الخميس، 12 ديسمبر 2019

كيف ينتهي الفقر


كيف ينتهي الفقر

أبهيجيت بانرجي ـ إيثر دافلو

رويترز ـ عمرو عبد الله


برغم كل المخاوف المنتشرة اليوم بسبب انفجار التفاوت inequality  في البلاد الثرية، كانت العقود القليلة الماضية جيدة على نحو ملفت بالنسبة لفقراء العالم. ففي ما بين 1980 و2016، تضاعف تقريبا متوسط الدخل للخمسين في المئة الدنيا من الكاسبين، إذ نالت هذه الجماعة 12 بالمئة من النمو في إجمالي الناتج الوطني في العالم. وتناقص عدد من يعيشون على أقل من 1.90 دولارا في اليوم ـ أي العتبة التي يحددها البنك الدولي لـ"الفقر المدقع" ـ بأكثر من النصف منذ عام 1990، من قرابة بليونين إلى قرابة 700 مليون. والتاريخ لم يشهد ارتفاع هذا الكم الكبير من البشر عن حالة الفقر بمثل هذه السرعة.

طرأت كذلك تحسُّنات هائلة على نوعية الحياة حتى لمن بقوا فقراء. فمنذ عام 1990 قلَّ معدَّل وفيات الأمهات إلى النصف. وكذلك معدل وفيات الأطفال بما أنقذ حياة مئة مليون طفل. فجميع الأطفال اليوم، من بنات وأولاد على السواء ـ إلا في الأماكن التي تشهد تمزقات اجتماعية كبيرة ـ يحظون بفرصة التعليم الأساسي. حتى وفيات فيروس إتش آي فيه/الآيدز، وهو الوباء الذي بدا يوما ميئوسا من أمره، بلغت ذروتها بعد انتهاء الألفية ثم بدأت منذ ذلك الحين في التناقص.

وقد يوعَز قدر كبير من الفضل في ذلك إلى النمو الاقتصادي. فعلاوة على تزايد دخل الناس، أتاحت التوسعة المطردة في إجمالي الناتج القومي للحكومات (وغيرها) مزيدا من الإنفاق على المدارس والمستشفيات والعلاجات وتحويلات الدخل إلى الفقراء. ولقد حدث الكثير من تناقص الفقر في اقتصادين كبيرين شهدا نموا سريعا بصفة خاصة وهما اقتصادا الصين والهند. لكن الآن وقد بدأ النمو في التباطؤ في كلا البلدين، ثمة أسباب تدعو إلى القلق. هل بوسع الصين والهند أن يفعلا أي شيء تفاديا للتباطؤ؟ وهل يقدم هذان البلدان وصفة أكيدة يمكن أن تحاكيها دول أخرى فترفع الفقر عن كاهل الملايين من شعوبها؟

لقد أنفق علماء اقتصاد ـ ونحن منهم ـ مسيراتهم المهنية كاملة في دراسة التنمية والفقر، والحقيقة المزعجة هي أن المجال لم يزل عاجزا أن يفهم تمام الفهم لماذا تتوسع اقتصادات ولا تتوسع أخرى. فما من معادلة واضحة للنمو. ولو أن ثمة خطا مشتركا، فهو أن الطريق الأسرع للنمو يتمثل في ما يبدو في إعادة تخصيص الموارد سيئة التخصيص، أي الاستعمال الأمثل لرأس المال والعمالة. لكن عوائد هذه العملية تتقلص ـ في نهاية المطاف ـ وعند هذه النقطة تصبح البلاد بحاجة إلى اسراتيجية جديدة لمكافحة الفقر.

البحث عن النمو

برغم محورية النمو في تقليص الفقر، فإن "النمو الأسرع" أو حتى "النمو المستمر" تعبيران عن الأمل أكثر من كونهما توصيتين سياسيتين قابلتين للتنفيذ.  خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أنفق علماء الاقتصاد وقتا كبيرا في استعراض انتكاسات النمو في كل بلد، وهذا تحليل يهدف إلى التنبؤ بمعدلات النمو  بناء على عدد من المتغيرات. فيغرق الباحثون في البيانات ـ ما تعلق منها بالتعليم والاستثمار والفساد والتفاوت والثقافة والبعد عن البحر وما إلى ذلك ـ في محاولة لاكتشاف أي العوامل يساعد على النمو وأيها يحد منه. وكان المرجو هو العثور على قليل من الروافع القادرة على الارتفاع بالنمو.

صادفت ذلك البحث مشكلتان. الأولى، مثلما أوضح عالم الاقتصاد وليم إيسترلي هي أن معدلات النمو في البلد الواحد قد تتغير تغيرا بالغا من عقد إلى عقد بدون تغير واضح في أي شيء عداها. ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كانت البرازيل عدّاءة نمو عالمية، وابتداء من عام 1980 تقريبا، توقفت جوهريا عن النمو على مدار عقدين (قبل أن ترجع إلى النمو ثم ترجع إلى التوقف). في عام 1988، نشر روبرت لوكاس ـ أحد آباء الاقتصاد الكلي macroeconomics الحديث ـ مقالة تساءل فيها عن سبب تباطؤ الهند وتمنى لو تحقق نموا أسرع مثل مصر أو إندونسيا. وكان القدر يخفي أن الهند توشك على بدء فترة نمو سريع لمدة ثلاثين عاما بينما كانت مصر وإندونسيا تبدآن في التخلف عنها. وبنجلاديش ـ التي شاع اعتباها حالة منذرة بالخطر عقب تأسيسها سنة 1971 ـ شهدت نموا اقتصاديا بنسبة خمسة في المئة أو أكثر خلال أغلب سنوات ما بين 1990 و2015، وفي أعوام 2016 و2017 و2018 تجاوز النمو البنغالي سبعة في المئة ـ بما يضعها بين الاقتصادات العشرين الأسرع نموا في العالم. في كل هذه الحالات، جاء النمو ناتجا عن سبب واضح أو غير ناتج عنه.

والثانية، على مستوى أكثر جذرية، تتمثل في أن هذه الجهود الرامية إلى اكتشاف أسباب النمو غير منطقية كثيرا. إذ يكاد كل متغير في بلد معين أن يكون ـ جزئيا ـ منتجا ثانويا  لشيء آخر. وانظروا إلى التعليم، وهو عامل يرتبط اطرادا مع النمو. التعليم جزئيا يتعلق بفعالية الحكومة في إدارة المدارس وتمويلها. ولكن الحكومة الماهرة في هذا ربما تكون ماهرة في أشياء أخرى، منها مثلا إقامة الطرق. فلو أن النمو أعلى في البلاد ذات الأنظمة التعليمية الأفضل، فهل ينسب الفضل إلى المدارس التي تقوم بتعليم قوة العمل، أم إلى الطرق التي تجعل التبادل التجاري أيسر؟ أم أن المسؤولية ترجع إلى شيء آخر. ومما يزيد ضبابية الصورة أنه من المرجح أن يشعر الناس أنهم أكثر التزاما بتعليم أبنائهم حينما يبلي الاقتصاد بلاء حسنا، فلعل النمو يتسبب في التعليم، وليس العكس ببساطة. والحق أن محاولة استخلاص عوامل مفردة واعتبار أنها أدت إلى النمو مهمة لا يتصدى لها إلا أحمق. والخروج بتوصيات سياسية مترتبة على ذلك لا تقل حماقة حينما نمد الخط على استقامته.

ما الذي يتبقى إذن لصناع السياسات؟ ثمة بضعة أمور يجدر بوضوح اجتنابها: منها التضخم المفرط، والتطرف في المغالاة في تثبيت أسعار الصرف، والشيوعية وتنويعاتها السوفييتية والماوية والكورية الشمالية، والتضييق الحكومي الخانق على المشاريع الخاصة على غرار ما اتبعته الهند في السبعينيات، بامتلاك الدولة لكل شيء من مصانع السفن إلى مصانع الأحذية. ولكن هذه ليست نصيحة مفيدة بصفة خاصة اليوم، في ضوء أنه لا يكاد يوجد من لا يزال يلجأ إلى هذه الخيارات المتطرفة.

ما تريد أغلب البلاد النامية أن تعرفه ليس إن كان عليها أن تؤمم الصناعات الخاصة بين عشية وضحاها أم لا، بل تريد أن تعرف إن كان عليها أن تحاكي النموذج الاقتصادي الصيني. وبرغم أن الصين تمثل اقتصاد سوق إلى حد كبير، فإن نهجها في اتباع الرأسمالية يختلف اختلافا عظيما عن النموذج الأنجلوسكسوني الكلاسيكي، المتسم بانخفاض الضرائب وقلة القواعد التنظيمية، بل ويختلف بالمثل عن التنويعة الأوربية التي تقوم فيها الدولة بدور أكبر. فالدولة في الصين تلعب ـ على المستويين الوطني والمحلي ـ دورا هائلا في تخصيص الأرض ورأس المال بل والعمالة. كما حادت اقتصادات أخرى في شرق آسيا عن النموذج الرأسمالي التقليدي وشهدت عقودا من النمو المرتفع، وانظروا في هذا الصدد إلى اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وكلها بلاد اتبعت حكوماتها في البدايات سياسة صناعية نشطة.

كل هذه الاقتصادات حققت نجاحا مشهودا بعد اتباعها سياسات غير تقليدية. والسؤال هو: هل حققت هذه النجاحات بسبب اختياراتها أم برغم اختياراتها؟ هل حالف الحظ شرق آسيا وحسب، أم أن في نجاحه درسا يمكن تعلمه؟ لقد تعرضت الاقتصادات هناك أيضا للدمار بسبب الحرب العالمية الثانية، فقد يكون النمو السريع جزئيا حالة تعافي. فضلا عن ذلك، أيُّ عناصر التجربة الصينية يفترض أن تحاكيه الدول الأخرى؟ هل تبدأ بصين دينج شياوبنج Deng Xiaoping ـ ذلك الاقتصاد الفقير بما فيه من امتياز نسبي للتعليم والرعاية الصحية وتوزيع شديد السطحية للدخل؟ أم تبدأ بالثورة الثقافية التي حاولت محو امتيازات النخب ووضع الجميع على ميدان لعب متساو؟ أم تبدأ بتاريخ الصين الممتد لأربعة آلاف عام؟ إن من يتوسلون بتجربة اقتصادات شرق آسيا إثباتا لفضل هذا النهج أو ذاك لحالمون: فما من سبيل إلى إثبات شيء كهذا.

والأمر ببساطة هو أنه ما من وصفة مقبولة لجعل الدول الفقيرة تحقق نموا مرتفعا دائما. ويبدو أن الخبراء أنفسهم قبلوا بهذا. ففي 2006 طلب البنك الدولي من عالم الاقتصاد مايكل سبينس أن يرأس لجنة للنمو الاقتصادي. في تقريرها النهائي أدركت المجموعة أنه ما من مبادئ عامة للنمو وأنه ما من حالتي توسع اقتصادي تتشابهان. وقد وصف إيسترلي جهود اللجنة بلغة أقل إحسانا فقال إنه "بعد سنتين من العمل الذي قامت به لجنة من 21 من قادة العالم والخبراء، وإحدى عشر مجموعة عمل، و300 خبيرا أكاديميا، واثنتا عشرة ورشة عمل، وثلاثة عشر لجنة استشارية، وميزانية قدرها 4 مليون دولار، فإن إجابة الخبراء عن السؤال المتعلق بكيفية تحقيق نمو مرتفع هي تقريبا: لا نعرف، لكن ضعوا ثقتكم في الخبراء في البحث عن إجابة".

الثمرة الدانية

غير أن علماء الاقتصاد تعلموا شيئا من كثرة التردد على مصادر النمو. إذ فهموا بصفة خاصة أن التحولات مهمة وإن تكن مهضومة الحق في قصة النمو. فمن السمات المركزية في نظرية النمو التقليدية أن التحولات مهمة، لأن القوى السوقية تضمن وصول الموارد بسلاسة وسرعة إلى الاستعمال الأمثل والأكثر إنتاجية. فالأراضي الأخصب يجب أن تزرع على النحو الأكثف. والعمال الأفضل يجب أن ينتهوا إلى الشركات الأعلى ربحا. والمستثمرون يجب أن يضعوا رؤوس أموالهم في المشاريع الأكثر وعدا.

لكن هذا الافتراض في الغالب غير حقيقي. ففي بلد معين، توجد جنبا إلى جنب الشركات المنتجة وغير المنتجة، والموارد لا تتدفق دائما نحو استعمالها الأمثل. وهو ما يصدق بصفة خاصة على البلاد النامية حيث يسوء عمل أسواق كثيرة كأسواق الائتمان أو الأرض أو العمالة. وفي الغالب لا تتعلق المشكلة كثيرا للغاية بعدم توافر الموهبة أو التكنولوجيا ورأس المال بل في أن الاقتصاد لا يضعها في ما يبدو في استعمالها الأمثل. ففي شركات أكثر من حاجتها من الموظفين وغيرها لا تقوى على التوظيف. وشركات تستعمل أحدث التكنولوجيا، بينما غيرها لا تفعل مطلقا. ومشاريع ذات أفكار جيدة للغاية قد لا تقوى على تمويل نفسها، بينما غيرها يستمر في العمل برغم افتقاره إلى المواهب. وهذا ما يسميه علماء الاقتصاد "سوء التخصيص".

سوء التخصيص يستنزف النمو، بما يعني أن إعادة التخصيص قادرة على تحسينه. إن علماء الاقتصاد يحاولون في السنين الأخيرة أن يقدِّروا كم من النمو قد ينتج عن تحريك الموارد إلى حالة الاستغلال الأمثل. فقد تبين لـ تشانج تاي هساي وبيتر كلينو على سبيل المثال أن مجرد إعادة تخصيص عوامل في صناعات محددة، مع تثبيت رأس المال والعمالة، قد يزيد الإنتاجية في الصين بما بين 30-50 في المئة وفي الهند بما بين 40-60 في المئة. ولو حدثت إعادة التخصيص على نطاق أوسع، سيكون المردود أعظم.

بعبارة أخرى، من الممكن تحفيز النمو من خلال مجرد إعادة تخصيص الموارد القائمة بحيث تستغل على نحو أكثر ملاءمة. فحين يبدأ بلد بموارده سيئة الاستغلال، مثلما فعلت الصين قبل دينج أو الهند في أيام إفراط الدولة في السيطرة على الموارد، فإن أولى منافع الإصلاح قد تأتي من مجرد استغلال الموارد الكثيرة للغاية سيئة الاستغلال. وثمة طرق كثيرة للغاية لتحسين التخصيص، بدءا من التخلي عن الزراعة الجماعية التي اتبعتها الصين في ظل دينج إلى الجهود التي بذلتها الهند في التسعينيات لتسريع حل النزاعات الائتمانية بما يجعل الأسواق الائتمانية أكثر فعالية.

ولكن الجانب العكسي في هذا الأمر هو أنه عند نقطة محددة تبدأ المكاسب في التناقص. وكثير من البلاد النامية تصل حاليا إلى هذه النقطة. وسيكون عليها وعلى بقية العالم أن يتقبلا الحقيقة المزعجة: وهي أن عصر النمو اللاهث سوف يصل غالبا إلى نهاية.

وتأملوا مسار الصين. لقد تخلص البلد حتى الآن من أسوأ أشكال سوء التخصيص فيه. وبحكمة أعاد استثمار مكتسبات النمو الناجم عن ذلك في استثمارات جديدة ومع تنامي النتاج، باع ذلك النتاج بالخارج منتفعا من جوع العالم اللانهائي في ظاهر الأمر إلى الصادرات. ولكن هذه الاستراتيجية استنفدت نفسها إلى حد كبير هي الأخرى، فالصين الآن هي المصدِّر الأكبر في العالم، ولا يمكنها أن تستمر في تنمية صادراتها على نحو أسرع من نمو الاقتصاد العالمي.

ويظل بوسع الصين على سبيل الاحتمال أن تلحق بالولايات المتحدة في نسبة الإنتاج إلى كل نسمة، ولكن نموها المتباطئ يعني أنها سوف تستغرق وقتا طويلا. ولو انخفض النمو الصيني إلى خمسة في المئة سنويا، وهو ليس بالأمر سهل التصديق، وبقي على ذلك، وهو ربما أمر لا يخلو من تفاؤل، ولو أن نمو الولايات المتحدة استمر في التحليق عند 1.5 في المئة، فسوف يستغرق لحاق الصين بالولايات المتحدة في نسبة الإنتاج لكل نسمة ما لا يقل عن 35 سنة. في الوقت نفسه يبدو منطقيا للسلطات الصينية أن تقبل بأن النمو السريع مؤقت، وهو ما يبدو أنه حادث بالفعل. في 2014 تكلم الرئيس الصيني شي جينبينج عن التكيف مع "الوضع الطبيعي الجديد" الخاص بالنمو البطيء. وفسَّر الكثيرون معنى  قوله بأنه على الرغم من أن أيام معدلات النمو السنوي المرتفعة [المؤلفة من عددين] قد مضت، فسوف يظل الاقتصاد الصيني يتوسع بنسبة 7% سنويا في المستقبل المنظور. ولكن حتى هذا قد يبدو إفراطا في التفاؤل. فصندوق النقد الدولي يتنبأ بأن نمو الصين سوف يدنو إلى 5.5% بحلول عام 2034.

وتجري في الهند أحداث قصة مماثلة. ابتداء من قرابة عام 2002، شهد قطاع التصنيع في البلد تحسينات كبيرة في تخصيص الموارد. إذ سارعت المصانع إلى تحديث نفسها تكنولوجيا، وازداد تدفق رأس المال إلى أفضل الشركات في الصناعة. ولما بدا أن التحسينات منقطعة الصلة بأي تغير في السياسة، تكلم بعض علماء الاقتصاد عن "معجزة التصنيع الهندية الغامضة". لكنها لم تكن معجزة، بل مجرد تحسن متواضع انطلاقا من نقطة بداية بائسة. وبوسع المرء أن يتخيل تفسيرات عديدة للتحسن. ربما حدث تحول جيلي، إذ انتقلت السيطرة على الشركات من الآباء إلى أبناء تعلم كثير منهم بالخارج وكانوا في الغالب أكثر طموحا ودراية بالتكنولوجيا والأسواق العالمية. أو ربما السبب هو تراكم أرباح متواضعة أمكن في النهاية استغلاها في دفع التحول إلى مصانع أكبر وأفضل. وبغض النظر عن السبب الدقيق، فإن أفضل فهم للصعود الاقتصادي في الهند هو أنه نتيجة تصحيح سوء التخصيص: أي نوع النمو الذي يمكن أن يتحقق من قطف ثمرة دانية.

هذا النوع من النمو لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فمع قيام الاقتصاد بتغيير أسوأ مصانعه وشركاته، تتقلص بصفة طبيعية المساحة المتاحة لمزيد من التحسينات. والهند اليوم تواجه في ما يبدو احتمال تباطؤ حاد. وقد خفَّض صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الآسيوي ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي تقديرات النمو للهند في 2019-2020 إلى قرابة 6%. وذهب غير أولئك إلى أن الاقتصاد الهندي بدأ يتباطأ بالفعل: إذ ذهب آرفيند سوبرامنيان ـ كبير استشاريين الاقتصاديين في نيوديلهي في الفترة من 2014 إلى 2018 ـ إلى أن التقديرات الرسمية تغالي في نمو البلد بنحو 2.5% في السنين الأخيرة. وفي حين يمكن أن يتعافى النمو في الهند، لكنه سوف يتباطأ إلى الأبد. والحق أنه يحتمل أن تقع الهند في "شرك الدخل المتوسط" المفزع والذي تبدأ عنده الاقتصادات سريعة النمو في التباطؤ. ولن تكون وحدها: فبحسب البنك الدولي، من بين 101 اقتصاد متوسط الدخل في عام 1960، لم ينتقل إلى الدخل المرتفع إلا 13 بحلول عام 2008.

ومن سوء الحظ أنه مثلما يجهل الاقتصاد كيفية إحداث النمو، فإنه لا يعرف إلا القليل عما يجعل بلادا كثيرة ـ مثل المكسيك ـ تعلق في شرك الدخل المتوسط، خلافا لبلاد أخرى مثل كوريا الجنوبية. وثمة خطر شديد الواقعية يتمثل في أنه عند محاولة الثبات على النمو السريع تنحرف البلاد التي تواجه التباطؤ الحاد في النمو الآن إلى سياسات تضر الفقراء باسم النمو المستقبلي. ففي ظل محاولة الحفاظ على النمو، تفهم دول كثيرة النصيحة بأن تكون صديقة للأعمال باعتبارها رخصة لاتباع جميع أنواع السياسات المناهضة للفقراء المحابية للأثرياء من قبيل تخفيض الضرائب على الأثرياء وحزم الإنقاذ للشركات.

وكذلك كان تفكير الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس رونالد ريجان وفي المملكة المتحدة في ظل حكم رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر. ولو أن لنا دليلا من أي من هذين البلدين، لعلمنا أن مطالبة الفقراء بشد الحزام على أمل أن يتساقط في النهاية من الأثرياء ما فيه نفعهم أمر لا نفع فيه للنمو ولا نفع فيه للفقراء: ففي كلا البلدين لم يزدد النمو على الإطلاق، ولكن التفاوت بلغ عنان السماء. عالميا، الجماعة الوحيدة التي تحسنت أحوالها أكثر من نسبة الخمسين في المئة الدنيا بين 1980 و2016 هي جماعة الأثرياء في البلاد الثرية، فضلا عن عدد متزايد من شديدي الثراء في العالم النامي، فهذه الجماعة نالت نسبة مذهلة تصل إلى 27% من إجمالي النمو خلال تلك الفترة. أما جماعة الـ49% من الناس التي تأتي تحتهم، وتتضمن تقريبا جميع من في الولايات المتحدة وأوربا، فخسرت، وركدت دخولها خلال تلك الفترة.

إن انفجار التفاوت في الاقتصادات التي لم تعد تنمو لهو خبر سيء للنمو المستقبلي. فالصدام السياسي يؤدي إلى انتخاب زعماء شعبويين يدعون إلى حلول إعجازية نادرا ما تفلح، وغالبا ما تفضي إلى كوارث على الطراز الفنزويلي. والعواقب ـ في البلاد الثرية ـ مشهودة بالفعل، من ارتفاع حواجز التبادل التجاري في الولايات المتحدة إلى أضرار البريكزت الوخيمة في المملكة المتحدة. حتى صندوق النقد الدولي ـ الذي اعتبر في يوم من الأيام حصنا لأورثوذكسية "النمو أولا" ـ بات يدرك أن التضحية بالفقراء لتعزيز النمو سياسة رديئة. وهو يشترط الآن على فرقه العاملة في البلاد المختلفة أن تأخذ التفاوت في الحسبان وهي تقدم نصائحها.

عيون على الجائزة

المرجح أن يتباطأ النمو، على الأقل في الصين والهند، ولا يكاد يوجد ما يمكن القيام به حيال هذا الأمر. قد يزداد في بلاد أخرى، لكن ليس بوسع أحد أن يتنبأ أين أو لماذا. والخبر السعيد هو أن ثمة سبلا لتحسين مؤشرات التقدم حتى في غياب النمو. ما يجب على صناع السياسة أن يتذكروه هو أن إجمالي الناتج الوطني وسيلة لا غاية، فما هو بغاية في ذاته. هو وسيلة نافعة ولا شك، لا سيما حين توجد وظائف أو ترفع الأجور أو تزيد الميزانيات فيتسنى للحكومات أن تزيد من إعادة التوزيع. لكن يبقى الهدف النهائي هو تحسين نوعية المعيشة، لا سيما للأسوأ أحوالا.

ونوعية الحياة تعني أكثر من الاستهلاك. فبرغم أن الحياة الأفضل تعني جزئيا القدرة على المزيد من الاستهلاك، فإن أغلب البشر ـ حتى الفقراء منهم ـ يهتمون بما هو أكثر من ذلك. هم يريدون أن يشعروا بالقيمة والاحترام، بأن آباءهم أصحاء، وأبناءهم يتعلمون، وأن أصواتهم مسموعة، وأنهم يسعون إلى تحقيق أحلامهم. قد يساعد إجمالي الناتج الوطني الأكبر الفقراء على تحقيق كثير من هذه الأمور، ولكنه مجرد وسيلة واحدة لتحقيقها، وهي ليست أفضل الوسائل في كل الحالات. الحق أن نوعية الحياة تختلف اختلافا هائلا من بلد إلى بلد مع تماثل مستويات الدخل: فعلى سبيل المثال سريلانكا لها مثل ما لجواتيمالا تقريبا من إجمالي الناتج الوطني لكل نسمة، لكنها تقل كثيرا في معدلات وفيات الأمهات والرضع والأطفال.

مثل هذه الفوارق لا يجب أن تصيبنا بالدهشة. فحين نرجع النظر، يتضح لنا أن كثيرا من النجاحات المهمة في العقود القليلة الماضية لم تكن نتيجة نمو اقتصادي بل نتيجة تركيز مباشر على تحسين نتاجات معينة، حتى في بلاد كانت شديدة الفقر وبقيت كذلك. إذ تراجع على سبيل المثال معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة تراجعا كبيرا في العالم كله، حتى في بعض البلاد شديدة الفقر التي لم تشهد اقتصاداتها نموا لافت السرعة. ويوعز فضل ذلك إلى تركيز صناع السياسات على رعاية حديثي الولادة، والتطعيم، والوقاية من الملاريا. ومثل ذلك النهج يمكن ويجب تطبيقه على أيٍّ من العوامل الأخرى التي تحسن نوعية الحياة، سواء أهو التعليم أم المهارات أم مبادرات الأعمال أم الصحة. يجب أن ينصبَّ التركيز على تحديد المشكلات المحورية والبحث عن كيفية حلها.

وهذا عمل دءوب: فإنفاق المال في ذاته لا يوفِّر بالضرورة تعليما حقيقيا أو صحة جيدة. لكن خلافا للنمو، يعرف الخبراء بالضبط ما الذي يجب عمله لتحقيق التقدم. فمن المزايا الهائلة للتركيز على تدخلات محددة وواضحة أن هذه السياسات لها أهداف قابلة للقياس ومن ثم قابلة للتقييم المباشر. يمكن أن يجرب الباحثون فيها، ويتخلوا عن غير الصالح منها، ويحسِّنون من الصالح. هذا ما قضينا قسما كبيرا من حياتنا العملية في عمله وما يفعله بصفة روتينية اليوم مئات الباحثين وصناع السياسات بمعاونة منظمات مثل معمل عبد اللطيف جميل للتطبيقات العملية لمكافحة الفقر أو شبكة جيبالJ-PAL التي بدأناها في معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، ومجموعة مبادرات العمل ضد الفقر التي أسسها عالم الاقتصاد دين كرلان.

إذن، برغم أن المرء لا يعرف كيف يحول كينيا إلى كوريا الجنوبية، فبفضل عمل جيسيكا كوهين وبسكالين دوباس، بتنا نعرف تماما على سبيل المثال أن التوزيع الكثيف لشبكات الأسرّة المقاومة للبعوض هي أنجع طرق مكافحة الملاريا. ففي سلسلة من التجارب العشوائية، تبين لهذين الباحثين أن تحميل الناس تكاليف شبكات الأسرة ـ والذي كان يعتقد من قبل أنه السبيل إلى ترجيح استعمالها ـ قد قلّل استعمالها في الحقيقة، وهو الدليل الذي جعل منظمات تنموية كبرى في نهاية المطاف تتخلى عن فرض الرسوم. في ما بين 2014 و2016، وزعت في شتى أنحاء العالم قرابة 582 مليون شبكة مقاومة للبعوض، 75% منها  ضمن حملات توزيع مجانية، الأمر الذي أنقذ عشرات ملايين الأرواح.

ما وراء النمو

الأساس في هذا هو أن المكونات الحقيقية للنمو الاقتصادي المتصل تبقى غامضة. ولكن من الممكن عمل الكثير للتخلص من أسوأ مصادر إهدار اقتصادات البلاد الفقيرة وأسباب معاناة شعوبها. فالأطفال الذين يموتون بأمراض تمكن الوقاية منها، والمدارس التي لا يحضر إليها المعلمون، والأنظمة القضائية التي تستغرق الدهر قبل أن تحكم في القضايا ـ تلك جميعا ولا شك تقلل الإنتاجية وتحيل الحياة إلى شقاء. وقد لا يدفع حل تلك المشكلات البلاد إلى النمو الأسرع الدائم، لكن بوسعه أن يحسن رفاهية مواطنيها تحسينا أكيدا.

فضلا عن ذلك، برغم أنه ما من أحد يعرف متى سوف تبدأ قاطرة النمو في بلد معين في الحركة، وما إذا كانت سوف تتحرك من الأساس، فالأرجح أن يثب الفقراء إلى القطار لو أنهم في صحة جيدة، قادرون على القراءة والكتابة، قادرون على التفكير في ما يتجاوز ظروفهم الملحة. قد لا تكون مصادفة أن كثيرا من الظافرين في ظل العولمة هم بلاد شيوعية سابقة استثمرت بكثافة في رأس المال البشري من سكانها لأسباب أيديولوجية (مثل الصين وفييتنام) أو أماكن اتبعت سياسات مشابهة بسبب تهديدها بالشيوعية (مثل كوريا الجنوبية وتايوان).

لذلك فإن أفضل ما يراهن عليه بلد نام مثل الهند هو السعى إلى رفع مستويات المعيشة بما لديه بالفعل من موارد: الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، وتحسين وظائف المحاكم والبنوك، وإنشاء طرق أفضل ومدن أكثر قابلية للحياة. والمنطق نفسه ينطبق على صناع السياسات في البلاد الثرية التي يجب أن تستثمر مباشرة في رفع مستويات المعيشة في البلاد الأشد فقرا. ففي ظل غياب إكسير سحري للتنمية، تصبح الطريقة المثلى لتغيير حياة الملايين هي عدم المحاولة العبثية لدفع النمو. هي التركيز بوضوح على الأمر الذي يفترض أن يحسِّنه النمو: صالح الفقراء.

 

كاتبا المقال هما الحاصلان على نوبل في الاقتصاد لعام 2019، والمقالة مأخوذة من كتابهما "اقتصاديات طيِّبة لأوقات عصيبة" [Good Economics for Hard Times ].

نشرت المقالة في 3 ديسمبر 2019 في فورين أفيرز ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق