تشارلي كوفمان: أكتب عن جرح كلنا
مصابون به
(2)
تشارلي كوفمان
غريب أن يكون المرء إنسانا. تجدنا نفكر في الأمور،
ونتساءل. ويبدو أننا بهذا نحتل من الكون موضعا مميزا، أنا شخصيا لا أتنازل عنه ولو
في مقابل اليقين، لأنك لا تكتسب اليقين إلا وتخسر الفضول. وإليكم شيئا واحدا أعرفه
عما أنا على يقين منه: أنني على خطأ.
هذه بالطبع مفارقة، فكيف يتأتي أن تعرف أنك لا يمكن أن
تعرف أي شيء؟ لولا أن الأمر ليس كذلك، إنما هو مجرد نظرية. فأنا أبقى طول الوقت
منفتحا على احتمال أن يثبت أنني على خطـأ. وإليكم "هارولد بنتر" من
جديد، فأنا أحب "هارولد بنتر": "ليس هناك في الفن الدرامي بالمطلق
ذلك الشيء الذي يقال له الحقيقة الواحدة، إنما هي حقائق كثيرة. وهذه الحقائق تناطح
بعضها البعض، وتتراجع أمام بعضها البعض، وتتأمل بعضها البعض، وتتجاهل بعضها البعض،
وتصيب بالحنق بعضها البعض، وتعمى عن بعضها البعض، وقد تشعر أحيانا أن الحقيقة بين
يديك ثم إذا بها تنسرب من بين أصابعك إلى الضياع".
وفقط، هذه هي النهاية، لأنني أريد الآن أن أكمل ولا
أريدكم أن تتصوروا أن المسألة كلها عند "هارولد بنتر". إليكم إياي لبعض
الوقت. أعتقد، أيوة أيوة، إنه إياي لبعض الوقت. أعتقد أن المانيفستو شيء قيم، وهو
كل ما يمكن لأحد أن يكلمكم عنه، كيف تقومون بالأشياء، هو شيء تكوِّنون رد فعل
تجاهه. يمنحكم بؤرة، إطارا من خلاله تقولون "لماذا؟". وهو ما يصح على أي
رؤية سيكولوجية أو عاطفية قد تكون لديكم، أو تكونون قرأتموها أو رأيتم تعبيرا
عنها.
خطأ دائما أن تستقروا على أي تفسير لأي شيء، فمهما يكن ما
تستقرون عليه تكونون على خطأ، حتى وإن كنتم على حق. ذلك أن كل شيء زائل، كل شيء في
حالة سريان مستمر. وإن تجاوز تفكيركم لأي نتيجة تتوصلون إليها سوف يجازيكم برؤية
أشد تعقيدا ونظرة إلى العالم أكثر رحمة. وهذا شيء أحاول طول الوقت أن أتعلمه،
وأتعلمه.
وهنا مقتطف أحبه، هو هذه المرة طويل بعض الشيء، لكنني
أعتقد أنه جيد. مقتطف من رجل اسمه "جون جارفي": "إن قناعتي لتتزايد
بأن احتياج المرء إلى أن يكون على صواب أمر لا علاقة له ألبتة بحب الحقيقة، لكن
مواجهة ما يترتب على هذا تعني القبول بفراغ داخلي مؤلم: أنا لست الآن ما أستشعر
أنني ينبغي أن أكونه. أنا لا أعرف ما أشعر في قرارة نفسي أنني بحاجة إلى أن أعرفه.
وإن أول طريق الحكمة هو ألا تهرب من هذا الإحساس أو تلهي نفسك عنه. ومهم للغاية
ألا تملأه بالأجوبة الجاهزة التي لم تستخلصها بعرقك. ومهم أن تتعلم كيف تنتظر
وملؤك الفراغ. فالرغبة في ملء هذا الفراغ هي التي تفضي إلى التعصب في الدين أو في
السياسة".
فكروا في رد فعلكم عليّ، تجاوزوا ما انتهى إليه تفكيركم.
لماذا تكوَّن فيكم رد الفعل هذا؟ لماذا تأتي منكم ردود أفعال معينة إزاء أمور
معينة؟ ما علاقة رد الفعل هذا بحاجاتكم؟ أين العلاقة؟ كيف كان رد الفعل هذا ليتغير
لو كنت أكبر سنا؟ أو أصغر؟ أو امرأة؟ أو من عرق آخر؟ أو بريطانيا؟ ما معنى هذا
فيكم، أعني تغير رد الفعل؟ ما معناه فيما يتعلق بذاتية آرائكم؟ ماذا لو كنت إياي
لكن سلوكي كان مغايرا؟ ماذا لو كنت بدوت أكثر ثقة؟ أو أقل ثقة؟ ماذا لو كنت بدوت
أميل إلى الخنوثة؟ أو أبعد عن الخنوثة؟ ماذا لو كنت سكران؟ ماذا لو كنت على شفا
البكاء؟
فكروا في كل هذه التخمينات، وفي كل ما ينتج عن كل تفاعل.
فكروا في كل ما تضيفونه أنتم إلى كل لقاء. واضربوا هذا في عدد الموجودين هنا.
والآن ما حجم ما يجري في هذه الغرفة وكيف لنا أن ننسج منه فيلما؟
إن تحدى
تعدد زوايا النظر يرغمنا على الانتهاء إلى حلول، إن نحن غضضنا النظر عن المعالجات
التقليدية. والأفلام تنزع إلى الصلابة الشديدة في تركيب الأحداث والشخصيات. وهي
وسيط مخادع للغاية للتعامل مع حيواتنا الداخلية. ولكنني أعتقد في الوقت نفسه أنها
وسيط عظيم للأمر ذاته. والأفلام تشترك في الكثير مع الأحلام، والأحلام بالقطع لا
تتعامل إلا مع حيواتنا الداخلية. وإن ثمة وصلة من مخكم لتمرير الحالات العاطفية إلى
الفيلم.
تأتي الأحلام مكتوبة ببراعة. أحلامكم تأتي مكتوبة
ببراعة. وأنا أعرف هذا بدون أن أعرف أيا منكم. فالناس تحيل مخاوفها وأزماتها
وأشواقها وحبها وندمها وإحساسها بالذنب إلى قصص جميلة ثرية في أحلامهم. فما ذلك
الذي يتيح لنا في أحلامنا تلك الحرية الإبداعية ولا نملكه في حيواتنا الصاحية؟ لا
أعرف، لكنني أخمن أن السبب يرجع جزئيا إلى أننا في أحلامنا لا نكون مقيدين بقلقنا
على الطريقة التي سوف نظهر بها للآخرين. إنما هي حوارات خاصة مع الذات، ولو أن هذا
القلق قائم فهو يتحول إلى جزء من الحلم. أعتقد أننا لو استطعنا أن نصل في عملنا
إلى مثل هذا النهج، فالنتيجة سوف تكون مختلفة.
والآن، ما السيناريو؟ أو ما المحتمل أن يكون السيناريو؟
بما أننا نتكلم تحديدا عن السيناريوهات في هذه الليلة. السيناريو استكشاف. شيء
يتعلق بما لا تعرف. خطوة إلى الهاوية. هو بالضرورة يبدأ من موضع ما، من أي موضع
كان، ثمة نقطة للبداية، وما يعقبها غير محدد. هو سر، حتى عليك. ما من قالب
للسيناريو، أو بالأحرى، لا ينبغي أن يكون ثمة قالب. وهناك على أقل تقدير
سيناريوهات محتملة بعدد ما هناك من بشر يكتبونها. ولكننا، مخدوعين، نتصور أن هناك
قالبا مسبقا. وشأن أي تجارة كبيرة ، تؤمن تجارة السينما بالإنتاج الضخم، فهو أرخص
الأنماط الإنتاجية وأكفؤها.
ولكنني لا أريد أن أتكلم عن هذا الجانب من كتابة
السيناريو. وهاكم ما أعرفه عن السيناريو، هو ببساطة نص يصف ما يجري في فيلم. وحتى
هذا التعريف أنا لست على يقين منه.
أعتقد أن ما قد يجعل هذا النمط من أنماط الاستكشاف مثيرا
لدى بعض الكتاب هو أنه يتيح لهم أن يجدوا أنفسهم في بيئة تشجعهم على استكشاف
العالم، والعقل، والقالب نفسه. فكروا في الإمكانيات المذهلة لزواج الضوء والذبذبة
والزمن. أتصور أن الصنعة شيء خطر. لقد شاهدت إعلان فيلم، لا أريد أن أقول أي فيلم
هو، ولكنه سيكون معروضا عما قريب. وكان رائعا، كان ... رائعا. وجعلني فعلا أصاب
بالاكتئاب، وحاولت أن أعرف لماذا.
أعتقد أن السبب هو ما بدا فيه من طغيان للصنعة والمهارة عند
صناعه. ولكنه برغم كل ذلك ليس إلا نفس الخراء. أعرف أن هذا الفيلم سوف يحقق نجاحا جيدا،
وأعرف أن صناعه سوف يحصلون على جوائز، وتستمر العجلة. ولذلك أتصور أن خطورة الصنعة
تأتي من ضرورة أن يكون موضعها ثانيا لما تقوم أنت بعمله.
وإنه لأمر مغو أن تضع الصنعة في المقدمة، وذلك يحدث في
الغالب لأن ما تفعله نفسه ليس له معنى، أو هو تافه، أو مكرر لا أكثر ولا أقل. فلكي
تتميز فيه عليك أن تكون ماهرا في عمله، ماهرا جدا، جدا. أعتقد أنك لا بد أن تكون
عازما على التعري الكامل وأنت تفعل أي شيء مبدع في فيلم أو في أي قالب آخر، وذلك
بحق ما ينبغي عليك القيام به، فلولا ذلك لصار من الصعب للغاية التفرقة بينه وبين
التسويق. أعتقد أنه، نوعا ما، يصبح مثل ما يتناوله بالضبط.
"يقف المحاضر على الخشبة، ينظر إلى الجمهور، وهو في
الحقيقة لا يعرف سببا لوجوده هنا. لا يعرف. مرة بعد مرة في حياته، يجد نفسه حيثما
لا يملك لوجوده تفسيرا، أي تفسير. يعرف أنه هنا لإلقاء محاضرة، ويقول لنفسه إنه
يعتزم أن يجيد فيما يفعله. لكنه يعرف أن هذا المنطق ينسحق عند تمحيصه فلا يبقى منه
غير غبار. لأن ما يريده هو أن يغيِّر ما هو إياه. إنه يقبل كل مأزق يصادفه من هذا
النوع، وكل تحد. يقبله لكي ينتقل بنفسه إلى المستوى التالي من الصدق.
كل مرة يذهب على أمل أن يخرج إنسانا حقيقيا. يعرف أنه لو
واجه عددا كافيا من المخاطر فسيكون في نهاية المطاف شيئا ما. شيئا يعيش حياة
حقيقية. على جبينه عرق". ولكن من أين عرفت [بأمر العرق]؟ أمر مدهش، لأنني
كتبت هذا قبل أسبوع، وإذن ...
"وبحيرات عرق في إبطيه". وهذا صحيح لكنني لن
أريكم. "يشعر به إذ يتقاطر في كمه،
مبللا يديه ..." يداي في الواقع غير مبلولتين، فهما لا تتعرقان. وذلك من
النعم التي أوتيتها. هما الجزء الوحيد الذي لا يتعرق لديَّ، لسبب لا أعرفه. وإذا
كانت يدي مبتلة الآن، فذلك لأنني مسحت بها جبهتي.
المفترض أنه سوف يتكلم في موضوع اختير له لأنه خبير فيه،
ولكن الموضوع غير واضح له وهو يشعر بالوحشة، وهذه هي الحقيقة. يشعر أنه واقع في شرك أحمال هائلة، التاريخ
الذي يحمله، العلاقات المنحرفة، العلاقات القائمة على التنازلات، الطموحات التي تلفه
كالأكفان. الحاجة. هو آلة احتياج، احتياج لا يتوقف. ينظر إلى الجمهور. لا يعرفون
ما الذي يمكنهم أن يفعلوا به. ما الذي يجعله يقرأ هذه القصة وهو واقف هناك؟
المفترض أن يلقي محاضرة عن كتابة السيناريو. ووسط الجمهور شخص سعيد، ثمة قطار
يتحطم أمامه وهو جالس يتفرج. والمحاضر يعرف هذا. فهو يعتقد أنه نظر في كل رد فعل
محتمل من الجمهور. يريد أن يموت قتيلا على أيديهم، يريد أن ينال إعجابهم وعشقهم،
يريد أن يروه جذابا. وهو يكره نفسه لهذا السبب، فهذه هي البضاعة التي يبحث عنها
دائما ولكن هدفه هنا الليلة هو أن يكون مختلفا. يريد أن يكون حقيقيا. حقيقيا في
هذا المكان المفتعل. لكنه لا يستطيع. وسرعان ما تنظر إليه الحقيقة في عينيه، فهذا
هو، هذا هو الحقيقي. هذا الشيء الذي يريده ويرغبه ويحتاجه. واقف ها هنا متعاظم ككل
من يقف وقفته قائلا "انظروا إليّ".
ولكن الألم والخواء حقيقيان. الألم الممتد إلى الوراء
وصولا إلا غبشة طفولته. إنه يغادر. ذلك هو الأمر، الأمر مختلف عن كل ما سبق أن
فعله. يبتعد عن الخشبة. يفكر وهو خارج "هؤلاء الناس دفعوا نقودا. خروجك هذا
سيعرض على يوتيوب. أنا انتهيت. والحياة التي عشتها حتى هذه اللحظة تغيرت إلى
الأبد، بمجرد خروجي من المسرح. هل سيرفضون الآن أن يدفعوا ثمن غرفتي في الفندق؟
وتذكرة الطيران إلى بلدي؟ إنها غلطة فظيعة. ربما عليّ أن أرجع".
ربما يمكن أن أقول إنني "كنت بحاجة إلى أن أحضر
شيئا". يتلفت حوله، يتناول زجاجة ماء ويتجه راجعا إلى المنصة. يقول للجمهور
إنه كان بحاجة إلى بعض الماء، ويستسمحهم أن يغفروا له المقاطعة. يفتعل الدهشة
حينما يرى أن على المنصة زجاجة ماء، يطلق نكتة عن المياه ... شيئا ينال به من نفسه.
بضاعته المعتادة المعروفة عنه، اليسيرة عليه. ينال ضحكة، لقد رجع. أهلا بك في
منطقة الأمان، أهلا بك في مدينة الافتعال، وهو يشعر بالخجل لكن عليه أن يكمل.
يستل إذن احتياطيه القديم في الموضوع الذي له فيه باع
طويل، ويقدم فقرته المتواضعة المستهلكة وينهي الليلة. لعب اللعبة فلم يغير في نفسه
شيئا أو في العالم، ولكن الرضا باد على وجوه الذين جاءوا به هنا. يصيبه اليأس، لقد
ظل يفكر شهورا في هذه الليلة، حتى صارت لها في ذهنه أهمية جسيمة. لقد ظن طويلا أنه
بهذه المحاضرة سوف يغير المسار. سيكشف عن ذاته الحقيقية للمرة الأولى وبعدها
يتحرر. وها هي المحاضرة انتهت وكل شيء على حاله. يرجع إلى الفندق، ليجلس في البار،
و"لم يبق من أمل".
قرأت مؤخرا مقالة عن الاستقواء bullying. الجميع
يشهرون سلاحهم ضد الاستقواء، وليس إلا قلة تجهر باعتباره شيئا جيدا. إنه جزء من
التنشئة، يبني الشخصية. الشيء الذي استبعدته هذه المقالة ولا يبدو أنه جزء من
النقاش هو أن الاستقواء عنصر مهم من ثقافتنا. فالاستقواء الأطفال على الأطفال لا
يأتي من عدم. ويبقى السؤال عما إذا كان الاستقواء جانبا أصيلا من الطبيعة البشرية،
ولكن ذلك لا يغير حقيقة أن الثقافة التي تقاوم الاستقواء بدلا من أن تشجعه فرصتها
أكبر في تحجيمه.
ثقافتنا تسويق. فما التسويق؟ هو محاولتك مع الناس كي
يفعلوا ما تريد أنت أن يفعلوه. ذلك ما يحرك ثقافتنا الاستهلاكية. ذلك ما يحرك
السياسة، وما يحرك الفن، الموسيقى، والأفلام، والكتب، والفنون الجميلة، فهو جزء من
كل منحة بحثية. ولا أريد أن أشارك فأقول لكم كيف تبيعون سيناريو أو كيف تكتبون
فيلما ناجحا أو كيف تتواءمون مع النظام القائم. بل أريد أن اقول لكم إن عندي أملا
بأن تكون ثمة وسيلة أخرى للوجود في العالم، وإنني أعتقد أنه بالشجاعة والرقة
والصدق يمكن لما نبثه في العالم أن يخدم غرضا أفضل.
الطريقة التي تعمل بها السينما الآن، وأنا هنا أتكلم عن
التيار السينمائي المهيمن على الصناعة، هدفها الوحيد هو حملكم على شراء تذكرة.
الهدف الوحيد. الهدف الوحيد. الهدف الوحيد. الهدف الوحيد. وبهذه النية يجري صنع
الأفلام التي نراها، وبالأفلام التي نراها يجري صنعنا. وفي الحكم تدنينا إلى نفس
اللعبة. فبالاحتيال، والتشويش، والاستقواء، وترويج الخوف، يتحقق الهدف من تسويق
مرشح.
أنا لا أفهم أشياء كثيرة، ولا أفهم الكم الذي أود أن
أفهمه عن أي شيء، ولكنني إنسان، ولن أدخل في تنافس على حقي في أن ألقى معاملة
لائقة. لن ألعب اللعبة. ولا ينبغي لأحد أن يفعل. وفي المقابل لن أستغل قدرتي مهما
تكن على الوصول إلى مخاوف الناس لكي أبيع لهم أشياء، من بينها، نفسي.
مخيف هو العالم اليوم. وطالما كان كذلك. لكن زماننا اختص
بشيء جروتسكي يحيط بنا تمام الإحاطة. ولا بد لنا أن نرى أن هذا الشيء ليس هو
الحقيقة، إنما هو اختيار نختاره، أو نسمح للآخرين أن يختاروه لنا.
أرجو مخلصا أن أكون قد قلت الليلة شيئا ذا قيمة أو
فائدة. إنني لا أستطيع أن أخبر أحدا كيف يكتب سيناريو، فالحقيقة أن أي شيء ذي قيمة
يمكن أن تفعلوه، هو شيء لا بد أن يأتي منكم. والطريقة التي أعمل بها ليست الطريقة
التي تعملون بها، وذلك هو خلاصة أي عمل إبداعي. الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أقدمه
هو أنا، والشيء الوحيد الذي يمكنك تقديمه هو أنتم، ولئن أنتم قدمتم أنفسكم بطريقة
أصيلة وسخية فإنكم سوف تحدثون تأثيرا عليّ. لقد ولد كل واحد منكم في جسد، وأسرة،
ووضع، وكيمياء مخ، وجنس، وثقافة، وزمن، مثلي. وإنني أشعر في بعض الأحيان بقوى
هائلة تجذبني في مختلف الاتجاهات، إلى مختلف الأشياء، فتخلقني خلقا.
إنني أراقب ردود أفعالي، وهي في كما كانت في أبي. أعرف
أنها موروثة عبر جينات وظروف، مثلما ورثها أبي. وإنني لأستشعر وحشة هائلة في هذا
السجن، يضاف إليها إحساس جسيم بالعار، لأن هذا السجن كان ولا يزال مفتوح الباب.
لكنني أنا العاجز عن الخروج، فكم أنا ضعيف. كيف لا يمكنني أن أكون أعقل؟ وأصح؟
وأكرم؟ الشركة التي تصنع لي حذائي تقول لي إنني أقدر على هذا، وإن القرار قراري.
ويا لها من علامة ضعف هائلة إذا أنا لم أمتثل لأمرها: Just Do It، إذا أنا لم
أفعلها ببساطة.
وهؤلاء هم قساوسة زماننا، ومعالجوه النفسيون، هؤلاء هم
بابا ذو اليد الثابتة والقلب الحاوي لمصلحتك. شركة الأحذية صاحبة المصانع المستغلة
لعمال العالم الثالث الفقراء هي بابا. ولست أعرف الوضع عندكم لكنني مستعد للتأثر
حد البكاء بالسلع التي ينتجها هؤلاء الناس، وكم هي وضيعة.
امنحوا أنفسكم الحرية للتغير فيما تكتشفون ... إنني ...
كما لو أنني أنقّط. كما لو أنني أتفرج على نفسي وأنا أمطر. المسألة ليست متعلقة
بأعصابي، ولكن الجو حار هنا فعلا. ولكن هذه السترة الصوفية التي ارتديتها بعدما
قيل لي إن لندن باردة تماما كما تعرفون، هذه السترة فاشلة تماما. فعلا يعني. أحتاج
سترة من خامة فيها بطبيعتها ثقوب، من التي يرتديها الرياضيون في بعض الأحيان. خامة
شبكية، سترة شبكية هي الحل.
امنحوا أنفسكم الحرية للتغير فيما تكتشفون، وامنحوا
السيناريو الذي تكتبونه حق النمو والتغير بينما تعملون عليه. ستكتشفون أشياء وأنتم
تعملون. ولا ينبغي لكم أن تنحوا هذه الأشياء جانبا، حتى إذا لم تكن ملائمة. تعالوا
لا نتجاهل الأصوات الصغيرة طلبا للتبسيط. لا تطلبوا التبسيط. تعالوا لا نقلق على
كيف سنبدو، تعالوا لا نقلق من الفشل. الفشل شارة شرف، تقول إنكم خاطرتم بالفشل.
وإذا أنتم لم تخاطروا بالفشل فما أنتم بفاعلون شيئا مختلفا عما سبق أن فعلتموه أو
ما فعله غيركم.
كل ما عليكم أن تعرفوه هو أن هذا ما تختارونه حقا حينما
تنأون بأنفسكم عن مخاطرة من هذا النوع. لا تعمدوا إلى التقسيم والتصنيف لتبسيط
الأمور عما هي عليه، ولا تعملوا بهدف الوصول إلى نتائج. امنحوا أنفسكم الوقت،
واتركو كل شيء للاختمار. إنكم تفكرون في شيء، أدركتموه أم لم تدركوه. اسمحوا
للاوعي أن يسود فذلك يمنحكم الحرية ويفاجئكم ويعفيكم من إصدار الأحكام. وفي كل
لحظة، يريد كل شخص شيئا. وأحيانا أشياء كثيرة، وأحيانا أشياء متعارضة. فافهموا هذا
عن شخصياتكم، وعن أنفسكم.
الحكي بطبيعته خطر. فلو أنكم تنظرون في حدث قاس في
حياتكم، فانظروا فيه مثلما عرفتموه بأنفسكم حينما جرى. ثم انظروا كيف حكيتموه بعد
عام لشخص ما. ثم انظروا كيف حكيتموه للمرة المائة. إنه لم يعد نفسه. ثمة مكونات
قليلة تدخل لتغيّر. منها المنظور. يرى أغلب الناس أن المنظور شيء مطلوب في القصة.
به تتنبأون بمنحنيات الشخصية، ويمكنكم أن تضعوا مغزى، أو تحكوا من على بعد بفهم
للسياق. مشكلة المنظور فقط أن فيه إساءة تمثيل للحدث، فهو إعادة بناء لا ينقصها
المعنى، ومن ثم فهو بعيد الشبه عن الحدث نفسه.
الشيء الآخر الذي يحدث في الحكي هو عملية التكيف مع
الجمهور، وهذه تحدث بمرور الوقت. تكتشفون أي أجزاء القصة أنجحها، وأيها أجملها،
وأيها يستحق الرمي في البحر. فتفصّلون تفصيلا.
وإذا بهدفكم، والأسباب التي تدعوكم إلى الحكي هي التسلية، واستجلاب
التعاطف. وهذا يصدق على قصة تروى أثناء العشاء، مثلما يصدق على قصص ترويها
الأفلام.
وأنا الآن أنخل بضاعتي لأرى إن كان هناك ما يمكن قوله،
فهل أنهي؟
الجمهور: لا
يتبع
تشارلي كوفمان (1958 ـ ) سينمائي
أمريكي، يكتب السيناريو بالدرجة الأساسية، لكنه منتج ومخرج أحيانا. هو واحد من أهم
كتاب السيناريو الحاليين في السينما الأمريكية، وأكثرهم اختلافا، ونجاحا على
المستوى النقدي. من أهم أعماله Being John Malkovich، Adaptation،Eternal
Sunshine of the Spotless Mind.
وHuman Nature، وغيرها. كما أنه حصل على عدد جيد من أهم
الجوائز السينمائية. هذه المحاضرة ألقاها كوفمان في 30 سبتمبر 2011 في الأكاديمية
البريطانية لفنون السينما والتليفزيون BAFTA.
نشرت الحلقة الأولى من ترجمة المحاضرة الأسبوع الماضي بعنوان "تشارلي كوفمان: أكتب عن جرح كلنا
مصابون به" وهو اجتهاد من المترجم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق