أنفسهم.
وبرغم خشية الإفراط في توسيع المقارنة، أعتقد أن لشركة الاغتيال تجليها المعاصر: فنحن بدورنا سمحنا بتأسيس الكثير من الآلات الاجتماعية الهائلة التي تهدف تحقيق أقصى ربح مالي ممكن، دونما اكتراث للثمن الذي يدفعه المجتمع، وبحماية من عدد لا يحصى من حملة الأسهم. ودونما التفات إلى العواقب، تغزو هذه الآلات جميع مناحي النشاط الإنساني ناظرة في كل صوب إلى الكسب المالي، حتى وإن كان الثمن هو حياة الجميع، وأقول الجميع، لأن الأثرى والأقوى سيتعرضون بدورهم لتروس الآلة.
لقد حاول لندن ـ ربما عن سذاجة ـ أن يخوض بطريقته في عالم الدراجوميلوفات. ففي لوحات سيرية كتب يقول إنني "قابلت رجالا يستحقون لقب أمراء السلام بما لهم من مطولات خطابية يهاجمون فيها الحرب، ولكنهم يسلحون حرسهم الخاص بالمسدسات ليطلقوا النار على المضربين في مصانعهم. قابلت رجالا يمتلئون سخطا على قسوة مبارايات الملاكمة بالمراهنات، بينما هم يشاركون في الوقت نفسه في تصنيع أغذية مغشوشة تقتل كل عام من الأطفال ما لم يقتل هيرود أحمر اليد نفسه.
"لقد تكلمت في فنادق وأندية وبيوت ومقصورات قطارات وسفن مع رجال من عالم الصناعة ، فأدهشتني ضآلة أسفارهم في عالم العقل، ومن ناحية أخرى اكتشفت أن لهم عقولا متطورة بصورة استثنائية كلما تعلق الأمر بالعمل. واكتشفت أيضا أن منظومتهم الأخلاقية كلما تعلق الأمر بالعمل هي مجرد صفر. الأنيق أرستقراطي السمات الذي كان مديرا أبله، وأداة في يد شركات تغتصب سرا الأرامل واليتامى. هذا نفسه الذي كان يجمع الطبعات الفاخرة، ويناصر الأدب، ويبتز الآخرين لحساب رئيس بلدية نكد الجبين مثقل بالجواهر. ورئيس التحرير الذي ينشر إعلانات الأدوية المجازة ولا يجرؤ أن ينشر في صحيفته حقيقة هذه الأدوية الموصوفة بالمجازة خشية أن يفقد الإعلانات، وهو الذي وصفنى بالديماجوجي الحقود حينما قلت له إن اقتصاده السياسي عتيق وإن أحياءه من عهد بلايني".
لو أننا غيرنا الأسلوب تغييرات طفيفة، وحدثنا الأمثلة قليلا، لصار نقد اندن صالحا اليوم صلاحيته في وقته. لقد تصور دراجوميلوف آلة قتل اجتماعية تعمل تحت الطلب، ولكل من يدفع الثمن، ونحن أقمنا آلات اقتصادية لصنع كميات من النقود لا حدود لها، مهما يكن الثمن الذي يدفعه البشر من حياتهم. وكلا الآلتين مقضي عليها بالفشل، برغم ما فيهما من كمال، لأنهما في النهاية تقتلان صانعيهما.
هل ثمة ما يبرر هذه القراءة لشركة الاغتيالات المحدودة؟ روايات لندن ليست منشورات. بل إنها لا تقدم رؤية سياسية متماسكة، ففلسفة لندن السياسية كانت مزيجا سطحيا من ماركس ونيتشه، وهربرت سبنسر ودارون. رواياته قصص مغامرات، ولعل قدر قصص المغامرات الجيدة جميعا أن نقرأها أولا باعتبارها لهوا فوضويا، ثم نعيد قراءتها بوصفها نذرا بالخطر.
*فصل من كتاب "مدينة الكلام" للكاتب الكندي أرجنتيني الأصل ألبرتو منجويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق