الأحد، 31 يناير 2016

أولى آلات القصص القصيرة في العالم

أولى آلات القصص القصيرة في العالم
بولين بوك







عندما دخل جيس ماتيشوك مكتب السياحة في جرينوبل بفرنسا، لم يكن يبحث عن معلومات عن المدينة. "فقد كنت للتو قد عثرت على تلك المعلومات" على حد قول الطالب الطندي البالغ من العمر إحدى وعشرين سنة والمشارك في برنامج تبادل طلابي سياحي. كان يشير إلى الاختراع الثقافي الحديث في المدينة والذي صار أخيرا حديث شبكة الإنترنت: تلك الأسطوانة الملونة بالأسود والبرتقالي التي تندفع منها القصص القصيرة بالمجان.
تحت لافتة زجاجية كتب عليها Distributeur d’histoires courtes (أو: موزعة القصص القصيرة") وجد ثلاثة أزرار مرقومة بـ واحد وثلاثة وخمسة. تشير هذه الأرقام إلى عدد الدقائق التي تستغرقها قراءة القصة. اختار جيس الرقم الثلاثة. فأضاء الزر وخرجت تذكرة طويلة ـ أشبه قليلا بإيصال السوبر ماركت لكن ورقها أكثر سمكا. في أعلى الورقة مكتوب Chambre avec vue لـ بلاندين بيوتيل. القصة عبارة عن حوار خيالي بين امرأتين متقاعدتين يبدأ على النحو التالي:
ـ أقول لك إنه توقف عن الشخير
ـ وبعد معك يا جاكلين، هذا لا يعني أنه مات
طبع ماتيشوك مزيدا من القصص "للقراءة لاحقا" بينما يتابعه وليم هايتيل الموظف في مكتب السياحة. قال إن "أمورا بعيدة الاحتمال حدثت منذ حصلنا على هذه الآلات. التقط سائحون من إيطاليا صور سيلفي معها. هي ناجحة تماما، برغم أننا لسنا في ذروة الموسم". لم تمض عشر دقائق حتى كان الورق قد نفد من الآلة.
هناك حاليا ثماني آلات لتوزيع القصص القصيرة في جرينبول، وهي مدينة في جبال الألب الفرنسة يبلغ عدد سكانها مائة وستين ألف نسمة. في أكتوبر الماضي، وضعت دار النشر المبتدئة "شورت إيديسيون" نماذج الآلة الأولى في قاعة المدينة، ومكتب السياحة، والمكتبات والمراكز الاجتماعية. وكان بوسع الراغبين في استضافة الآلات أن يؤجروها من الشركة في مقابل خمسمائة يورو في الشهر، ولكن جرينوبل حصلت على آلاتها بإيجار مخفض، كما أن تمويلات من مجلس المدينة والحكومة المحلية ساهمت في تمويل المشروع.
بوسع الواقفين في الصفوف الآن لإعادة كتاب إلى المكتبة أو انتظارا لمقابلة موظف أن يطبعوا ويقرأوا واحدة من ستمائة قصة توفرها الآلات. في الشهر الأول طبع نحو عشرة آلاف قصة. قال كرستوف سيبيود ـ الشريك المؤسس في المشروع ومدير شورت إيديسيون وهو يضع نظارته ذات الطبقة الزرقاء والخضراء وينظر في هاتفه الذكي إن "الكلمة المكتوبة لم تمت". يعتقد سيبيود أن هذه الآلات توفر شيئا لا تستطيع أن توفره الآلات الإلكترونية التي نحملها جميعا في جيوبنا. قال إن "الهواتف الذكية أزالت الحدود بين حياتنا المهنية وأسباب تسليتنا. أما الورقة المطبوعة فتمثل استراحة من الشاشات المسيطرة في كل مكان. ربما ما كان الناس ليستجيبوا لآلاتنا مثل هذه الاستجابة قبل ست سنين حين لم تكن الهواتف الذكية جزءا لا ينفصل عن حياتنا".
فرنسا بلد كتَّاب: في 2013، كشف استطلاع للرأي أجرته شركة آيفوب البحثية أن سبعة عشر في المائة من الفرنسيين كتبوا مخطوطة من نوع ما، لم ينشر  أغلبها. ومنذ عام 2011، توفر شورت إيديسيون ـ التي يعمل فيها فريق من أحد عشر شخصا ـ منصة نشر مجاني للكتاب الهواة. فنشر موقع الشركة وتطبيقها المخصص للهواتف الذكية قصصا لقرابة عشرة آلاف كاتب، بمعدل يصل تقريبا إلى مائة كاتب في اليوم. ثم تقوم قاعدة المستخدمين البالغ عددها قرابة مائة وخمسين ألفا بالتصويت على أفضل القصص، التي تحول بعضها إلى كتب إلكترونية، وكتب صوتية، أو حتى كتب على الطراز الورقي القديم بالاشتراك مع شركات أكبر مثل أورانج وبوتاجاز . والآن سوف تشق القصص الرائجة طريقها إلى آلات توزيع القصص.
قال لي خافيير براي، الكاتب الذي وصلت إحدى قصصه إلى الآلات" إن "النظام شديد التنافسية". قصته "La Forme"    قصة كوميدية عن أب يمارس الرياضة ويحاول أن يشرح لابنته الصغيرة أسباب احتياجه إلى "استعادة القوام واللياقة" (فتقول له ابنته "لكنني يا أبي أحب قوامك الحالي, ولا أريدك أن تغيره"). ينشر براي ـ الذي يعيش في جرينبول ـ قصصا قصيرة على فيسبوك منذ سنين ثم قرأ عن شورت إيديسيون. قال "إنها تضفي على الهواية الطابع الرسمي". يتلقى الكتّاب نسبة عشرة في المائة من الإيجارات المدفوعة للشركة، وهو المعدل المعياري المعمول به في فرنسا عند نشر كتاب.
قال لي سيبيود وشريكه كوينتين بليبل إن فكرة آلات القراءة خطرت لهما للمرة الأولي في عصر أحد أيام 2013. كانا في استراحة في قاعة بشركتهما واشتريا طعاما خفيفا من آلة لبيع الطعام. قال أحدهما ـ ولا يتذكران أيهما ـ إن آلات البيع ينبغي أن توفر قصصا قصيرة بدلا من المشروبات والحلوى. وصمَّما النموذج الأولي في عام 2014. يتذكر سيبيود أن "أعين الزبائن كانت تلمع وهم يجربونها" لا يزال محتفظا بالنموذج الأول الذي "كسرت أزراره وصارت خطوطه مرتبكة... لكنه الأول تماما".
بعد الظهور العلني للآلات في أكتوبر الماضي، بهت سيبيود وبليبيل من الاستقبال العالمي، وفي مكتبهما خريطة للعالم عليها نجوم فضية صغيرة كل منها في بلد نشرت فيه مقالة عن الآلات. "البرازيل، تركيا، أستراليا، ألمانيا، كوريا" حسبما يعدد مانون لانديو مدير الاتصالات في الشركة. في الوقت الذي زرت فيه الشركة، كان مائتان وثلاثون مقالة قد كتبت عن الآلات في ثمانية وثلاثين بلدا. قال سيبيود "لم نكن نتصور أن يحظى المشروع بكل هذا الحماس. مؤكد أنها مسلية، دميتنا هذه". انتشرت سلاسل صغيرة من الآلات لدى أربعة عملاء في فرنسا، وتفكر شركة لمحطات الوقود في شراء مئات من الآلات حسب ما قال لي سيبيود. كما أبدت مستشفيات ومحطات قطارات ومطارات وحدائق ومتاحف ودور سينما اهتماما بالفكرة.
في الوقت الراهن على الأقل، تبقى جرينبول المكان الوحيد الذي يمكن العثور فيه على هذه الآلات. قال لي عمدة المدينة المنتمي إلى حزب الخضر إريك بيول إنه يرى الآلات سبيلا لتوفير الثقافة لمواطني جرينبول. كان بيول ـ المناهض القديم للاستهلاكية ـ حديث الإعلام في عام 2014 حينما منع الإعلانات في شوارع جرينبول. أما موزعات القصص في رأيه فتطرح "رباطا آخر بين الناس والمدينة".
قالت لي المعمارية كورين لانجلوي حينما سألتها عن الآلات إن "الخيال والكلمة المكتوبة رجعا إلى المجال العام في السنين الأخيرة". وأشارت إلى مشروع أقيم سنة 2014   في تولوز إذ دعي السكان إلى كتابة أمنياتهم وتعليقها على شجر الكريسماس. وبدأ تعليق قصائد على جدران عربات المترو في لندن سنة 1986     ثم في باريس ونيويورك وغيرها، فكان بدوره سابقة في هذا الصدد. قالت لانجلوي إن "موزعات القصص تشبع احتياحا إلى لحظات حلم اليقظة في الحيز المديني المفرط في الانتظام". كما راقت الفكر لمعمارية أخرى هي بياتريس ماريولي فقالت "إن القصة القصيرة بوصفها رسالة فردية تثبت القارئ وسط نظام مديني كبير: مشروع ضئيل مرتبط بالعديد من المشاريع الضئيلة في أماكن أخرى".
لا يتردد الكثيرون بانتظام على مكتب السياحة في جرينوبل. قالت لي المرشدة السياحية كارلوتا إيبورا جوميز إن "البعض يأتي مرتين في الأسبوع لمجرد أن يطبع قصة قصيرة". وقالت مارجوري ناديو ـ أمينة مكتبة جرينبول المركزية ـ إنها عثرت على التذاكر القصصية مستعملة كفواصل في الكتب. وترجو شورت إيدسيون أن تشق آلات القصص طريقها إلى العالم كله. وقالوا إنهم تلقوا طلبات من مدرسة ثانوية في تونس، ومهرجان جولد كوست في أستراليا، وسلسلة متاجر في الولايات المتحدة بخصوص الآلات. وهناك عشر شركات ومؤسسات تجرب الآلات في الوقت الراهن. وبرغم أن سيبيود يؤكد على ارتباط شورت إيدسيون بالأدب الفرنكفوني، فسوف يلزم وجود نسخة مجلنزة لتحقيق حلمهم الكبير. ويتكلم مخرج كبير من هوليود مع الشركة حاليا بشأن إعداد نسخة أمريكية من الآلات وسوف يجري اختبارها خلال الشهور القليلة القادمة. سيبيود زار نيويورك سنة 1989، ولا يزال يتذكر الصفوف الطويلة في ستاربكس. يقول لي "تخيلي موزعة قصص في كل فرع من ستاربكس".

 عن نيويوركر ـ ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق