الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

عقود ضائعة في الشرق الأوسط


عقود ضائعة في الشرق الأوسط
التنمية والمعارضة والمستقبل في العالم العربي
مجلة فورين أفيرز عدد نوفمبر وديسمبر
بقلم: مها يحيى
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بات التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي النسبي في العالم العربي موضوع انشغال عالمي لا يكاد ينقطع. في تقرير لافت سنة 2002، انتهى برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى أن دول العالم العربي متخلفة عن كثير من دول العالم وفقا للمؤشرات التنموية من قبيل الإصلاح السياسي والتقدم العلمي وحقوق النساء. ولقد ساعد هذا التحليل ـ إبان حكم الرئيس جورج دبليو بوش ـ في دفع "أجندة الحرية" التي استهدفت إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط ـ بالقوة لو لزم الأمر ـ سعيا إلى القضاء على التخلف التنموي والاستبداد اللذين اعتقد بعض المسؤولين في واشنطن أنهما السببان الجذريان في الإرهاب. وجاء باراك أوباما خلفا للرئيس بوش لينتقد أحد أركان أجندة الحرية ـ أي الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ـ وإن اتفق مع بوش في التشخيص. في خطبته الأساسية الأولى في مجال السياسة الخارجية كرئيس للولايات المتحدة، أي الخطبة التي ألقاها في القاهرة سنة 2009، دعا أوباما حكومات الشرق الأوسط إلى إحراز تقدم في الديمقراطية والحرية الدينية والمساواة الجندرية و"التنمية والفرص الاقتصادية". وانطوت كلمته ضمنا على رؤية شائعة بين المراقبين الغربيين لشؤون الشرق الأوسط: وهي أن خلل العالم العربي ناجم عن ترتيبات اجتماعية وسياسية تعوق القدرات البشرية، وتعزز التفاوت، وتحابي نخبة صغيرة على حساب الفئة العريضة من الشعب.
في أثناء العقد الأول من القرن الحالي كان التقدم بطيئا. غير أن المعارضة كانت تزداد تحت السطح حتى بلغ هذا السخط ذروته في مظاهرات 2010-2011 المعروفة بالربيع العربي. ففي بلاد متنوعة تنوع مصر وليبيا وسوريا وتونس خرج المواطنون العاديون إلى الشوارع متحدين حكامهم المستبدين مطالبين بالكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية. وبدا لوهلة أن التغيير حل في الشرق الأوسط بعد طول انتظار.
ثم حدث في أعقاب الربيع العربي أن تباطأت التنمية. وبرغم أن بعض البلاد ـ مثل تونس ـ استطاعت أن تعزز أنظمتها الديمقراطية، فقد نجح الحكام المستبدون في أغلب المنطقة في القيام بهجومهم المضاد. إذ قام الجيش في مصر بانقلاب في 2013 مطيحا بالحكم المنتخب ديمقراطيا، وفي ليبيا وسوريا جاء رد فعل الطاغيتين الحاكمتين على المظاهرات السلمية عنفا انتهى إلى حربين أهليتين قاسيتين تحولتا إلى صراعات دولية بالوكالة. وحتى في البلاد التي لم تنجرف إلى العنف، اشتد الحكام الأوتقراطيون على المعارضة وأفاضوا من مواردهم على قمع شعوبهم وإجهاض التحولات الديمقراطية في شتى أنحاء الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، رأينا مؤشرات التنمية البشرية ذات الأولوية العليا لدى كل من الخبراء الدوليين وصناع السياسة الأمريكيين تصاب بالجمود، ما لم تسر في اتجاه معاكس.
واليوم، بعد قرابة عشرة أعوام، يبدو الوضع في الشرق الأوسط أسوأ مما كان عليه قبل الربيع العربي، والقمع السياسي أشد، والنمو الاقتصادي راكدا أو ظالما، والفساد متفشيا والمساواة الجندرية طموحا بدلا من واقع.
غير أن شيئا أساسيا تغيّر. فقد كان دأب الحكومات العربية أن تعتمد على ما يسميه أساتذة العلوم السياسية بـ"الصفقة الاستبدادية" التي توفر الدولة بموجبها الوظائف والأمن والخدمات في مقابل الولاء السياسي. تقوم هذه الصفقة على افتراض أن البشر العاديين سوف يبقون سلبيين. لكن هذا الافتراض لم يعد قائما اليوم. فلم يعد المواطنون يخافون حكوماتهم. والبشر العاديين في عموم الشرق الأوسط باتوا اليوم أكثر انخراطا من ذي قبل في السياسة وعزما على إعلان المعارضة. ومثلما تبين من حركات المظاهرات الهائلة في السودان والجزائر في مطلع العام الحالي، فإن الناس العاديين لا يزالون مستعدين للخروج إلى الشوارع مطالبين بمستقبل أفضل وإن واجهوا القمع. فربما لم يفض الربيع العربي إلى الإصلاحات الفورية التي كان يرجوها الكثيرون، لكن لعله حقق على المدى البعيد ما هو أهم: أعني صحوة الطاقات السياسية في العالم العربي وإطلاق عملية طويلة المدى هي عملية إحياء العرب.
قبل الربيع
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كان نهج واشنطن تجاه التنمية العربية براجماتيا في جوهره ومدعيا. فبرغم أن الولايات المتحدة كانت تحابي النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط، فقد كانت تعتقد أن الخير الأمثل للمنطقة هو أن يحكمها أوتقراطيون أصدقاء ـ مثل أنور السادات في مصر ومحمد رضا بهلوي في إيران ـ يوفرون الاستقرار السياسي ويحمون مصالح الغرب.
تغير هذا النهج بعد الحادي عشر من سبتمبر. فبالاعتماد على عمل خبراء دوليين مثل خبراء برنامج الأمم المتحدة للتنمية، انتهى صناع السياسة الأمريكيون إلى أن التطرف المنبعث من الشرق الأوسط هو في جانب منه منتج ثانوي لسجل التنمية المزري في العالم العربي: فحكوماته القمعية، وتفاوتاته الراسخة واقتصاداته الراكدة الخاضع لإدارة الدول إذ تنكر الفرص على المواطنين العرب العاديين. لقد تعاملت إدارة بوش مع إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط وإطلاق الطاقات الإنسانية لمواطني المنطقة باعتبارهما مبررا لحروبها في المنطقة. بعد غزو أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003، طرحت الولايات المتحدة احتلالها للبلدين بوصفه ممارسة ممتدة لإرساء قواعد الديمقراطية. وأعلن بوش أجندة حرية أوسع للشرق الأوسط تؤسس برامج من قبيل مبادرة منطقة الشرق الأوسط التجارة الحرة تعزيزا للأسواق الحرة ونمو المجتمع المدني.
لم تؤت أجندة الحرية ثمارها المرجوة. فبعدما أطاحت الولايات المتحدة بالدكتاتور العراقي صدام حسين في 2003، غرق العراق في عقد من الصراع الأهلي تضمن تمردا على الولايات المتحدة وحربا إقليميا بالوكالة. وأدى هذا إلى تهاوي المؤشرات التنموية الأساسية التي اعتبرها برنامج الأمم المتحدة للتنمية منبع مشكلات العراق. ولكن صعوبات الشرق الأوسط كانت أعمق من تلك الكارثة الهائلة. فعلى مدار العقد الأول من القرن الحالي، بدأت الصفقة الاستبدادية التي طالما قامت على أساسها حكومات المنطقة في الانحلال. وخلال هذه الفترة بدأت ثلاث نزعات تحدد طبيعة المنطقة: نمو ولا رفاهية، وحياة ولا كرامة، وتحرر ليبرالي ولا حرية.
على الصعيد الاقتصادي، بدأت دول عربية كثيرة ـ بتشجيعٍ من خبراء في مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي ـ في خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وتحرير سياساتها التجارية، وإنهاء التحكم في الأسعار، سعيا إلى زيادة النمو وتقليل ضغوط الموازنة المفروضة على الدولة. في مصر على سبيل المثال تهاوى حجم الموظفين لدى الحكومة من 32% سنة 1998 إلى 26% سنة 2006.
لكن برغم أن هذه السياسات أنتجت بعض النمو، فإنها لم تنتج الرخاء الذي وعد مصممو السياسات بأنه سوف "يتقاطر إلى أسفل". وبدلا من ذلك استطاع بعض النافذين من أصحاب العلاقات القوية أن يستولوا على جميع منافع هذه الإصلاحات تقريبا. في تونس، تمكنت 220 شركة تابعة لعائلة الرئيس زين العابدين بن علي من الاستيلاء على قرابة 21% من صافي أرباح القطاع الخاص بين عامي 2000 و2010، وتلك حقيقة لم تعرف إلا بعد مصادرة تلك الشركات في أعقاب ثورة أواخر 2010. كما استطاعت شركات مرتبطة بالدولة من تفادي دفع 1.2 بليون دورلار من الضرائب المفروضة على الواردات بين عامي 2002 و2009. وسرى مثل ذلك في مصر ولبنان حيث استطاعت شركات نافذة الحصول على عقود مربحة في مشاريع الإسكان والعقارات والحصول على تصاريح حكومية بالاستثمار في قطاعات محورية كالنفط والغاز والقطاع المصرفي.
في سياق هذا الاندفاع إلى تحرير الاقتصاد، أنهت دول عربية أيضا ضمانات التوظيف وقللت حصة الخدمات العامة والتعليم والرعاية الصحية. وأدى هذا إلى تدني مستويات المعيشة لدى قطاعات عريضة من الطبقة الوسطى في المنطقة، وهي الطبقة المؤلفة أساسا من موظفي القطاع العام والقطاع الأمني، وهي أيضا الطبقة المعروفة تاريخيا بكونها أهم المدافعين عن الوضع القائم. بحلول عام 2020، كان 40.3 مليون نسمة في العالم العربي إما في خطر الفقر متعدد الأبعاد أو في معاناة فعلية منه، وذلك وفقا لتقرير الأمم المتحدة للتنمية أو مبادرة أوكسفورد للفقر والتنمية البشرية. بين عامي 2000 و2009، انحدرت المستويات الإجمالية للمعيشة في المنطقة، مثلما حدث لمستويات الصحة والتعليم. في مصر، ارتفعت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر المحلي من 16.7% سنة 2000 إلى 22% سنة 2008، وفي اليمن ارتفع معدل الفقر من 34.8% سنة 2005 إلى 42.8% سنة 2009.
أدى انسحاب ضمانات التوظيف في القطاع العام وتراجع نطاق الخدمات العامة وجودتها إلى عدد من التحديات التنموية المترابطة. وبرغم الارتفاع الإجمالي في إجادة القراءة والكتابة والالتحاق بالمدارس، فإن التعليم لم يترجم إلى فرص. في الفترة الممتدة بين عامي 1998 و2008 ارتفع عدد الشباب العاطلين عن العمل في الشرق الأوسط بنسبة 25%، مع تركز للنسبة في أوساط الأفضل تعليما. بحلول عام 2010، كان واحد من كل أربعة شباب في المنطقة عاطلا، وهي أعلى نسبة في العالم. أرغمت ندرة فرص العمل ملايين الرجال والنساء على التحول إلى الاقتصاد غير الرسمي، حيث المعتاد أن يحصل العمال على رواتب منخفضة، ودخول غير مستقرة، وغياب للحماية الاجتماعية مثل التأمين الصحي والمعاشات. في 2009، كان 40% من العمال غير الزراعيين في الجزائر ومصر والمغرب وتونس موظفين في الاقتصاد غير الرسمي، وفي سوريا كان الرقم 20%. غير أن الاقتصاد الأكثر ليبرالية لم يؤد في أغلب الشرق الأوسط إلى مناخ سياسي أكثر ليبرالية. فالحركات الاحتجاجية المتواضعة سرعان ما قمعتها حكومتا مصر وسوريا. والمبادرات المدنية خنقت، في حين قوبل عمل المنظمات الخيرية الإسلامية والمنظمات العقائدية بالتشجيع لا سيما في مجالات الددعم الاجتماعي ودعم الحالات الطارئة وتخفيف الفقر والبرامج التمويلية الصغيرة. لم يكن التحرير الاقتصادي بالنسبة لقادة تلك الدول يهدف إلى تعزيز الأسواق الحرة والعقول الحرة، بل رأت فيه وسيلة للحفاظ على التماسك والولاء لدى نخبة النظام. ومع تعرض موارد الدولة للإجهاد، أصبحت الخصخصة استراتيجية لتمرير الأصول إلى أصحاب السلطة.
كان ذلك الانحلال بمثابة الخلفية للربيع العربي. في ديسمبر 2010، أضرب بائع جوال تونسي النار في نفسه احتجاجا على سوء معاملة شرطية محلية له، فأطلق بذلك طوفانا من المظاهرات. إذ خرج الناس على مدار الشهور التالية في شتى أرجاء المنطقة ـ في الجزائر والبحرين ومصر والعراق والأردن والكويت ولبنان وليبيا وموريتانيا والمغرب وعمان والسودان وسوريا وتونس واليمن والأراضي الفلسطينية ـ إلى الشوراع مطالبين بالعدالة والمساواة وإنهاء الأنظمة السياسية القمعية في بلادهم.
ديجا فو من جديد
لم يطرأ على الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي أنتجت الربيع العربي إلا المزيد من السوء في السنوات الأخيرة. باستثناء تونس التي نجحت المعارضة فيها في إقامة نظام سياسي ليبرالي لم يزل قائما إلى اليوم، شهدت دول كثيرة في الشرق الأوسط رجوعا للأوتقراطية بعد 2011. ففي مصر أطاح الجيش في 2013 بأول حكم منتخب ديمقراطي في البلد وأقام بدلا منه دكتاتورية خاضعة لسيطرة الرئيس عبدالفتاح السيسي. ومنذ توليه السلطة، يحكم السيسي البلد بقبضة حقيقية: فبين عامي 2013 و2018، أخفت قوات الأمن أكثر من 1500 مصري.  وفي يوليو سنة 2019 أقر البرلمان المصري قانونا وحشيا يحجم تأثير المنظمات غير الحكومية بحده من نطاق عملها وحرية حركتها.
النموذج الأوضح على رجوع الاستبداد يظهر في سوريا. فقد شهد البلد في 2011 مظاهرات هائلة ضد نظام بشار الأسد الدكتاتوري، فبدلا من تنحيه أو تلبيته المطالب الشعبية، أمر الأسد قواته بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين لتنشب بذلك حرب أهلية أسفرت عن مقتل أكثر من نصف مليون نسمة وتشريد مليون آخرين. واليوم يقوم نظام الأسد ـ بعد ترنحه ذات يوم ـ بتصفية البقايا الباقية من المعارضة وإعادة تأسيس هيمنته. اختفى آلاف المسجونين السياسيين أو هم يهنون في زنازين النظام، وتمنع الحكومة قرابة 5.6 مليون لاجئ و6.2 مليون نازح داخل البلد من الرجوع إلى الوطن.
            في الوقت نفسه، يقوم النظامان الحاكمان في السعودية والإمارات ـ في مواجهة نقد داخلي بسبب حربهما الجامدة في اليمن ـ بسجن المدونين والنشطاء الحقوقيين والصحفيين والمحامين لانتقادهم الحكومة عبر الإنترنت. وفي واقعة لعلها الأسوأ سمعة بين وقائع الإمعان في عدم التسامح مع المعارضة، اغتالت عناصر سعودية الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول في أكتوبر سنة 2018. وفي لبنان الذي طالما اعتبر منارة الحرية في المنطقة، بدأت الحكومة حملة مشددة على حرية الكلام. إذ حوكم في عام 2018 ثمانية وثلاثون شخصا بسبب كتابات عبر الإنترنت، وذلك يصل إلى أربعة أمثال العدد في 2017. أغلب تلك الكتابات كان انتقادا لسياسيين أو للرئيس أو لأجهزة الأمن في البلد. وتهاوت حرية الصحافة ـ بحسب تقارير لمنظمة فريدم هاوس ـ في 18 بلدا من بلدان الشرق الأوسط الإحدى والعشرين بين عامي 2012 و2017. هذا القمع الإقليمي يظهره مؤشر الديمقراطية التابع لوحدة الاستخبارات الاقتصادية، إذ يوضح أن منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكلان معا أدنى مناطق العالم وفقا لجميع مقاييس الديمقراطية: الحريات المدنية، والعملية الانتخابية والتعددية، وفعالية الحكومة، والثقافة السياسية، والمشاركة السياسية.
            مع تآكل الحريات السياسية، تآكلت كذلك المكتسبات التنموية التي تحققت على مدار العقود القليلة الماضية. ففي تقرير عالمي عن الفقر عديد الأبعاد أعده برنامج الأمم المتحدة للتنمية ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية تبين أن قرابة خمس سكان الدول العربية، أو 65 مليون شخصا، يعيشون في فقر مدقع، وهو الفقر الذي يحدده البنك الدولي بأنه يمثل حال من يكسبون أقل من 1.9 الدولار يوميا. وثلث السكان إما "فقراء" أو "عرضة للفقر". والحق أن المنطقة العربية هي المنطقة الوحيدة في العالم التي عرفت ازدياد الفقر المدقع في ما بين 2013 و2015، بارتفاع المعدل من قرابة 4% إلى 6.7%. في مصر تشير بيانات حديثة إلى أن معدل الفقر ارتفع من 28% في 2015 إلى 33% اليوم، وذلك في المقام الأكبر نتيجة لإجراءات التقشف وتخفيض قيمة الجنيه المصري في 2016. في 2016، كان أكثر من 15 مليون طفلا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارج المدرسة، وذلك رجوع إلى مستويات 2017. وبأخذ تفاوت الجندر والثروة في الحسبان، تبدو الأوضاع في المنطقة أشد كآبة. فبالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية، تقع إحدى عشرة دولة في الشرق الأوسط ـ هي الجزائر ومصر وإيران والعراق والأردن ولبنان والمغرب والسعودية وسوريا وتونس واليمن ـ ضمن الأسوأ أداء على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية الجندرية، ويقيس هذا المؤشر الفارق بين نطاق الذكور والإناث في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية وهو مقياس مركب للإحصاءات التنموية.
            أسوأ التراجعات كان في بلاد مثل سوريا واليمن اللذين تعرضا لمعاناة صراعات عنيفة على مدار العقد الماضي. تهاوت سوريا سبعا وعشرين درجة بين 2012 و2017 على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وتهاوى اليمن عشرين. إذ يعيش الآن قرابة 85% من السوريين و80% من اليمنيين في فقر. وفي 2018، كان 10.5 مليون سوريا و20 مليون يمنيا غير مؤمَّنين غذائيا.
            ويضاف إلى الركود أو التراجع على المؤشرات التنموية الأساسية تباطؤ في النمو الاقتصادي. فبحسب وحدة الاستخبارات الاقتصادية شهد النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انحدارا مطردا عقب هبوط أسعار النفط بين 2014 و2016. بلغ متوسط النمو في المنطقة 3.6% في 2015-2016، لكن ذلك الرقم تهاوى إلى 1.6% في 2017 و1.3% في 2018. هذا النمو الراكد فرض ضغطا على موارد الحكم المالية. فالدين العام في لبنان الآن يساوي أكثر من 153% من إجمالي الناتج الوطني، وهو ثالث أعلى مستوى في العالم. حتى الدول الغنية بالموارد، مثل السعودية، تشعر بالمأزق. فلكي تعيد الدولة ملء خزائنها وتمويل عجز موازنتها المتزايد، تخطط المملكة لإصدار أكثر من 31 بليون دولارا من الدين هذا العام. وفي مطلع هذا العام، خفض مودي تصنيف عمان الائتماني إلى حالة "junk" مشيرة إلى أسعار النفط المنخفضة وعجوزات الميزانية المتضخمة.
            في مواجهة تحديات اقتصادية متزايدة، تؤكد حكومات المنطقة على الحاجة إلى العمل في القطاع الخاص. فجعلت الإمارات العربية المتحدة نفسها مقصدا لرجال الأعمال المبتدئين وتباهي الآن بقصص نجاح كبيرة مثل شركة النقل التشاركي كريم ومنصة التجارة الإلكترونية سوق والمنصة العقارية بروبرتي فايندر. ومصر أيضا مقصد إقليمي متنام. ووفقا لتقرير من مجتمع MAGNiTT الإلكتروني لرجال الأعمال المبتدئين في الشرق الأوسط، فإن مصر هي الأسرع نموا في المنطقة "بعدد من الصفقات". وقد كشفت حكومات البحرين ولبنان والسعودية عن مبادرات مثل رؤية الرياض 2020 لدفع الاستثمار في القطاع الخاص.
            غير أن أكبر توسعات القطاع الخاص لم يكن كافيا لتوفير وظائف جيدة للمواطنين. فلا تزال البطالة في الدول العربية مرتفعة ـ في 2018 كان متوسطها 7.3% مع استبعاد دول البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة الثرية بالنفط، ووصل المتوسط إلى 10.8%. يبقى الاستثمار الأجنبي المباشر منخفضا، ففي 2018 لم يصل الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول العربية إلا إلى 2.4% من الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم وفقا لصندوق النقد الدولي.
            لا عجب أن ثقة المواطنين العرب في حكوماتهم تنهار. فبحسب دراسات مسحية لعينات ممثلة وطنيا في ست دول عربية (هي الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس) فضلا عن الأراضي الفلسطينية أجراها آراب باروميتر، فإن الثقة الشعبية في الحكومة تناقصت على مدار العقد الماضي. في 2016، قال أكثر من 40% ممن شملهم المسح إنهم يثقون في الحكومة "إلى درجة محددة" أو "لا يثقون فيها نهائيا" بالمقارنة مع 47% في 2011. في المقابل، قال 60% ممن شملتهم الدراسات في 2016 إنهم يثقون في الجيش إلى "درجة كبيرة"، ارتفاعا من 49% في 2011. في ديسمبر 2018 أجرت مؤسسة زغبي استطلاعا آخر، فقالت أغلبية من شملهم ذلك الاستطلاع في مصر والعراق وتونس إنهم أسوأ حالا مما كانوا قبل خمس سنوات. وفي مطلع العام الحالي، تبين لاستطلاع أجرته بي بي سي في عشر دول عربية أن أكثر من نصف المستطلع رأيهم في ما بين الثامنة عشرة من العمر والتسعة والعشرين يريدون الهجرة. في حين أن آلافا آخرين تم تجنيدهم في حروب المنطقة.
السلطة للشعب
            من نواح كثيرة، يبدو الشرق الأوسط أسوأ على كثير من المؤشرات التنموية مما كان عليه قبل عقد مضى. غير أن ثمة فارقا أساسيا. برغم أن مظاهرات الربيع العربي لم تؤد إلى الإصلاحلات التي رجاها الكثيرون، فقد نجحت في ترسيخ ثقافة العمل السياسي والمعارضة بين العرب، لا سيما الشباب منهم، وذلك ما لم يزل قائما إلى اليوم. ولم يعد بوسع الحكومات أن تفترض أن مواطنيها سوف يبقون سلبيين.
            في 2018 وحدها، وقعت مظاهرات في العراق والأردن ولبنان والمغرب والسودان وتونس. وفي وقت أسبق من العام الحالي، أرغم المتظاهرون في الجزائر والسودان رئيسي بلديهما، عبد العزيز بوتفليقة وعمر البشير على التنحي. وفي كلا البلدين حرص المتظاهرون على السلمية ـ حتى في مواجهة عنف الحكومتين ـ مع مطالبتهم في الوقت نفسه بإصلاحات ديمقراطية لا بشكل جديد من الحكم العسكري. وفي كلا البلدين، بدا أن المتظاهرين تعلموا من التحولات الديمقراطية الفاشلة في مصر وسوريا.
            في السودان، واصل المتظاهرون الدعوة إلى انتقال سياسي سلمي وحكومة مسؤولة حتى بعد مذبحة في يونيو أسفرت عن وفاة ما لا يقل عن 100 وإصابة العشرات. في 17 أغسطس توصل الجيش والمعارضة في السودان إلى اتفاق على فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، يتبادل خلالها المدنيون والجيش السلطة.
            في الجزائر، برغم استقالة بوتفليقة المريض في ابريل، يواصل المتظاهرون مطالبتهم بالإطاحة بشخصيات أساسية من الحرس القديم. استقال بعض المقربين من بوتفليقة أو تعرضوا للاعتقال، وأعلن عن انتخابات في ديسمبر. يتشكك كثير من المتظاهرين في الانتخابات التي يرونها محاولة من الجيش للإتيان برئيس ضعيف إلى السلطة. غير أنهم أظهروا بالفعل أنهم لن يجبنوا فيقبلوا بنسخة معدلة من النظام القديم.
             ثقافة التظاهر الجديدة هذه ظاهرة في سوريا التي شهدت موجة احتجاجات مدنية في معاقل تمرد سابقة خاضعة حالية لنظام الأسد. ففي وقت سابق من العام الحالي على سبيل المثال، خرج مئات السوريين في مدينة دارا الجنوبية ـ التي شهدت مولد المظاهرات المناهضة للأسد سنة 2011 ـ للاعتراض على وضع تمثال لوالد الرئيس، أي الدكتاتور الراحل حافظ الأسد. فلعل النظام انتصر في الحرب الأهلية، لكن هذه المظاهرات تشير إلى أن عليه أن يكافح لاسترداد لسلطته.
            يشهد الشرق الأوسط اليوم عاصفة مثالية: ففي ظل تراجع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومضاعفة أنظمة الحكم سياساتها القمعية التي أدت من قبل إلى الربيع العربي، يتقدم إلى الصدارة جيل جديد. جيل من الشباب العرب درج على الجهر باعتراضه، رأوا ثورات 2010-2011 في وعودها وإخفاقاتها، ويقفون في وجه محاولات رؤسائهم للتلاعب. ولم يعد لدى أولئك الرؤساء الوسائل لشراء شعوبهم. فما يبدو اليوم قمعا إقليميا قائما منذ 2011 قد يعد في المستقبل مرحلة أولية في عملية طويلة من الصحوة العربية. والأرجح أن الطريق إلى تلك الصحوة سوف يكون صعبا، مفروشا بالألم، لكن لو أن ثمة شيئا واحدا تعرفه الشعوب العربية، فهو أن الوضع القائم لا يمكن أن يدوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق