الثلاثاء، 26 يناير 2016

أُطُر المقارنة (2 ـ 2)

أُطُر المقارنة
(2 ـ 2)
بينيدكت آندرسن
التأثير الكبير الثاني عليّ في ذلك الوقت تمثّل في جيمس سيجل زميلي في كورنل والذي أعتبره الأكثر أصالة وجاذبية بين علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين اليوم. لقد كان أحد أواخر تلاميذ كليفورد جيرتز قبل أن يعمد الرجل الشهير ـ وقد أغضبته الراديكالية الطلابية المشاكسة في أواخر الستينيات ـ إلى التوقف عن التدريس في معهد برينستدت للدراسات المتقدمة الذي كان لوقت طويل أستاذ علم الاجتماع الوحيد فيه. كنت وجيم نجري العمل الميداني في اندونسيا في وقت واحد، هو في أتجيه وأنا في جاوا. التقينا للمرة الأولى في مدينة ميدان Medan  التي تقع في شمال سومطرة، في ربيع 1964، وعلى الفور صرنا صديقين. لم تكن أطروحته ـ المنشورة لاحقا بعنوان "حبل الرب" ـ كأي عمل أنثروبولوجي سبقت كتابته عن اندونسيا. في نحو عام 1967، ظهر منصب أنثروبولوجي في كورنل لمتخصص شاب في دراسات جنوب شرق آسيا وتقدم جيم. في تلك الفترة الراديكالية لم تكن لقاءات المتقدمين تتم فقط مع الأساتذة، بل ومع الطلبة الخريجين. وحينما حانت لحظة اتخاذ القرار النهائي، كانت أغلب آراء الكلية تؤيد جيمس بيكوك الذي كان قد كتب أطروحة عن الـ لودروك ـ أي المسرح الريفي الشعبي في شرق جاوا ـ أطلق عليها عنوانا متميزا هو "طقوس التحديث" ونشرها لاحقا بالعنوان نفسه. ولكن الطلبة لم يدعموا هذا العنوان البارسونياني [نسبة إلى تالكوت بارسونز] إذ كانوا يرون "التحديث" من قبيل الفيتشات التي عفا عليها الزمن. فصوّتوا بأغلبية ساحقة لجيم، ورضخت الكلية. وكنت غالبا ما أشترك أنا وجيم في تدريس مناهج من بينها حلقة أصررنا أن يتكلم كل طالب فيها بالإندونيسية. هو الذي عرَّفني معرفة حقيقية بالأنثروبولوجيا الرفيعة ومن ذلك العمل الأفريقي الملهم الذي قام به الكاثوليكي البريطاني فكتور تيرنر. كما جعلني أقرأ المحاكاة لـ إريتش أورباخ وهو سرد استثنائي للتاريخ "التمثيلي" representation   في   الغرب منذ هوميروس وحتى بروست. وكان المنهج الأحب لنا هو حلقة مشتركة حول أدب كاتب إندونسيا العظيم براموديا أنانتا توير الذي كان لا يزال سجين أحد جولاجات سوهارتو. كانت قراءة الأدب الحصيفة المتمعنة مع مجموعة من الطلبة الممتازين تجربة جديدة عليّ بعض الشيء. وبفضل جيم، بدأت أفكر في كيفية استعمال دراستي المبكرة للأدبين الأوربي الغربي الكلاسيكي والاندونيسي  في نوع جديد من تحليل العلاقات بين الخيال والواقع في دراسة السياسة.
التأثير الثالث جاء من طلبة برنامج دراسات جنوب شرق آسيا. فهؤلاء لم يكن لهم اهتمام بالمفهوم الأمريكي الرسمي المتعلق بمنطقة جنوب شرق آسيا العملاقة في حد ذاته. لكنهم أنشأوا فيما بينهم أنماطا أصغر من التضامن. فلقد أدى غضبهم من طول الدكتاتوريات القاسية في سيام وبورما البوذيتين، وإندونسيا الإسلامية، والفلبين الكاثوليكية إلى الرفض التام. كانوا يتبادلون بالإنجليزية المعلومات المحجوبة بشدة في بلدانهم وأوطانهم. ودرجوا على عقد مقارنات لم تكن لتخطر لخيالهم من قبل.
أما عن المقارنات النمطية في الجماعات المتخيلة، فقد صيغت بفعل نوايا الكتاب الإشكالية. لقد كتب وصدر أغلب الأعمال التنظيرية المهمة المؤلفة في القومية بعد الحرب العالمية الثانية داخل المملكة المتحدة (دراسة ميروسلاف هروتش المقارنة الرائدة لـ ’القوميات الصغيرة’ في وسط وشرق أوربا كتبت بالألمانية في براج إبان الحكم الشيوعي، ثم كان عليها أن تنتظر طويلا إلى أن تترجم إلى الإنجليزية). وأغلبها كتبه يهود وإن تباينت مناظيرهم السياسية تباينا واسعا. وفي أقصى اليمين كان إيلي كيدوري Elie Kedourie       الذي ولد ونشأ في مجتمع بغداد اليهودي العتيق وانتقل في شبابه إلى لندن ووقع تحت تأثير مايكل أوكشوت الذي كان في ذلك الوقت أشهر فلاسفة بريطانيا السياسيين المحافظين. وكان في اليمين المعتدل أنطوني سميث، وهو يهودي  أرثوذكسي متدين بريطاني المولد، درَّس التاريخ في لندن على مدار حياة مهنية مديدة. كان على قناعة بأن اليهود هم أقدم الأمم، فظل يحتج بأن القومية الحديثة نشأت عن جماعات عرقية قديمة الوجود. وفي اليسار اللبرالي كان الفيلسوف وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا إرنست جيلنر، وهو يهودي تشيكي  نشأ في براج وانتقل إلى لندن بمجرد انتهاء الحرب. كان ليبراليا تنويريا عتيدا، ورائدا لما عرف بالرؤية البنيوية للقومية، ذاهبا إلى أنها نتاج للتصنيع والحداثة. وفي أقصى اليسار كان المؤرخ العظيم إريك هوبسباوم، وهو من أصول يهودية جزئية، ولد في مصر المستعمرة وتعلم بالدرجة الأساسية في نمسا ما قبل المرحلة النازية. كان هوبسباوم بنيويا مثلما كان شيوعيا، وقدَّم إسهاما صادما في الجدل المتنامي حول القومية داخل المملكة المتحدة بكتابه "اختراع التراث" (1983) وكان عبارة عن مجموعة مقالات جمعها هو وتيرنس رانجر. وكان الرجل الناتئ هو توم نايرن، الاسكتلندي الصميم.
هؤلاء جميعا كانوا يعرفون بعضهم البعض بصورة أو بأخرى. وكلهم فيما عدا نايرن كانوا مرتبطين بالمملكة المتحدة، لأنها ـ من ناحية ـ لم تكن ملوثة بالفاشية والمعاداة العنيفة للسامية، ومن ناحية لأن الدولة التي تتضمن إنجلترا وويلز وسكوتلاندا وأيرلندا الشمالية كانت تبدو (وإن يكن المصطلح مهجورا اليوم) دولة فوق وطنية على غرار الإمبراطورية النمساوية المجرية، فهي ليست دولة أوربية معيارية مثل فرنسا وإيطاليا والسويد. وكان جميعهم تقريبا ذوي توجه أوربي وإن كان جيلنر قد درس في المغرب وعرف شيئا من العربية في حين كتب كدوري الكثير عن وطنه العراق وكان واضحا أنه يجيد العربية العراقية تماما.
تلك كانت الدائرة الواسعة، وشديدة البريطانية أيضا، التي استهدفها كتاب الجماعات المتخيلة . كان الجدال قد اشتعل بفعل كتاب "تفكيك بريطانيا" الذي ذهب إلى أن المملكة المتحدة أثر حفري متكلس محافظ إمبريالي مصيره التفكك إلى مكوناته الأربع بريادة من اسكتلندة. هوجم الكتاب بضراوة، لا سيما من هوبسباوم الذي أعلن أنه لا يمكن لماركسي حق أن يكون قوميا، فالماركسية ملتزمة منذ البداية بالأممية. أعجبني الكتاب بشدة، في ذاته، وأعجبني أيضا كأيرلندي (حصلت جنوب أيرلندا، بعد قرون من الحكم الإنجليزي الكولنيالي، على استقلالها بالصراع المسلح سنة 1922). لم أفكر في الجماعات المتخيلة بوصفه كتابا أكاديميا صارما، ولكن لم يخطر لي أيضا في ذلك الوقت أن الكتاب سوف يحظى في النهاية بجمهور دولي واسع. يشكو كثير من الناس أن الكتاب صعب، وصعب الترجمة بصفة خاصة. ولهذا الاتهام ما يبرره جزئيا. ولكن قدرا كبيرا من الصعوبة لا يكمن في الأفكار، بل في الموقف الإشكالي وجمهور الكتاب المستهدف: أي الإنتلجنسيا الإنجليزية. لذلك يحتوي الكتاب الكثير للغاية من الاستشهادات والإحالات إلى الشعر الإنجليزي والمقالات والتواريخ والخرافات الإنجليزية التي لا يلزم شرحها للقراء الإنجليز ويحتمل أن تكون غير مألوفة لغيرهم. هناك أيضا نكات وسخريات لن يجدها طريفة أو مزعجة إلا الإنجليز. ومن قبيل الطرافة أيضا أنني سمّيت الحكام الإنجليز بأسماء تليق بالعوام: كتشارلز ستيوارت بدلا من تشارلز الأول، مع محافظتي على التسميات الرسمية المألوفة للحكام الأجانب مثل لويس الرابع عشر.
صيغ كتاب الجماعات المتخيلة في إطار إشكالي أوسع من كتاب تفكيك بريطانيا. وكان هدفه الأول هو المركزية الأوربية التي رأيتها في الافتراض بأن القومية ولدت في أوربا  ثم انتشرت بأشكال محدودة في بقية العالم. كان واضحا لي أن الحركات القومية لها أصولها التاريخية في جنوب وشمال أمريكا، كما في هاييتي، وأنه لا يمكن تفسير هذه الحركات على أسس "عرقية" أو لغوية. وكان الهدف الثاني يتمثل في الماركسية واللبرالية التقليديتين. ولقد ذهب نايرن عن حق إلى أن هذا النوع من الماركسية قد اجتنب القومية اجتنابا كبيرا ولم يقو يوما على تفسير قوتها التاريخية العالمية الشاسعة. ولكنه لم يحاول بحق أن يقدم حلا ماركسيا للمشكلة. وكنت قد توصلت إلى قناعة بأن الحل ممكن إن راعى المرء تفرد الكتب المطبوعة التي بدأت تنشر بكميات هائلة في أوربا في القرن السادس عشر. من المؤكد أن الكتب سلع أنتجتها الرأسمالية المبكرة، لكنها كانت كذلك حاويات وناقلات أفكار ومشاعر ومعان، خلافا للسكَّر. وكانت للبرالية الكلاسيكية إخفاقاتها المماثلة. وكان الهدف الأخير يتمثل في تراث قوي يتعامل مع القومية كما لو كانت مجرد مفهوم آخر، أي مجرد نظام من الأفكار، أو أيديولوجيا. وهذه النظرة إلى القومية لم تفسر قط ما للقومية من قوة عاطفية هائلة، وقدرة على تحريك الشعوب إلى الموت في سبيلها. يساعد الإطار على تفسير بعض أشكال المقارنة النمطية التي وظفتها فكانت مختلفة اختلافا جذريا عن المقارنة المستخدمة في قالب الشرق/الغرب القائمة في "فكرة السلطة في الثقافة الجاوية". ففي حين كان اهتمامي من قبل منصبا بالدرجة الأساسية على الاختلاف، صار في تلك المرة منصبا على التماثل. ومثال ذلك نجده في الفصل الطويل المعنون بـ "رواد كيريوليون" والذي يتناول الأمريكتين. أغلب العمل القائم عن القومية في الولايات المتحدة إما مصرٌّ ببساطة على الاستثنائية، أو مرتبط بالتراث البريطاني. فقررت أن أقارن الولايات المتحدة المبكرة بالقوميات الجديدة المتخبطة في أمريكا الأسبانية واضعا الولايات المتحدة في نهاية الفصل بدلا من بدايته. واستمتعت باستشراف الضيق الذي سوف تتسبب فيه تسمية فرانكلين وجيفرسن بـ "الكيريوليين" وكأنهما مجرد امتداد للأنماط التي ترى في كل الأماكن الواقع جنوب الحدود الأمريكية وبقولي إن سيمون بوليفار كان شخصية أدعى للإعجاب من جورج واشنطن. وبالطريقة نفسها، عمدت إلى الجمع بين روسيا القيصرية والهند البريطانية، والمجر مع سيام واليابان، واندونسيا مع سويسرا، وفييتنام مع غرب أفريقيا الفرنسي (وفي السنوات الأخيرة استمتعت بتصنيف القومية التايوانية بوصفها قومية كيريولية متأخرة). كان الغرض من هذه المقارنات أن تدهش وتصدم، وأيضا أن تعولم دراسة تاريخ القومية. ومع أنها لا تزال تعجبني، إلا أنها ليست شبيهة إلى حد كبير بنوعية المقارنات التي تعقد في متن الحكم المقارن والتي عادة ما تعتمد على الإحصاءات والدراسات المسحية.
لم يحدث إلا بعد وقت طويل، بعد تقاعدي في واقع الأمر، أن بدأت أدرك المشكلة الأساسية في هذا النوع من المقارنة: وهي أن استعمال الأمة والدولة/الأمة بوصفها الوحدة القاعدية للتحليل يتجاهل بصورة قاتلة حقيقة واضحة هي أن هذه الوحدات في الواقع مرتبطة ببعضها البعض ومتقاطعة مع التيارات السياسية الثقافية العالمية كاللبرالية والفاشية والشيوعية والاشتراكية وكذلك مع الشبكات الدينية والقوى الاقتصادية والتكنولوجية. كان عليّ أيضا أن أتعامل بجدية مع واقع أن قليلا للغاية من الناس هم الذين كانوا قوميين أنقياء. فمهما تكن قوة قوميتهم، قد يكونون أيضا متشابكين بقوة أفلام هوليود، أو النيولبرالية، أو الإعجاب بالروايات المصورة، أو حقوق الإنسان، أو الكارثة البيئية الوشيكة، أو الموضة، أو العلم، أو الأناركية، أو ما بعد الكولنيالية، أو الديمقراطية، أو حركات السكان الأصليين، أو غرف الدردشة، أو التنجيم، أو اللغات فوق الوطنية كالأسبانية والعربية وما إلى ذلك. يساعد إدراك هذا العيب الجسيم على تفسير سبب عدم تركيز "تحت رايات ثلاثة: الأناركية والخيال المناهض للكولونيالية" (2005) على الأناركية العالمية حتى نهاية القرن التاسع عشر وحدها، بل وعلى أشكال التواصل العالمية لا سيما التلغراف والسفن البخارية.
ولأن إطاري الآن قد تغيّر، فقد تغيَّر أسلوب المقارنات أيضا. فبرغم أن "فكرة السلطة في الثقافة الجاوية" و"الجماعات المتخيلة" كانا عملين شديدي الاختلاف، فقد كانا يشتركان في قوة دافعة طولية قوية. ففي الأولى يتنقل القارئ عبر ثلاثة قرون من التاريخ الجاوي، وفي الأخيرة من اختراع الرأسمالية الطباعية في القرن الخامس عشر إلى الحركات المناهضة للكولونيالية في منتصف القرن العشرين. أما الدافع المهيمن على "تحت رايات ثلاث" فدافع عرضي. الإطار الزمني الأساسي محدد، لا بالقرون، بل بالعقود، وهي أربعة على وجه التحديد من 1861 إلى 1901. وأكثر ما أثار اهتمامي هو مدى الترابط الذي كانت عليه التطورات السياسية والأدبية، مثل الأناركية والكتابة الطليعية، في ما أطلق عليه فالتر بنيامين "الزمان الفارغ المتجانس" في البرازيل وكوبا والمملكة المتحدة وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وألمانيا وروسيا وجنوب أفريقيا واليابان والصين والفلبين.
استوجب هذا النوع من الدراسة نوعا جديدا من البنية السردية، أشبه برواية مسلسلة في صحيفة منه بالنمط المعتاد من العمل التاريخي المدرسي. حيث يدعى القارئ إلى القفز إلى الأمام وإلى الخلف بين نابلس وطوكيو ومانيلا وبرشلونة وباريس وريو دي جانيرو وبروكسل وسان بطرسبرج وتامبا ولندن. التركيز منصب على التعليم المعاصر والاتصالات والتنسيق في الربط بين الأيديولوجيات والعمل السياسي، بفضل سرعة الاتصالات التلغرافية عبر الدول والحدود الوطنية. لقد كان بعض الفرنسيين يتعلمون من بعض الأمريكيين والبلجيك، وبعض الصينيين من الفلبينيين واليابانيين، وبعض الطليان من الأسبان والروس، وبعض الفلبينيين من بعض الألمان والكوبيين. وهكذا. وفي حين كان التأكيد العام منصبا على التزامن والتماثل، فإن لب الكتاب تحليل للتناقض بين الأناركية العالمية والقوميات المحلية. وألطف شعارات هذا التناقض ينشأ من التحقيق في موجة الاغتيالات أثناء تلك الفترة، في ما بين بفالو ونيويورك وهاربن ومنشوريا. لقد كان القتلة القوميون يحاولون دائما قتل زعماء بلاد"ـهم" المكروهين، بينما كان القتلة الأناركيون في الغالب لا يستهدفون فقط قاهريهم المحليين بل الزعماء السياسيين سيئي السمعة في بلاد أخرى.
*
من المهم أن ندرك أن المقارنة ليست منهجا أو حتى تقنية أكاديمية، بل هي استراتيجية موضوعاتية.هناك قليل من النقاط المهمة التي ينبغي أن نضعها في أذهاننا حينما نود عقد مقارنة. فعلى المرء، بادئ ذي بدء، أن يقرر في أي عمل معين ما إذا كان مسعاه الأساسي إلى التماثلات أم الاختلافات. فمن الصعب جدا، على سبيل المثال، أن تقول، ناهيك عن أن تثبت، أن اليابان والصين وكوريا متماثلة بصفة أساسية أو مختلفة بصفة أساسية. كلتا الحالتين ممكنة بحسب وجهة نظر المرء، وإطاره، والنتائج التي ينتوي التحرك باتجاهها. (في سنوات القومية المتقدة عشية الحرب العالمية الأولى، حينما كان الألمان والفرنسيون يلقون من يشجعهم على كراهية بعضهم البعض، كان المنظِّر النمساوي الماركسي العظيم أوتو باور يعمد إلى استفزاز الجانبين بقوله إن الباريسيين والبرلينيين يشتركون معا في أكثر بكثير مما يشترك فيه كل منهم مع أسلافهم من القرون الوسطى). وإنني هنا أحاول، ربما بضرب مثال مفيد، أن أبيّن كيف عكست الأعمال المقارنة التي كتبتها في ما بين أوائل السبعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، بما بينها من اختلافات حقيقية، تغير المناظير والأطر والنوايا (السياسية).
النقطة الثانية أن أَدَلّ المقارنات (سواء بالتماثل أم بالاختلاف)، في حدود الحجة المعقولة، هي المقارنات التي تصيب بالدهشة. فلن يندهش اليابانيون من مقارنة مع الصين، لأنها مقارنة معقودة منذ قرون، ومن ثم فالطريق مطروق تماما، والناس منتهية إلى نتائج أصلا. في حين أن مقارنة اليبان بالنمسا أو بالكسيك قد تشد انتباه القارئ تماما.
التأمل الثالث هو أن المقارنات الطولية للبلد الواحد عبر مساحة زمنية طويلة هي على أقل تقدير في مثل أهمية المقارنات العابرة للقوميات. ومن أسباب ذلك سبب ذو علاقة بسلطة نوع معين من التاريخ القومي المدرسي الذي لا يزدري الأساطير وله اهتمام  كبير في استمرارية وتأبيد "هوية قومية" عتيقة. فالاسكتلنديون الراغبون في الاعتقاد والإصرار على أنهم طالما تعرضوا لقهر الإنجليز لا يحبون أن يذكرهم أحد أن أسرة حاكمة أستكتلندية سادت على لندن في أغلب القرن السابع عشر، وبالمثل لا يتقبل اليابانيون بتسامحٍ القولَ بأن أوائل "الأباطرة" في بلدهم ربما كانت لهم بعض الأصول الكورية. ومن هنا يستفيد الباحثون كثيرا من القراءة الواسعة في التاريخ القديم.
النقطة الرابعة هي أنه خير للمرء أن يفكر في ظروفه الخاصة، ووضعه الطبقي، ومستوى تعليمه ونوعيته، وعمره، ولغته الأم وما إلى ذلك حال عقده المقارنات. ولكن هذه الأشياء قد تتغير. فأنت حينما تبدأ الحياة في بلد لا تكاد تفهم لغتها أو لا تعرفها بالمرة، فمن الواضح أنك لست في موضع جيد للتفكير المقارن، لأنك لست على صلة تذكر بالثقافة المحلية. تشعر أنك محروم لغويا، ووحيد، بل ومعزول، وتفتش حولك بحثا عن رفاق من وطنك تتشبث بهم. ولا يمكنك أن تجتنب عقد المقارنات، فلا تكون هذه المقارنات إلا مصطنعة ساذجة. ثم يحدث إن حالفك الحظ أن تعبر الجدار اللغوي وتجد نفسك في عالم آخر. أنت أشبه بمستكشف، تحاول أن تفكر في كل شيء بطريقة لا تعرفها في نفسك مطلقا في وطنك، حيث ثمة الكثير للغاية مما تعتبره من جملة المسلمات. وما ستبدأ في ملاحظته لو أنك فتحت عينيك وأرهفت أذنيك هو ما لا يمكنك أن تراه أو تسمعه. ستبدأ في ملاحظة ما ليس موجودا وما هو موجود أيضا، تماما مثلما ستبدأ تعي بما ليس مكتوبا وبما هو مكتوب. وهو ما ينطبق على البلد الذي تعيش فيه وعلى البلد الذي تنتمي إليه. وغالبا ما يبدأ الأمر مع الكلمات. فالإندونيسيون لديهم على سبيل المثال كلمة خاصة هي الـ جوريه gurih  لمذاق الأرز (وتعني وفق أحد القواميس "لاذع ولذيذ"). ولو أنك من إنجلترا فسوف تندهش حين تدرك أنه ما من كلمة إنجليزية واحدة مخصصة لمذاق الأرز. في المقابل، ليست في الإندونيسية كلمة تقابل sepia الإنجليزية التي تستعمل في وصف الصور الفوتغرافية القديمة. ومثل هذا يصدق على المفاهيم. فلدى الجاويين كلمة لونجان longan  وتعني الحيز الفارغ أسفل مقعد أو سرير، وليس في الإنجليزية مثل هذه الكلمة.
فترة النضال هذه مع لغة جديدة هي فترة جيدة لتدريب المرء نفسه على أن يكون مقارنا بجدية، لأنها فترة تفتقر إلى الترجمة الأوتوماتيكية للكلمات الأجنبية إلى لغتك داخل رأسك. وخلالها تبدأ تدريجيا في التعرف على ما يكفي لكي تلاحظ المزيد، وأنت لا تزال غريبا. فإذا حدث أن طالت إقامتك، تبدأ الأشياء من حولك تدخل دائرة البديهيات من جديد، مثلما كان شأنها في وطنك، وتنزع إلى أن تكون أقل فضولا وقدرة على الملاحظة منذي قبل، وتبدأ في أن تقول لنفسك: "إنني أعرف إندونسيا عن ظهر قلب". أريد من هذه النقطة أن أقول إن المقارنات الجيدة غالبا ما تأتي من تجربة الاستغراب والغياب.

عن لندن رفيو أو بوكس
نشرت الحلقة الأولى من المقال هنا، ونشرت هذه الترجمة اليوم في ملحق شرفات


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق