الثلاثاء، 1 أبريل 2014

جحيم فوق الأرض

جحيم فوق الأرض
حوار: روس آندرسن



حتى في أشد لحظاتي تدينا، لم أستطع أن أنظر بجدية إلى فكرة الجحيم. يطالبنا اللاهوت المسيحي السائد بالإيمان بأن هناك كيانا كلي القدرة كلي المعرفة يفعل ما لا يقدر عليه أي أب من بني البشر: أن يخلق عشرات البلايين من الكائنات الهشة المعيبة ثم يعمد إلى قلة منتقاة منهم فيغرقها في محبة تراسندنتالية ويزج بالبقية إلى أبدية العذاب الأليم. طالما بدت لي هذه القصة فضلة ثقافية، بقية باقية من البربرية، أو ما هو أسوأ من ذلك، فقد بدت لي أسطورة غايتها إكراه الناس على الإيمان. ولكنني أجرد الجحيم من خصائص الدين فأجدها وسيلة لتحقيق العدالة، وسبيلا إلى تصحيح الأخطاء فيما بعد القبر. لا سيما في الظروف غير المعتادة.
خذوا مثلا من أدولف هتلر. في عصر التاسع والعشرين من ابريل كان هتلر مختفيا في أعماق المخبأ البرليني يشاهد انهيار رايخه الثالث عندما جاءه خبر موت "بينيتو موسوليني". أصاب الذعر هتلر، لا لفقدانه حليفا آخر، بل لميتة موسوليني. لقد كان الدكتاتور الإيطالي يحاول التسلل إلى سويسرا حينما تم إلقاء القبض عليه، ثم ضرب بالرصاص، وسحل بعدها في ميدان عام في ميلانو حيث راحت جموع من الناس تركله وتبصق عليه قبل أن يتم تعليقه رأسا على عقب في خطاف لتعليق اللحم.
وخشية أن يلقى مصيرا مماثلا، قرر هتلر أن يختبر فعالية أقراص السيانيد التي يحملها معه فجرَّبها في كلبته بلوندي. ولم يحل أصيل اليوم التالي، أي الثلاثين من ابريل، على برلين إلا والجيش الأحمر يعيث في شوارعها، وقد تضاءلت امبراطورية الفوهرر إلى جزيرة صغيرة في وسط  المدينة. وبدلا من القتال حتى النهاية والمخاطرة بالوقوع في الأسر، عض هتلر على قرص السيانيد وأطلق رصاصة على رأسه لمزيد من التأكيد. ولما وصل السوفييت إلى مخبأ هتلر بعد يومين من ذلك، كان جسده قد حرق ورماده قد دفن في حفرة غير عميقة أحدثتها قنبلة.
من الصعب ألا نقول إن هتلر أفلت بسهولة، مقارنة مع أفعاله وجرائمه الكثيرة المهولة. ربما كنا قد تجاوزنا قوانين حامورابي وقاعدة "العين بالعين"، لكن أغلبنا يشعر أن من يقتل الملايين يستحق ما هو أقسى من انتحار سريع بلا ألم. لكن هل هناك أحد يستحق الجحيم؟
طالما كان ذلك سؤالا مطروحا على علماء اللاهوت، لكن في عصر تحسين الإنسان human enhancement، باتت فئة أخرى من المفكرين تتصدى له. وفي حين تضخ شركات التكنولوجيا الحيوية بلايين الدولارات في تقنيات إطالة الحياة، يقترح البعض إبقاء أقسى مجرمينا أحياء إلى الأبد لتنفيذ أحكام مداها ألف عام أو أكثر. وحتى بدون إطالة للحياة، يمكن لشركات السجون الخاصة استحداث عقاقير تجعل الزمن أبطأ مرورا بحيث يبدو حكم السجن لعشر سنوات وكأنه أبدية بالنسبة للسجين. الخلاصة أن البشر بطريقة أو بأخرى سيكونون قادرين عما قريب على خلق الجحيم، هنا، على الأرض.
في جامعة أوكسفورد، بدأ فريق من الباحثين بقيادة أستاذة الفلسفة "ريبيكا روتشيه" يفكرون في السبل التي قد تغير بها تقنيات المستقبل من طبائع العقوبات. في يناير الماضي، تكلمت مع روتشيه وزملائها "أندريه ساندبرج" و"حنا ماسلين" عن التحسين العاطفي، و"السوبرجرائمsupercrimes" وأخلاقيات العذاب الأبدي. وما يلي تفريغ مكثف ومحرر لحوارنا.
***
ـ لنفرض أننا امتلكنا القدرة على إطالة عمر الإنسان إلى أقصى درجة، بحيث يكون المعتاد أن يعيش الناس ما يزيد على 500 سنة. هل يتيح هذا للقضاة أن يوائموا بمزيد من الدقة بين العقوبات والجرائم؟
روتشيه: عندما بدأت البحث في هذا الموضوع، كنت أفكر كثيرا في "دانيال بيلكا"، وهو طفل في الرابعة من عمره، تعرض للتجويع، ثم الضرب حتى الموت [في عام 2012] على أيدي أمه وزوجها هنا في المملكة المتحدة. تساءلت عما لو كان خير سبيل لتحقيق العدالة في قضايا من هذا النوع هو إطالة أمد الموت لأقصى درجة ممكنة. هناك من الجرائم بحق ما يبلغ من الوضاعة حد استلزامه فترة طويلة من العقاب، ولكن كثيرا من الناس فيما يبدو يفلتون من تلك العقوبة بالموت. ففكرت، لماذا لا نزيد أحكام السجن سوءا بالنسبة لأكثر المجرمين شرا، من خلال إطالة أعمارهم؟
لكنني سرعان ما أدركت أن الأمر ليس على هذه الدرجة من البساطة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال تستأنف الأغلبية الساحقة من المحكوم عليهم بالإعدام لتخفيض الحكم إلى السجن مدى الحياة. هذا يشير إلى أن فترة سجن قصيرة يعقبها الموت تُعدُّ مصيرا أسوأ من فترة سجن طويلة. وبذلك فإنك لو أطلت عمر سجين وأعطيته فترة أطول في السجن، فقد تكون بذلك منحته عقوبة أرق.
قد يبدو سيناريو إطالة العمر مستقبليا، لكنك لو تمعنت في النظر لوجدته قائما بالفعل، إذ بدأت أعمار الناس تطول عما كانت عليه من قبل. ولو أنك نظرت إلى عدد السجناء الهائل في الولايات المتحدة، لوجدت عددا فلكيا من السجناء المسنين من بينهم عدد ممن يستخدمون منظمات ضربات القلب. ولما مضيت أنقب في المجلات الطبية، وجدت مقالات مثيرة للغاية عن معالجة السجناء الذين يستخدمون منظمات ضربات القلب pacemaker.
ـ بفرض أن السجون أصبحت أكثر إنسانية في المستقبل، بحيث تكون أشبه بالسجون النرويجية منها بالذي ترينه في أمريكا أو كوريا الشمالية. هل يمكن للمؤسسات الإصلاحية هذه أن تكون إصلاحية فعلا في عصر الأعمار الطويلة باعتمادها على وسائل أطول أمدا لإعادة التأهيل؟
روتشيه: لو أمكن للناس أن يعيشوا قرونا أو ألف عام، فمن الواضح أنه سيكون ثمة متسع من الوقت لإصلاحهم، ولكنك تصطدم هنا بقضية فلسفية وعرة تتعلق بالهوية الشخصية. فكثير من الفلاسفة الذين كتبوا في الهوية الشخصية يتساءلون عما لو كان يمكن إدامة الهوية طوال عمر استثنائي الطول. ويفكرون أنه حتى لو أمكن لجسدك أن يحتمل البقاء ألف عام، فإن هذا الجسد في واقع الأمر تسكنه سلسلة من الأشخاص  على مدار الزمن وليس شخصا واحدا مستمرا. فلو أنك وضعت شخصا في السجن لارتكابه جريمة ما وهو في الأربعين، فقد يصبح هذا الشخص، فعليا، شخصا آخر مختلفا كل الاختلاف عندما يبلغ التسعمائة والأربعين، مما يعني عمليا أنك تعاقب شخصا على جريمة ارتكبها شخص غيره. وأغلبنا سيرى في هذا ظلما.
ـ لنفترض أن وسائل إطالة العمر أصبحت جزءا طبيعيا من حياة البشر، فلم تعد مقصورة إلا على النخبة، بل هي مشاع بين الجميع. متى يكون من غير الأخلاقي حظرها على السجناء؟
روتشيه: في وضع كهذا يحتمل ألا تعد هذه الوسائل تحسينا للإنسان، أو رفاهية. لو أنها أصبحت عامة وإنسانية بهذا الشكل فالأرجح أن يعتبرها الناس تقنيات إنقاذ للحياة فإن منعتها عن السجناء وفقا للسيناريو الذي تقترحه فقد أنكرت عليهم عمليا العلاج الطبي، وهو أمر نعتبره اليوم متنافيا مع الإنسانية. شخصيا أتصور أنه بمجرد أن تشيع إطالة العمر فتصبح عامة وإنسانية، سيبدأ الناس في اعتبارها حقا إيجابيا، شأنه شأن الرعاية الصحية في أغلب الدول الصناعية اليوم. ومن المثير أن نلاحظ أن سجناء الولايات المتحدة يجدون من الرعاية الصحية في بعض الأحيان ما هو أفضل مما يلقاه غير المؤمن عليهم. عليك أن تفكر في المحفزات التي يفرزها نظام كهذا.

ـ وأين هي عتبة الإنسانية التي يصبح عندها الحصول على شيء ما حقا إيجابيا؟ هل من مثال عملي على هذا؟
روتشيه: هناك حالة مثيرة للاهتمام تتمثل في الاتصال بالإنترنت. في فنلندا على سبيل المثال، يعد الحصول على تكنولوجيا الاتصالات من حقوق الإنسان لا تكفي الرسائل المكتوبة لإشباعه. والسجون الفنلندية ملزمة بإتاحة الفرصة للسجناء للاتصال بالكمبيوتر وإن كان الإنترنت لديهم يخضع لرقابة مشددة. وهذا تطور مثير، لأن منع الاتصال بالكمبيوتر ـ على مدار سنين ـ كان شرطا شائعا في أحكام فترات المراقبة التي تصدر على مرتكبي  جرائم القرصنة، وكان هذا ينطبق على جميع أنواع الكمبيوتر بما فيها أجهزة الصرف الآلي. نمط حياة كهذا كان ممكنا في الثمانينيات، وحتى في التسعينيات كان يمكن تدبره، ولكنه الآن في منتهى الصعوبة، فالكمبيوتر متوغل في كل شيء، والحياة الطبيعية تبدو مستحيلة بدونه، حتى أنك لا يمكن أن تركب القطار دون أن تضطر إلى التفاعل مع كمبيوتر هنا أو هناك.
في أواخر التسعينيات، منع الهاكر الأمريكي "كيفين ميتنيك" من أي اتصال بأي من وسائل الاتصالات بعد أن زعم مسئولون قانونيون في وكالة ناسا أن بوسعه بدء حرب نووية بصفير يطلقه في هاتف عمومي". لكنه في النهاية، تمكن من إبطال الحكم بعدما أثبت أنه يحول بينه والحياة الطبيعية.
ـ ماذا عن إطالة العمر التي تتدخل في إحساس الشخص بالزمن؟ لنتأمل مثلا شخصا مدانا بجريمة شنيعة كتعذيب طفل وقتله. هل من غير الأخلاقي أن نتدخل ببعض السمكرة في مخه بحيث يشعر هذا الشخص ذهنيا أنه حبس لألف عام؟
روتشيه: هناك عدد من العقاقير النفسية التي تشوه إحساس الشخص بالزمن، ومن ثم بوسعك أن تتخيل قرصا أو شرابا من شأنه أن يشعر الشخص أنه يقضي ألف عام في السجن. طبعا هناك رأي واسع الانتشار يذهب إلى أن أي قدر من أعمال السمكرة في مخ شخص هو عدوان مرفوض. ولكنك قد لا تحتاج إلى التدخل المباشر في المخ. فهناك تاريخ طويل من استخدام بيئة السجن نفسها للتأثير على تجارب السجناء الذاتية. خلال الحرب الأهلية الأسبانية [في ثلاثينيات القرن العشرين] استخدم الفن الحديث في أحد السجون لجعل بيئة السجن منفرة من الناحية الجمالية. كما صممت الزنازين نفسها بحيث تبدو أكثر ضيقا وانغلاقا، وجعلت أسرَّة بعض السجناء غير مريحة.
لم أعثر على حالات محددة من اللجوء إلى إبطاء الزمن في السجون، ولكن تشويه الإحساس بالزمن تكنيك عادة ما يتم اللجوء إليه أثناء الاستجواب، بحيث يتم تعريض الناس لضوء ثابت، أو تقلبات ضوئية غير معتادة، فلا يعرفون في أي ساعة من اليوم هم. لكن في هذا الحالة لا يكون ذلك على سبيل العقاب ذاته، بل لضرب إحساس الشخص بالواقع بحيث يكون أكثر اتكالا على من يستجوبه، ومن ثم يصبح ألين عريكة. بهذا المعنى، فإن قرص إبطاء الزمن سوف يكون فتحا أكيدا في تاريخ تقنيات العقاب.
ـ أريد أن أطرح عليك سؤالا يتقاطع مع المناظرات اللاهوتية الخاصة بالجحيم. بفرض أننا نجحنا في نهاية المطاف في تعطيل الموت نهائيا، وأننا شملنا السجناء بهذا العلاج. هل هناك أية جريمة تبرر السجن الأبدي؟ لنتخذ من هتلر نموذجا. لنفترض أن السوفييت وصلوا إليه في المخبأ قبل أن ينتحر، ولنفترض أن حكم الإعدام كان خارج الحسبان، هل كنا لنضعه وراء القضبان إلى الأبد؟
روتشيه: صعب القطع. إذا انطلقنا من افتراض أن العقوبة ينبغي أن تتناسب مع الجريمة، فمن الصعب تصور جريمة تبرر السجن الأبدي. يمكنك أن تتخيل مجازاة هتلر بالسجن عن كل شخص قتل في الحرب العالمية الثانية، فيؤدي ذلك إلى فترة سجن طويلة ولاشك لكنها تبقى محدودة. تهديد البشرية كلها جريمة ترقى بجسامتها إلى تبرير هذه العقوبة. وكما تعلم، فإن قدرا كبيرا من البحث الذي نقوم به هنا في مدرسة مارتن بأوكسفورد يتعلق بالخطر الوجودي. افرض أن هناك تجربة فيزيائية ما لها فرصة طيبة في أن تنتج ثقبا أسود كفيلا بالقضاء على الكوكب وجميع الأجيال المستقبلية. إذا قام شخص عامدا متعمدا بإجراء تجربة كهذه، يمكنني أن أراها السوبرجريمة التي تبرر الحكم بالسجن الأبدي.
ـ في بحثك القادم حول هذا الموضوع تذكرين إمكانية أن يأتي اليوم الذي يتم فيه "التحسين العاطفي" للمدانين من خلال قدرة عصبية ما على توليد التقمص فيهم، فيكون الندم الذي يستشعره هؤلاء المدانون المحسَّنون عاطفيا أقسى عقوبة ممكنة. هل تعتقدين أن تمام التفكير المعنوي في جريمة رهيبة هو أشد معاناة يمكن أن يحتملها فرد؟
روتشيه: لست متأكدة. الواضح أنه سؤال لن تجيب عليه سوى التجربة: أي الإحساسين أسوأ، الإحساس بالندم الحقيقي أو قضاء وقت في السجن؟ ولا شك أن هناك أسبابا تجعلنا نتعامل مع هذا الزعم بجدية. ففي الأدب والحكم الشعبية، على سبيل المثال، غالبا ما تسمع من يقولون أشياء من قبيل إن "أسوأ شيء هو أنني سأضطر إلى الحياة مع نفسي". وعندي بصفة شخصية حدس بأن الندم الحقيقي قد يكون أسوأ على الشخص من السجن في حالة الجرائم بالغة الخطورة. ولكنني أشك أن ذلك ينطبق على الجرائم الأقل خطورة، حيث لا يكون الندم متناسبا بالضرورة، كما يحدث حينما تبكي أو تضرب نفسك لأنك سرقت قطعة شوكولاتة أو شيئا من هذا القبيل.
ـ أتذكر فيلما شاهدته أيام المدرسة عن مراهق قتل مراهقا في حادث مروري ناجم عن السكر. كان من بين شروط فترة المراقبة أن أمر القاضي المراهقَ بإرسال شيك يومي بقيمة 25 سنتا لوالدي المراهق الذي تسبب في قتله، وذلك لمدة عشر سنوات. بعد سنتين فقط كان المراهق يستجدي القاضي أن يزج به في السجن فقط ليجتنب هذا التذكير اليومي.
روتشيه: هذه حالة مثيرة للاهتمام، حيث يكون السجن مهربا فعليا من الندم، وهو أمر غريب، لأن من مبررات السجن أنه يرغمك ـ فيما يفترض ـ أن تركز على الخطأ الذي اقترفته. يفترض بك حينما تستيقظ في السجن كل يوم أن تسأل نفسك لماذا أنا هنا، صح؟
ـ ماذا لو ثبت أن هذه التحسينات العاطفية فعالة أكثر مما ينبغي؟ لنفرض أنها بالغة القوة، فتحيل المجرمين إلى معلمي زن يعيشون حالة مستمرة من الرضا التأملي العميق. هل ينبغي لذلك أن يزعجنا؟ هل المعاناة الذهنية مكوِّن لازم من مكونات السجن؟
روتشيه: هناك سؤال فلسفي عتيق عن مدى السوء الذي ينبغي أن تكون عليه تجربة السجن. أنصار العقاب، الذين يرون أن هدف السجن هو العقاب، يميلون إلى الظن بأنها ينبغي أن تكون تجربة سيئة، بينما يميل العواقبيون [consequentialists  الذين يقيمون الأمور بناء على نتائجها] إلى الانشغال بآثار السجن الإصلاحية، وتكاليفه الاجتماعية الأكبر. هناك عدد من السجون التي توفر  للسجناء أنشطة بناءة يشاركون فيها، اكالمسابقات الرياضية، ودروس الفن، بل وحصص اليوجا. هذه الممارسات فيما يبدو تعكس الرأي القائل بأن تقييد الحرية وحده عقوبة كافية. غير أنه بطبيعة الحال، وحتى بالنسبة للعواقبيين، لا بد أن يكون ثمة مستوى ما من المعاناة في العقوبة، لأن العواقبيين  يعنيهم الردع.
ـ أريد أن أنهي بالانتقال إلى ما بعد العقاب، فأسألك عن مستقبل العقاب بشكل أوسع. هل هناك أية عقوبات بديلة يمكن للتكنولوجيا أن تمكننا منها، وترينها في الأفق في الوقت الراهن؟ وما الذي قد نراه في المستقبل فيثير دهشتنا؟
روتشيه: فكرنا كثيرا في الفترة الأخيرة في التنصت والعقاب. نحن بالفعل نرى الحكومات تستخدم سوار الكاحل لتعقب الناس بوسائل مختلفة كثير منها متقن إلى حد كبير. فمثلا، بعض هذه الوسائل يتيح لك الذهاب إلى العمل، لكنها تفرض عليك أيضا حظر تجوال وتراقب الموقع الذي تتواجد فيه. يمكنك أن تتخيل هذه الوسيلة وقد تم تطويرها بحيث يحرمك سوار كاحلك من دخول أماكن بيع الكحول، فيكون بهذا عقابا لمن يحبون ارتياد الحانات، ويمكن استخدامه لإصلاح المدمنين للكحوليات. على أية حال، هذا النوع من التقنيات يرتقي إلى مستويات من التحكم في السلوك لا يرتاح إليها البعض بسس قضايا تتعلق بالاستقلال الذاتي.
مفهوم أن تفقد حريتك الشخصية نتيجة حبسك في السجن، لكن يبقى مسموحا لك أن تؤمن بما تشاء الإيمان به وأنت هناك. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، لا يمكنك أن تصادر كتابا مقدسا من سجين ما لم يكن ذلك لسبب شديد الوجاهة. وتزداد التخوفات المتعلقة بالاستقلال الذاتي قوة عندما يبدأ الكلام عن زرع مخي من شأنه أن يتحكم في السلوك تحكما مباشرا. والمثال الكلاسيكي على هذا هو "روبرت جي هيث" [الطبيب النفسي في جامعة طولان بنيو أورلينز] الذي بتلك التجربة المرعبة الشهيرة [في خمسينيات القرن الماضي] إذا استخدم في المخ أقطابا كهربائية في محاول لتعديل سلوك أشخاص ميالين للاضرابات العقلية العنيفة. كان الظاهر من تلك الأقطاب الكهربائية أنها تستخدم لمعالجة المرضى، لكن هيث كان يحاول أيضا أن يوجه مرضاه في اتجاه مقبول أكثر من المجتمع. يمكنك بالفعل أن ترى ذلك في بحثه الشهير [سنة 1972] الخاص بـ "علاج" المثليين. أعتقد أن أغلب المجتمعات الغربية سترفض هذا النوع من العقوبة.
في رأيي أن هذه الأسئلة المتعلقة بالتكنولوجيا مثيرة للاهتمام لأنها ترغمنا على إعادة التفكير في ما نعتقد حاليا أنها بديهيات عقابية. حينما نسأل أنفسنا عن لاإنسانية تعريض شخص معين لتقنية معينة، علينا أن نتأكد أننا لا نتحرك بدافع فقط من الغرابة. والأهم من ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا عما لو كانت عقوبات السجن تعد إنسانية لمجرد أنها مألوفة، ولأننا جميعا نشأنا في عالم السجن فيه هو ما يقع على مرتكبي الجرائم. هل لا بأس فعلا في أن نحبس شخصا طوال الفترة الأجمل من الحياة الوحيدة التي يملكها، أم الأكثر إنسانية أن نسمكر مخه ونطلق سراحه؟ نحن عندما نطرح السؤال لا نهدف ببساطة إلى تخيل بضع عقوبات مستقبلية، بل هدفنا هو النظر إلى عقوبات اليوم بعين المستقبل.



نشر الموضوع أصلا في مجلة أيون ونشرت ترجمته اليوم في شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق