الثلاثاء، 21 يوليو 2020

ثلاثة أيام مع جابو


كنت مشاركة في ورشة ماركيز الصحفية
ثلاثة أيام مع جابو
سيلفانا ياترنوسترو

مكروبا مما رآه يجري في صحافة أمريكا اللاتينية، قرَّر جابرييل جارثيا ماركيز، الكاتب الحاصل على نوبل في الأدب وصاحب "مئة عام من العزلة" والذي سبق له شخصيا أن عمل صحفيا، أن يبدأ في مارس من عام 1995 ما يصفه بـ"المدرسة عديمة الأسوار" ـ مؤسسة الصحافة الأيبيرية الأمريكية الجديدة. هدفها هو تجديد دماء الصحافة في المنطقة من خلال ورش عمل متنقلة. وهو يصر على أن ما يجري تدريسه وممارسته بحاجة ماسة إلى تجديد، ويشكو من أن الصحفيين اليوم أكثر اهتماما بمطاردة الأخبار العاجلة من اهتمامهم بالإبداع والأخلاقيات. يقول إنهم يتباهون بقدرتهم على قراءة وثيقة سرية وهي مقلوبة رأسا على عقب، لكن عملهم يمتلئ بأخطاء النحو والإملاء ويفتقر إلى العمق. "لا تؤثر فيهم قاعدة أن أفضل القصص ليس الأسبق اكتمالا بل الأفضل حكيا" حسبما كتب في كلمته الافتتاحية.
ينتقد جارثيا ماركيز طريقة تعامل الجامعات وناشري الصحف في أمريكا اللاتينية مع المهنة ـ التي يعدها خير مهن العالم. مختلفا مع المدارس المهنية التي ترى أن الصحفيين ليسوا فنانين، يرى جارثيا ماركيز أن الصحافة المطبوعة "قالب أدبي". وهو يود أن يقنع الصحف بتقليل استثمارها في التكنولوجيا وزيادته في تدريب العمالة.
بدعم من اليونسكو، نظمت مؤسسة ماركيز ـ ومقرها بارانكويلا في كولومبيا، في أقل من سنتين، ثمانيا وعشرين ورشة عمل حضرها ثلاثمئة وعشرين صحفيا من أحد عشر بلدا. تراوحت ثيمات الورش بين تدريس تقنيات السرد الخبري المطبوع والإذاعي والمرئي، إلى نقاشات في الأخلاقيات، وحرية الصحافة والعمل الصحفي في ظل الظروف الخطرة وتحديات التقنيات الجديدة في المهنة. ويقوم بالتدريس في الورش مهنيون راسخون يستهدفون جيل الشباب من الصحفيين، ويحبَّذ أن تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة وأن يكون لهم ما لا يقل عن ثلاث سنوات من الخبرة. وبرغم أن المؤسسة مقرها في كولومبيا، فقد أقيمت الورش أيضا في الإكوادور وفنزويلا والمكسيك وأسبانيا. وواسطة العقد في منهج المؤسسة ورشةُ عمل مدتها ثلاثة أيام  يدرس فيها ماركيز التغطية الصحفية.
وبوصفي صحفية مستقلة معنية بالكتابة عن أمريكا اللاتينية بالإنجليزية، تقدمت وقبلت في ورشة العمل الخامسة. ابتهجت كثيرا بمقابلته فكنت ـ وأنا التي تتأخر على كل شيء ـ أول من وصل إلى المركز الثقافي الأسباني في قرطاجنة، وهو منزل جميل الترميم من طابقين يكسو فناءه عشب البيجونيا الأحمر وفيه نافورة، وتمتلكه الحكومة الأسبانية. ما كان لمكان آخر أن يكون أكثر ملاءمة. فقرطاجنة هي موطن جارثيا ماركيز، وكثير من شخصيات أدبه سارت على بازلت حيِّها الكولنيالي في المدينة. على بعد بضعة شوارع من المركز الثقافي، في ميدان الكاتدرائية، لاحظ فلورنتينو أريثا أن مشية فيمينا دازا لم تعد مشية تلميذة في المدرسة. وسيرفا ماريا دي تودوس لوس آنجيليس، الفتاة ذات الاثنتي عشرة سنة التي ظل شعرها ينمو بعد وفاتها، عاشت في دير سانتا كلارا المجاور. وبجوار الأسوار التي وقت قرطاجنة من القراصنة الإنجليز، يقع بيت جارثيا ماركيز هنا، على مقربة من الدير الذي تحول إلى فندق خمس نجوم يرى نزلاؤه بيت الكاتب لا يحول بينهم وبينه عائق، حتى أن أحد نزلاء الفندق قال لي إنه "كان أمرا محرجا. كنت أراه وهو يتناول إفطاره كل صباح؟ وفي النهاية أسدلت الستائر".
الاثنين، 8 ابريل 1996، التاسعة صباحا
أنا واحدة من اثني عشر صحفيا جالسين حول مائدة خشبية بيضاوية كبيرة. نجلس في غاية الهدوء، شأن طلبة منضبطين في مدرسة يسوعية ينتظرون بداية الحصة. يفتح جارثيا ماركيز الباب ويدخل. ينظر إلينا في مكر، كمن يعلم مدى التوتر الذي نحن فيه. يرتدي جارثيا ماركيز ـ أو جابو مثلما يعرفه الجميع ـ ثيابا بيضاء. وهنا على الساحل الكاريبي في كولومبيا، غالبا ما يرتدي الرجال الأبيض، من رؤوسهم حتى أحذيتهم. يقول صباح الخير، ولوهلة عابرة، يبدو وكأننا قد نقف، أو ننحني، أو نرد متحدي الأصوات قائلين "Buenos días, profesor" [صباح الخير يا أستاذ].
المقعدان الشاغران في الغرفة يواجهان الشبابيك موليين ظهريهما للباب. يختار جابو الصحفي المكسيكي سيزار روميرو، وهو الجالس بجواري ـ في مواجهة الباب ـ ويطلب منه مقعده.
يقول "لقد شاهدت الكثير للغاية من أفلام رعاة البقر، ولا أجلس أبدا موليا ظهري للباب. فضلا عن أنني متأكد أن لديّ من الأعداء أكثر مما لديك بكثير".
يقول سيزار روميرو "بكل سرور دون جابرييل".
فيما يقبل جابو، أتذكر حواري مع صديق كوبي تخرج حديثا في مدرسة السينما التي أسسها جارثيا ماركيز خارج هافانا ويدرِّس فيها في بعض الأحيان. قال لي خوان كارلوس "ستقضين وقتا عظيما. هو دائما ما يبدي اهتماما بالنساء أكبر من اهتمامه بالرجال في الفصل. يقول إن النساء يجلبن له الحظ". أطالع الجالسين حول الطاولة. من بين المشاركين الاثني عشر، لا نساء غيري وأندريا فاريلا.
يجلس جابو على يساري، وأنا متوترة. تبدأ يدي في التعرق. أجففهما في بنطالي. أعقد ذراعي. يضع ساقا على ساق. أطأطئ ناظرة إلى الأرض. حذاؤه المدبب المصقول جيدا أبيض. أرفع عيني. الساعة حول معصمه بيضاء أيضا. أركز على الجوايابيرا الذي يرتديه، أي القميص المفضل لدى الرجال في أمريكا اللاتينية، ويبقونه حرا خارج البنطال، ممتدًّا على الفخذين، وهو قميص له أربعة جيوب، وفي بعض الأحيان يكون مطرزا ومجعدا. غالبا ما ارتبطت تلك القمصان لديَّ بالأجداد، وبالوزراء، وبملاك الأراضي ـ الرجال الذين تفوح منها رائحة الكولونيا في العادة والخمر في بعض الأحيان. قميصه بسيط، بلا زخارف، وبلا رائحة، ومصنوع من كتَّان شديد الرقة لدرجة أن يرى من خلاله. وبنطاله القطني الخفيف يحدث تناقضا ظريفا غير متوقع.
يضع على الطاولة حقيبة جلدية سوداء من التي بدأ الرجال الطيبون في حملها في قرابة السبعينيات. مرتديا نظارته، يستخرج قائمة بالمشاركين في الفصل من ملف أسود فيه أيضا مواد كنا قد طولبنا بتقديمها، قطع صحفية لينقدها جابو ويحررها خلال أيام عمله الثلاثة معنا. ما من صوت إلا دمدمة مكيف الهواء. ما من أحد ينظر إليه فعليا، ولو أننا جميعا، نحن الصحفيين الأصلاء، مررنا بمواقف أصعب من هذا في التعامل معها. فروبن فالنسيا، من كالي، سافر بنفسه إلى أورابا وهي أعنف منطقة في كولومبيا، حيث تقع مجازر بين تجار المخدرات والعصابات والجماعات شبه العسكرية. ويلسن دازا قضى عشرين يوما يجوب وسط مدينة ميديلين مع بائعي المخدرات والبغايا وأفراد العصابات. سيزار روميرو غطى عصيان زاباتيستا المسلح في تشياباس. إدجار تيليز استقصى علاقة الرئيس سامبر المزعومة باتحاد تجار المخدرات.
لكن جابو، منذ فوزه بجائزة نوبل سنة 1982، تحول من كاتب "مئة عام من العزلة" إلى نجم وسياسي مهم. ففي أمريكا اللاتينية، وبخاصة في كولومبيا والمكسيك اللتين يقضي فيهما أغلب وقته، لا يحظى حتى الرؤساء أنفسهم بمثل مكانته. هنا لا تقارن نجوميته إلا بنجومية نجوم كرة القدم وملكات الجمال. يستوقفه الناس في الشارع ليوقع لهم الأوتجرافات، حتى من لم يقرأوا كتبه. يطلب الرؤساء والوزراء والساسة وناشرو الصحف وزعماء العصابات مشورته، ويبعثون إليه الرسائل، ويريدونه قريبا منهم. كلامه، في أي موضوع مهما يكن، يتصدر العناوين. في العام الماضي اختطفت عصابة في كولومبيا شقيق رئيس سابق. واشترطوا أن يقبل جارثيا ماركيز الرئاسة. وكتبوا في طلبهم يقولون: "يا نوبل، نرجوك أن تنقذ الوطن".
بالنسبة إلينا نحن الكولمبيين، فإن الإشارة إلى جارثيا ماركيز باسم تدليله جابو يقرِّب نجاحه منا، ويجعل عظمته ـ شأن عائلة متباهية ـ عظمتنا نحن. في منطقة يستنفدها العنف والفقر وتجارة المخدرات والفساد، هو الابن الذي تستعرض به العائلة، ولا يستثنى من ذلك حتى من لا تروق لهم صداقته بفيدل كاسترو. في بارانكويلا، بلدتي الأم، حيث عمل صحفيا سنة 1950 وحيث التقى بزوجته مرسيدس، su mujer de siempre [زوجته إلى الأبد]، يحتضنه الجميع بلا استثناء. بل لا يقال له جابو، وإنما جابيتو، وهو التصغير والتدليل الذي ينادي به الآباء والزوجات والأصحاب الأعزاء عليهم.
يرد اسمه على ألسنة المشاركات في مسابقات الجمال بمثل ما يرد اسم البابا. إذ تتكرر إجابة المتنافسات: من كاتبك المفضل؟ جارثيا ماركيز. من أكثر من يحظون بإعجابك؟ أبي، والبابا، وجارثيا ماركيز. من الذي تحلمين بمقابلته؟ جارثيا ماركيز والبابا. لو طرحت هذه الأسئلة نفسها على صحفي من أمريكا اللاتينية، فلعل الإجابات تتماثل، مع استبعاد محتمل للبابا. وبالنسبة إلينا نحن صحفيي أمريكا اللاتينية الذين لا يزالون في مقتبل العمر، فإنه يمثل لنا القدوة. يحلو لنا القول إنه قبل أن يصبح روائيا كان صحفيا. وهو يقول إنه لم يكف قط عن كونه صحفيا.
يتلو جارثيا ماركيز أسماءنا من القائمة مضيفا لكل منا تعليقا، مثيرا للفضول دائما، وممتلئا بالدفء دائما. يناديه روبين فالنسيا وقليل غيره بالمايسترو، ولكن هذا يبدو لي إفراطا في الاحترام. كثيرا ما دعوته أنا بجابو عند كلامي عنه، لكن بمجرّد حضوره بت أشعر أن في هذا وقاحة أكثر مما يليق. يبلغ أقصى المودة مع أندريا التي حضرت ورشة معه من قبل. يمزح معها، مناديا إياها بأندرييتا، قائلا "إنك تقضين من الوقت في ورش العمل أكثر مما تقضين في العمل نفسه. سنتصل برئيستك ونطلب منها أن تبعث إليك بسريرك". تخجل أندريا، ويتورد خداها بسبب دفء حديث جابو.
ينفتح الباب بسرعة على شاب لاهث، ذي قميص أزرق فاتح تحت إبطه صحيفة، يدخل جالبا من وسط قرطاجنة حرارتها وفوضاها.
يعتذر قائلا "بيرميسو" ويجلس بسرعة بجوار سيزار روميرو.
"ومن أنت؟"
"تاديو مارتينيث"
تاديو متوتر، وجابو يعرف ذلك.
يقول قارئا من القائمة "تاديو مارتينيث من صحيفة إل بريوديكو دي قرطاجنة ... زملاؤك هنا من، دعنا ننظر، من كاراكاس، وبوجوتا، وكالي، وميديلين، وسان خوسيه، والمكسيك، ونيويورك، وميامي، وأنت، القادم من آخر الشارع، آخر من يحضر".
نشفق جميعا عليه، لكن جابو يهز رأسه ويبتسم.
العاشرة صباحا
يبدأ جابو بالحديث عن كتابه عن سيمون بوليفار، وهو لنا في أمريكا اللاتينية أشبه بجورج واشنطن وتوماس جيفرسن وبنيامين فرانكلين، وجميع الآباء المؤسسين في لفافة واحدة ـ حرَّر خمسة بلاد من حكم الأسبان وحلم بأمريكا اللاتينية الموحدة، امبراطورية تمتد على طول الطريق من كاليفورنيا نزولا إلى تييرا دل فيجو. يظهر المحرر دائما، في البورتريهات المعلقة على كل جدار رسمي، مرتديا زيا عسكريا منشًّى، متأهبا لمعركة، أو ممتطيا حصانه الأبيض.
"لكن أحدا لم يقل قط في سِيَر بوليفار إنه كان يغني أو يصاب بمغص". هكذا يقول جابو، ويضيف أنه يعتقد أن العالم ينقسم إلى جماعتين من الناس: "من يتغوطون بسهولة ومن لا يتغوطون بسهولة، وذلك يؤدي إلى شخصيتين شديدتي الاختلاف. لكن المؤرخون لا يقولون لنا هذه الأمور لأنهم يحسبونها عديمة الأهمية". وسخطه على الصورة الجامدة التي يصور بها المؤرخون الرسميون بطله تفسر لماذا قرر أن يكتب "الجنرال في متاهته" التي تحوي صفحاتها القصة الكاملة للشخص الذي له هذا التأثير المهم على فكره السياسي. يحكي لنا أنه كتبها على هيئة ريبورتاج.
"والريبورتاج هو القصة الكاملة، إعادة البناء الكاملة لحدث. حتى التفاصيل البسيطة مهمة. هذه هي قاعدة مصداقية أي قصة وقوتها. في ’الجنرال في متاهته’ كل معلومة يمكن التحقق منها، مهما تكن بساطتها، قادرة على تقوية العمل كله. على سبيل المثال، وضعت بدرا ـ ذلك البدر الذي يسهل جدا إدراجه في النص ـ في الليلة التي قضاها سيمون بوليفار نائما في جوادواس في العاشر من مايو سنة 1830. أردت أن أعرف هل كان القمر بدرا في تلك الليلة، فاتصلت بأكاديمية العلوم في المكسيك وتبيّن لهم أن القمر بالفعل كان بدرا في تلك الليلة. لو لم يكن كذلك، لحذفت البدر ببساطة. يمثل البدر تفصيلة لا ينتبه إليها أحد. لكن لو أن في قطعة صحفية معلومة واحدة زائفة، فكل ما عداها زائف. في الكتابة الروائية، لو أن معلومة واحدة يمكن التثبت منها ـ معلومة عن القمر الذي كان بدرا في تلك الليلة في جوادواس ـ فسوف يصدق القراء كل ما عداها".
يسأله أحدنا عن التقنيات الروائية في الريبورتاج. يرد جابو بأنه معجب بأعمال جاي تاليس ونورمن ميلر وترومان كابوتي، وجميعهم يمارسون "الصحافة الجديدة". و"الجانب الأدبي الوحيد في الصحافة الجديدة هو أسلوبها السردي. والرخصة الأدبية مسموح بها ما دام يمكن تصديقها وما دامت تصدق على بقية المعلومات التي يمكن التحقق منها".
وفيما يقول هذا، أتذكر عملا صحفيا كتبه جابو عن كراكاس في فترة جفاف رهيب وعن رجل بدأ يحلق ذقنه بعصير الخوخ وهذه حقيقة يمكن تماما تصديقها والتحقق منها، ومع ذلك تفوح منها رائحة الرخصة الأدبية. قيل إن لدى جابو قدرا من الإبداع أكبر من أن يكون صحفيا جيدا. وفي النهاية، هو الكاتب نفسه الذي قام في رواياته، بوجه رزين، برفع ريمديوس الجميلة إلى السماوات وجعل رائحة سنتياجو نصار بعد وفاته المعلنة تخترق البلدة كلها.
يقول، وكأنما قرأ أفكاري، إن "الأحداث الغريبة في رواياتي كلها حقيقية، أو لها نقطة بداية، قاعدة في الواقع. الحياة الواقعية دائما أكثر إثارة للاهتمام مما يمكن أن نبتكره". يقول إن صعود ريمديوس الجميلة استلهم من امرأة رآها تنشر ملاءات بيضاء نظيفة وذراعاها مفرودتان تحت الشمس". وقال أيضا إن "المرء لكي يتحرك بين السحري والقابل للتصديق بحاجة إلى أن يصبح صحفيا".
يحكي لنا عن "حكاية حطام سفينة"، التي كتبها في الأصل مسلسلة حينما كان يعمل صحفيا في "إل سبكتادور" في بوجوتا. تم تكليفه بالكتابة عن مغامرات بحار تائه في البحر لكن القصة لم تثر اهتمامه. "فالصحف جميعا كانت قد كتبت عنها". لكنه لان في النهاية. في تلك الأيام، أي الخمسينيات ـ ومثل أيام تشارلز ديكنز الذي كانت تظهر رواياته في مناشير لندن الصحفية ـ كان النشر المسلسل وسيلة تسويق منتشرة. كانت مهمة جابو هي أن يحاور البحار ويكتب قصته في أجزاء. بعد نشر الحلقتين الأوليين، جاء دون جيليرمو كانو رئيس تحرير الصحيفة (الذي اغتاله تجار المخدرات سنة 1986) إلى مكتبه وقال "اسمع يا جابرييليتو، هذه الأشياء التي تكتبها، أهي خيال أم حقيقية؟’ قلت له ’هي رواية، وهي حقيقية’. فسألني ’وما عدد الحلقات التي تنوي تقديمها؟’ قلت ’تبقى حلقتان أخريان’".
"لا يمكن، المبيعات تزيادت إلى ثلاثة أمثالها. أعطني مئة".
"كتبت أربع عشرة فقط"
يحكي لنا جابو "كنت أعرف أن البحار قضى أربعة عشر يوما تائها في البحر، فقرَّرت أن أكتب أربعة عشر فصلا، فصلا لكل يوم. جلست مع الرجل مرَّة أخرى وبدأت أقطع أيامه إلى شرائح أنحل. بدأت بأن سألته ماذا كان يفعل كل يوم، ثم ماذا كان يفعل كل ساعة، ثم كل دقيقة. سألته متى ظهرت أسماك القرش، وفي أي وقت كان يأكل".
الظهر
هذا تقريبا وقت الغداء. بدأ جابو الحديث في التاسعة بالضبط ولم يتوقف. فضلا عن كلامه في التعليم، جابو يثرثر، ويحكي الحكايات. على مدار أكثر من ثلاث ساعات، جلسنا نحن الاثني عشر، فلم نقل إلا القليل. لم أكن تناولت إفطاري، ولكنني لم أكن أشعر بالجوع. هو لا يشرب القهوة لكن الكثيرين منا يشربونها. وهي خير رفيق لحكاياته.
يقول إن الحكائين يولدون مفطورين على الحكي، لا يصنعون: "مثل المطربين، من يكن حكّاء فذلك شيء وهبته إياه الحياة. لا يمكن تعلُّمه. التكنيك، نعم، هذا يمكن تعلُّمه، لكن القدرة على حكي قصة شيء يولد به المرء. سهل أن تفرق بين حكاء جيد وآخر رديء: اطلب من الشخص أن يحكي لك آخر فيلم شاهده".
ثم يقول في تأكيد إن "الأمر الصعب هو أن تدرك أنك لست حكاء وأن تمتلك من الشجاعة ما يجعلك تمضي فتفعل شيئا آخر". يحكي لي سيزار روميرو لاحقا أن من بين كل ما قاله جابو، ذلك كان الأقوى أثرا عليه.
يضرب مثالا. بعد حصوله على جائزة نوبل بوقت قصير، جاءت صحفية شابة إلى جابو  في مدريد حيث كان مقيما في فندق وطلبت منه إجراء حوار. رفض جابو ـ الذي كان يمقت أسئلة الحوارات ـ لكنه دعاها إلى مرافقته وزوجته طوال النهار. "قضت معنا اليوم كله. تسوقنا، زوجتي ساومت، ذهبنا لتناول الغداء، مشينا، تكلمنا، وصاحبتنا إلى كل مكان". ولمّا رجعوا إلى الفندق وتأهب جابو لتوديعها، طلبت منه إجراء الحوار. يقول جابو "قلت لها إنها يجب أن تبحث عن عمل آخر. لقد كانت بحوزتها قصة كاملة، كان لديها ريبورتاج".
مضى يتكلم عن الفارق بين الحوار والريبورتاج ـ والخلط الذي يقع الصحفيون فيه دائما. "الحوار في الصحافة المطبوعة هو دائما حديث بين صحفي وشخص لديه ما يقوله أو يراه في حدث ما. الريبورتاج إعادة بناء دقيقة وصادقة للحدث".
"أجهزة التسجيل بشعة لأنها توقع المرء في شرك الاعتقاد بأن جهاز التسجيل يفكر، فنفصل أمخاخنا في اللحظة التي نشغل فيها الجهاز. جهاز التسجيل ببغاء رقمي، له آذان لكن ليس له قلب. لا يلتقط التفاصيل ومن ثم فمهمتنا هي أن نستمع إلى ما يجاوز الكلمات، نلتقط ما لا يقال ثم نكتب القصة كاملة". يطأطئ ناظرا إلى كومة ورق أمامه، هي المواد التي تقدمنا بها! يقول "الكتابة فعل تنويم مغنطيسي. إذا نجح الكاتب فهو ينوم القارئ مغنطيسيا. وحيثما تحدث عثرة يفيق القارئ، ويغادر التنويم المغنطيسي، ويتوقف عن القراءة. حينما يضطرب النثر، يهجرك القارئ. على المرء أن يبقي الكاتب في تنويم مغنطيسي، بالاهتمام بكل تفصيلة، وكل كلمة. هو عمل مستمر يقوم على أن تسمموا القارئ بالمصداقية وبالإيقاع". يتوقف، ثم ينقر على الورق. "الآن يجب أن أقول لكم إنني قرأت المواد التي أرسلتموها وكنت في غاية اليقظة طوال الوقت".
أشهق، والبعض يضحكون، والبقية يتململون بغير ارتياح في كراسيهم.
الواحدة ظهرا
"تعالو نر ماذا في الصحيفة اليوم" ويمد يده عبر الطاولة فيتناول صحيفة تاديو مارتينيث. يسأل "هل هناك قصة يمكن أن نخرج ونغطيها؟" يتمعن في الصفحة الأولى ويهز رأسه في استياء. يقول "لا يعقل. هذه صحيفة محلية وليس في الصفحة الأولى خبر واحد عن قرطاجنة. قل لرئيسك يا تاديو إن الصحيفة المحلية يجب أن تكون في صفحتها الأولى أخبار محلية".
يغمغم وهو يقلب الصفحات "لا شيء هنا. هيا ننظر، هنا شيء ما. موقد للبيع، لم يستعمل، موقد غير مجمّع. بيعة مضمونة. اتصلوا بجلويا بيدويا، 6601127، داخلي 113. هذه قد تكون خبرا. هل نتصل؟ أراهن أن في الأمر شيئا. لماذا تبيع هذه المرأة موقدا، ولماذا الموقد غير مستعمل؟ ما الذي نعرفه من هذا عن المرأة؟ قد يكون أمرا مثيرا". يتوقف، منتظرا أن نشعر بالإثارة. لكن لا يبدو أن أحدا مهتم بمعرفة ما يرغم المرأة على بيع موقد غير مجمع، بخاصة حين يمكننا أن نستمع إليه.
جابو يرى الأخبار في كل مكان. خلال الأيام التالية يقول دائما "eso es un reportaje" [هذا خبر]. أدرك أن جابو ممتلئ بالنوستالجيا. يفتقد عمله كصحفي. يقول "الصحافة ليست وظيفة، إنها غدة".
ليس مصادفة أن كتابه الجديد "خبر اختطاف" ليس عملا خياليا. أتاح له ـ خلال سنوات عمله الثلاث عليه ـ أن يكون صحفيا مرة أخرى. هو قصة تسعة اختطافات دبرها بين 1989 و1991 بابلو إسكوبار ـ زعيم عصابة ميديلين العنيفة لتجارة المخدرات ـ وقد أراد بأي ثمن منع كولومبيا من توقيع معاهدة تسليم مجرمين مع الولايات المتحدة. اتساقا مع شعاره ("إن مقبرة في كولومبيا خير من زنزانة في الولايات المتحدة")، ضغط إسكوبار على الحكومة بتفجير مبان، وقتل مرشحين للرئاسة، ووزراء، وضباط شرطة، وخطفه أخيرا تسعة أشخاص، ثمانية منهم كانوا صحفيين.
بنشاط وغرابة، أعاد جابو بناء أشهر الخطف الستة ـ مسجلا القلق ونفاد الصبر، ليس فقط في أنفس المخطوفين وعائلاتهم بل وفي أنفس الخاطفين من عصابة إسكوبار، وفي نفوس مسؤولي الحكومة المنخرطين في عملية التفاوض. وبوصفه جارثيا ماركيز، كان متاحا له بالطبع من الاتصالات ما يرغب فيه أي صحفي. استطاع مقابلة الأسر، والمسؤولين الحكوميين، ومن بينهم ثلاثة رؤساء سابقين. تكلم مع المراهقين الذين عملوا في الحراسة، وكانوا يسمعون فرقة جَنْز آنْ روزس Guns ‘n Roses  الموسيقية ويشاهدون "أسلحة قاتلة" مرارا وتكرارا عبر الفيديو، المنتشين وبجوارهم رشاشاتهم المتبخترة ـ الأطفال الذين يمارسون القتل لحساب العصابات لكي يشتروا الثلاجات لأمهاتهم. عندما بدأ جابو تأليف الكتاب، كان إسكوبار قد مات بالفعل، بعدما أطلقت عليه الشرطة الرصاص سنة 1993. لكن أتيح له الاتصال بشركاء إسكوبار الأساسيين، وهم الأخوة أوتشوا، في محبسهم. عرض عليه محامو إسكوبار رسائل بخط اليد. "كل تفصيلة في الكتاب حقيقية، تم التحقق من صدقها وفقا لأقصى طاقة بشرية على التحقق. ولو كان بابلو إسكوبار لم يستطع مراجعة النص شخصيا، فذلك لأنه كان ميتا. وأعرف أنه كان ليوافق على مقابلتي".
قدرته على مقابلة أي شخص يختاره تجعل جابو يفتقد الأيام التي كان فيها صحفيا مغمورا، قادرا على تناول دفتر والخروج لاكتشاف الموقد غير المجمع. "يصعب عليَّ الآن كتابة مادة إخبارية. أردت أن أكتب عن تلك القرية التي تم تسميم مخزونها من الخبز لكنني علمت أنني لو ذهبت إلى هناك فسوف يتشوه الخبر، وسوف أصبح أنا الخبر". يشير هنا إلى واقعة جرت خارج بوجوتا قبل سنوات قليلة، حيث تسممت بلدة بأكملها.
فضلا عن إتاحته له الرجوع إلى الصحافة، حقق "خبر اختطاف" له غرضا آخر. يحكي لنا قائلا "أردت أن أعرف إن كنت لم أزل قادرا على الكتابة كصحفي. لقد كان أصعب كتاب ألفته. كتابة الأدب أسهل كثيرا، حيث أكون السيد، وأسيطر على الأمر كله. لكن هذا كتب كأنما لصحيفة. كتبت هذا الكتاب بدون استعمل صفة أدبية أو استعارة. كان تمرينا مفيدا لأنه من المهم بالنسبة إليّ ألا أكرّر نفسي. كان التحدي في تأليف ’خريف البطريرك’ بعد ’مئة عام من العزلة’ تحديا فرضته على نفسي. كان يمكن أن أكتب ثلامئة من ’مئة عام من العزلة’. كنت أعرف كيف أفعل ذلك. فقررت أن أكتب ’خريف البطريرك’ بأسلوب مختلف. ولم تنجح ’خريف البطريرك’ عند صدورها. لو كنت كتبت رواية أخرى مثل ’مئة عام من العزلة’ للقيت استقبالا أفضل". يبتسم ويحكي لنا أن إحدى أكثر اللحظات التي شعر فيها بالتشبع هي التي رأى فيها طبعة الولايات المتحدة من "مئة عام من العزلة" وقد كتب على خلفية خط رمادي في أحد جوانب غلافها ما نصه: لكاتب الحب في زمن الكوليرا. يقول إن "هذا كان انتصارا لي على ’مئة عام من العزلة’".
"نحن الكتّاب ينبغي أن ندافع عن أنفسنا أمام من يعجبوننا من الكتاب. ما أسهل الوقوع في الشرك بالبدء في محاكاتهم. يروق للناس على سبيل المثال أن يقولوا إنني قلدت فوكنر، لكن في رحلتي إلى الجنوب الأمريكي، حينما ذهبت مع مرسيدس، ولم يزل ابننا على أذرعنا ولا نمتلك من حطام الدنيا غير عشرين دولارا، أدركت أنني لم أتماه مع كتابته بقدر ما تماهيت مع واقعه، أي أن الجنوب الأمريكي شبيه بأركاتاكا".
أركاتاكا هي البلدة الصغيرة الواقعة في المنطقة الكاريبية من كولومبيا التي ولد فيها، وعلى بعد قرابة مئة ميل من حيث نشأ جدي. بدا شيء ما مألوفا منذ أن دخل جابو الغرفة، وجلس بجواري وبدأ الكلام. يقول مرات كثيرة إنه يعيد حكاية القصص التي حكتها له جدته. وأنا يشعرني الاستماع إلى جابو أنني أستمع إلى جدي، وليت جدي فقط كان بوسعه أن يكتبّ.
يضطجع جابو في كرسيه، ويمس شاربه الأبيض، ويحذرنا "إنكم لا تكتبون جيدا حينما تشعرون بالسعادة إذ يرن الهاتف وتردون، أو حينما تنقطع الكهرباء فتفرحون. لن تكونوا على الطريق الصحيح إلا حينما يرن الهاتف فتتجاهلونه، وتلعنون المصابيح حين تنطفئ". لا بد أن أمثلته التي يضربها بالكهرباء بعيدة عن تصور البعض، لكن انقطاعات الكهرباء بالنسبة لنا نحن الصحفيين الأمريكيين اللاتينيين وفقدان النصوص على كمبيوتراتنا هاجس دائم لا يغادر خلفيات عقولنا مطلقا. ولكن جابو، الذي ضاع منه ذات مرة نص كامل، لديه مولده الكهربائي للطوارئ.
يبدأ في قراءة فقرات علينا من بعض المقالات، ويقترح بعض التعديلات. بعض الجمل شديدة الطول ويتظاهر جابو بالذهول وهو يقرأها. يقول إن "علينا أن نستعمل فواصل التنفس، وبغير هذا، لن ينجح التنويم المغنطيسي. تذكروا، وقت أن تحدث عثرة، يفيق القارئ ويهرب. ومن الأمور التي ستجعل القارئ يفيق من التنويم المغنطيسي أن ينقطع نفسه".
قضينا الصباح كله تقريبا ونحن نستمع إلى جابو يدرِّس بحكي القصص. أدركت أن دورنا هو أن نرد له المتعة، وكأننا في استراحة ممتدة لشرب القهوة أو نشرب كأسا في أقرب حانة.  "أعرف أن الصحافة لا يمكن تعليمها، لا بد أن تعاش، لكن بوسعي أن أنقل إليكم بعض خبرتي. ما من نظريات. الواقع ليست له نظريات، الواقع يسرد. ومنه ينبغي أن نتعلم".
بعد الغداء
كانت الإضاءة في الغرفة شحيحة للغاية فاستغرقت أعينهما لحظة حتى تتكيف.  المساحة لا تتجاوز مترين في ثلاثة أمتار، فيها شباك واحد مسدود بألواح خشبية. فيها رجلان جالسان على حشية واحدة وضعت على الأرض، مقنعان، شأن الرجال في المنزل الأول، ومستغرقان تماما في مشاهدة التليفزيون. كل شيء بدا مؤسيا قاهرا. في الركن الواقع عن يسار الباب، سرير ضيق ذو أعمدة حديدية، جلست عليه امرأة شبحية ذات شعر أبيض مجهد، وعينين ساهمتين وبشرة ملتصقة بعظامها. لم تبد بادرة على أنها سمعتهما يدخلان، لا نظرة، لا نفس. لا شيء، حتى الجثة ما كان ليبدو عليها أنها أكثر موتا. كان على ماروخا أن تكبت صدمتها حينما أدركت من كانا.
يقرأ جابو فصلا من "خبر اختطاف". أقرر الاستسلام لكلماته، لولا أن تجاهل حذائه الأبيض مستحيل. أغمض كي أسلم نفسي كلية لـ"سمِّه".
في الليل كان الصمت تاما والعزلة هائلة، لا يكسرها إلا ديك مخبول فاقد الإحساس بالزمن فكان يصيح كلما واتته رغبة في الصياح. وفي الأفق أصوات كلاب تنبح، منها واحد قريب للغاية بدا من صوته أنه كلب حراسة مدرب. كانت البداية عسرة على ماروخا. التوت على نفسها فوق الحشية، وأغمضت، ولأيام عديدة لم تفتح عينيها ثانية إلا مرغمة، محاولة أن تحقق لنفسها الخصوصية اللازمة لكي تفكر بمزيد من الصفاء. ولم يكن حالها أنها كانت تنام لثماني ساعات في المرة: كانت تغفو لنصف ساعة وتستيقظ على الواقع نفسه، وتجد الكرب نفسه في انتظارها، كامنا لها. كان رعبا دائما: الإحساس الفيزيقي الدائم بأن في بطنها شيئا ما جامدا، ملتفا، متأهبا للانفجار في ذعر. أدارت ماروخا فيلم حياتها كاملا في محاولة للتشبث في الذكريات الطيبة، ولكن الذكريات المخالفة ما فتئت تعترضها ...
يقرأ الفصل بالكامل. أشعر بذعر مارينا مونتويا وهي ترتدي سترتها الوردية والجورب البني الرجالي وتودع شركاءها في السكن.
ينقلونني إلى الغرفة الضيقة التي ينبئ الحرس فيها مارينا بقرب إطلاق سراحها. لكن الجميع يعلمون أن الحذاء عالي الكعبين والسترة التي ترتديها سوف تصطحبها جميعا إلى إعدامه.
"أي تعليقات؟ هل عليّ أن أغير أي شيء؟"
لا أحد ينطق بكلمة.
يقول في اعتزاز "هذا تحقيق استمر ثلاث سنوات. كان البحث حاسما. كل معلومة يمكن التحقق منها تمَّ التحقق منها. أرجع الفضل في هذا الكتاب إلى مساعدي في البحث". يتكلم جابو، لكن رأسي لم يزل ثقيلا. لم أفق بعد من تنويمي المغنطيسي. أشعر أنني أترنّح ولم يزل بوسعي أن أرى جسد مارينا، مرتدية الوردي، طريحة العشب الفاصل بين ناحيتي الطريق الوحيد المفضي إلى مطار بوجوتا، الطريق الذي أسلكه كلَّما زرت والديّ.
يقول "ثمة نصيحة سديدة بأن تبدأوا أولا بكتابة البداية والنهاية. ابدأوا بحكاية وانتهوا بخاتمة رنانة. ثم املأوا ما بينهما. عليكم أن تطوِّقوا قصتكم، وكأنها ماشية. فإن لم تفعلوا، فستبقون تبحثون، ويمكن أن يمضي بكم البحث إلى أي مكان. عليكم أن تسيّجوا القصة، عليكم أن تتعلموا كيف تنهون دائرة المعلومات. التفاصيل محورية. عليكم أن تتشبثوا في خيط من السردية. وبغير ذلك تغرقون. حتى سرفانتس ضاع منه حمار، ولا بد أن نجتنب فقدان أكبر عدد ممكن من الحمير".
"من المشكلات الضخمة في الكتابة الإفراط في القلق. لو استطعتم فقط أن تكتبوها مثلما تقولونها، فذلك حلم كل كاتب، أن يستطيع الكتابة مثلما يستطيع الكلام. وهو ما لا يحدث، لأن المرء حينما يحاول، يدرك كم هو أمر صعب. كنت في المسكيك أكتب وشبابيكي مفتوحة، حتى أسمع الطيور أو المطر، وأدرج ذلك في النص الذي أعمل عليه. لم أعد أفعل ذلك. ذلك الأمر المتعلق بالقدرة على الكتابة في مكان معيَّن وحسب، وبطريقة معينة، هو من جنون الروائيين. الآن بوسعي أن أكتب في أي مكان مثلما كنت أفعل وأنا صحفي. أصل جهازي الباور بوك فقط بالكهرباء في أي غرفة فندقية. لكنني معتاد على الكتابة على الشاشة الطويلة. أحفظ وأنا أكتب، وأنقل إلى فلوبي ديسك فورا. ولكل فصل ملف".
يحكي لنا أنه مغرم بالكتابة على شاشات لها شكل الصفحات. لكنها لم تعد تصنَّع. يقول "أشتري منها كل ما أعثر عليه. أعتقد أن المرء بحاجة إلى شراء أي شيء يسهل من مهمتنا. أجهزة الكمبيوتر استثنائية. يمكنني أن أثبت ذلك. فقد بدأت الكتابة على الكمبيوتر مع الحب في زمن الكوليرا. بدأت بكتابة صفحة واحدة إلى كتابة عشر صفحات في اليوم، ومن كتابة كتاب كل سبع سنوات إلى كتاب كل ثلاث سنين. ومع ذلك لا تفقد الكتابة صعوبتها أبدا. عندما يحدق المرء في صفحة خاوية، ينتاب المرء إزاءها قلق كالذي ينتابه إزاء الجنس، محاولا دائما أن يتوقع هل ستنجح أم ستفشل. هناك عناء دائم. ومثلما كان بورخس يقول: أي إله الإله الكامن وراء الإله الذي يحرك قطع الشطرنج؟"
يحكي لنا أنه يعلم أن أسوأ لحظة على الكاتب، أو على الصحفي، هي مواجهة الصفحة الخاوية، ويشركنا في واحدة من أنفع ما صادف من الحلول وهو ما جاء في حوار باريس رفيو مع إرنست همنجواي سنة 1958: "اقرأ ما كتبته، وتوقف دائما وأنت تعرف ما الذي سوف يجري لاحقا، ومن هناك تبدأ. اكتب إلى أن تصل إلى موضع تكون فيه محتفظا لم تزل بعصارتك وعارفا ما الذي سوف يحدث بعد ذلك وتوقف وحاول أن تعيش إلى أن يأتي اليوم التالي لتضرب من جديد".
يقول جابو "أكتب من الثامنة والنصف صباحا حتى قرابة الثالثة عصرا. ومن تلك السنين الطويلة التي قضيتها على الكرسي صار لي ظهر سيء، لذلك ألعب التنس كل يوم. أحيانا بعد أن أنتهي، يبلغ مني ألم الظهر أني أرمي نفسي على الأرض". تشارف الساعة على السابعة حينما ينظر في ساعته البيضاء. "ولن تجعلوني أضيع لعب التنس يا رفاق". يقول هذا وينهض فيسير خارجا.
الثلاثاء 9 ابريل ـ التاسعة صباحا
قبل قرابة خمسين عاما من يومنا هذا فقد جابو أول آلاته الكاتبة ـ التي كتب عليها "الاستقالة الثالثة"، وهي أول قصة قصيرة نشرها. كان طالب حقوق تعيسا يعيش في نزل رخيص بوسط بوجوتا، مفتقدا حرارة الساحل الكاريبي. كان نادرا ما يذهب إلى المحاضرات، فالقانون، الذي انتظرت أسرته أن يدرسه، لم يكن يثير اهتمامه. في ساعة الغداء من التاسع من ابريل سنة 1948، أوشك جابو أن يجلس لتناول الطعام حينما سمع بإطلاق الرصاص على خورخي إيليسير جيتان المرشح الرئاسي الشاب صاحب الشعبية الكبيرة الذي كان يزعزع البنية السياسية التقليدية في كولومبيا.
يحكي لنا جابو أنه هرع إلى الميدان ليجد "الناس يغمسون بالفعل مناديلهم في دماء جيتان. اشتعلت النار في شوارع بوجوتا وفقد جابو آلته الكاتبة في الحريق. أصيبت كولومبيا بالشلل. أغلقت الجامعات. وحدث، بعد شهور قليلة، هنا في قرطاجنة، أن بدأ جابو وهو في السابعة عشرة من عمره حياته كصحفي بكتابة الافتتاحيات.
"كنت أتجول ذات يوم وكان زافالا، رئيس تحرير إل يونيفرسال جالسا إلى آلته الكاتبة بالخارج في الميدان. يقول لي ’أنا أعرفك. أنت صاحب القصص القصيرة في إل سبكتيتور. لماذا لا تجلس وتساعدني في هذه الافتتاحية التي أكتبها؟’ وكتبت شيئا. فتناول زافالا قلمه الرصاص وحذف بضعة أشياء. في المرة التالية التي كتبت فيها افتتاحية لم يحذف غير أشياء قليلة. في المرة الثالثة كنت أكتب بلا تحرير. كنت قد أصبحت صحفيا".
لا يجلس اليوم بجواري. لا يرتدي قميص جوايابيرا الأبيض، إنما يرتدي قميصا فيروزيا حريرا طويل الكمين. لا يزال الحذاء أبيض. تبدو صلتي به بعيدة لكنني لم أزل مشدودة إلى حكاياته. يقول لنا "بدأت أجني مالا من الكتابة حينما صرت في الثالثة والأربعين. اشتريت أول بيت لي، بيت كويرنافاكا، سنة 1970، بعد خمسة وعشرين عاما من نشر أول قصة قصيرة. حسبت أنني لكي أصطحب أبنائي إلى السينما في تلك الأيام فقد كان عليّ أن أكتب اثنتي عشرة صفحة، ولكي أصطحبهم إلى السينما وأشتري لهم آيس كريم فقد كان عليّ أن أكتب عشرين. حينما عشت في باريس، لم أكن أعمل وفقا لساعات ثابتة، وغالبا ما كنت أكتب في الليل. في النهار كنت أنشغل بإطعام نفسي. الآن أعرف أن الكتابة بالنهار أفضل، على كمبيوتر، ببطن ممتلئ وفي هواء مكيف".
استراحة القهوة.
اتفق جيمي أبيلو ـ مدير المؤسسة ـ مع مصور فوتغرافي ودعانا جميعا لالتقاط صورة جماعية. لا تمنح المؤسسة شهادات: "فالحياة، في الوقت المناسب، سوف تقرر من القادر ومن غير القادر" مثلما قال جابو لكن "على الأقل" كما يقول جيمي "يمكنكم جميعا الرجوع بتذكار، تعالوا قفوا على الدرج".
يجلس جابو في لطف في المنتصف. ويأمرنا المصور القادم من إل يونيفرسال أن نبتسم للكاميرا.
"انتظر" تصيح المرأة التي تدير المركز "أريد صورة مع جابو" وتصعد إلينا فتجلس بجواره.
الواحدة ظهرا
كان ذلك محتوما. أن يصل الكلام إلى فيدل كاسترو. كنا فقط، أو ربما يجدر بي القول إنني كنت، في انتظار اللحظة المناسبة. يريد جابو أن يتكلم عن الأخلاقيات: هل ينبغي أن يطلع الصحفي على وثيقة تركت مهملة، وثيقة قد يكون وراءها انفراد؟
يتيح لي سؤاله هذا الفرصة. أقول إنني "مررت بتجربة كهذه". في سنة 1991 حضرت حفل افتتاح القمة الرئاسية الأيبيرية الأمريكية الأولى المنعقدة في جوادالاجارا. قيل لكاسترو إن على كبار الشخصيات جميعا أن يقصروا كلماتهم على سبع دقائق. انتظر الجميع في خوف دور كاسترو المعروف بخطبه الطويلة. كنا جميعا نتساءل هل سيلتزم كاسترو بحدود الدقائق السبع، وهو الذي بعد يوم واحد من انتصار الثورة في 1959 ارتجل خطبة دامت سبع ساعات؟ كان بالجوير رئيس جمهورية الدومينيكان قد تحدث لخمس وأربعين دقيقة.
خلال الاستراحة، أحاطت مجموعة الصحفيين وأنا منهم بفيدل. يبدو من قريب أضخم مما يبدو في العادة، حتى لو بدا زيه العسكري باهتا بعض الشيء وياقة قميصه بالية للغاية. وبينما هو يمشي إلى الخارج، تبعه الجميع. وبدا مغرما بذلك.
صاحت صحفي "أيها القائد، أنا كنت أقطع القصب في لواء فينسريموس"
توقف وتلفت باحثا عن الصوت. "أين؟"
مدت امرأة يدها من فوق الزحام بصورة بالأبيض والأسود، صورة لهما معا حينما كانت لحيته لم تزل سوداء. "هل يمكن أن توقعها أيها القائد؟"
صاح شخص آخر "هل كان صعبا أن تتكلم لسبع دقائق؟"
قال فيدل "لقد خدعت. قالوا لي إنني لو تجاوزت سبع دقائق فإن جميع أجراس جوادالاجارا سوف تدوي".
كنت قد لاحظت ورقة صغيرة مجعدة بجوار دفتر أصفر حيثما كان جالسا. وفيما تحرك الجمع معه باتجاه الخروج، رجعت إلى كرسيه وتناولت الورقة المكورة. فتحتها وقرأت بخط يده الصغير المنمنم: " Por cuánto tiempo habré hablado?" (كم استغرقت في خطبتي؟) وعلى الدفتر الكبير، كان فيدل قد كتب قائمة بجميع الرؤساء والوقت الذي استغرقه كل منهم، بالثانية. ابتعدت تاركة الورقة ورائي. ومن ذلك الحين وأنا نادمة.
يقول جابو "لو كنت مكانك لأخذتها بلا شك. صدقيني، لو ظن أنها شديدة الأهمية، لما كان تركها قط. نعم، كنت لأحتفظ بها تذكارا".
ومثلما كنت أرجو، بدأ جابو يتكلم عن فيدل كاسترو. تكلم عن كوبا بصراحة، وباهتمام ومحبة، شأن طالب جامعي يعلق صورة تشي جيفارا على جدار غرفته. أما عن فيدل، فيتكلم دون أن يقول في الحقيقة أي شيء سلبي، أو متنازل، أو حتى كاشف. "إنني أتكلم عن فيدل انطلاقا من عاطفة أكثر مما أتكلم عنه انطلاقا من حكم. هو من أكثر الناس الذين أحبهم في الدنيا".
يقول واحد "دكتاتور".
"إجراء الانتخابات ليس الطريقة الوحيدة للديمقراطية".
يظل الصحفي الأمريكي فينا يلاحقه. ويبدأ جابو في الإجابة، لكنه يرى أننا ندون كلامه، فيعمد إلى نبرة صوت صارمة: "هذا ليس حوارا، إذا أردت أن أعرب عن آرائي عن فيدل، فسوف أكتبها بنفسي وصدقوني، سأكون أفضل في ذلك". وربما لإحساس ما بالذنب لأنه وبخنا، يصف لنا البروفيل الذي كتبه عن فيدل. "أعطيته له ليقرأه. وقد كنت فيه انتقاديا، تكلمت عن وضع الصحافة الحرة. لكنه لم يقل شيئا عن ذلك. ما ضايقه حقا في مقالتي هو أنني ذكرت أنه ذات يوم أكل ثماني عشرة كرية من الآيس كريم بعد الغداء. ظل يسألني ويكرر السؤال ’هل أكلت بالفعل ثماني عشرة كرية؟’"
بعد الغداء
يقول جابو لروبن فالنسيا "احك لنا عن رحلتك إلى تشيجورودو".
تشيجورودو قرية في أورابا، أخطر مناطق كولومبيا، وهذا يعني الكثير في بلد يوصف بأنه الأعنف على وجه الأرض. خليج أورابا، في ساحل كولومبيا الغربي، هو كوكتيل مولوتوف جغرافي. فيه أخصب أراضي البلد، وهو نقطة دخول السلاح، وميناء خروج المخدرات، وفيه مزارعون فقراء وملاك أراض أثرياء، فيها عصابات مسلحة، وقوات مسلحة، وفرق إعدام. في العام الماضي، قتل ألف شخص، ضحايا للعنف السياسي. وفقا لتقرير صحفي، قام قاتل في العشرين من عمره بقتل ثلاثة وثمانين شخصا. في أغسطس سنة 1995، قتل ثمانية عشر شخصا في صالة رقص.
روبين آخر من كنت أتوقع أن يززر تشيجورودو. هو شاب هزيل، ذو نظارة مربعة ضخمة على وجهه، في عدستيها الكثير من التعليمات الطبية، تبدو عيناه ضئيلتين من خلالهما. يقول "إنني ذهبت إلى هناك لأنني أردت أن أكتب عن تأثير العنف على حياة أهل المنطقة، لأكتشف وجه القصة الإنساني".
المادة التي نشرها هي التي قدمها للورشة.  جابو يمسكها في يده. يسأله "قل لنا ما جرى في اللحظة التي وصلت فيها؟ من كان أول من تكلمت معه؟"
"كانت البلدة مهجورة يا مايسترو. وجدت ولدا في الثانية عشرة من عمره، سألته إن كان يعلم أين صالة الرقص فأخذني إليها. بعد المجرزة، حدث نزوح، جميع المزارعين نزحوا عنها خائفين". يحكي لنا فالنسيا أنه سار في المكان باحثا عمن يتكلم معه، لكن الخوف والصمت هما كل ما عثر عليه. توقفت امرأة على دراجة نارية وعرضت عليه توصيله إلى بلدة أبارتادو على بعد نصف ساعة بالدراجة في المطر، حيث يمكنه أن يحصل على مزيد من المعلومات. سجل وصوله إلى فندق لاس مولاس. وفي يومه الثالث هناك، كان زائر في انتظاره في البهو.
سأله الغريب "أأنت الذي يحقِّق في المجازر؟ هيا نخرج ونتناول شرابا. أعتقد أنك تريد أن تتكلم معي؟"
قال فالنسيا "آسف. الوقت تأخر. أنا لا أخرج بعد الظلام. هل تحب أن تصعد معي إلى غرفتي؟"
ما كادا يدخلان الغرفة حتى سأل الرجل "ما الذي وصلت إليه؟ ماذا تريد أن تعرف؟"
"أنا صحفي، أحاول أن أكتشف الوجه الإنساني لهذا الصراع".
"اه، قلت لي".
أخيرا سأله فالنسيا "من أنت؟"
قال الرجل "أنا ملاك".
"أي نوع من الملائكة؟"
"ملاك ذو جناح أبيض وجناح أسود".
"وبأي جناح سوف تتكلم معي".
"على حسب".
"على حسب ماذا؟"
بينما يتكلم فالنسيا، نلزم جميعا الصمت، غارقين في قصته. أشعر بشيء من الحسد، يا لها من قصة!
يقول جابو رافعا المقالة "لكن ليس هذا ما أقرأه هنا. لماذا لم تكتب تلك القصة؟ لماذا لم تكتبها تماما كما حكيتها لنا الآن؟ تلك هي القصة التي كنت لأكتبها أنا".
ينظر إليه جابو ويقول "صف لنا ذلك الرجل".
يبقى روبن صامتا.
"هل يمكن أن تتذكر وجهه؟"
"نعم".
"بأي حيوان يذكّرك؟"
"السحلية. سحلية الإجوانا"
يقول جابو "خلاص. لست بحاجة إلى المزيد. لقد ضاعت عليك الرحلة يا بني. نحن لسنا علماء اجتماع، نحن حكاءون، نحكي قصص الناس. كتابة التقارير بصوت إنساني هو ما يخلق الصحفيين الكبار. أين تلك القصة؟"
يقول روبين، الذي يصر على مناداة ماركيز بالمايسترو "الأمر ليس سهلا.  حينما أقترح كتابة تلك القصة يقول لي رئيسي ’فالنسيا، أنت لست جارثيا ماركيز، اقتصر على المعلومات".
الثالثة ظهرا
يسأل جابو "لم لا تقرأ لنا يا دازا بعض أعمالك؟" ينفد صبري. يوشك اليوم أن ينتهي. توشك الورشة أن تنتهي، ولم يقل جابو بعد كلمة واحدة عن مادتي. كنت أتصور وقد كتبت عن كوبا أنه سيظهر الاهتمام بصفة خاصة. لكنه لم يعترف بعد بأنه قرأها أصلا.
كتب دازا عن إحدى شخصيات ما تحت الأرض في ميديلين ـ صورة قلمية لرجل يؤثر صحبة الحيوانات على صحبة البشر. يشرك معه جرذا أليفا في وجبته اليومية الوحيدة من فطير البونويلو المقلي. يحمل دجاجة مربوطة برسن ويحتفظ ببراغيث في غرفته. يقرأ علينا دازا. مادة مؤثرة، وكتابة غنائية، ربما غنائية أكثر مما ينبغي. ليست بالعمل الصحفي التقليدي.
يقول جابو "ما كنت لألمس كتابة دازا. لعله يخترع قالبا جديدا هنا، قالبا لا أعرف عنه شيئا". لا نعرف هل رآها جيدة أم سيئة.
دازا ليس جريئا فقط في أسلوب كتابته. هو الوحيد الذي أظهر شيئا من الازدراء: "جابو ممتلئ قليلا بذاته". بعث دازا لتغطية القمة الرئاسية الأيبيرية الأمريكية التي أقيمت سنة 1994 في قرطاجنة. وثارت ثائرة الصحفيين فيها لرفض الضيوف أي لقاء صحفي. وجابو، بوصفه لاعبا سياسيا مهما، حضرها ضيفا في وفد. ونقل عنه قوله إنه على الصحفيين بدلا من الشكوى أن يخرجوا إلى الشارع ويبحثوا عن قصص، وألا يتوقعوا أن تقدَّم إليهم الأخبار على أطباق من فضة. وإذا كان الرؤساء غير متاحين، سيجد الصحفي الجيد قصته برغم ذلك.
معترضا عليه، يقول دازا "كان سهلا عليك أن تقول ذلك. لقد كتبت عن الظلم الذي بدا لي في ذلك القول، وبخاصة حينما يأتي منك أنت. أعني أنك كنت هناك، وراء الأبواب، مع جميع الرؤساء".
"أنا لم أكن هناك كصحفي عامل".
يعترف دازا أن توبيخ جابو مفيد. ويضرب مثالا: حينما بعث لتغطية قمة مجموعة دول عدم الانحياز التي أقيمت السنة الماضية في قرطاجنة، لم يذهب إلى مركز المؤتمرات الذي كان القادة يجتمعون فيه. ولكي يكتب عن ياسر عرفات، الذي كان حاضرا، وعن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ذهب إلى أحد أحياء قرطاجنة الكثيرة الفقيرة، حي اسمه بالفعل فلسطينا Palestina. وكتب قصة يقارن فيها بين وضع عرفات ووضع فتاة تعيش في فلسطينا، مهمَّشة في ضواحي مدينة ثرية عامرة بالسائحين.
 يقول جابو "تعلمت الدرس".
لكن دازا لا يلين "وأنت كنت في ذلك اللقاء أيضا. كنت حاضرا مع الوفد الكوبي".
يقول جابو نافد الصبر "كنت حاضرا. كنت حاضرا بسبب شائعات بأن فيدل سوف يتعرَّض لمحاولة اغتيال. ولم يكن الأمن الكوبي ليسمح لفيدل بالمشاركة في الموكب فاقترحت أن نذهب معه في عربة يجرها حصان. وقلت لهم إنه هنا في كولومبيا، إذا كنت أنا على متن العربة فلن يطلق أحد الرصاص. فانحشرنا خمسة في العربة، الضيقة، مازحين. وفيما كنت أقول لفيدل إنني متأكد أن شيئا لن يحدث، تعثر الحصان".
العشاء
يتناول العشاء معنا في "لا فيترولا"، أحد أكثر مطاعم كوزموبوليتانية في قرطاجنة. ديكور المطعم أقرب إلى الطابع الاستعماري البريطاني منه إلى الطابع الأسباني لكن أعضاء فرقة الموسيقيين الكوبية يرتدون الأبيض ويغنون أغنيات تقليدية. هو مطعم تقصده طبقة كولومبيا العليا لتناول الطعام في الإجازات، ويمر عليه الرئيس لتناول شراب. يقصده أيضا نجوم مسلسلات التليفزيون، وصغار تجار المخدرات اللامعون، والشباب الأثرياء في مواعيدهم الغرامية الأولى، وقليل من شباب البلد الناجحين. قائمة الطعام تحاكي قائمة الطعام في مطاعم نيويورك. صلصة الخل مصنوعة من خل بلسمي، والموتساريلا طازجة، أما النبيذ فطيب، ـ بالنسبة إلى كولومبيا.
نجلس وننتظر في غرفة صغيرة نرشف من عصير الفاكهة بالصودا. يصل جابو مرتديا سترة زرقاء داكنة، مغلقة السحَّاب من بطنه إلى صدره. رجل كاريبي بالنهار، وبالليل يبدو وكأنه قفز للتو من غلاف شريط كاسيت ـ لموسيقى الفنك أو الديسكو. حذاؤه مطابق للذي كان يرتديه في الصباح لكنه الآن رمادي. يطلب ويسكي من النادل. نذهب إلى الغرفة الخاصة المجاورة للمدخل. يجلس بيني أنا وأندريا.
قائمة الطعام ثابتة: قرع مقلي يليه إما جمبري في صلصة جوز الهند أو سمك النهاش في صلصةفي القشدة، بحسب الاختيار.
يشكو جابو "هذا ثقيل عليّ في المساء". يحضر المضيف قائلا "يمكنني أن أقدم لك سمك النهاش مشويا بلا صلصة. أو الباستا؟"
"أي نوع؟"
"كيف تحبها؟"
"بسيطة"
"ماذا عن الباستا مع البرودو مع قطع اللحم؟"
"ممتازة. هات هذه"
أسأل إن كان بوسعي الحصول على الوجبة نفسها. فقد كنت أشعر منذ الصباح أنني محمومة. يقول له جابو "اثنان إذن من هذه".
حينما يقدَّم النبيذ، يعرض عنه ويستمر في شرب الويسكي.
يمتلئ المطعم. مائدتنا واضحة للعيان. الجميع يلاحظون حضور جابو. يطلب إغلاق الأبواب، فأطلب هذا من النادل؟ يجلس إلى يساري صحفي من نيوزويك جاء من بوينس أيرس لمحاورة جابو. أتكلم معه لوهلة، لكن ما أريده في الحقيقة هو أن أتكلم مع جابو، أن أهمس له، غير مشركة البقية من زملائي.
ألتفت إليه. نتحاور في أمور كثيرة. يريد أن يعرف لماذا أعيش في نيويورك. أقول له إنني أعيش في حي فيلدج وأسأله إن كان يحب نيويورك. يقول إنه يحبها كثيرا لكن ليس حينما تكون شديدة البرودة لأنه لا يفضل شيئا على أن يسير في الشوارع. أقول له إنني سوف أصطحبه في جولة بفيلدج، فيعدني أن يتصل. نتكلم عن كوبا، عن بارانكويلا، عن بيل كلينتن، عن مجلتي نيويوركر وصنداي. يحكي لي بالتفصيل عن قصة قصيرة يريد أن يكتبها عن قميص حريري أصفر عنده يرتديه حينما يشعر أنه يحب. يفرغ كأسه فيشرب من كأسي. "أحب أن أكون قريبا من النساء".
"أعرفهن خيرا مما أعرف الرجال. أكون أكثر ارتياحا بالقرب منهن. نشأت والنساء من حولي".
يقترب النادل فيناول جابو منشفة ورقية بيضاء مطوية. يفتحها ويقرأ ما فيها. يقول للنادل لا تقل شيئا. صعب ولا شك أن يريد الجميع منك أشياء طوال الوقت. يحكي لنا عن صديق مرشح للبرلمان اتصل به: "جابو، هل يمكن أن تكتب شيئا عني، أن تقول شيئا عني، حتى لو شتمتني؟". ينفتح الباب ويشخص رجل. يرفع جابو عينيه، ويقف، ويفرد ذراعيه، ويتحرك إليه قائلا "Ah. mon amiquelle coincidence". أتصور أنه الرجل الذي بعث إليه رسالة المنشفة. يهمس في أذني وهو يعاود الجلوس "لا أريد الآن شيئا مثلما أريد أن أهرب من الشباك".
الأربعاء  10 ابريل .. التاسعة والنصف صباحا
يجلس جابو على رأس الطاولة مرة أخرى، قارئا مما يبدو مخطوطة، منتظرا وصول البقية. يعرف أن الفصل خرج في الليلة الماضية بعد العشاء. يبدو مسرورا، ويدخل الأخير متأخرا، لعله سرور بشيء من النوستالجيا. يبدو الجميع ناعسين، غير مغتسلين، ومتعكري المزاج، بعانون ضربات صداع مدوية بعد الإفراط في الشراب. يبدو نظيفا براقا في زيه الأبيض.
أجلس في الطرف الآخر من الطاولة وأفكر إذا كان لم يشر إلى مادتي ليبقيني في هذا التوتر. الوقت يمر، لم يبق إلا ساعة، ولم نزل نناقش قصة تاديو عن امرأة أسبانية أدينت في قرطاجنة ولم يسمح لها بقضاء عقوبتها لأنها حاملة فيروس إتش آي فيه. يقول جابو "لديك أفضل قصة هنا، لكنك تهت وأنت تحكيها، فهذا لا معنى له".
أخيرا ينظر نحوي. أنا أقل توترا مما كنت عليه حينما جلس بجواري للمرة الأولى، ولكن قلبي ينبض بقوة مع ذلك.
يقول جابو "سيلفانا صاحبة ذوق موسيقي جيد. هي مثلي، تحب فان موريسن".
تتناول مادتي المصاعب التي يصادفها شباب موسيقيي الروك في كوبا حيث لا يدعمهم فيها الذوق العام وتستحيل المبادرات الشخصية. كتبت عن موسيقي متجول مكافح بجيتار عديم الأوتار وصفت صوته بأنه يشبه صوت فان موريسن.
يقول جابو "سيلفانا كتبت مادة جيدة، جيدة البناء. ما كنت لأغير فيها شيئا". لكنه يختلف مع بعض الوصف: "هل ضروري القول بأن التليفزيون مكسور، وأنه أبيض وأسود، وأنه لا يوجد مال لإصلاحه؟ هناك بيوت كثيرة هنا في قرطاجنة يعوزها المال وتليفزيوناتها غير ملونة. هل كنت لتكتبي هذا لو لم تكوني في كوبا؟"
نترك الموضوع ونعود إليه، موضوع سيطرة الحكومة الكوبية على الثقافة. "كلمتهم حتى جفّ ريقي" هكذا يقول جابو كأنه محبط لأنهم لا يستمعون إليه. ثم ينهض، ويسير باتجاهي ويسلمني مادتي. وهذا ما لم يفعله ما أحد آخر.
يرجع إلى كرسيه. قدماي لا تلمسان الأرض. أشعر بشعور ريمديوس الجميلة، أنني أرتفع.
لدى جابو تعليق أخير يقوله: "إنني أراكم جميعا ـ في مخاوفكم، وفي خرقكم، في تساؤلكم، فأتذكر كيف كنت وأنا في مثل سنكم. كلامي معكم عن تجاربي أتاح لي أيضا أن أنظر إلى نفسي. في النهاية، سوف تكون خمسون عاما قد مضت منذ أن بدأت الكتابة، في كل يوم من أيام حياتي. إن لم تحبوا وظائفكم، استقيلوا. الشيء الوحيد الذي قد تموتون به هو أن تفعلوا ما لا تحبون. إذا أحببتم عملكم، فمضمونة لكم السعادة وطول العمر". يصطف الجميع في صف واحد أمامه. نسخ من مئة عام من العزلة وسرد وقائع موت معلن وليس لدي الكولونيل من يكاتبه تنتظر توقيعه. يوقعها جميعا، ويصافح الجميع. روبن فالنسيا يقدم له نسخة من خريف البطريرك. عندي فضول أن أرى ماذا كتب جابو لشخص شديد الاحترام شديد الإعجاب، أطلب من فالنسيا أن يريني الإهداء. نصه: "من بطريرك الورشة". يطلب سيزار روميرو إهداء الكتاب إلى ابنه الوليد. يكتب جابو "إليك يا رودريجو حينما كنت في بدايتك".
لم أحضر معي كتابا لكي يوقعه. أنتظر بجوار الباب. يبتسم وهو يراني نفس ابتسامة المكر التي ابتسمها حينما دخل الغرفة للمرة الأولى. "وأنت يا سيلفانا، ألست حزينة لأنها انتهت؟ ألا توشكين على البكاء؟"

نشرت هذه المادة في باريس رفيو عدد 141، شتاء 1996، ونشرت الترجمة على ثلاث حلقات متتالية، آخرها اليوم، في جريدة عمان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق