الثلاثاء، 25 يناير 2011

عيون النار، مناخر الهواء، فم الماء، لحية التراب

عن زواج الجنة والجحيم لوليم بليك



العقل مكانُ نفسه
وهو في نفسه قادر
أن يجعل الجحيم جنة
والجنة جحيما
 

مِلتن ـ الفردوس المفقود


*

هناك بسمة حب.
وهناك بسمة غش.
وهناك بسمة البسمات
فيها تلتقي الاثنتان.


وليم بليك

*


عاش وليم بليك سبعين عاما. ولد في الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 1757، لأب كان يعمل بائع جوارب وقفازات (منتهى التخصص، أطراف البشر وحسب!). كان وليم أحد سبعة أشقاء لم يتجاوز الطفولة منهم غير خمسة، وكان أقربهم إلى الشاعر أخ يدعى روبرت، مات في شبابه، ورأى وليم روحه وهي تطلع منه!


قضى وليم طفولته في 28 شارع برود ستريت Broad St. في حي بسيط، ومحترم. ألكسندر جلتشرست (برغم أنه ولد بعد عام من وفاة بليك، أي سنة 1828، إلا أن كتابه "حياة وليم بليك " هو المرجع الأساسي والأقدم عن الشاعر) يروي أن وليم كان في طفولته كثير الجولان في حيه وفي الأحياء المجاورة، وأنه كان في الثامنة من عمره حينما رأى في إحدى جولاته "شجرة تملؤها الملائكة، أجنحةً ملائكية ساطعة ترصع كل غصن كأنها النجوم". حكى وليم لأبويه أمر رؤياه، فلم يبتهجا بها، بل إنه أوشك أن يتلقى عقابا بالضرب من أبيه لولا شفاعة أمه وتوسلاتها.
غير أن والديه لم يصدقا رؤياه، ونهياه عن الكذب، شجعا موهبته، وألحقاه بمدرسة بارز Pars لتعلم الرسم، ولكن ثقل نفقات الدراسة جعلهما يخرجانه من المدرسة، ويعهدان به إلى "حفار على المعادن" engraver ليدربه على هذه الصنعة.
عهدا به أول الأمر إلى حفار شهير يدعى وليم ريلاند William Ryland غير أن وليم بليك اعترض على التدرب لدى هذا الحفار وقال لوالده "إنني لا أحب وجه الرجل، يبدو على محياه أن مصيره المشنقة". وتحققت النبوءة بالفعل بعد اثنتي عشرة سنة عندما اتهم ريلاند وأدين بالتزييف فكانت نهايته المقصلة.
تدرب وليم إذن على يد حفار آخر أقل شهرة وإن يكن أعظم موهبة هو جيمس باسير. ولا يدين بليك لباسير بمجرد تعليمه أسرار الصنعة، بل وبإيفاده إلى كنيسة وستمنستر آبي لينفذ فيها رسومات كان باسير قد كلف برسمها. هناك تأثر خيال بليك كثيرا بما رآه من نمط العمارة والفن القوطيين السائدين في مقابر الكنيسة.
في الحادية والعشرين ترك وليم ورشة باسير والتحق بالأكاديمية الملكية التي كانت قد أنشئت حديثا. لكنه ظل يكسب عيشه من العمل حفارا متنقلا يستأجره الناشرون لحفر الرسوم المصاحبة لروايات كان من بينها "دون كيخوتة" على سبيل المثال.
في عام 1780، شهد بليك أعمال الشغب الرهيبة التي حرض عليها اللورد جروج جوردن المعادي للكاثوليكية، وكانت تلك المظاهرات تعترض أيضا على المعاملة الملكية للمستعمرات البريطانية في أمريكا. شهد بليك أثناء تلك المظاهرات إحراق كنائس ومنازل وسجون أهمها سجن نيوجيت، فظهر أثر من ذلك في أعمال له مثل "أوربا" 1794، و"أمريكا" 1793.
في عام 1872 تزوج من كاثرين بَوتشر إثر قصة حب مدوية، فكانت كاثرين مساعدة له في عمله، ومعينا له في حياته، إذ أعفته تقريبا من مهامه الأسرية، مستغلة قدرتها على تدبر أمور الحياة في حدود دخل وليم المحدود.
نشر بليك كتابه "اسكتشات شعرية" الذي جاء حاملا نبرة سياسية واضحة، وإن كانت قصائده على المستوى الفني لا تعدو محاكاة النماذج الكلاسيكية. توفي أبوه سنة 1784 وانتقل هو للعيش قرب بيته القديم فسكن في 27 شارع برود.
توفي شقيقه روبرت، ويروي جليتشريست مرة أخرى أن وليم رأى روح أخيه روبرت وهي تغادر جسد أخيه: "وفي اللحظة الجليلة والأخيرة، رأت العينان النافذتان الروحَ الطليقةَ تتصاعد إلى السماوات عابرة سقف البيت ’مصفقة بيديها من الفرح’".
ظل بليك يشعر بحضور روح أخيه روبرت من حوله، بل إنه قال إن هذه الروح هي التي علمته كيف يرسم قصيدته من خلال تنقنية "الكتابة المضاءة". وكانت هذه التقنية عبارة عن كتابة النص ورسم صوره بمادة غير منفذة للسوائل على ألواح من النحاس يتم غمسها بعد ذلك في الحمض بحيث لا يبقى على اللوح إلا النص والرسم، ويستخدم هذا اللوح بعد ذلك في الطباعة على الورق، ثم تلوين الورق يدويا.
جرب بليك هذه التقنية في إصدار سلسلة مقولات عنوانها "لا يوجد دين طبيعي والأديان كلها واحد"، واستخدمها في كتاب له عنوانه "أغاني البراءة" وكتاب آخر اسمه "أغاني التجربة".
يلح جليتشريست في ترجمته لحياة بليك على قدراته الرؤيوية النبوئية مستشهدا كلما استطاع إلى ذلك سبيلا بحكايات تروى عن الشاعر/المتنبئ. ولا شك أن شعر بليك نفسه يؤكد هذه الصورة، فهو في مقدمة كتابه "أغاني التجربة" (أو ربما "أغاني الخبرة") يقول:
اسمعوا صوت الشاعر
ذالك الذي يرى الحاضر، والماضي، والمستقبل
ذلك الذي سمعت أذناه
الكلمةَ المقدسةَ
حين كانت تسير وسط الأشجار العتيقة".
هو إذن يرى "الحاضر والماضي والمستقبل"، وهو "الذي سمع الكلمة الأولى، المقدسة. ولكن بليك نفسه هو الذي حرص أن يصدر طبعة موحدة تضم إلى جانب "أغاني التجربة" ـ حيث الشاعر/النبي ـ كتابا له هو "اغاني البراءة"، ليكون العنوان الجديد للكتاب هو "أغاني البراءة والتجربة".
في "كتاب البراءة"، لا يظهر الشاعر نبيا، بل زامرا، عازفا على المزمار، يغني، وليس ـ كما في "التجربة ـ رائيا، عارفا، قادرا أن يأمر الناس بالجلوس للإنصات إليه. فلعل بليك أراد بالجمع بين هذين الكتابين، وهذين التصورين للشاعر، أن تنكسر هذه الثنائية، وأن يشكل طرفاها معا كيانا جديدا. ولعل مثل هذا هو ما كان يهدف إليه من كتابه "زواج الجنة والجحيم".
قد يكون كل ما سبق أحد المداخل المحتملة إلى عالم "زواج الجنة والجحيم"، هذا الكتاب صغير الحجم ـ لا يتجاوز عدد كلماته أربعة آلاف كلمة. نعم، ربما يمكننا الدخول إلى هذا الكتاب مصدقين أن كاتبه كان يرى ما لا نراه، أنه فعلا ذهب إلى الجنة وإلى الجحيم، قابل الشياطين والملائكة، ومر بدار الطباعة في الجحيم، وجلس على النهر يصغي إلى غناء المغني، وقابل النبيين إشعياء وحزقيال فمنحهما فرصة أن يصححا ما رواه عنهما الكتاب المقدس من أنهما رايا الها وكلماه.
ويمكننا أيضا أن ندخل إلى الكتاب من لدن عمانويل سويدنبرج. ففي الصفحة الثانية من النص، سوف نراه على أية حال، ولسوف يقدمه لنا بليك بقوله "عجبا، إنه الملاك القاعد عن القبر" (في إشارة إلى ما يرد في إنجيل متى عن ملاك جالس بجانب قبر المسيح تجيء إليه مريم المجدلية، والسيدة مريم العذراء ـ أو مريم الأخرى بحسب تعبير الإنجيل ـ في الموعد الذي حدده المسيح لقيامته، فينبئهما الملاك أن المسيح قام، هكذا بلا شاهد على قيامه غير هذا الملاك).

*

عاش عمانويل سويدنبرج في الفترة من 1688 وحتى 1772. كان أبوه قسا لوثريا وكاتب ترانيم. وكان وزوجته ينتميان إلى أسرتين حققتا ثراء كبيرا من التعدين وأعمال المناجم. منذ الحادية عشرة وحتى الحادية والعشرين، درس سويدنبرج الميكانيكا والجغرافيا والفلك والرياضيات، ثم سافر إلى بلدان أوربية مختلفة. عمل محررا علميا، وعمل في القضاء، وله اختراعات عديدة، وله إسهام في البيولوجيا، إذ ينسب إليه تقديمه أول فهم متكامل لوظيفة قشرة المخ الخارجية.
غير أنه وبرغم هذه النشأة العلمية، والتكوين العلمي، عايش في الفترة من 1743 تجارب غريبة. إذ بدأ يرى رؤى غريبة، انتهى بسببها إلى الاقتناع بأن الرب جعل منه مبعوثا روحيا يستكشف مستويات الوجود العليا ليعلم البشر بأمورها. وهكذا، قام الرجل مشكورا بزيارات إلى الجنة والجحيم، وكتب عنهما، وكان الناس في زمنه يتعاملون مع كلامه هذا بجدية شديدة، لدرجة أن تم تعيينه رئيس للأكاديمية الملكية للتعدين، ولكنه سرعان ما قدم استقالة من هذا المنصب قال فيها بالحرف:
"
لأن الرب هيأني لهذا الأمر منذ الطفولة، فتجلى بشخصه لي، أنا خادمه، وأمرني أن أقوم بعمله. حدث ذلك في سنة 1743، وبعدها أراني وجه روحي، وأراني في الوقت نفسه الجحيم أيضا، وجعلني أتكلم مع الملائكة والأرواح. واستمر هذا الأمر بلا انقطاع سبعة وعشرين عاما".
وحدث أن تقاعد، فمنذا الذي يمكن أن يعلق على استقالة مسببة بهذه الأسباب قائلا مثلا إن "حاجة العمل لا تسمح". وبدأ سويدنبرج يكتب في اللاهوت.
كانت لسويدنبرج بعض الكرامات، مثل إحساسه بأن حريقا نشب قرب بيته في السويد، وكان آنذاك في جوتنبرج بألمانيا، أو تنبؤه باغتيال قيصر روسيا بطرس الثالث. وكانت له اجتهادات مهمة منها أن القمر مأهول بسكان هم أناس مثلنا ولكنهم يتكلمون من بطونهم، بأصوات مثل التجشؤ.
وكان له ـ وهذا ما يهمنا ـ كتاب عنوانه "الجنة والجحيم". يهمنا أيضا أن نشير غلى أنه عاش سنواته الأخيرة في إنجلترا ـ التي زارها في شبابه وتأثر بثقافتها وانتمى إليه، على الأقل في مرحلته العلمية العاقلة. وفي إنجلترا كتب كتاباته الرؤيوية التي وصلت إلى بليك، فتأثر بها في بعض كتاباته، وسخر منها في بعض آخر مثل "زواج الجنة والجحيم"، والتي مهدت الطريق أمام ظهور جيل الرومانتيكية كله، بحطها من مكانة العقل.
كان سويدنبرج يؤمن أن الرب خلق البشرية لتعيش بالتزامن في عالمين: عالم المادة وعالم الروح. وكان يؤمن أن عالم الروح يوجد داخل الإنسان، وأن له ذاكرته الخاصة، وأن هذه هي التي تبقى بعد الموت. والجحيم لدى سويدنبرج ليس فيه شيطان، والجنة تسكنها أرواح الموتى الذين يعيشون فيها نمطا حياتيا مطابقا تقريبا للذي يعيشونه على الأرض. آمن سويدنبرج بأن صلب المسيح لم يكن تكفيرا عن خطايا البشر، وبأننا نحن الذين نخلق جنتنا أو جحيمنا. لم يؤمن بالطبيعة الثالوثية للمسيح، وكان يرى أن الحساب حدث سنة 1757 مع المجيء الثاني للمسيح. كان يؤمن أن ثمة اتصالا بين العالمين الطبيعي والروحي، وأن كل إنسان يعيش في العالمين معا. وكان يرى أن الأبدية حالة داخلية تبدأ مع الإنسان من حياته على الأرض.
في تصوري أن أكثر ما بقي من سويدنبرج في وعي بليك ذلك الاتصال بين عالم الروح وعالم الطبيعية، وكون الإنسان يعيش بإحدى قدميه في هذا العالم وبالأخرى في ذالك. ذلك التصور هو الذي جعل بليك يخرج على تعاليم أستاذه، فإذا كان الأستاذ يرى الجنة والجحيم عالمين منفصلين، فإن بليك يرى بزواجهما، بقران بينهما. وذلك في تصوري هو الهدف الأساسي لبليك من كتابه: إبطال فكرة التقابل سواء بين الجنة والجحيم أو بين النور والظلام، أو بين الملاك والشيطان، وطبعا بين الروح والجسد، وطبعا أيضا بين العقل والغريزة، وبين الخير والشر.
لنا أن نتذكر في هذا المقام كلام كونديرا في "خفة الكائن" عن أن النور هو الموجب، بينما الظلام سالب. عن أن العدل والفضيلة والعلم صفات موجبة، سوالبها هي الظلم والرذيلة والجهل. لنا أن نتذكر حيرته أمام الثقل والخفة، أيهما الموجب؟ ولنا أن ننطلق من هذا السؤال لنصل إلى مثل النتيجة التي يريدها وليم بليك، وهي أنه لا وجود لهذه التقابلات من الأساس. ولنا أن نصل إلى مثل ذلك أيضا من نظرية الين واليانج: الين YIN هو المبدأ المؤنث الموجود في البرودة والظلام، واليانج YANG هو المبدأ المذكر الموجود في الدفء والنور، الين هو السالب واليانج هو الموجب. غير أن الحكمة الآسيوية تصورهما معا في شكل بيضاوي منقسم نصفين، أحدهما أبيض والآخر أسود. في النصف الأبيض دائرة سوداء، وفي النصف الأسود دائرة بيضاء. أي أن في قلب النور ظلاما، وفي قلب الشر خيرا، وهكذا، وهكذا ينتفي التقابل الوهمي
.

.
أهمية انتفاء هذه القسمة الثنائية الضدية اليقينية كبيرة في واقع الأمر، ولو لم يكن لها من أهمية إلا أنها تفضي إلى التسامح لكفاها. أنا شخصيا أرى أن هذا الرفض للثنائية هو جوهر مقولة الإمام الشافعي مثلا "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب". وأرى أيضا أن لدى النفري ما يقوله في هذا الصدد، ففي المواقف يقول: الحرف يسري حيث القصد، جيم جنة جيم جحيم. ولعلها مصادفة بحتة أن يكون الحرف الأول من الجنة والجحيم واحدا في العربية، وواحدا في الإنجليزية أيضا، هيفن heaven وهيل hell.

*

من مشكلات هذا الكتاب في نسخته العربية أن المترجم ـ د. حسن حلمي ـ بخيل جدا بتدخلاته. لا يكاد يظهر في الكتاب كله غير مرات قليلة. طبعا هذه فضيلة، بل هي ربما الفضيلة بألف ولام العهد، أو هي حتى فضيلة الفضائل (حين نقارن هذا الاختفاء الذي يحرص عليه حسن حلمي، بالكارثة التي أحال إليها كاظم جهاد ترجمته لأعمال رامبو الكاملة من فرط تدخلاته).
أما هنا في زواج الجنة والجحيم فثمة هامش من المترجم على السطر الأول من الكتاب. يقول بليك: "رينترا يزمجر ويلوح بنيرانه في الهواء المثقل". فيقول حسن حلمي إن رينترا هو "النبي الغاضب في أعمال بليك".
سيقول القراء من الناس إن بليك يكتب عن نبي، ربما على غرار المتنبي، إن لم يكن على غرار مسيلمة الكذاب. في حين ان المقصود بالنبي prophet في هذا السياق، هو المتنبئ، صاحب النبوءات. أكتفي هنا بقول إنني لو كنت مترجم هذا النص لفكرت في "الرائي" بدلا من النبي. أقول كنت سأفكر فيها، ولا أقول كنت سأختارها (حالي مع كلمة "قران" بدلا من كلمة "زواج" ترجمة لـ marriage في عنوان الكتاب ـ أشير إلى أن عباس العقاد في كتابه "إبليس" يقترح "المقران بين السماء والجحيم"). إنني الآن لا أتكلم بوصفي مترجما، بل بوصفي قارئا تعيسا للغاية، إحدى قدميه في بر اللغة العربية الزلق، والأخرى في بحر الإنجليزية المجهول. قد يرى البعض في هذا ميزة، وهي كذلك، مثلما أن خلود إبليس ميزته، من ينكر هذا؟ ولعنته، من ينكر هذا؟ وشقاؤه ومعاناة، ومنذا الذي لا يتعاطف مع إبليس في هذا؟

*

قد يكون السعي إلى هدم فكرة التضاد هدفا أساسيا لهذا الكتاب، لكن هذا لا ينفي أن بليك يسخر في طريقه من أشياء أخرى كثيرة، أهمها الكنيسة، والدولة، والقانون، يقول بليك في بداية القصيدة:
رينترا يزمجر ويلوح بنيرانه في الهواء المثقل؛
السحب الجائعة تتدلى فوق المحيط
تلك الغضبة الأخيلية ليست بسبب خلاف على توزيع النساء كما الحال عند هوميروس، بل هي بسبب إبعاد "الرجل العادل" (العادل حسب ترجمة حلمي و"السوي" في تصوري) عن مؤسستي الكنيسة والدولة، ليحل بدلا منه الحمقى والمنافقون الذين يعظون باسم القانون والدين والنظام ثم لا ينتجون سوى الفوضى. أولئك الذين يزعمون أن القواعد الأخلاقية المقيِّدة والقوانين القاهرة هي "الخير" إنما هم أنفسهم الشر. ومن ثم فلكي يعارض بليك قمعهم، يعلن أنه من "حزب الشيطان" المناصر للحرية والطاقة ـ الغريزة ـ والرغبة.
ليست الكنيسة والدولة شرا في ذاتيهما إذن، بل المشكلة في استغلالهما لقمع رغبات البشر، فتلك الطبيعة القمعية هي التي أفضت إلى إقامة السجون والمباغي (من أمثال الجحيم التي ينقلها بليك في كتابه قولهم: السجون تشيد بحجارة القانون، والمباغي بلبنات الدين). في حين أن الطاقة الجنسية ليست شرا بطبيعتها، بل إن كبتها هو الشر بطبيعته. والوعاظ يعجزون عن فهم أن الرب هو كل الأشياء، بما في ذلك الطبيعة الجنسية للرجل والمرأة.
محاربة بليك للكنيسة والدولة، ليست دعوة إلى اللاأخلاق والفوضى، بل إلى نوع من التوازن بين الطاقة (الغريزة) والعقل، هي دعوة إلى فهم جديد، أو نظر جديد إلى أخطاء أسس لها المتدينون. فبليك يرى أن المتدينين ينشئون ـ على غرار الأضداد الكثيرة في الكون ـ تضادا مفتعلا بين الخير والشر، ينسبون الخير كله إلى العقل، والشر كله إلى الغريزة. يجازون العقل بالجنة، والغريزة بالجحيم. ويرى أن الكتب المقدسة تسببت في ثلاثة أخطاء:
1
ـ أن للإنسان مبدأين، هما الجسد والروح، وأنهما منفصلان
2
ـ أن الجسد مكمن الغريزة والرذيلة، والعقل مكمن الروح والخير
3
ـ أن الرب سيعذب من يتبع غرائزه منا
ويقدم بليك طرحا بديلا
1
ـ إن ما يسمى الجسد ليس إلا ذلك الجزء من الروح الذي تدركه الحواس الخمس.
2
ـ إن الغريزة هي الحياة الوحيدة ومصدرها الجسد، والعقل إطار محيط بها
3
ـ أن الغريزة هي البهجة الأبدية.
هنا يكتمل الطرح الأساسي الذي يريده بليك والذي يقدمه مبكرا للغاية في اللوحة الرابعة من كتابه، فلا يبقى لنا بعد ذلك إلا المتعة، يبقى لنا الجولان في العالم الآخر، في الجحيم، حيث يستعرض أمثال أهل الجحيم، التي تؤكد كثيرا على هدم مبدأ الثنائيات المتضادة، وتنتقد العالم الأرض الذي نعرفه، وتعرض علينا متع الجحيم التي يتصورها الملائكة عذابات وأهوالا وما هي إلا رغبات مطلقة .


من أمثال الجحيم



  • من يشتهي ولا يفعل ينجب الطاعون
  • الدودة المبتورة تغفر للمحراث
  • الأحمق لا يرى نفس الشجرة التي يراها العاقل
  • الأبدية تعشق منتجات الزمن
  • لا طائر يحلق عاليا إن حلق بجناحه هو
  • لو تمادى الأحمق في حمقه لصار عاقلا
  • كن أبدا متحفزا للجهر برايك وسيتجنبك كل خسيس
  • نمور الغضب أعقل من خيول التعليم.
  • عيون النار، مناخر الهواء، فم الماء، لحية التراب.
  • كما تختار اليرقة أنقى الورقات لتبيض عليها،
  • يضع القس لعنته على أصفى الأرواح.

 

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق