الثلاثاء، 18 يوليو 2017

كيف يقرأ ألشعر؟

كيف يقرأ ألشعر؟
ماثيو زابرودر



لعلكم تتذكرون، مثلما أتذكر، كيف كانت القصائد تدرَّس لنا في المدرسة وكأنها أحجيات وألغاز؟ ما الذي يحاول الشاعر فعلا أن يقوله هنا؟ ما ثيمة هذه القصيدة أو رسالتها؟ ما الذي تعنيه هنا فعلا كلمة "بنفسجي" أو "زهرة" أو "عشبة"؟ وللشعر ـ مثلما للموسيقى الكلاسيكية ـ سمعة مؤسفة بأنه يقتضي تدريبا خاصا وتعليما معينا من أجل تذوقه، وهو ما يبعد القراء عن غرابته الحقيقية، ويشعر أغلبنا بأننا لم نتعلم ما يكفي لقراءة الشعر.
وهذا موقف شائع. ولنا مثالا واحدا في ما كتبه هارولد بلوم في تقديمه لـ "أفضل قصائد اللغة الإنجليزية" إذ يقول إن "فن قراءة الشعر يبدأ بالبراعة في [إدراك] الإشارات في قصائد معينة، من أبسطها ألى أكثرها تعقيدا". وهذا يبدو منطقيا تماما، لكنه خاطئ تماما. ففن قراءة الشعر لا يبدأ بالتفكير في اللحظات التاريخية أو الفلسفات الكبرى. بل يبدأ بقراءة كلمات القصائد ذاتها.
بقدر ما لعلنا نستمتع بقراءة (وكتابة) الشعر ونحن أطفال، بقدر ما يعلموننا في المدرسة أن الشعر "صعب" في جوهره، وأنه بطبيعته المحضة يخلق المعنى بطريقة ما من خلال حجب المعنى. ومن ثم فجهودنا من أجل قراءة الشعر تبدأ بالتأمل في هذا. ثم يتبين أن المدخل إلى الغرابة هو الحَرْفية. فقد اكتشفت كمعلم أنه بغض النظر عن انفتاح طلبة الأدب أو مقاومتهم في بداية درسهم الشعر، فإن التقدم الحقيقي يبدأ حينما يتعاملون تعاملا حرفيا مع الكلمات المكتوبة على الصفحة. أطلب منهم أن يختاروا كلمة مثيرة للاهتمام، ثم يذهبوا إلى المكتبة ويبحثوا حول تلك الكلمة.
ماثيو زابرودر

هذه الممارسة المجردة للتعمق قدر الإمكان في الكلمات يبيِّن لهم أن المعنى والاحتمال يأتيان من هذا الفعل، لا من خلال البحث عن تأويل كثيرا ما يكون تأويل شخص آخر.
ومشكلة الافتراضات المسبقة المضللة عن طبيعة الشعر ليست حكرا على القراء الشباب. فكثير من الشعراء الشبان يخلطون بين الغموض العمدي وبين إبداع لغز عميق. فالشعراء الجيدون لا يعمدون إلى تعقيد شيء لمجرد أن يجعلوا فهمه أشد صعوبة على القراء. ومن سوء الحظ أن القراء الشبان والشعراء الشبان يجدون من يعلمونهم أن هذا بالضبط هو ما يفعله الشعراء. وهو ما أثمر بدوره عادات معينة في كتابة الشعر المعاصر.  معلومات رديئة تدخل، شعر رديء يخرج، وإذا بنا في حلقة غموض شعري مفرغة. وغالبا ما يستغرق الشعراء وقتا غير قليل ليتخلصوا من هذ ا الذي تعلموه. ومنهم من لا يفلح في ذلك نهائيا، فيستمر في الكتابة بهذه الطريقة، متعمد الغموض والتوجه إلى القلة، فتلك طريق مختصرة إلى الإلغاز. والتأثير المزعوم لقصائدهم يعتمد على معنى خبيء، مضنون به على القارئ.
لا أعرف ما الذي يكتشفه كتاب القصص والروايات والمقالات في نهاية المطاف لأنفسهم، ولكن يمكنني القول إن الشعراء يفهمون عاجلا أم آجلا أنه ما من أفكار جديدة، فإن هي إلا أفكارنا القديمة، وأنه لا أحد يقرأ الشعر بغية التأثر به، بل ليجرب ويشعر ويفهم بطرق لا يملكها إلا الشعر.
كم أشفق على الشعراء الشبان الذين يشعرون بدافع قوي إلى إلباس ما يقولونه أقنعة. ففي مطلع حياتي كشاعر، واجهت أنا أيضا عنتا في أن أكون مباشرا. كان وعيي بذاتي دائما، فكنت بحاجة إلى استعراض موهبتي الفنية في كل بيت. واستغرقت وقتا طويلا للتغلب على هذا الشعور، وإذ ذاك فقط بدأت أكتب شعرا له نصيب مهما يكن من الجودة.
وإنني أرى هذا النزوع كثيرا في أعمال طلبتي. فكثيرا ما يعمدون، دونما وعي، إلى عمل شيء في مطالع قصائدهم يظهر ـ وفقا لأي شروط يتبنونها ـ أنهم شعراء. وكأنهم يتقدمون لفحص مؤهلاتهم الشعرية. فمنهم على سبيل المثال من يفعل في تركيب الجملة شيئا غريبا بحق ومعطلا. ومنهم من يلقي في وجه قارئه حزمة من الصور والاستعارات قبل أن نفهم حتى عن أي شيء تدور القصيدة. بل إنهم قد يعاندون فيمتنعون عن توفير المعلومات الأساسية ـ ما الذي يجري، وأين نحن، ومن الذي يتكلم، وما إلى ذلك ـ وكأن توفيرهم هذه المعلومات قد يدمر الشعري في القصيدة. ولكن هذه الطريقة المصطنعة في تقديم الارتباك ليست طريقة تأليف الشعر العظيم، ولا هي الطريقة التي تزيدنا قربا من أصعب ما يمكن قوله.
إن من أعظم مسرات قراءة الشعر هو أن تشعر أن الكلمات تعني فيه ما تعنيه في الحياة اليومية، ولكنها مع ذلك تبدأ في التحرك نحو عالم أكثر امتلاء واحتداما. في الشعر يمكن أن تبدأ لغتنا العادية في حمل أصداء ودلالات، فتصير أكثر حياة، بل وأعظم نبلا. إن الكلمات التي نستعملها في حيواتنا اليومية تكتنز في أعماقها تاريخا (شخصيا وجمعيا) يمكن إعادة تنشيطه من خلال قصيدة.
واللغة في القصيدة تبقى نفسها ومع ذلك تختلف، بل تكتسب قداسة، كأنها تعويذة. وكيفية حدوث ذلك هو سر كل قصيدة، بل لعله معناها الأعمق. والوقوع على كلمة، والطلوع بها من اللاوعي، أو من الحالة الحلمية الحدسية، إلى القصيدة، إما في البداية أو في موضع ما على طريق الكتابة، أو في النهاية وأنعم بذلك وأكرم، هي المكافأة الخاصة التي ينالها الشاعر من كونه شاعرا، وهي أيضا المكافأة الخاصة التي يحظى بها قارئ الشعر. وبالدخول في آلة القصيدة، تحيا اللغة من جديد. تصبح الكلمة ما تكونه، وما تعنيه، وتصبح أيضا أعظم من نفسها.
وفي موضع ما من كل قصيدة، كلمات تشع، وتنير، كأنها موصولة بالكهرباء. وذلك ما يقدر الشعر أن يقدمه للغة، ولنا.

أحدث ما يصدر للكاتب هو كتابه "لماذا الشعر".

نشر المقال في نيويورك تايمز، ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق