الثلاثاء، 19 فبراير 2019

وهكذا تكف عن كونك إنسانا


وهكذا تكف عن كونك إنسانا
فيرا بافلوفا




كتابتي: بيضة مسلوقة. حياتي: بيضة مقلية.
اجترار الأفكار: بحلول المساء يؤلمني فكاي.
قابلني شاعر كبير ذات يوم قائلا "يا أجمل امرأة في العالم". لم يكن يتذكر اسمي.
ثمة لحظات أشعر فيها بالكون وهو يتمدَّد.
ماندلشتام: "الشعر هو اليقين بأنك على صواب". برودسكي: الشعر مدرسة اللايقين". أنا لست على يقين من هذا الجزم أو ذاك.
أوسيب ماندلشتام Osip Mandelstam (1891 -1938) شاعر روسي
جوزيف برودسكي Joseph  Brodsky (1940 – 1996) شاعر روسي أمريكي

ـ ماما، ما حاصل ضرب 95 و60؟
ـ ليزا، أنا مشغولة بالعمل على قصيدة، لولا ذلك لأمكنني ربما أن أعطيك إجابة.
ـ وعندئذ، ماذا لتكون؟
يجب أن يكتب الشعر مثلما يمارس الزنا: على الماشي، وفي السر، وفي الوقت الذي لا اعتبار له. ثم ترجع إلى البيت، وكأن شيئا لم يكن.
الزمن كالسلَّم الموسيقي: فيه ثوان كبيرة وثوان صغيرة.
تخيّر في النهر قطعة خشب طافية وتتبعها في سريانها مع التيار، جاعلا عينك لا تحيد عنها، أو تسبقها. وهكذا بالضبط يجب أن يقرأ الشعر: بإيقاع البيت.
دخلت أنام وفي فمي قصيدة غير مكتملة، عاجزة تماما عن التقبيل.
الإلهام: أن أثق في نفسي.
لن أتجمَّل بالمساحيق ما حييت، ثم يجمِّلونني هم بها في البهو الجنائزي.
ـ إلا لو أوصيت بوضوح بغير ذلك.
ـ ولم أفعل؟ فليفعلوا، فأبدو مرَّةً في حياتي جميلة.
أن تكتب على الرغم من كلِّ شيء، حتى حين لا يوجد بصفة عامة أي شيء.
عن يوري جاجارين، أول إنسان في الفضاء: اسم عائلته مشتق من جاجارا الروسي، وهو طائر لا يطير.
لكي أساعد قصيدة أن تفقس، خرجت لشراء البقالة، ودفعت للبائع، وأخذت الباقي، ورجعت إلى البيت بقصيدة مكتملة وبلا بقالة.
كيف أشعر تجاه الذين لا يفهمون قصائدي؟ أفهمهم.
ـ ماما، في الامتحان هل أعزف "مسيرة جنود الخشب" بالإلهام أم بلا أخطاء؟
مرارا، مرارا وتكرارا، أصل إلى الخلاصة، وهي أن أبي هو الرقيب والناقد الوحيد الحقيقي لقصائدي: سكران طينة، في مطبخ بيتنا الريفي، يضيِّق عينيه  إثر كلِّ قصيدة ألقيها عليه، ويقول "هراء. التالية".
جدتي ذات التسعين عاما تسمع بصعوبة، استغرقت وقتا إلى أن استوعبت الخبر، ثم قالت: "لو أنهم منحوا الجائزة لابنتنا فيرا، فلا بد أن الشعر حقير للغاية في هذه الأيام".
الشهرة هي ألا تعرف تقريبا أي شيء عمَّن يعرفك أو عمَّا عساه يعرفه عنك.
فجأة تدرك أن ما وضعته في قصائدك وحده هو الذي يمكن أن تعتبر أنك عشته. هكذا أصبحتَ شاعرا. وعند تلك المرحلة، واعيا أو غير واعٍ، صرتَ تعيش الحياة المتخمة بالشعر. وهكذا تكف عن كونك إنسانا. أمَّا عيشك الحياة المتخمة بالشعر، فيحدث فجأة، وأما توقفك عن كونك إنسانا فيحدث تدريجيا، والاثنان لا رجوع عنهما.
من مذكرات طبيب أخماتوفا الأخير : ماتت في اللحظة التي سجِّل فيها رسم القلب. ظهر موتها في شكل خط مستقيم. ورقة مسطَّرة جاهزة. هي اذهبي واكتبي.
*آنا أخماتوفا Anna Akhmatova  (1889-1966) شاعرة روسية
"مبايض الطفلة الوليدة تحتوي أربعمئة ألف خلية بويضة". كل قصائدي بداخلي منذ البداية.
يبدأ الشعر حين لا يشرع القارئ وحده، بل والشاعر نفسه، في التساؤل أهو شعر.
سهل ألا تحسد الآخرين. الصعب ألا تشعر بالسعادة وهم يحسدونك.
في واجبها المدرسي ("صفي غرفتك" على نسق مقاطع يوجين أونجين") كتبت ليزا: بعض الدمى والكتب على السرير ...
ـ هذا غير صحيح تماما، لأن الكتب على الأرفف. لكنني جعلتها على السرير ضمانا لأن تكون الأبيات أصدق تعبيرا عن الحياة.
* Eugene Onegin  رواية شعرة للشاعر الروسي ألكسندر بوشكن (1799 – 1837)
في حبي لبوشكن شيء من حب الأزواج.
أي قصيدة من قصائدي تتسع لها راحة اليد، والكثير منها تتسع له راحة يد طفل.
لا يزال في صدري متسع كبير للسعادة. وأينما أنظر أرى مقتطفات من كتب لي لم أؤلفها بعد.
ما بعد الحداثة: البذاءة تتخفى في السخرية.
الكلمة في القصيدة لا تساوي معناها المعرّف في المعجم، فالمعنى إمَّا أن يكون مختلفا في القصيدة تمام الاختلاف، أو يكون المعنى نفسه ولكنَّه أدقّ ألف مرَّة.
المسوَّدات في دفتري مكتوبة نبشا لا سبيل إلى قراءته، بنسخها تظهر في خطٍّ بديع لا تشوبه شائبة. خطُّي إذن أجمل كثيرا من خطك يا ربة شعري.
أكتب لكي أوازن بين ضغط الخارج وضغط الداخل، لأحول دون انسحاقي (بفعل الشقاء) أو انفجاري (بفعل السعادة).
تولستوي:  "ينبغي أن يعيش الإنسان وكأن طفلا يحبه يموت في الغرفة المجاورة". عن نفسي، أعيش وكأن ذلك الطفل كان يموت في رحمي.
ـ هل تفهمين أن الفهم محال؟
ـ أفهم.
الشعر في القصيدة ضيف. قد يمكث الضيف في بعض الأحيان فيطيل المكوث، لكن ليس إلى الأبد.
أسأل نفسي: تراني سبقت التقويم؟ عددت القصائد التي كتبتها هذه السنة فكانت 366.
بإهدائي الكتب، أغرس علامات أرضي.
أسبقية الشعر: أصول النثر الأوربي ترجع حتى "حيوات الشعراء التروبادور".
* The Lives of the Troubadours
"أنت أول المستمعين وآخرهم/للمجنونة المقبضة". كذلك كتبت أخماتوفا لحبيبها جارشين في "قصيدة بلا بطل". وبعد أن انفصلا، غيَّرت ذلك البيت، ليصبح "أنت، لا أول المستمعين ولا آخرهم، للمجنونة المشرقة". (من كتاب "يوميات أخماتوفا" لليديا تشكوفسكايا).
الفهم جنون يشترك فيه اثنان" (ف. بودوروجا)
*فاليري بودروجاValery Podoroga ، فيلسوف روسي
أضع الكلمات في القصيدة مثلما أحزم حقيبة لرحلة إلى الخارج، فلا أختار إلا ما لا غنى عنه، والأصلح للعرض، والأخف في الوزن، والأشد تركيزا.
مستلقية في حوض ماء ساخن، أفكر في بيت أنهي به قصيدة، وأجده، فتسري في ظهري قشعريرة باردة.
الجنون إلهام يتراخى في حياد.
. •
أعيش حياتي ماشية على قضبان أمدُّها بنفسي. من أين آتي بالقضبان؟ من تفكيك ما سبق ومشيت عليه.
يومياتي رسائل من ذات سابقة إلى ذات قادمة. قصائدي ردود على تلك الرسائل.
النثر: مباراة كرة قدم من البداية إلى النهاية.
الشعر: لحظات الأهداف في المباراة نفسها، لحظات ما قبل الأهداف.
القارئ: تريدين إذن أن أشعر وكأنني أقرأ رسالة موجَّهة إلى شخص آخر؟
الشاعرة: أريدك أن تشعر أنني أنا التي قرأت رسالة موجَّهة إليك من شخص آخر ونقلت منها بلا أدنى حياء.
الإلهام جماع مع اللغة. بوسعي أن أعرف دائما حينما ترغبني اللغة. لا يحدث أبدا أن أقول لا للغة. بالنسبة لي، الأمر رائع دائما مع اللغة. وبالنسبة للغة، أخشى أن الأمر بالنسبة لها ليس دائما في مثل روعته بالنسبة لي.
"اتهام شاعر إيروتيكي بالفسق أمر ظالم ظلم اتهام شاعر تراجيدي بالقسوة. (إيفجني باراتينسكي Evgeny Baratynsky في تمهيد لقصيدته "العشيقة").
سترافينسكي Stravinsky: "أحب كتابة الموسيقى أكثر مما أحب الموسيقى".
قصائد المدَّعين: غناء السكارى.
فيما أتعلم الإنجليزية، أضبط نفسي وأنا أقول لا ما أريد قوله بل ما أستطيع قوله. حينئذ أدرك أن مثل هذا إلى حد كبير يحدث حينما أتكلم بلغتي الروسية. في قصائدي فقط، وفي بعض الأحيان، يمكنني أن أقول ما أريد. وفي حالات كهذه، أشعر أنني لا أتكلم الروسية بل لغة أخرى هي لغتي بحق.
مثلما توقَّعت بالضبط، تبين أن كل شيء مغاير لما كنت أتوقع أن يكون.
ـ عجبا، ما كل هذه الأشياء التي تعلقينها في حمامك؟
ـ هذه جوائزي.
ـ وكيف تكسبين لقمة عيشك؟
ـ أنا شاعرة.
ثم مضى كل منا إلى الانهماك في ما بين يديه، السباك يصلح خزانة الحمام، وأنا أواصل نسخ قصائد من مسوداتي.
في حلم يقول لي بوشكن: "المصادر الثلاثة لكتابتي هي الجرامافون، والضفدعة، والعندليب".
جرس البقرة نقيض نظام الإنذار: حينما تسمعه، يكون كل شيء على ما يرام، وحينما لا تسمعه، فثمة خطب ما. شعري جرس بقرة، لا نظام إنذار.
عن علاقتي بقارئي: ثمة ضوضاء في قاعة مقبَّبة بمحطة منهاتن المركزية الكبرى. أنا وقارئي واقفان في ركنين متقابلين من القاعة، مواجهين للجدران، وأنا أهمس بقصائدي. يفصل بيننا الحشد المتحرك وجلبة محطة القطارات، ومع ذلك أعرف أن بوسع القارئ أن يسمع كل كلمة من كلماتي. هذا إذا كان لا يزال موجودا.
يقول لي صياد السمك إن "الشعر لا بد أن يكون مثل الحفر بحثا عن الدود، تمسكين الدودة من ذيلها وتشدِّين. إذا شددت بقوة تنقطع، بتراخ تنفلت".
برودسكي: "النثر مشاة، الشعر قوات جوية". أود أن أضيف: والمترجم مظلي، ققوات خاصة.
لو أن القصائد أطفال، فالقراءات الشعرية اجتماعات الآباء والمعلمين.
لا ينبغي أن تكتب شعرا عما لا تعرفه أو ما لا تعرفه يقينا، فقط ما تشك فيه شكا مبهما، على أمل أن القصائد إما أن تؤكد شكوكك أو تبدِّدها.
من رسالة شاعر شاب: "أكتب حينما أكون مستاء. وحينما أكون بخير لا أكتب". في حالتي أنا، العكس: حين أكتب أكون بخير. وأستاء حين لا أكتب.
أكتب عما أحبه. أحب الكتابة أكثر مما أحب ما أكتب عنه نفسه. ولماذا أكتب؟ لكي أحب نفسي، ولو لوهلة عابرة.
"هل ثمة أي حاجة للشعر؟ يكفي السؤال في ذاته لندرك سوء وضع الشعر في الوقت الراهن. حينما يكون كل شيء على ما يرام، لا ينتاب أحد أدنى شك في أنه بالقطع ما من حاجة إلى الشعر. (ب. باسترناك)
كل شاعر يتكلم عن نفسه إنما يتكلم عن أي إنسان. كل إنسان يتكلم عن شاعر إنما يتكلم عن نفسه.
زلة اللسان شيء لا يمكن أن يعرفه مدعو الشعر. في الشعر، يلزمك لتقترف زلة أن يكون لديك لسان.
قواعد الشعر يمكن كسرها طبعا، ولكن ذلك أمر لا يتم بغير الجذل، وبغير النظر إلى الوراء، على غرار د. وهو يسوق سيارته الفيراري على طرق أوربا السريعة: متجاوزا حد السرعة الأقصى كثيرا حتى لتعجز أجهزة الرادار أن تقتنصه في إطارات صورها.
النظافة تقتل الهوية: ظلَّت زوجة "كيه" تغسل يديها وتغسلهما حتى لم تبق لأصابعها بصمة.
أعرف جميع قصائدي. الأمر أنني تذكرت بعضها، ولم أتذكر البعض بعد.
ما أجملهم بحق أولئك الذين لا يخشون أن يبدوا قبحاء. مثل ذلك يصدق في القصائد.
كتاب شعر جديد لشاعر عظيم: حينما كنت أقرأ بعيني، كانت الكلمات تزقزق وتتواثب على الصفحة، حينما قرأتها على س، ماتت الكلمات في رحلتها بين أحدنا والآخر. قال س: "ثمة فئة من الوثائق تصنيفها: للعيون فقط. فائقة السرية"
معنى الحياة يكمن في أن تعيش حتى الثمالة تلك اللحظات التي تبدو الحياة فيها ذات معنى.
قال لي صانع نبيذ سويسري إن شجيرات الورد تزرع على أطراف حقول الكروم لا على سبيل الزينة بل للإنذار المبكر من البلايا: الورد لحساسيته تصيبه البلايا قبل وقت كبير من الكرم. إذ ذاك فهمت أن قصة "الأميرة وحبة البازلاء" لأندرسن ليست عن التدليل، بل هي عن الفارق بين الشاعر الحقيقي والنصّاب.
قصيدة مثلى: كل بيت فيها يصلح عنوان كتاب.
في كتبه، وفي كتبه فقط، يمكن أن يفعل الكاتب ما يشاء، ما دامت له موهبة. أما في الحياة الحقيقية، فليس بوسع الكاتب أن يفرط في اللهو، لكي لا يدع الناس تحسب أنه في كتبه لا يقول الحقيقة عن نفسه". (ل. شيستوف)
القارئ: هل تريدينني أن أتعرف على عالم حياتي اليومية في قصائدك؟
الشاعرة: لا، أريد أن يبدو عالمك غير مألوف لك  بمجرد أن ترفع عينيك عن النص.
ـ أنا موهوبة في العثور على الأشياء المفقودة، مثل مسمار نظارة صغير في عشب المرج الكثيف. عندي طريقة تخصني: أسترخي وأنتظر إلى أن يناديني الشيء الضائع: "أنا هنا". أشياء من قبيل نظارة قراءة، أو دفتر، أو شريط شعر مطَّاطي ... بوسعي أن أتعرَّف عليها من أصواتها.
ـ لكن ألست تكتبين القصائد بهذه الطريقة؟
ـ ما أصدق هذا. في ما عدا أنني في حالة القصائد لا أعرف أبدا ما الضائع. كل ما أعرفه هو (أ) أن ثمة احتياجا ماسا إلى شيء ما، و(ب) أن هذا الشيء في مكان قريب، لعله أوضح الأماكن، و(ج) أن الآخرين فشلوا في العثور عليه، و(د) أنها ستكون فرحة وأي فرحة حين أعثر أنا عليه.
في الشعر وحده يمكن أن تؤكد الكلماتُ، وينفي الإيقاعُ، ويشكِّك التركيبُ، في حين لا يعرف الشاعر أيها على صواب. وحتى حين يعرف، لا يقول.
قراءة الشعر في العلن شكل من أشكال الخيانة. لقد استؤمنت على أسرار رهيبة، وأفشيها، وأشرك فيها أشخاصا غرباء تماما، فأخذل من استأمنوني على الأسرار، وقد يفقدون الثقة فيّ.
في البداية كان رؤساء س يقولون له: "عليك أن تكثر من الابتسام وأنت تعمل". أساتذتي كانوا يقولون لي "ليس في قصائدك ما يكفي من الألم". في الوقت الذي كان س يعمل فيه مترجما في مستشفيات الأورام كنت أكتب قصائد عن الحب السعيد.
حينما يموت شاعر حقيقي، ندرك أن كل قصائدة كانت عن الموت.
كلما طالت القصيدة، قل الانطباع بأنها أمليت من أعلى: ملكوت السماء لا يعرف الحشو. فضلا عن أنك كلما أكثرت الكلام، أكثرت الكذب.
القارئ: يزعم ييفتشنكو أن الشاعر في روسيا أكثر من مجرد شاعر. أهذا صحيح؟
الشاعرة: لا، ما لشيء أن يكون أكثر من شاعر.
ليست النقطة في نهاية القصيدة إلا علامة تعجب ترى من أعلى، حطت على الصفحة رأسا على عقب إثر ضربة دقيقة.

فارا بافلوفا Vera Pavlova، شاعرة روسية، ولدت في موسكو، وتخرجت في أكاديمية جينيسيس حيث درست تاريخ الموسيقى. لها أكثر من أربعة عشر كتابا شعريا، فضلا عن أوبرات وأغنيات، ترجمت أعمالها إلى أكثر من ثماني عشرة لغة

نشرت هذه المادة في موقع مجلة Poetry  الأمريكية في 2 ابريل 2012 بترجمة ستيفن سيمور من الروسية إلى الإنجليزية.
ونشرت الترجمة العربية في جريدة عمان في أواخر يناير 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق