الأربعاء، 15 أغسطس 2018

القاهرة .. ما يشبه قصة غرامية


القاهرة .. ما يشبه قصة غرامية

بيتر هيسلر
كانت نتاشا أول من تعرضت لعضَّة القوارض من بنتينا. لعل ذلك حدث بالليل وهي نائمة، لكنها كانت أصغر من أن تشرح لنا أي شيء. كانت كلمات أرييل الأولى ـ شأن أختها التوأم المطابقة ـ إنجليزية في الأغلب، لكن البنتين كانتا تستعملان العربية المصرية في وصف أشياء معينة ـ كالألوان والحيوانات والاحتياجات الأساسية. فـ"عيش" بدلا من "bread"، و"مَيَّه" بدلا من "water". وإذا حملت إحداهما ودُرت بها حول نفسي ضحكت وصاحت "تاني" بدلا من "Again"، وتلتقط أختها الكلمة وتكرِّرها، فكل ما كان يجري على إحدى التوأمتين كان لا بد من تكراره مع الأخرى. تاني، تاني، تاني. كان عمرهما لم يتجاوز سنتين.
لاحظت الأثر وأنا أغيِّر لنتاشا ثيابها. رأيت عن يمين سُرَّتها ثقبين أحمرين قبيحين: سنَّتين قاطعتين. لعل الحيوان كان يشمشم أعلى قماطها. ربما صرخت نتاشا فلم أسمعها، ولا سمعتها زوجتي ليزلي.
كنا قد انتقلنا إلى القاهرة في أكتوبر من عام 2011، في السنة الأولى من الربيع العربي. أقمنا في الزمالك،  ذلك الحي الذي يقع في جزيرة صغيرة طويلة في نهر النيل. وحيّ الزمالك معروف تقليديا بسكنى الطبقتين الوسطى والعليا من أبناء القاهرة. استأجرنا شقة في الطابق الأرضي من عمارة قديمة لكنها ـ شأن كثير من مباني شارعنا ـ جميلة وإن تكن ذاوية. أمام الواجهة المصممة على طراز الآرت ديكو سياج حديدي على شكل عنكبوت.
وموتيفة العنكبوت تتكرر في المبنى كله. فعلى باب شقتنا شبكات عنبكوت سوداء صغيرة، وعلى الشرفات والشبابيك قضبان عنكبوتية. والوصول إلى المصعد يمرُّ بباب معدني عنكبوتي أيضا. ومن وراء ذلك الباب يصعد ويهبط عبر ظلام الهوة المفتوحة صندوق مصعد عتيق الطراز مصنوع من خشب ثقيل محفور، فكأنه تابوت بيزنطي عتيق. كانت فجوات الباب العنكبوتي كبيرة تتسع لرأس شخص، فكان يمكن أن يمد المرء يده من خلالها فيلمس المصعد في حركته. ولم يمرّ وقت طويل على سكنانا حين علقت ساق صبي من سكان الطوابق العليا في المصعد فأصيبت بكسر تحتَّم معه أن يسافر للعلاج في أوربا.
لم يكن الأمان أولوية قط في أحياء القاهرة، ولكن الأمور تراخت كثيرا في أثناء الثورة. أصبحت انقطاعات الكهرباء شائعة، وصرنا بين الحين والآخر نقضي يوما بدون مياه. وصارت كومة قمامة بجوار العمارة تجذب الفئران والجرذان. وأسفل شبابيك غرفة ابنتي رأيت أبناء عرس تسارع إلى حفرة في أساس المبنى.
في عيادة طبية فحصت طبيبة أطفال علامات بطن نتاشا وقالت "حشرة".
تشكَّكت. "هذه آثار حشرة".
قالت "يمكن برغوث".
بعثت صورة فوتغرافية إلى صديق للأسرة في عيادة أمراض جلدية في الولايات المتحدة. فأثار رده الحنين في نفسي إلى المقدرة الأمريكية على استعمال لغة مرحة في أي موقف:
هاي. تناقشنا في الحالة خلال مؤتمر اليوم ـ وأجمعنا على ... هي عضة ناب من ثعبان أو قارض ـ نأمل أن يساعدك هذا. نأمل أن تكونوا بخير. أحضان. سوسي.
ركبنا سيارة أجرة إلى ضفة النيل الغربية حيث مركز تطعيمات اسمه فاكسيرا، وثمة  باعوا لنا تطعيما ضد داء الكلب. ثم ذهبنا إلى طبيب أطفال جديد. واشتريت كذلك عشرة فخاخ لاصقة للفئران.
كنت أضع تلك الفخاخ بالليل أسفل سريري الطفلتين. وكنت أستيقظ بالليل على صراخ إحدى التوأمتين: "بابا، فأر، بابا، فأر". ومرة سمعت خشخة في مطبخهما الصغير، ففتحت لعبة الثلاجة الصغيرة ليخرج منها فأر. فكيف دخل أصلا بحق الجحيم؟ لم يبد أي من الفئران التي اصطدتها كبيرا بحيث يترك أثرا كالذي وجدناه في بطن نتاشا، لكنها ظلت تغزونا، تاني، تاني، تاني. فكنت أغرقها واحدا تلو الآخر في دلو ماء.
ثم حان دور آرييل في التعرض للعض، وظهرت العلامة على ظهرها بدلا من بطنها. وفيما عدا ذلك كانت مطابقة لعضة نتاشا: أربعة ثقوب. وأخذنا سيارة أجرة أخرى إلى فاكسيرا.
يئست من الفخاخ. زرت أنا وليزلي أجنبيا كان لديه قط وقطة زائدان عن حاجته. وكان الاختيار سهلا: إذ كان الذكر أضخم، وبادي الضراوة، ويتحرك برشاقة وسط الأثاث. على جبنيه خطوط نمرية على شكل حرف M وهي علامة السلالة المعروفة بالماو المصرية.
سمَّيناه مُرسي. كانت مصر قد أجرت للتو انتخاباتها الرئاسية الديمقراطية الأولى وفاز فيها محمد مرسي المنتمي إلى الإخوان المسلمين. لم يمض وقت طويل على مجيء القط مرسي حتى عض ذراع ليزلي بعنف فترك فيه آثار أنيابه. ومن تاني، رجعنا إلى فاكسيرا. وهكذا لم يمض إلا عام على وجودنا في القاهرة وأنا الوحيد في الأسرة الذي لم يحقن بتطعيم داء الكلب.
التقيت أنا وليزلي في بكين حيث كنا نعمل صحفيين. كنا ننتمي إلى خلفيتين متباينتين تماما، فهي ولدت في نيويورك لمهاجرين صينيين، بينما نشأت أنا في وسط ميزوري. ولكن أرقا واحدا كات يدفعنا نحن الاثنين إلى السفر للخارج، إلى أوربا أولا ثم إلى آسيا. فلما حان وقت رحيلنا معا من الصين سنة 2007 كنا قد عشنا أغلب حياتنا كراشدين خارج الولايات المتحدة.
وضعنا خطة: سننتقل إلى ريف كولورادو، على سبيل الاستراحة من حياة المدينة، وكنا نرجو أن نرزق بطفل. ثم ذهبنا لنعيش في الشرق الأوسط. راقت لنا فكرة الكتابة عن بلد آخر ذي تاريخ عميق ولغة ثرية، وأردنا أن تكون تلك أولى تجاربنا كأسرة.
كان ذلك كله تفكيرا مجردا: الطفل، والبلد. قد نذهب إلى مصر، وربما سوريا. وربما صبي، وربما فتاة. فما الفارق؟ حذَّرني محرر في نيويورك من أن مصر بعد قرابة ثلاثين سنة من حكم حسني مبارك قد تبدو راكدة بالمقارنة مع الصين. قال "لا شيء يتغير في القاهرة". ولكن ذلك راق لي. صرت أتطلع إلى دراسة العربية في بلد لا يحدث فيه شيء.
كان أول عائق طرأ على خطتنا أن الطفل تحول إلى اثنين. في مايو 2010، ولدت آرييل ونتاشا قبل الميعاد، وأردنا أن نتيح لهما اثني عشر شهرا من النمو قبل السفر. لم يكن الجدول مهما، كما أن سنة في حياة طفل حديث الولاد تكون متسارعة الإيقاع بالمقارنة مع قاهرة لا تتغير. ولكن حينما اندلعت المظاهرات في ميدان التحرير، وكان عمر ابنتينا ثمانية شهور، وكان عمرهما قد زاد بمقدار ثمانية عشر يوما بالضبط يوم الإطاحة بمبارك.
أخَّرنا خططنا وأعدنا النظر فيها، ولكننا أخيرا قرَّرنا الذهاب. تقدَّمنا بطلب للاشتراك في تأمين على الحياة، فأجرت لنا الشركة فحصا طبيا ثم رفضت طلبنا لدواعي "السفر الممتد". ذهبنا إلى محام وكتبنا وصيتينا. تركنا بيتنا المستأجر، ووضعنا أغراضنا في مخزن، وتخلصنا من سيارتنا. لم نشحن أي شيء، فما حملناه معنا على الطائرة كان كل ما نمتلكه.
في اليوم السابق على سفرنا، تزوجنا. لم نكن أنا وليزلي نبالي قبل ذلك بالرسميات، ولم تكن لدى أي منا الرغبة في تنظيم زفاف. ولكننا قرأنا في موضع ما أنه إذا اختلف اسم العائلة لأي ثنائي فإن السلطات المصرية تضع صعوبات أمام إصدار تأشيرات إقامة مشتركة لهما. تركنا الطفلتين مع جليسة وذهبنا إلى محكمة مقاطعة أوراي. ولما بدأ نائب مسؤول المقاطعة الطقوس، سألته ليزلي متى يغلق مكتب المخالفات المرورية أبوابه.
قال الموظف "في الرابعة".
نظرت ليزلي في ساعتها وقالت "هل يمكن أن تنتظر دقيقة؟"
وجرت تصعد إلى الطابق العلوي لتدفع تذكرة سريعة أخيرة. وجاء في وثيقة الزواج أن "الالتحاق برباط الزوجية المقدس: كان في الساعة الرابعة وثماني دقائق وأربع وأربعين ثانية. دسست الوثيقة وسط أمتعتنا وفي اليوم التالي ركبنا الطائرة مع ابنتينا البالغتين من العمر سبعة عشر شهرا. ولم أكن أنا أو ليزلي قد سافرنا من قبل إلى مصر.
بعد مجيء مرسي، اختفت الفئران. أكل رأسي اثنين منها تاركا جسميهما، فتوقفت البقية عن الظهور. علامات فراء قطط الماو المصرية تشبه علامات القطط المرسومة على جدارن المقابر القديمة، بل إن الاسم نفسه قديم، ففي العصور الفرعونية كانت كلمة ماو تعني القط. والقطط البلدية ذكية، وتتسم بجلد يمكن أن يمتد من الخصر إلى السقين الخلفيتين بما يساعدها على المزيد من المرونة. كما أن سرعة هذه القطط المنزلية تصل إلى ثلاثين ميلا في الساعة.
تعلمت الصغيرتان ـ مثلما تعلمت الفئران ـ أن تفسح لمرسي مجالا واسعا. فلم يكن لديه صبر على ثأثأتهما أو شدهما ذيله، فخمش كلا منهما بقوة أسالت دماءها. وكان كفئا في التعامل مع ذلك: فهجمة على آرييل، وهجمة على نتاشا. وفكرت أنا وليزلي في أن ندبّر لمرسي تقليم مخالبه لكن ذلك كان من شأنه أن يفقده ميزة أمام قوارض الحي وقططه الضالة.
كان من المستحيل إبقاؤه داخل البيت. فقد كان لديه من القوة ما يجعله يفتح الأبواب والنوافذ الشبكية، وكان يختبئ في مدخل الشقة في انتظار أن تسنح له أي فرصة فينطلق إلى الخارج. وسرعان ما كنت أسمع قطا يصرخ في غضون دقائق من هربه. كانت لدينا حديقة صغيرة يروق للقطط الضالة الاجتماع فيها، فكان مرسي يأبى التسامح معها. وكم من مرة رأيته ينهر حيوانا بائسا حتى يخرج من السياج العنكبوتي.
حذرني "سيد"، جامع قمامة الحي، من احتمال أن يستدرج شخص ما مرسي, فـ"هو قط جميل". قال سيد إنه "قط بلدي" وكثيرا ما كان الناس ينطقون هذه العبارة ـ التي تنسب القط إلى البلد ـ حينما يرون مرسي وخطوط فرائه. ومن المعتقد أن يكون المصريون أول من استأنس القطط في التاريخ، فقد كانوا يكنُّون لها محبة كبيرة لدرجة أن منعوا تصديرها منذ أكثر من سبعة وثلاثين قرنا. بل كانوا يسمون الفينيقيين بـ"لصوص القطط" إذ كان ملاحوهم يخطفون القطط إلى سفنهم.
في عمارتنا، كانت امرأة عجوز تعيش في الطابق الرابع قد عيَّنت نفسها راعية للقطط، فكانت تضع لها أطباق الطعام. وكانت تحييني دائما بابتسامة حينما أخرج لأنزه الطفلتين في عربتهما المزدوجة. والمصريون أكثر ولعا بالأطفال الصغار منهم بالقطط، ولذلك كنا نلفت الأنظار في الزمالك، لا سيما بعض الوجوه في الحي: بواب أعور، نادل مقهى مكسور الأنف، صاحب متجر كان يحب أن يكلم التوأمتين بالعربية.
حينما كبرت الفتاتان وبدأ ينتابهما الغضب إذا لم تتماثل ثيابهما، لم أكن أرغب أنا وليزلي في إلباسهما نفس الثياب، ولكننا كنا مشغولين حتى آذاننا بالتكيف مع مصر فاستسملنا بسرعة. كنا نشتري من كل شيء اثنين، فصارت الفتاتان عند جلوسهما في عربتهما المزدوجة متجاورتين، ومتماثلتي الثياب، تبدوان وكأنهما جزء من عرض.
وكان الأجانب يسألونني إن كنت رأيت "توأمي الزمالك الآخرين". وكانا أسطورة: شقيقان مصريان هرمان يسيران معا في الجزيرة، مرتديين نفس الثياب دائما: سترتين أنيقتين، وقميصين. وقد حاولت بضع مرات أن أجري معهما حوارا فلم ألق منهما إلا الإعراض والتجاهل. ولم يحدث كثيرا أن نظرا إلى الفتاتين. وكلما كان الطريق يجمعنا، توأمين كبيرين، وتوأمتين صغيرتين، توأمين على الأقدام، وتوأمتين على العجلات، كنت أتساءل كيف سيكون مصير ابنتي بعد هذه الطفولة العجيبة على ضفاف النيل.
بدا أن شيئا ما في جغرافيا الزمالك، وسكانها الأثرياء القدامى، يجتذب نزعة المصريين إلى الغرابة. فالجزيرة تقع في قلب المدينة، ولكن النهر يخلق إحساسا قويا بالانفصال. حتى في أيام المظاهرات الكبرى، كان من السهل أن ننسى أن التحرير يقع على بعد نصف ميل فقط. كنت كثيرا ما أرى سكان الزمالك يشاهدون الثورة عبر التليفزيون، وكأنما تلك الصور آتية من أرض نائية.
لم أر لدى أغلب الناس اهتماما بالاشتراك. حكى لي سيد حكايات تحذيرية عن شخصيات معينة منها البواب الأعور. في أثناء إحدى المظاهرات سار البواب إلى شارع مجاور للتحرير، وهناك قرر أن يشاهد المظاهرة من أعلى جسر. وتلك كانت غلطة، فالشرطة المصرية حينما تقرر تفريق تجمّع غالبا ما تطلق الرصاص في الهواء. أصيب البواب بواحدة من طلقات صيد الطيور ففقد عينه، وكانت تلك آخر مرة ذهب فيها إلى مظاهرة.
كان سيد كثيرا ما يقول لي إن "قطك الإخواني فاشل تماما في الرئاسة". كان البيطري المصري مسيحيا قبطيا شأن قرابة عشرة في المئة من أهل البلد وقد تظاهر بالغضب في المرة الأولى التي اصطحبت فيها مرسي إليه. قال البيطري وهو ينتزع القط "أنا أكره هذا الاسم". وقاتل القط بشراسة بينما يشذب القبطي مخالبه.
وسرعان ما بدأت الطفلتان تفرقان بين "مرسي الحلو" و"مرسي الرديء". تعلمتا ذلك من مربيتهما "عطيات"، وهي الأخرى قبطية. ولم يكن في رأي عطيات غرابة تذكر: فقبل سنوات كان مرسي قد أعلن أنه لا يجب أن يسمح لامرأة أو لقبطي أن يرأس مصر، وعاش البلد الفوضى في ظل حكمه. وبعد نصف سنة من رئاسته، في بداية 2013، تلقينا رسالة من حضانة البنتين:
نظرا لرائحة قنابل الغاز في الزمالك في هذه اللحظة، نرى أنه أدعى لأمان الأطفال عدم الحضور اليوم إلى الحضانة... نعتذر بشدة عن إخطاركم في هذا الوقت المتأخر، لكن الأمر خارج عن إرادتنا.
بدأت أخفي كميات كبيرة من النقود في البيت. وكانت لديّ خطط للرحيل الطارئ في حال اندلاع العنف: ما الذي يجب أن نحمله معنا، وكيف نصل إلى المطار. كانت المظاهرات في ذلك الوقت قد أصبحت مستمرة طول الوقت تقريبا، والكهرباء كانت تنقطع مرَّات عديدة في اليوم. وأعلنت الحكومة عن سياسة تخفيض الإضاءة في المطار، ولم يعد بالبلد سيّاح تقريبا. وصرت كلما رجعت من رحلة أجد نفسي بمجرد وصول الطائرة في غبش حقبة مرسي: فالممرات معتمة، والمصاعد مشلولة. والأمر خارج تماما عن إرادتنا.
ذات صباح ذهبت لتجديد تأشيرتنا في المجمع، وهو مبنى حكومي مجاور للتحرير. اخترت يوما لم تكن فيه مظاهرات على الإطلاق، ولكن المنطقة كانت لم تزل عبقة بالغاز المسيل للدموع، بدا وكأن حجارة الأرصفة تشبعت بالغاز حتى بدأ يتفصّد منها عرقا في حرارة الشمس. سلّمت طلباتنا لموظف.
قال "أين قسيمة زواجك؟"
أكان ذلك هو المهم في ذلك الوقت؟ لكن الأكثر عبثية هو ما شعرت به أنا من سرور: كنت في غاية السعادة أننا تزوجنا. رجعت إلى الزمالك وأحضرت وثيقة مقاطعة أوراي. بدا الموظف مسرورا بقدر سروري، وصدرت التأشيرات بلا تباطؤ.
حينما حدث الانقلاب أخيرا في يوليو 2013، لم تعد لخططي أهمية. أصدر الفريق عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع بيانا أمهل فيه مرسي ثمانية وأربعين ساعة للاستجابة لطلبات المتظاهرين. وكان مرسي معروفا بعناده، فبدا مستحيلا أن يتفاوض.
في اليوم الذي كان الجميع يعلمون أنه آخر يوم لمرسي في الرئاسة، وصلت عطيات وقد طلت أظافرها بألوان علم مصر. تناولت من الأقلام  الأحمر والأسود والأصفر وعلَّمت التوأمتين كيف تصنعان أعلاما صغيرة. هل يليق أن تحتفل ابنتاي البالغتان من العمر ثلاث سنين بانقلاب وشيك؟ ولكنني كنت مشتت الذهن فلم أفكر في ذلك، فعما قريب كان عليَّ أن أترك البيت من أجل تغطية الأحداث.
استعرضت أنا وليزلي بعض السيناريوهات: ماذا لو استحال الرجوع إلى البيت الليلة، أو إذا توقفت شبكات المحمول عن العمل؟ ماذا لو اندلع العنف؟ قرَّرنا أنه في حال إطلاق النار فإن أكثر أماكن البيت أمنا هي الطرقة الداخلية. وكانت الخطة هي أن نغلق الأبواب، ونبقى على مقربة من الأرض.
كان ثمة خطة دائما. ودائما كان يتبيّن أن الخطط القديمة لم تعد صالحة، ولكن كان من السهل وضع خطط جديدة، وكنت وليزلي كثيرا ما نجري حوار الخطط هذا. حدث مرة أن ألغت الحضانة اليوم الدراسي بسبب العثور على قنبلة مزيفة في آخر الشارع. ومرة أخرى اختطفت جماعة تابعة لداعش شخصا أجنبيا في ضاحية بالقاهرة وأعدمته.
قبل السفر إلى مصر، كنت قد تخيلت أننا سوف نضع بروتوكولات واضحة: في حال حدوث س سوف يكون رد فعلنا هو ص. وبتلك الطريقة كانت تعمل السفارات، ففي صيف الانقلاب، رحَّلت السفارة الأمريكية في القاهرة جميع الموظفين غير الضروريين. ولكن بما أننا كنا نعيش في القاهرة غير مرتبطين بأي مؤسسة فقد أدركت أن الأنسب لنا هو أن نستجيب للأحداث على طريقة القاهريين، بمرونة وعقلانية. كان الناس يتكلمون عن الأحداث بهدوء، ويبقون على مسافة منها ـ الأمر خارج تماما عن إرادتنا. كانوا يلقون النكات. ويركزون على الأشياء الصغيرة التي يملكون السيطرة عليها. وحتى الوافد الجديد كان بوسعه أن يعيش حياة طبيعية في أي وضع تقريبا. فما هي إلا قنبلة زائفة، لا قنبلة حقيقية. وما كان الأجنبي المخطوف إلا عاملا في قطاع النفط، وليس صحفيا. والأمر لم يحدث إلا مرة واحدة فقط. وإذا حدث مرة أخرى، يحق لنا أن نقلق.
وكان للناس من مصاعب الحياة اليومية ما يلهيهم. كانت الأوضاع تتردى طول الوقت، وفي العادة لم يكن لتردِّيها علاقة بالسياسة. المعلم الذي كان يدرِّس لنا اللغة العربية مات فجأة بسبب سوء الرعاية الصحية. صاحب المتجر الذي كان يثرثر مع البنتين مات بعد تعرضه لإطلاق رصاص بجوار بيته، وقيل إن ذلك إثر محاولته التوسط في نزاع. وذات يوم غير بعيد من الانقلاب، أخرجت راعية القطط العجوز ساكنة الطابق الرابع الطعام. ونادت على قط أسفل السلم فلم يأت القط. دفعت رأسها من إحدى فتحات شبكة المصعد العنكبوتية لترى أين هو، وكان التابوت البيزنطي ساكنا فوقها لا يتحرك.
في تلك اللحظة استدعى شخص المصعد من الطابق الأرضي. بعد ذلك استجوبت الشرطة البواب، وإما أنه ترك الوظيفة أو طرد منها. في حدود تقديري، لم يكن أخطأ في شيء، لكنه كان كبش فداء سهل المنال. وضعت مالكة البيت شاشات وراء الأبواب العنكبوتية. وفي الطابق الرابع كانت أسرة العجوز تدير القرآن لشهور تهدأةً للروح. وطلبت أنا وليزلي من عطيات وغيرها من الجليسات ألا يسمحن مطلقا للبنتين باللعب في الطرقة وحدهما. وهكذا في ذلك الوقت الذي شهد أشد العناوين عنفا، كان من الأشياء التي تروعني حقا مصعد على باب شقتي.
ذات شتاء، رحل مرسي ولم يرجع. في الصباح التالي لاختفائه، كانت خمس قطط ضالة قبيحة المناظر مسترخية في شمس شرفتنا. خطر لي أن يكون مرسي قد هزم أخيرا في إحدى معاركه، وظللت أرمي ماء على القطط حتى ذهبت. ولم يرجع. وتذكرت تحذير سيد من احتمال أن يستدرجه أحد.
حزنت البنتان. كانتا في ذلك الوقت قد كبرتا بحيث صار مرسي يتسامح مع حضورهما، بل وكان يبدي لهما بين الحين والآخر بعض المحبة. صرت في المساء أمشي في الشوارع أقول "مرسي، مرسي، مرسي" فينظر الناس إليّ مندهشين. كنت أتحول إلى كائن غريب من كائنات الزمالك، ذلك الأجنبي الذي يجوب الجزيرة بالليل مناديا على رئيس مخلوع.
في ذلك الوقت أدركت أنا وليزلي أننا يجب أن نتوقف عن الكلام في السياسة في حضور البنتين. ففي إحدى رحلاتنا لزيارة عائلة في الولايات المتحدة سأل أحد الأقارب آرييل عن حيوانها الأليف. قالت آرييل "هناك مرسي آخر إنسان، وليس قطا، وكان الرئيس".
سألها القريب وأين مرسي الآن؟
"في السجن".
"لماذا؟"
قالت آرييل مقرة الوقائع "بعث ناسا ليقتلوا ناسا آخرين. هناك رئيس آخر الآن. لا أعرف أهو طيب أم شرير. لكن اسمه سيسي".
مرسي، سيسي: تكونت لدي نظرية مفادها أنه نذير سوء أن تكون للرؤساء المصريين أسماء كأسماء الحيوانات الأليفة. بعد انتهاء عصر بناة الأهرام العظماء في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، كانت للفراعنة التالين أسماء تبدو لنا "طفولية"، مثلما لاحظ عالم المصريات توبي ولكنسن. في فترة انحدار السلطة تلك، كان لكثير من الملوك اسماء تليق بأسماء القطط: بيبي، تيتي، نيبي، إزي، إيني، إيتي. إيبي أقام هرما مقطقطا لا يزيد ارتفاعه عن ستين قدما ولم يتسن له حتى أن يكسوه بالحجارة الخارجية. بيبي الثاني تسبب في انهيار البلد. ولما جاءت حملة إلى الجنوب بخبر اكتشافها قزما أفريقيا كان جواب ذلك الفرعون الفاشل جواب من رأى شيئا لامعا: "عظمتي يرغب في رؤية هذا القزم أكثر مما يرغب في ضريبة سيناء أو بونت".
رأيي أن المؤرخين يوما ما سوف ينظرون إلى عصرنا الراهن هذا بوصفه مثالا آخر على السياسات القططية الفاشلة، الفجة، الخرافية. كان يا ما كان، أن وصل مرسي إلى السلطة، ثم جاء سيسي وطرده طردة قط ضال من حديقة. ثم ذبح أكثر من ألف متظاهر في عنف قاس. ثم وضع مرسي في قفص في محكمة حيث حوكم بتهمتي القتل والخيانة. فهل بوسع أحد أن يلوم طفلة على الخلط بين هذه الشخصيات السياسية والحيوانات؟
في اليوم الخامس بعد اختفاء مرسي، سمعته يموء مواء واهنا. رفعت رأسي من حديقتنا وأدركت أنه محصور في شرفة علوية. كان قد قفز إلى هناك من فرع شجرة.
صعدت ليزلي إلى الشقة. رفضت المرأة المقيمة فيها أن تفتح الباب، ووقفت في صمت وراءه بينما تعرِّفها ليزلي بنفسها. وأخيرا تكلمت المرأة. هددت بإبلاغ الشرطة.
قال لي البواب "هي لا تحب أن ترى أحدا". وقال إن المرأة في الغالب كانت خائفة من القط. وأتى بحركة من إيماءات المصريين إذ ضرب على رأسه وهو يقلب عينيه هامسا: مجنونة.
صاحبة البيت أيضا لم تكن مهتمة بالحديث إلى المعتزلة. قالت "لنتكلم عن هذا غدا. وعلى مدار ساعة ظللنا في مفاوضات محتدمة مع مالكة البيت  وابنتها واثنين من البوابين وأخيرا تجمَّعنا نحن الستة أمام باب المعتزلة، وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة. فتحت المرأة الباب، بل واربته.
أشارت إليّ وقالت "أنت يمكن أن تدخل". ثم أشارت إلى ليزلي قائلة بعنف "لكن أنت لا".
كانت الشقة أشد نظافة مما توقعت، والمرأة لطيفة الشكل ترتدي فستانا أنيقا ذكرني بالآنسة هافيشام [في رواية "توقعات عظيمة" لتشارلز ديكنز]. فتحت باب الشرفة فاندفع مرسي عبر الشقة إلى أن وثب بين ذراعي ليزلي. شكرت المرأة فتجاهلتني. كانت لا تزال تنظر بتنمّر إلى ليزلي. وبقوة صفقت الباب ورائي.
سألت ليزلي "هل عندك أي فكرة عن سبب هذا كله؟"
قالت ليزلي "على الإطلاق".
في البيت نام مرسي تقريبا ثلاثة أيام. في بعض الأحيان كان يذهب إلى الحوض ويمص الصنبور. استأجرت المرأة المعتزلة عمالا لتشذيب الشجر وإزالة أي غصن قريب بأي حال من شرفتها. ومن فرط براعتهم في عملهم، تركوا بقايا الأغصان ملقاة في حديقتنا.
اشترينا سيارة هوندا صالون جديدة. ورتبنا موعدا في شرق القاهرة مع وكيل شركة آليانز للتأمين، لكنه اتصل في اللحظة الأخيرة قائلا إنه لن يستطيع الحضور لأن سيارته تدمَّرت في حادث. وظهرت وكيلة جديدة. في أثناء عملها على طلبنا، ذكرت أنها شخصيا لم تعد مؤهلة لتأمين آليانز على المركبات لوقوع حوادث كثيرة لها في كل سنة من ثلاث سنوات متعاقبة. سلَّمتنا كتيبا صقيل الورق جاء فيه أنه "يتبين من بياناتنا أن ستا من كل عشر سيارات تباع في مصر إما أنها سوف تتعرض للتحطم أو التلف أو السرقة". دفعت تأمين السيارة. كانت استراتيجيتهم في المبيعات أفضل بكثير من مثيلتها في التأمين على الحياة في كولورادو.
قمنا برحلات برية إلى البحر الأحمر، وإلى البحر المتوسط، وإلى صعيد مصر. في زيارتنا الأولى للمواقع الأثرية في صعيد مصر، أصبحت البنتان بنتين أخريين. صارتا مهووستين بأخناتون ونفرتيني، وهما الملك والملكة اللذان حكما مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. كان لارتباطهما بهما علاقة بالاسمين ـ بالألف والنون [في بدايتيهما وفي بداية اسمي الفتاتين نفسيهما]ـ ولكن له صلة أيضا بظهورهما معا في الرسوم. حكم أخناتون ونفرتيتي في وضعية مساواة استثنائية، وظهرا معا في كثير من الرسوم.
ومثل هذه الثنائيات متواترة في الفن واللاهوت والسياسة في مصر، فهناك إيزيس وأوزيريس، وحورس وست، والملك والملكة، والذكر والأنثى، والصعيد والدلتا، والحياة والموت. وأنطونيو وكليوباترا (ونسلهما التوأم). قال لي راي جونسن عالم المصريات ومدير مركز أبحاث جامعة شيكاغو في الأقصر إنه يعتقد أن مصدر الإلهام الأصلي لذلك يكمن في الأفق المنقسم: وادي النيل الخصيب والصحراء القاحلة. ومهما يكن المصدر، فإنه يمس شيئا عميقا في الخيال البشري، وبعد زيارة التوأم الأولى للمواقع الأثرية صارتا فجأة تصران على ارتداء زيين مختلفين. فصارت آريل ـ شأن أخناتون ـ ترتدي البنطال، ونتاشا ترتدي الفستان. ولم يعد يقلقنا مرة أخرى أمر الأزياء المتماثلة، فقد نجحت الأسرة الثامنة عشرة في إقناع البنتين بما لم نستطع نحن إقناعهما به مطلقا.
كانت الرحلات البرية الطويلة باعثة للاسترخاء شأن أي شيء فعلته في مصر. فخارج القاهرة تختفي السياسة، وأغلب الأماكن لم تشهد عنفا يذكر إن كانت شهدت أي عنف خلال الربيع العربي. باتت المواقع السياحية مقفرة تقريبا. في إحدى السنوات ذهبنا بالسيارة إلى أبو سمبل قرب حدود السودان، وفي الجزء الأخير من الرحلة طلبت منا الشرطة أن ننضم إلى موكب مسلح. ولكن العربات المرافقة أسرعت بعد عشر دقائق متجاوزة مئة وعشرين ميلا متر في الساعة. فلعل الضباط ضجروا، إذ لم يكن في المناطق النائية أي خطر.
سقنا لنحو ثلاث ساعات في عزلة صحراوية. كنت أرى جهة الشرق بحيرات ناصعة من الأزرق افترضت أنها تسريبات من بحيرة ناصر. ثم أدركت لاحقا أنها سراب، ولم أر في حياتي سرابا يبدو على هذا القدر من الواقعية. كان ينتأ من بعضها صخور في الوسط، كأنها جزر في بحيرة.
عندما وصلنا أبو سمبل، كنا زواره الوحيدين. جرت البنتان إلى التماثيل الهائلة لرمسيس الثاني ولعبتا في قاعات المعبد المعتمة. كانتا في الخامسة آنذاك، والتقطت لهما صورا في مواقع أثرية في شتى أرجاء البلد. ففي كل صورة لهما تقريبا تبدوان وحيدتين. وكنت أعلم أن هذه الصور سوف تبدو يوما ما هي الأخرى أشبه بالسراب، توأم في أبيدوس، توأم في إسنا، توأم في وادي الملوك. نقطتان صغيرتان من الوردي في واد عظيم شاخصتان إلى تمثالي ممنون.
في سياق رؤية العالم المصرية التوأمية العتيقة، كان ثمة كلمتان تعنيان الزمن: نيهيه neheh  ودجيت djet. قال لي باحثون إن البشر المعاصرين قد لا يستوعبون هذين المفهومين استيعابا تاما. فنحن نألف الزمن الخطّي، حيث يفضي كل حدث إلى آخر: ثورة فانقلاب. وتراكم هذه الأحداث، وأفعال البشر ذوو الشأن، هو الذي يصنع التاريخ.
ولكن المصريين القدماء لم يكتبوا التاريخ قط مثلما نعرفه. كانت الأحداث ـ خيربيروت kheperut ـ موضع ارتياب لأنها عائق للنظام الطبيعي. وبدلا من ذلك كان المصريون يعيشون في النيهيه neheh، أي زمن الدورات. والنيهيه يرتبط بالشمس، وبالفصول، وفيضان النيل السنوي. بما يتكرر، ويتناوب، ويتجدد. ودجيت Djet  في المقابل هو الزمن بلا حركة. فحينما يموت فرعون ينتقل إلى دجيت، وهذا زمن الآلهة والمعابد والأهرام. والتحنيط استجابة البشر للدجيت، وكذلك الفن. فقد ينتهي شيء في الدجيت، ولا يصبح ماضيا، إنما هو حاضر إلى الأبد.
تبدو السنوات التي قضيتها في مصر أطول سني عمري. ففي المدينة بالخارج، توالت الحكومات وذهبت، وفي داخل الشقة، صارت ابنتاي غير الصغيرتين اللتين جئنا بهما إلى القاهرة. وفيما كانتا تكبران، أدركت أن الأطفال لا بد يعيشون أقرب ما يمكن من زمن القدماء. فالأشياء تتكرر على غرار النيهيه: الألعاب والكلمات وعادات ما قبل النوم. تاني، تاني، تاني. وهناك الدجيت، الحاضر الأبدي. لم يكن لدي ابنتي مفهوم عن حياتنا في ما قبل مصر، وليس لديهما إدراك لكونها يوما ما سوف تنتهي. لم يسألا قط إن كنا ننتمي إلى المكان. كثيرا ما أشعر بضغط الرغبة في حمايتهما، ولكن إحساسهما الدائم بأن الأمور طبيعية كان مطمئنا. ففي دفتر يوميات نتاشا كانت انقطاعات الكهرباء بكل بساطة جزءا من النيهيه:
·       15 ديسمبر 2015 ـ كنت أقرأ كتابا قبل النوم وانقطعت الكهرباء.
·       20 ديسمبر 2015 ـ ذهبت إلى الأهرام ودخلنا الهرم. كان معتما.
·       27 ديسمبر 2015 ـ انتهيت من الإفطار حينما انقطع النور.
كانت البنتان غالبا ما تقولان للناس إنهما مصريتان. كانت لهما لغة جسد كلغة القاهريين، فللتأكيد على الرفض تقولان "لأه" بهزة رأس سريعة وتلويحة باليد. وشأن كل المصريين بلا استثناء تقريبا، كانتا تخافان البرد والمطر والصمت. كانتا تتكلمان بلا انقطاع، ويستحيل أن يكون الجو أكثر حرارة مما ينبغي بالنسبة لهما. زارنا مرة صديق من ألمانيا وبدا له من الرائع أن تقول الفتاتان الأمريكيتان الصينيتان دائما "نحن نحب القاهرة". لكن مصر بالنسبة لهما هي ببساطة أم الدنيا.
في سنتنا الأخيرة، زرنا القدس، وهناك تجولنا في الأقسام الواقعة تحت الأرض عند حائط المبكى. في موقع بعض صهاريج المياه العتيقة، سأل المرشد البنتين "من أين يأتي الماء؟"
قالت نتاشا "من النيل". حاول المرشد أن يوجههما إلى الجواب الصحيح، فبقيت الفتاتان تحملقان فيه دونما تعبير. أما كلمة "سحابة" فلا ترد في مجمل الأدبيات المصرية القديمة ـ والعهدة على توبي ويلكنسن ـ إلا مرتين اثنتين.
تركنا القاهرة في صيف 2016. كنا قد عشنا فيها نصف عقد، والآن في سنة الانتخابات، يبدو قرار الرجوع إلى الولايات المتحدة قرارا صائبا. بعد مرسي والسيسي، صرت أتوق إلى العيش في بلد يتصرف فيه الرئيس تصرفات مسؤولة.
في الشهر الأخير، كانت البنتان تبكيان كل يوم تقريبا. تبكيان إذ تودعان عطيات، ومَدرستهما، وغرفة نومهما. كانتا قلقتين على ترك القط في مصر. كان قرار الرحيل عن مصر بالنسبة لهما هو أسوأ ما فعلته فيهما أنا وليزلي.
في ريدجواي بكولورادو، استأجرنا مقطورتي سكن في مرتفع جبلي محاط بغابة أرز. وفي المساء عندما يبرد الجو تتدافع الفئران البرية إلى المقطورتين. فبدأت أشتري الفخاخ اللاصقة.
في ذلك الخريف كلَّفت المدرسة طلبة الصف الثاني في مدرسة ريدجواي الابتدائية بكتابة موضوع يتخيل الطالب فيه لنفسه اسما جديدا. آرييل كتبت "أتمني اسم أخانانن Ackananen  لأنه اسم فراعنة قديم ويذكرني بمصر". وفي لقاء للآباء، سألني أب ريفي اللكنة من أين جئنا. قال لي "كما تعلم، ابني قال لي إن في فصله بنتين من مصر. وطبعا فهمت أنه يكذب".
قامت الحكومة المصرية بتسليم مرسي في تمام الثانية وعشرين دقيقة من صباح الثالث عشر من نوفمبر 2016 لرحلة لوفتهانزا الجوية رقم 581. وقبيل نقله، تم حقنه بثلاثة ميليجرامات من عقار ديازيبام ووضع في حامل قطط. قدَّر البيطري أنه سوف يبقى غائبا عن الوعي لعشر ساعات. وفي وصف المنتح الذي حمله حامل القطط وردت كلمتا "بناء متين".
بعد رحيلنا عن مصر، هبطت طائرتنا في المملكة المتحدة التي تفرض قواعد صارمة على نقل الحيوانات عبر أراضيها. كان لزاما علينا أن نترك مرسي في عهدة صديق في القاهرة إلى أن ترجع ليزلي لإجراء بعض الأبحاث. وكان الصديق يوافينا دوريا بالأخبار. فكان أولها "اكتشفت أيضا أنه فنان في الهروب، فاضطررت إلى إجراء بعض التعديلات على شقتي". ثم "بوسعه أن يفتح شبابيكي وأبواب شرفتي حتى بعد إضافة ضلفة سلكية ذات مزاليج منزلقة". وأخيرا "تتوافر له بين الحين والآخر رفقة من قطط مطعمة، لكن يجدر بي أن أحذركم من أنه لا يبدو مستمتعا بذلك. مرسي عدواني بعض الشيء تجاه القطط الأخرى".
بعد إعطائه المسكِّن، ركبت ليزلي سيارة أجرة. أفاق مرسي قبل وصولهما إلى مطار القاهرة. لم تحدث مشكلة في تجاوز الأمن، لكنه بدأ يحدث جلبة.
أقلعت الطائرة في موعدها، وقد وضعت ليزلي حامل القطط أسفل مقعدها وراحت في النوم. وعند قرابة الثالثة صباحا، استيقظت بغتة على صوت صراخ الناس "أمسك هذا القط! ليمسك أحد ذلك القط". لم يتضح كم من الناس استيقظوا، ولكن الواعين في ذلك الوقت رأوا امرأة صينية تطارد قطا مصريا وتصيح عليه باسم عضو من الإخوان المسلمين كان في السجن  منذ ثلاث سنين.
أمسكته قرب الحمامات. غضبت مضيفة ألمانية بالطريقة التي لا يغضب بها إلى المضيفات الألمانيات وقالت "ماذا لو أن أحدا لديه حساسية من القطط؟" وظللت تكرِّر ذلك. ولكن قلق ليزلي الأكبر كان منصبا على حامل القطط. حامل القطط الذي كان مرسي قد أجهز عليه تماما.
جلست بالقط المتململ في حجرها. بعد هذه الرحلة، كان المقرر أن تبقى في المطار لمدة سبع ساعات وثلاثين دقيقة، تليها رحلة أخرى مدتها عشر ساعات وعشرون دقيقة، ثم مطار آخر لمدة ست ساعات وثلاثين دقيقة، فرحلة لمدة ساعة وخمس دقائق، ثم ركوب شاحنة.
كان الراكب في المقعد المجاور يحب القطط. أمسك مرسي لبعض الوقت. وفيما بعد بعث رسالة إلكترونية يطلب فيها صور مرسي ليريها لأطفاله.
في مطار فرانكفورت، سارت ليزلي وهي تحمل القط إلى أن عثرت على محل يبيع حوامل قطط صلبة. وفي بقية الرحلة لزم شراء حامل لين، فلزمت بالإجمال لنقل مرسي من القاهرة إلى ريدجواي ثلاثة حوامل.
في أول يوم لمرسي كقط مقطورة في كولورادو، تكوَّر بجوار البنتين على الأريكة. وسرعان ما بدأت الفئران عديمة العقل في الظهور. وعندما بدأ الجليد ينهمر للمرة الأولى، فتحت الباب وطلبت من مرسي أن يجري بأسرع ما يشاء في الغابة. خرج حذرا إلى الندف، فشمشمها قليلا، ثم رجع إلى الأريكة.

·       نشرت هذه المقالة في ذي نيويوركر بتاريخ 7 مايو 2018 بعنوان "مرسي القط Morsi the Cat".
·       بيتر هيسلر كاتب في نيويوركر يقيم في ريجواي بكولورادو. يصدر له في الربيع القادم كتابه "الدفينة: أركيولوجيا الثورة المصرية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق