الأحد، 19 يوليو 2020

أنا تعبت، تعبت


أنا تعبت، تعبت
صابرينا أوراه مارك

وأنا في منتصف كتابة مقال عن "الجميلة النائمة"، أتلقى رسالة نصية من والدتي. "تبين أنه في الغدد اللمفاوية". الكلام عن أختي. عمرها عشرون سنة، ثلاث كتل في رقبتها. أمحو المقالة كلها. ثم أتقيأ.
منذ أن رجعنا إلى بيوتنا وأغلقنا علينا أبوابنا، وأنا أواجه صورا للطبيعة إذ تسترد الأماكن التي هجرتها. أبحث في الإنترنت وأشاهد الجليد يهطل على مصعد قتيل في مركز تجاري مهجور. أعثر على شجرة تنمو من بيانو خرب، غاصت دواساته في التراب، وعلى خشبه البني حفر شخص قلبا فيه حرفا السين والكاف. لساعات أبحث في الإنترنت عن المزيد. ماعز تسير عبر شوارع المدينة كأنما تتذكر الغابات التي نمت هنا في يوم من الأيام. فطريات بيضاء تندفع طالعة من أرضية كاتدرائية. أتحسس بإبهامي كل فطر. فأود لو أصلي.
تقول أمي "لم أعد أومن بشيء". أقول "لا تقولي هذا، أرجوك لا تقولي هذا". لكنها لا تملك أن تسمعني. هي بالفعل في مكان بعيد، بالغ البعد.
قبل الرسالة النصية كنت أكتب عن "الجميلة النائمة في الغابة" لشارل بيرو، لأنني أردت أن أكتب عن العلِّيق. أردت أن أكتب عن سياج الورد الشائك الطالع حول القلعة حيث تمد الجميلة النائمة يدها، فتخز شوكة إصبعها ليغلبها النوم مئة سنة. أردت أن أكتب عن الجنيَّة التي تلمس المربية والوصيفات والسادة والخدم والطهاة ومساعدي الطهاة والصبية والحرس والبوابين وعمال الاسطبل والجنود، وكلب الأميرة الصغير "بوف"، ليناموا جميعا، مثلها. أردت أن أكتب عن طيبة الجنية التي تحرص ألا تستيقظ الأميرة حينما تستيقظ فتكون وحدها. أردت أن أكتب عن الريح إذ تهمد، واليمامات النائمة على السطح. خطرت لي فكرة مفادها أن العلِّيق مفيد. أن ما كنا بحاجة إليه طوال الوقت هو أن نقف ساكنين ونسمح للطبيعة باجتياح ما حولنا. خطرت لي فكرة مفادها أننا فور أن نستيقظ معا، سوف يعلمنا العليق شيئا ما. تخيلتنا جميعا ونحن ندعك أعيننا بينما حضارة جديدة تتهادى نحو العليق لتتعلم قراءة آياته. تخيلت العليق وقد تلاصق بعضه في بعض كأنه كفوف ملأى بالأدوية والتعاويذ. تخيلتنا نتعلم درسا فيه نجاتنا.
"الدرس" مثلما تقول أمي "هو أننا كلنا سوف نموت". لكن أمي لا تقول هذا. كانت لتقوله حتى ما قبل أسبوعين من تشخيص حالة أختي، لأنه يبدو منسجما مع ما تقوله أمي. لكنها الآن تبدو مختلفة في كلامها. في كلامها الآن صدى. كأنها الأم الوحيدة تستيقظ في قلعة مليئة بالبنات النائمات.
أختي جميلة جمالا يخطف الأنفاس. هذه حقيقة. حينما تدخل حجرة يلتفت الناس محملقين.
يقول زوجي "ربما يجدر بك أن تكتبي عن الأرامل بدلا من هذا". تبدأ كرمة صغيرة في تسلق رقبته والالتفاف على وجهه. أقول "أنا لا أكتب عن الأرامل". وتختفي الكرمة.
حينما كنت في التاسعة والعشرين وأختي في الخامسة، اصطحبتها أنا وأمي إلى ديزني لاند، حيث يمكن تناول الإفطار في قلعة سيندريلا مع جميع الأميرات. خرجت الأميرات كلهن دفعة واحدة، كأنما من ثقب في الهواء، ومضين يطفن في المكان في فساتينهن الزرقاء والوردية والصفراء. صعدت أختي على المائدة وفردت ذراعيها. لو لم نشدّها أنا وأمي وننزلها، لتركت الأميرات يلتقطنها ويحملنها بعيدا.
أكتب عن الجميلة النائمة ثم أمحو كل ما كتبت عن الجميلة النائمة بينما يبدأ زوجي في إنقاذ قشر البيض وقشر الجزر وحبوب القهوة والخبز ونسائل المناشف وقشر الموز وقشر البرتقال في وعاء بلاستيكي موضوع على طاولة في مطبخنا. بدأ صنع السماد  العضوي. ويعد بأن تكون لدينا في غضون ما بين ثلاثة أشهر وستة تربة خصبة ينمو فيها المزيد من الزهور والخضراوات. أخشى أنه لن يتوافر هواء كاف، وأنه سينسي جمع الديدان، وأن الديدان كلها سوف تموت. أخشى من اليرقات والعفن. يقول "ثقي بي، أرجوك ثقي بي". وعنده حق. ينبغي أن أثق به أكثر. وينبغي أن أثق أكثر في الديدان والهواء والتربة أيضا. ولكنني لم أزل خائفة.
تقول أمي "أتمنى فقط لو يغلب النوم الجميع، ولا يستيقظون إلا حينما تصبح ساشا بخير من جديد. أود أن أطمئنها بأن الجميلة النائمة حينما تستيقظ تلد ولدا وفتاة اسمهما نهار وفجر. لكن ما أغباه من كلام يقال. وما نفعي أنا؟ ابنة كبرى تكتب عن الجنيات والحواديت في حين ينبغي أن أكون منهمكة في طبخ حساء حقيقي لأمي وأختي. تقول لي أمي إن أختي "سوف تفقد شعرها كله" فأود لو أحلق شعري، وأبلعه.
يقول زوجي "كتابك وصل"، ويناولني كتاب "جزيرة أخ الشمال" لكرستوفر باين. كنت قد طلبته منذ أسابيع، واقتربت من فقدان الأمل في وصوله على الإطلاق. هو كتاب صور فوتغرافية لجزيرة أطلال غير مأهولة في وسط النهر الشرقي. استعملت مرة لاستقبال الفائض من عنابر السكن الطلابي الجامعي، واستعملن مستشفى عزل للمعالجة من الأمراض المعدية، ثم استعملت لاحقا لتعاطي المخدرات، ثم هجرت سنة 1963. غابة من كروم الكودزو والصدأ تنمو من حولها. ضوء الشمس يرتد من بنايات مختفية. الماء يتقاطر من أسقف تنهار. آه يا جزيرة أخ الشمال يا عديمة الأخوة. حتى طيور البلشون التي استوطنتها رحلت عنها في 2011، ولا أحد يعرف السبب. ثم جاءت طيور السنونو.
تقول أمي "لا أستطيع العثور على سماعات اللعينة". أتخيل زهور الفيونا والنرجس والبنفسج تتفتح من أذنيها. تقول "سأتصل بك لاحقا"، ثم لا تتصل. تنسى معاودة الاتصال بي. أختي مصابة بسرطان الغدد اللمفاوية، وليس بوسع أي منا أن تتذكر شيئا غير ذلك. أتخيل هاتفها وقد عششت عليه العناكب وأغرقه الغبار.
في المقالة التي محوتها، كتبت عن الجنية العجوز. المنسية. التي يفترض أنها ماتت أو سحرت. وكانت حية تماما، لكنها لم تدع إلى الحفل الذي أقيم عند ميلاد الجميلة. فحينما تقدم الجنيات الهبات للأميرة، تظهر الجنية العجوز من وسط التراب وبدافع من الضغينة تعلن أن الجميلة سوف تموت بسبب وخزة.  تخرج جنية أخرى من خلف لوحة. لا تستطيع أن تبطل لعنة الجنية العجوز لكن بوسعها أن تجعل الموت نوما يدوم مئة سنة. في المقالة التي أمحوها، أكتب شيئا عنا نحن المحجورين بداخل مملكتنا لأننا نسينا الجنية العجوز. أكتب شيئا عنا وكيف أننا لسنا نياما، ولسنا في الوقت نفسه متيقظين. أكتب في المقالة التي أمحوها أنني لو كنت الجنية العجوز، لأنزلت علينا اللعنة، مثلها، وأننا غير جديرين بقبلة توقظنا من سباتنا. ولكنني أتراجع عن ذلك كله. أريد للعليق أن يتباعد بعضه عن بعض. متى اتسعت تلك المزقة في الحدوتة حتى عبرت منها عائلتي كلها؟ أريد أن أتضرع إلى الجنية العجوز كي تغفر. أين هي؟ ومن الذي استنزل اللعنة على أختي؟
أريد أن أذهب إلى جزيرة أخ الشمال، فلا أفعل شيئا هناك عدا أن أقف، إلى أن تنمو الأشنة على خدي. تقول أمي "أنا تعبت، تعبت كثيرا، تعبت كثيرا، تعبت كثيرا". أريد أن أمسك يد أمي على جزيرة أخ الشمال. لا أتذكر أني أمسكت يد أمي ولو أنني بلا شك قد فعلت ذلك، ولو مرة، في طفولتي. أريد أن تنمو الأشنة على خد أمي أيضا. وحينما تكثر الأشنة أقشرها عن خدودنا وأغليها وأعطيها لأختي في ملعقة كأنها دواء. كأنها ترياق سحري. أحكي لأمي عن جزيرة أخ الشمال. فتقول "ربما يجب أن نشتريها. أنا بحاجة إلى مكان أذهب إليه". ما لا أقوله لأمي هو أننا ذهبنا بالفعل إلى مكان ما. نحن بالفعل في هذا المكان والعالم الذي عرفناه يسارع بالخروج منا. نحن واقفات في خضرته التي لا تحتمل. وفي إصبع أختي وخزة، وخزة صغيرة للغاية، سوداء للغاية، حتى ليحسبها الناظر بذرة من توتة برية.

نشر المقال ضمن زاوية للشاعرة على موقع باريس رفيو بتاريخ 6 يوليو ونشرت الترجمة أخيرا في جريدة عمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق