الثلاثاء، 25 مارس 2014

الرواية في الواقع

الرواية في الواقع
ديفيد بيزموزجيس

منذ أربع سنوات وأنا أكتب رواية تجري أحداثها في القرم الراهنة. والمرء عندما يستغرق وقتا طويلا في كتابة رواية ـ وهذا هو شأن أغلب الروايات ـ يعتاد سؤالا يتكرر عليه في الغالب من نفس الناس: وعن أي شيء ترى تدور الرواية؟ ذلك لأنه من السهل عليك أن تنسى ما يسيطر على غيرك، والأسهل منه أن تنسى شيئا يسيطر على غيرك ويتعلق بمكان ما، أجنبي، ومجهول. لذلك اعتدت أن أردد: "عن سياسي إسرائيلي ملوث السمعة، يلتقي بصديق قديم كان قد وشى به لدى الـ ’كيه جي بي’ قبل أربعين عاما. يحدث هذا في يالطا. ويالطا تقع في القرم. والقرم تقع على البحر الأسود. في أقصى جنوب أوكرانيا. وأوكرانيا ...".
لكن الآن، وعلى غير توقع، وللمرة الأولى منذ أن التقى ستالين، وروزفيلت، وتشيرشل في يالطا لتقسيم أوربا ما بعد الحرب، تعود القرم لتتصدر الأخبار. رأيت انتفاضة كييف، ثم انتشار القوات الروسية في أرجاء جزيرة القرم، فتكوَّن بداخلي رد فعل معقد. في البداية، وبمنتهى الأنانية، فرحت أن المكان المجهول الذي كنت أكتب عنه طفا على الأحداث وعرفه الناس. وفي الوقت نفسه، وكأغلب الناس، فزعت واضطربت بسبب العنف والفوضى اللذين أحكما قبضتهما على أوكرانيا وباتا يهددان بالتصاعد إلى ما هو أسوأ بكثير. والحق أن الخوف كان يستولي عليَّ بصفة خاصة لأنني أعرف القرم، وقد زرتها من قبل، ولي فيها أصدقاء باتت سلامتهم مهددة. ولكن ثمة شيئا آخر في حقيقة الأمر قد يبدو ظاهريا من جملة المصالح الشخصية شأنه شأن سعادتي بالشهرة التي طرأت مؤخرا على القرم، ولكنه في الحقيقة شعور أوسع نطاقا من المصلحة الشخصية: شعرت بالإحباط وقد رأيت أحداث العالم تتآمر لإفساد مخططاتي لروايتي.
لقد كنت أريد أن أكتب رواية تشتبك ـ من بين أشياء كثيرة ـ مع السياسات المعاصرة، وتشي في الحقيقة بنزر متواضع من البصيرة. وفيما كنت أكتب الرواية، ظللت أغيِّر في التاريخ الذي تدور فيه الأحداث، دافعا إياه باستمرار إلى الأمام عاما بعد عام، فمن 2011، إلى 2012، فـ 2013، ثم 2014، إلى أن يتزامن مع تاريخ السنة التي تشهد نشر الرواية نفسه. وكنت أتابع الأحداث عن كثب لأرى إن كانت الأحداث الحقيقية قد تجاوزت ابتكاراتي. وكنت أتوقع أن يحدث هذا في أية لحظة في إسرائيل حيث تبدو الأمور دائما على شفا الكارثة. ثم لم تكن إسرائيل هي التي شهدت التحول بل أوكرانيا والقرم اللتان كنت كنت أطركن إلى أنهما حبيستا حالة راسخة من الفساد السياسي المؤسس.
في صيف عام 2011، سافرت إلى القرم للقيام ببحث خاصة بالرواية. وبرغم أن الصور التي تبث للقرم حاليا تظهرها في الشتاء، إلا أن القرم شأن هامتنز أو كيب كود لا يمكن أن تعرف حقا وتقدَّر حق تقديرها إلا في الصيف. على مدار أكثر من قرن، منذ عهد القياصرة وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت القرم هي المقصد الصيفي الأكثر قبولا بين الناس في جميع أرجاء الإمبراطورية. هي الموضع الذي أقامت فيه الأرستقراطية الروسية قصورها الصيفية، وكانت البرجوازية ـ حسبما يصورها تشيخوف في قصصه ـ تقضي فيه إجازاتها، وهي أيضا الموقع الذي أقام فيه كبار زعماء الحزب ـ في العهد السوفييتي ـ شاليهاتهم وأقامت فيه الدولة المصحات للمواطنين العاديين. ومثلما درجت عليه الأمور عند تأليف كتاب، فقد اكتشفت أشياء عن القرم تتطابق مع ثيمات في روايتي. فالرواية تتناول إسرائيل المعاصرة، والصهيونية، وطبيعة الرباط بين اليهود الروس وأرض الاتحاد السوفييتي السابق. لذلك، انفتحت لي طاقة نور حينما عرفت أن في القرم جالية يهودية لا تزال تتخذها وطنا، وتحتفظ لنفسها بذكرى ماض يهودي استثنائي. فلقد كانت القرم أرض الخزر Khazars  والكرايت Karaites  وفي القرن الماضي حدث لمرتين أن اعتبرت جمهورية يهودية لها حكم ذاتي وإن رفض قيامها في المرتين. قرأت عن تتار القرم Crimean Tatars الذين قام ستالين بترحيلهم جماعيا سنة 1944 والذين عاد نسلهم لاحقا ليشكلوا أقلية سكانية كبيرة. عرفت أيضا عن شخصية القرم الروسية الهائلة التي تتضمن فصيلا مناضلا من القوزاق الذين رفضوا السيادة الأوكرانية ورغبوا بدلا منها في العيش تحت العلم الروسي. وكان على رأس أولئك جميعا نظام حكم قوامه بعض أشد الناس وقاحة وفسادا حتى بموجب معايير عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي المتدنية.
واليوم، يرى المرء جميع هذه القوى في حالة حركة فاعلة، بينما يتفكك الوضع في القرم. لكنني عندما كنت أسافر في القرم وأرى ما فيها رأي العين، فتصعقني في أكثر الحالات تناقضاتها وتطرفاتها، ما كنت أتصور أن ترقى الأمور في يوم إلى ثورة. لا أقول إنني لم أتساءل كم يطول العهد بالمجتمع صابرا على مثل هذا الضغط، لكنني أجبت السؤال إجابة الساذج أو المتشائم، فكانت الإجابة خاطئة. في ذلك الصيف كان ثمة أمور دالة تجري بالفعل على الأرض. فلم يمض يومان على هبوطي في سيمفربول في أغسطس سنة 2011 حتى تم اعتقال "يوليا تيموشينكو" رئيس الوزراء السابق والمنافس السياسي الأساسي للرئيس المخلوع "فكتور يانوكوفيتش"، وكان اعتقاله مقدمة لمظاهرات حاشدة شلت وسط مدينة كييف. في الشهر السابق كان القوزاق الموالون للروس قد نصبوا صليبا أورثوذكسيا بارتفاع ثمانية أمتار في مدخل مدينة فيودوسيا، مثيرين غضب أبناء البلد التتار ومستفزين السلطات. ولما قامت قوات مكافحة الشغب بإزالة الصليب في نهاية المطاف وقسمته نصفين، هاجمهم القوقاز متخذين من الصليب منجنيقا. وكان من بين زعماء القوقاز رجل اتهم بالتحريض على الكراهية العرقية والدينية لاتهامه يهودا بارتكاب القتل الطقوسي بحق فتاتين في سيفاستبول.
لو كان المرء تأمل في ذلك الوقت لرأى علامات هذا التوتر، برغم أن ما وقعت عليه عيناي في القرم في أغسطس هو كثرة منذرة لعدد السائحين الروس المسفوعين بالشمس. قيل لي وقتها إن من يتوافدون على القرم هم من الروس  أو محبي الروس من أبناء الطبقة الوسطى أو الطبقة الوسطى الدنيا، أي من دهماء روسيا وروسيا البيضاء وبعض أجزاء أوكرانيا. كانوا ما بين عاجزين عن تحمل تكاليف إجازة على شواطئ أوربا أو الكاريبي أو غير مبالين بها أصلا. كان الاتحاد السوفييتي قد مات قبل عشرين عاما ولكن في كثير من أجزاء القرم، في مساكنها وعاداتها ـ في المصحات المقامة من الأسمنت، وحشود البشر ممن يقلِّبون خصورهم تحت نار الشمس على حصى الشواطئ، في ذلك كله كان الاتحاد السوفييتي لم يزل باقيا. وكان ذلك من آيات سحر القرم. ولو ان الإحساس العام قاد المواطنين أثناء انتفاضة أوكرانيا الغربية إلى الإطاحة بتماثيل لينين وتشويه أنصاب الجيش الأحمر التذكارية، فإن تماثيل لينين واقفة في القرم شامخة، وعند كل منعطف فيها تقريبا تقوم الجيش الأحمر أنصابه التذكارية.
في بخشيساريا، وعلى مسافة بسيطة من قصر الخان، بمسجده الذي لم تزل تقام فيه الصلوات، مقبرة عامة لمائة وسبعين من جنود الجيش الأحمر. في كوكتيبال، وهي منتجع بوهيمي بحجم مدينة، شاع بين الهيبيين والمتعرين الروس، أقيمت مدينة ملاه للأطفال قرب نصب تذكاري كئيب لجنود المظليات. وعند نقطة معينة في سيفاستبول، وهي مقر أسطول البحر الأسود الروسي، وجدت نفسي واقفا أعلى ملجأ أسمنتي في متحف السرية الخامسة والثلاثين ـ آخر القوات السوفيتية صمودا في وجه النازي ـ المطل على البحر بينما المدافع الرشاشة تقعقع في القاعدة العسكرية القائمة في الوادي من ورائي. كل ما هو روسي أو سوفييتي كان يلقى نفس القدر من الاحترام، ونادرا ما كان يحدث أي تمييز أيديولوجي أو نوعي بين الماضي الشيوعي والماضي الإمبراطوري. كان كله قد بات روسيًّا. والشخص الوحيد الذي أعرب عن آراء قوية في هذه المسألة كان دليلي في قصر ليفاديا، المقر الصيفي للقيصر نيقولا الثاني. كان دليلي ذلك امرأة  روسية في الخمسينيات من عمرها قالت لي في نهاية الجولة إن القيصر كان حاكما حكيما خيِّرا خانه جنرالاته، وإن الحكم القيصري لو كان بقي لبقي الشعب الروسي ينعم بالرخاء إلى الآن. كما كانت لديها في الحقيقة أشياء لطيفة تقولها في حق راسبوتين.
طوال الوقت الذي قضيته في القرم، لا أتذكر أني سمعت كلمة من الأوكرانية. والشيء الأساسي الذي كان يذكِّر بانتماء القرم إلى أوكرانيا هو عملة هرايفنيا hryvnia الأوكرانية والاحتقار العام للحكومة التي تمثلها تلك العملة. وحتى القلة القليلة التي كانت تعيش حالة رخاء في القرم كانت تشكو مع ذلك من الممارسات الاغتصابية التي تقوم بها الحكومة، فرجال الأعمال لا يستطيعون أن يديروا مشاريعهم  إلا بضريبة اعتباطية يدفعونها لهذا المسئول أو ذاك، أما أغلب أهل القرم ـ بمن فيهم الموظفون من أصحاب الرواتب أو المتقاعدون من أرباب المعاشات ـ فيعيشون على الكفاف، وكانوا ليعتبروا أنفسهم سعداء الحظ لو كانت لديهم مثل مشكلات رجال الأعمال. اليهود المسنون، الذين التقيت بهم في مركز صغير خاص بالجالية في فيودوسيا، وصفوا لي ما يشيع بينهم من تأجير شققهم في الصيف ليحصلوا على ما يكملوا به دخولهم في بقية العام، وهو ما كان يعني أن يقضي بعضهم الصيف في أكواخ. كانت رواتبهم التقاعدية إضافة إلى مبالغ التعويضات الألمانية والدعم الذي تقدمه بعض الجمعيات الخيرية اليهودية يجعل من متوسط دخلهم الشهري نحو 800 هرايفنيا، وكان ذلك الرقم في عام 2011 يعادل تقريبا مائة دولار. أما اليوم فقد انخفضت قدرة هرايفنيا الشرائية مما يجعلني أتوقع ـ لأسباب واضحة ـ أن الصيف القادم سيكون كارثيا من الناحية الاقتصادية في القرم.
بالمقارنة إذن مع ما يراه أبناء القرم وما سوف يرونه، فإن المشكلات التي تسببت فيها الثورة/التحرير/الاستيلاء لروايتي أقل أهمية بكثير. صحيح أنه لم يعد من الممكن اختيار صيف 2014 لتدور فيه أحداث روايتي، وأن عليّ الآن أن أختار حلا آخر، ولكن السؤال الأكبر ـ فيما أرى أنا ـ لا علاقة له بروايتي بل بتعقيد كتابة روايات من هذا النوع. حيث يتمثل جزء من التحدي فيما أوضحه "فيليب روث" تمام الإيضاح قبل أكثر من خمسين عاما في مقالته "كتابة القص الأمريكي". فقد أبدى روث قلقه من أن يعجز الروائيون عن ابتكار عالم يساوي في خياله عبثية واقعنا ولامسئوليته. وفي مواجهة تلك المشكلة، كان يخشى أن يلجأ "كاتب القص إلى الانسحاب الطوعي وعدم الاهتمام ببعض الظواهر السياسية والاجتماعية الكبرى في زماننا". ولقد لاحظ روث نزعة شاعت بين معاصريه وتمثلت في "احتقار الحياة كما تعاش من حولهم مباشرة" بسبب ذلك العجز عن تخيلها، أو ببساطة بسبب الإحساس بالاشمئزاز منها.
ما من شك أن هذه المشكلة لا تزال باقية، بل إنها تمتزج مع التفاوت السافر بين معدل كتابة الروايات ونشرها وبين المعدل الذي تتسارع به الأحداث في العالم الواقعي. فأي كاتب هدفه أن يكتب عن الثقافة الحاضرة واللحظة السياسية الراهنة لا بد أن يتعرض لا للعقبات الإبداعية المعهودة وحدها، وإنما لدقات الساعة اللحوح أيضا. إننا كثيرا ما نسمع أن العالم يتحرك بسرعة أكبر. محتمل. لكنني لا أعتقد أن ثورات اليوم تجري بوتيرة أسرع من وتيرة ثورات الأمس. ولكن ما لا سبيل إلى نكرانه هو أن المعلومات تتحرك بسرعة أكبر مما كانت عليه فيما مضى، وبرغم كل تجليات التكنولوجيا الرقمية، فإن الفجوة ما بين اكتمال المخطوطة ووصولها الرسمي إلى العالم لا تزال على مثل ما كانت عليه أيام كتب فيليب روث مقالته. وهكذا، وحتى إذا حدث ما أستبعده، وظل الكاتب بعد سنوات من التأليف يرى أنه تمكن من الإتيان شيء يستحق أن يقال، فإن دقات الساعة تبقى مهددة باعتباره أمرا عفا عليه الزمن.
وهذا يثير سؤالا عما إذا كانت الرواية ـ بطبيعتها أو بطبيعة إنتاجها ـ مؤهلة لمهمة الاشتباك مع "الظواهر السياسية والاجتماعية الكبرى في زماننا"، خاصة وأنها الآن تنافس حالة إخبارية مستعرة على مدار الساعة، يمكن المساهمة فيها بالقراءة وبالكتابة من أي مكان في العالم. فهل يعد إذن السعي إلى كتابة رواية ذات طموح سياسي سعيا أحمق؟ ولو أن الأمر كذلك، فماذا عن تكلفته الثقافية؟ إن مهمة الصحافة هي أن تصف الحاضر وصفا دقيقا. وحينما يتصادف ويرغب الصحفيون في تقديم استقراءات أو استنتاجات، يكون ثمة اتفاق على أنهم ليسوا مرغمين على أن يصيبوا في هذا، فحسبهم أن يكونوا مقنعين. فلو حدث في عالمنا لانهائي الغرابة والتبدل أن تغيرت الظروف، تكون الفرصة سانحة لهم للمراجعة والتعديل. أما الروائي الذي يعالج ظواهر سياسية واجتماعية ففي وضع غاية في الاختلاف. ذلك أن عليه أن يقيم عالما ويبقى ملتزما به أشد ما يكون الالتزام. وليس بوسعه أن يكتفي بالوصف، بل عليه أن يتنبأ بالمآل، ولو قليلا. ولو أن العمل الصحفي بنيانٌ متماسكٌ قوامه المعلومات، فالرواية وثبة خيالية معنوية فوق قمة هذا البنيان. ولذة القارئ في المقام الأول هي لذة الفرجة على صرح حال بنائه، وهي في المقام الثاني لذة رؤية شخص يثب وليست من تحته شبكة، بينما القارئ، في الحالة المثلي، يثب برفقته.

ديفيد بيزموزجيس (1973 ـ ) كاتب وسينمائي. تصدر روايته "الخونة" في سبتمبر من العام الحالي.


نشر المقال أصلا في موقع ذي نيويوركر  الإلكتروني ونشرت ترجمته اليوم في شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق