في مديح الزنا
حنيف قريشي
إنهما ينظران في نفس الاتجاه، فلا يريان نفس الشيء |
سواء كان مشكلة أم حلا، كان الزواج ولا يزال واحدا من المواضيع
المركزية في الدراما والرواية والسينما، بقدر ما هو مركزي في حياتنا. فأغلبنا
بطريقة أو بأخرى نتاج زواج، وربما طلاق. ونوعية الأسئلة المحيطة بهذه العلاقة
طويلة الأجل ـ ماذا تكون الحياة مع آخر لفترة طويلة؟ ما المتوقع؟ ما الذي نحن
بحاجة إليه؟ ما الذي نريده؟ ما العلاقة بين الأمان والإثارة، بالنسبة لكل منا؟ ـ
هي أهم أسئلة حياتنا. والزواج هو السبب في وجود أشد الأمور جدية وخطورة: الجنس
والحب والأطفال والخيانة والملل والإحباط والملكية.
"نهاية الأسبوع" Le Week-End فيلم تجري أحداثه في باريس المعاصرة، أنجزته أنا والمخرج
"روجر ميشيل" الذي سبق أن عملت معه في مسلسل "بوذا الضواحي"
التليفزيوني، وفيلمي "الأم" و"فينوس"، اللذين كانا مهمومين في
الغالب بموضوع رأيناه مهملا في السينما، وهو حياة كبار السن ومشاعرهم، وتبين لنا
أن مخاوفهم ورغباتهم هي في مثل حدة أمثالها لدى الشباب إن لم تك أحدّ منها.
"نهاية الأسبوع" معنيّ بزوج وزوجة في منتصف
العمر، هما نيك وميج، وكلاهما معلمان، يذهبان إلى باريس للاحتفال بذكرى زفافهما
الثلاثين. وفيما هما هناك، يتناقشان في معنى زواجهما ووجهته في هذه اللحظة بعدما
رحل الأبناء عن البيت. ها هي الصحة والزمن ينسربان منهما، والشيخوخة وشيكة، وها هما
يتساءلان في نوعية المستقبل الذي قد يرغبان فيه، سواء وهما معا، أو وهما مفترقان. يفكران
كيف سيموتان، لكنهما يجدان نفسيهما بحاجة أيضا إلى أن يفكرا في كيف عاشا، وكيف
قاما بتربية أبنائهما، وكيف كان مسار الأسرة، فيم أخفقت، وأين موضع الندم،
والمرارة، والغضب المستعر.
يبين الفيلم آثار معاول الزمن، لكنه يبين أيضا تبدل
الماضي، واختلاف معناه وقيمته لدى الطرفين، وكيف يبدو الماضي ـ بينما يتكلمان الآن
ـ مفتقرا إلى الاستقرار افتقار المستقبل إليه. إنهما ينظران في نفس الاتجاه، فلا
يريان نفس الشيء. وما من سردية واحدة يمكنهما الاتفاق عليها.
ستكون فترة إقامتهما القصيرة، مهما تكن، ساحة حوارات
عصيبة. ماذا لو خطر لأحدهما أن علاقتهما كانت غلطة، أنها لم تحقق أمنياته الأولى،
وأنه كان من الممكن له أن يحظى بحياة أفضل كثيرا في مكان آخر؟ وفي الأثناء، ماذا
فعل الواحد منهما للآخر؟ هل كان ثمة أذى؟ فيم استعمل كل واحد الآخر؟
هما من ضاحية في بريمنجهام عملا فيها بالتدريس على مدار
عقود. ولكن "باريس هي المدينة التي كان فيها القرن العشرون" كما تقول
جرترود شتاين في كتابها "فرنسا الباريسية". وباريس، في خيالهما
الإنجليزي الريفي، تمثل العديد من الأشياء المرغوبة: أفكار الستينيات الطازجة
وراديكاليتها، ومتاريس 1968، وثورات شبابهما الفكرية مجسدة في دريدا وألتوسير
ولاكان وفوكو. وهناك أيضا ثورات على المستوى الشخصي: فكرة العلاقة القائمة على
المساواة والالتزام، ولكنها العلاقة "المفتوحة" أيضا مثلما مارسها
"جان بول سارتر" و"سيمون دي بوفوار" اللذان لم تكن لـ
"لعبة الحب" ـ معزوفة الغواية والرفض والتغير ـ في عرفهما من نهاية.
مثلما يكتب ستندال في "الحب" أنه "لا بد
لملذات الحياة الشخصية أن تتعرض لدرجة لا نهائية من الخطر". لكن، هل صحيح أنه
يسهل تحويل الحب إلى ضرب من الرياضة أو التسلية الطائشة؟ أليس الحب أقرب إلى
الرياضة من الجنس إلى التدريبات البدنية؟
وبمثل ما تثير باريس هذه الأسئلة الجوهرية، تمثل أيضا ـ
لدى زوجينا ـ الاستمرارية، ومثال الحضارة، تعني لهما رفعة العيش عندما يتعلق الأمر
باللبس والجنس والانفلات والتسامح والتحاور والبوهيمية. وهذان الزوجان يحبان الأكل
الطيب، فيجدان معا في المطاعم الفرنسية تلك المتعة الحسية التي قد لا يكون ثمة شيء
غيرها الآن يشتركان فيه اشتراكا حقيقيا.
في ضواحي لندن في الخمسينيات والستينيات، بعد اضطراب
الحرب، نشأت في أمن نسبي كان فيما يبدو أمنا أبديا. كان الزواج التقليدي هو ناموس
ذلك المكان. وكان أبي، المنفيٌّ طريد التقسيم والشقاق الديني في الهند
الكولونيالية، كان يسافر يوميا إلى عمله، وأمي كانت سعيدة بأن تطلق على نفسها لقب ربة
البيت. كانت العلاقة بين العمل والزواج واللعب مرتبة ترتيبا مثاليا. لم يكن ثمة ما هو ناقص. كل ما كان عليك هو أن تنضبط
أنت في هذا القالب القائم المستقر. أو تلك ـ على أقل تقدير ـ كانت الفكرة السائدة.
وكما يعلم نيك وميج، فإن الزواج ـ إذا حالفه الحظ ـ يخلق
نوعا أكيدا من الحب القائم على العشرة. لكنه يُمَنْزِلُ الجنس ويروضه. تزداد
الحميمية بين الزوجين أكثر مما ينبغي. يعرف أحدهما الآخر أكثر من اللازم، فلا تجد
عقبة تعترض طريق تبدد السحر. وكيف لامرئ أن يرغب فيما هو فعلا بين يديه؟ وليت هذا
هو الأمر كله، إذن لهان، ولكن هناك تلك الترتيبات التي يستلزمها بقاء الزواج: الأمن،
الاستمرارية، الثقة، التكرار، وتلك أشياء قد تبدو من أسباب الحرية أو الاختناق،
أنت وطبيعتك. كانت الضواحي ملائمة لأبي، وقد جاء أصلا من مكان خطر، فوجد في
الضواحي ما كان ينقصه.
ولكن كان في الحياة هناك ما قد يجعلك راغبا في الصراخ.
فالضواحي، لدى البعض، لا يمكن أن تكون مشبعة. وقد تعلم، مثلما يعم نيك وهو في
باريس مع زوجته ـ التي لا يزال يريدها ويحتاج إليها ـ أن مشكلة الرغبة لا تتمثل في
عجزك عن التخلص منها، بل في أن هناك الكثير للغاية منها. فهي حاضرة لا تغيب، ضاغطة
لا تكف، مهما أردت إسكاتها. ليس بوسعك أن تبددها، ولا أن تأتي بغيرها فيحل محلها.
بحكمة أم بجنون، سكن الروائي جون تشيفر في قلب الحلم
الأمريكي في ضاحية بنيويورك، وهو مكان أكثر ثراء ووفرة من الذي نشأت أنا فيه. كان
فنانا مثليا مدمنا للخمر يحاول أن يكون رجلا مستقيما متزوجا. وكان القناع
والأسطورة المطلوبان ـ لتمثيل دور الجاد الملتزم الملائم لهذه الحياة ـ مترعين
بالمذلة والتعجيز. وكم حاول تشيفر، إلى أن جعلت منه المحاولة فنانا، لكنها ـ أي
المحاولات نفسها ـ لم تفلح، وما كان لها أن تفلح. فعادت الفوضى مصداقا لما كان
يمكن لأي أبله أن يتنبأ، بل ومصداقا لما كان يمكن أن يتنبأ به تشيفر نفسه في حالات
مزاجية معينة. ذلك أنه قد يكون ثمة الكثير للغاية مما يتعلق بك أنت نفسك، ومما أنت
قادر على احتمال فهمه.
كثير من هذه الهواجس يظهر في الكتابة الأمريكية فيما بعد
الحرب. وكان السؤال الدائم هو نفس السؤال: هل كان الكبت ثمنا معقولا؟ هل ضحينا
بالكثير الضروري من أجل أن نكون مثاليين؟ كم من نفسك يمكنك أن تهدره وتبقى نفسك؟
أما كان يمكن أن توجد سبل للحياة أقل إيلاما أو صعوبة، أو أكثر إشباعا، واتساقا مع
"الطبيعة الإنسانية" كما كان يمكن أن يقول الرومنتيكيون؟
وثمة نسخة مثيرة من الشخص المتفكر في هذه الأسئلة تتمثل
في "فيلهلم رايتش" الذي كان مؤخرا موضوع دراسة لـ "كرستوفر تيرنر"
عنوانها "مغامرات آلة الأورجازم Orgasmatron: فيلهلم رايتش واختراع الجنس". رايتش
كان محللا نفسيا تدرب على يد فرويد في فيينا، وعاش في الولايات المتحدة في
الخمسينيات، وكان رايتش شأن غيره من "التحريريين" في زمنه ـ من أمثال نورمان
أوه. براون، وهربرت ماركيوز، وآر دي لاينج، ـيفكر في سبل تحرر بها الرغبةُ الناسَ
من ربقة ما في العيش من كبت وقمع. كان رايش يرى أن من يعيش حياته بصورة خاطئة،
يجرم في حق نفسه، فمن شأن ذلك أن يجعل جسده يتصلب ويفتقر إلى المرونة. ويقول في "وظائف
الأورجازم" إن "الإنسان العادي اليوم فقد الاتصال بطبيعته الحقة"
ويكتب عن "قشور الحياة العاطفية الطبيعية وتكلساتها".
كان رايتش يعتبر فرويد تقليديا تشاؤميا، ويرى أنه ـ أي
فرويد ـ لم يمض بعيدا بالقدر اللازم فيما يتعلق بالاعتراف بمركزية مكان الجنسية في
الحياة البشرية. فإذا كان فرويد يرى أن الزهد قد يجلب نوعا من السعادة، فإن ما كان
يريده رايتش هو أن يعرف: لماذا ينبغي أن يوجد الزهد في المقام الأول؟ أما كان
البشر يهاجمون أكثر ما في أنفسهم حيوية، أي قدرتهم على الحب؟ أما كانت البنى
الفاشية والشمولية موجودة أيضا بداخل الفرد؟ فرويد ذهب إلى الرد بالإيجاب على كلا
السؤالين. وإلى أن الناس يحبون مرضهم، ويريدون أن يكونوا تعساء، والسعادة هي آخر
ما يرغبون فيه. و"إيروس الكامل"، أو الدواء المطلق، من ثم مستحيل.
لم يمض وقت طويل حتى تخلى رايتش عن فكرة "العلاج
بالكلام". فقد كان الكلام يستغرق وقتا طويلا، علاوة على عدم مباشرته وعدم
شموله. فبدأ في لمس مرضاه اعتقادا منه بأن الحل يتمثل في المزيد والأقوى من نشوة
الأورجازم. وإن انفجارة لذة كاملة، وقدرة جنسية، لكفيلة بأن تريك ـ وفقا لطبيعتك ـ
ما إذا كنت تعيش عيشة رديئة أم لا. هذه الرؤية الخَلاصية قد تبدو متهافتة للغاية عند
النظر إليها من زماننا الأقل سذاجة والأكثر ميلا إلى الشك. ولكن رايتش كان لديه ما
يقوله. فإذا لم تكن اللذة دليلا لك، فماذا يكون دليلك؟ لقد كان رايتش يدرك بعض
إبداعية الرغبة الجنسية، وثمن كبتها. وكم أفاق ناس من السبات النسبي بسبب لحظة حب
أو جنس غير متوقعة أوجدت إحساسا بالانفتاح على المزيد من الحياة والقدرة.
وإنني أتذكر طالبة من طلبتي، امرأة في أواسط الأربعينيات
من العمر، تحكي لي قصة طويلة مؤثرة عن إفاقتـ"ها عاطفيا وجنسيا وفكريا عندما
شعرت بحب صديق زوجها. تسبب هذا الحب في صدمة كبيرة لأسرتين، ولكنه ـ حسبما قالت ـ
كان يستحق. ولولاه، لبقي الحال على ما كان عليه، ولبقي ثمة الكثير من المعاناة
والطاقة المهدرة والحب الخامد والوجدان العاطل.
لقد كان الثوريون في الستينيات يدعون إلى سبل جديدة
للوجود، وطرق بديلة للتفاعل الاجتماعي. فما تريده الزانية ـ عادة ـ هو علاقة أفضل،
فيها المزيد من الحوار والدعم والاهتمام واللذة. وسؤالها هو هذا: كيف لنا أن نحصل
على ما نريد ونحن نحسن التصرف، بمعنى ألا نلحق العار بأنفسنا على الأقل؟
ليس هناك من يرضى بالتعاسة. والتعساء خطرون. فالمكتئب
والناقم قد يتحول إلى مخرِّب أو سادي. والزناة
ليسوا بالضرورة طوباويين، فالزنا يوضح فقط إمكانية المعنى والأمل والحب. وطالبتي
لم تكن ترغب في أي شيء من قبيل "التحرر الكلي"، أو الثورة، أو التركيبة
الاجتماعية الجديدة، بل كانت كل غايتها زيجة مشبعة. ويجدر بنا أن نلاحظ في بطلات
الأدب الكلاسيكيات كـ آنا كارنينا ومدام بوفاري وشخصيتا "لقاء عابر" لـ
ديفيد لين لسن خارجات بطبيعتهن. فما يطلبنه هو القليل للغاية، في مقابل كل شيء، ما
يطلبنه هو حب أكثر إشباعا. فالسعادة الكاملة خيال، لكن بعض السعادة ممكن، بل هو في
واقع الأمر، لا غنى عنه. وهناك من الناس من يمكنك أن "تجد" نفسك في
علاقة معه، وهؤلاء جديرون بأن تبحث عنهم. ولكن لذلك ثمنا. ولا بد لشيء ـ لا سيما
بالنسبة للنساء في ضوء طبيعة المجتمع ـ أن يتغير تغيرا راديكاليا فيتسنى تحقيق ذلك،
ولسوف يكون ثمة إحساس بالذنب لا مفر منه.
يتبين أن رايتش وأقرانه ـ بالمقارنة مع فرويد ـ أكثر محدودية،
إن لم يكونوا محافظين يركزون على نظرة شديدة الضآلة للحاجة والإشباع البشريين.
فرويد كانت له رحابة روائي، بينما رايتش كان كاتب عناوين. ولئن كان لا محيص عن
وجود قيد، فالسؤال هو: أي نوع من القيود؟
يذهب نيك وميج إلى باريس لأن الحب هو أعلى الشئون
اعتبارا على الإطلاق، وهما يريدان أن يعرفا أي نوع من العلاقات يجعل الحياة جديرة
بعيشها، وكيف يمكن أن يكون شكل المستقبل إن كان لهما مستقبل معا. هل معاناتهما معا
أقل مما لتكون عليه لو افترقا؟ وطبيعي أن يكون القرار الذي يتوصلان إليه في نهاية
الفيلم قرارا مؤقتا، ولكن الأسئلة التي يطرحانها لا بد أن تتكرر، لأنه ما من إجابة
واحدة كفيلة بإشباع كليهما.
نشرت هذه المقالة في صحيفة الجارديان البريطانية في الرابع
من أكتوبر الجاري استباقا لعرض الفيلم ونشر دار فيبر نسخة إلكترونية من السيناريو
حنيف قريشي (1954 ـ ) روائي وسيناريست بريطاني، حصل على العديد
من الجوائز المرموقة، وترجمت من رواياته إلى العربية "بوذا الضواحي" و"الحمييمية"،
وغيرهما.
نشرت نسخة محررة من المقالة اليوم في جريدة عمان والمقال الأصلي منشور هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق