كم من شيء يحدث في يوم لا يحدث فيه شيء
مختارات من فسوافا شمبورسكا
تضم
الصفحات التالية قصائد للشاعرة البولندية فسوافا شمبورسكا، ترجمت إلى العربية اعتمادا
على ترجمات إلى الإنجليزية بأقلام كلير
كفاناج Clare
Cavanagh و جوانا ترزيشياك Joanna
Trzeciak وستانيسلاف بارنسزاك Stanisław Barańczak ونشرت
جميعا في مواقع إلكترونية أمريكية مرموقة هي موقع "أكاديمية الشعراء
الأمريكيين" وموقع "مؤسسة الشعر" وموقع مجلة "شعر". وفي
الصفحات التالية كذلك، مختارات من ردود فسوافا شمبورسكا على قراء كانوا يرسلون
محاولاتهم الشعرية إلى صحيفة "الحياة" الأدبية
البولندية التي كانت شمبورسكا مشرفة على صفحتها الأدبية، وقد انتقت هذه الردود
وترجمتها إلى الإنجليزية كلير كفاناج ونشرت على موقع "مؤسسة الشعر". وهناك أيضا خطبة قبول جائزة نوبل في الأدب التي ألقتها فسوافا شمبورسكا
وجعلتها بعنوان "الشاعر والعالم".
كيف تكتب الشعر أو
لا تكتبه
إلى هليودور من برزيمايسل:
تقول في رسالتك: "أعرف أن في قصائدي أخطاء كثيرة،
لكن وما المشكلة؟ لن أتوقف لتصحيحها". طيب، لماذا يا هليودور؟ ربما لأنك تقدس
الشعر أكثر مما ينبغي؟ أم ربما تعتبره أمرا تافها؟ كلتا الطريقتين في معاملة الشعر
خاطئتان، والأسوأ هو أنهما تعفيان الشاعر المبتدئ من ضرورة الاشتغال على شعره. من
اللطيف دائما أن نحكي لمعارفنا عن روح الشاعر التي استولت علينا يوم الجمعة الساعة
ثلاثة إلا ربع الظهر وأخذت تهمس في آذاننا بأسرار غامضة بحماسة كبيرة، فكنا لا
نكاد نجد الوقت لتدوينها. ولكن في البيت، وخلف الأبواب الموصدة، تأتي هذه الروح
لتصحح وتحذف وتعدل تلك الأقوال الآتية من عالم آخر. الأرواح لطيفة وأنيقة ولكن حتى
الشعر يا هليودور له وجهه الأرضي".
إلى
ه و من بوزنان، الراغب في أن يكون مترجما
"يجب على المترجم ألا يخلص للنص وحسب. عليه أيضا أن
يكشف كل جمال الشعر فيما يحافظ على شكله ويحتفظ قدر المستطاع بروح العصر
وأسلوبه".
إلى
جرازيانا من ستاراتوفيس:
هيا بنا ننزع الأجنحة ونحاول الكتابة ونحن واقفون على
أقدامنا، ممكن؟
إلى
السيد ج ك من وارسو
"أنت محتاج إلى قلم جديد. القلم الذي معك يغلط
كثيرا. هو أكيد مستورد.
إلى
السيد ك ك من بايتم
أنت تتعامل مع الشعر الحر، وكأنه حر تماما. ولكن الشعر
(مهما يكن وصفنا له) كان، ولا يزال، وسيظل، لعبة. ولكل لعبة ـ كما يعرف كل طفل ـ
قواعدها. طيب، لماذا ينسى الكبار هذا؟
إلى
بوسزكا من رادك:
حتى الملل لا بد من وصفه بحماس. فكم من شيئ يحدث في يوم
لا يحدث فيه شيء
إلى
بوليسلاف ل ك ومن وارسو
آلامك الوجودية تنفرط بسهولة شديدة. والناس عندها ما
يكفيها من اليأس والأعماق المقبضة. و"الأفكار العميقة" كما يقول عزيزي
توماس (توماس مان طبعا، ومن غيره؟) "ينبغي أن تحملنا على الابتسام".
ونحن نقرأ قصيدتك "المحيط" نجد أنفسنا نتخبط في بركة ضحلة. عليك أن تنظر
في حياتك باعتبارها مغامرة فريدة حدثت لك. هذه هي نصيحتنا الوحيدة في الوقت الرهن.
إلى
مارك، من وارسو أيضا
عندنا مبدأ هو أن كل القصائد التي تدور عن الربيع لا
تستأهل النشر. هذا الموضوع لم يعد له وجود في الشعر. هو موجود بقوة وحيوية في
الحياة، طبعا. ولكن هذه نقرة وهذه نقرة.
إلى
ب ل من حي روكلو
الخوف من الكلام المباشر، والمحاولة المضنية المستمرة
لإضفاء بعد استعاري على كل شيء، والاحتياج اللامنتهي إلى إثبات أنك شاعر في كل
بيت: هذه مخاوف تسيطر على كل شاعر كبير مبتدئ. ولكنها قابلة للعلاج، إذا تم
التشخيص في الوقت المناسب.
إلى
ز ك من بوزنان
استطعت أن تقحم من الكلمات الجليلة في قصائدك القصيرة
أكثر مما استطاع أغلب الشعراء في أعمار كاملة: الوطن، الحقيقة، الحرية، العدالة.
تلك الكلمات ليست رخيصة. تلك الكلمات يجري فيها دم حقيقي، لا يمكن أن يغنينا عنه
المداد.
إلى
ميشال في نواي تارج:
حذر ريلكه الشعراء الشباب من المواضيع الضخمة الكاسحة،
لأنها الأصعب والأكثر تطلبا للنضج الفني. وأشار عليهم بالكتابة عما يرونه حولهم،
وعن الطريقة التي يقضون بها أيامهم، وعما ضاع منهم، وعما وجدوه. وحثهم على إدخال
الأشياء المحيطة بنا إلى الفن، وكذلك صور الأحلام، وما تستدعيه الذاكرة. وكتب يقول
"إذا بدت الحياة اليومية تافهة لك، فلا تلق اللوم في هذا على الحياة. أنت
الذي يقع عليك اللوم. فليس فيك من الشاعر ما يكفي لإدراك ثراء الحياة". قد تبدو
لك هذه النصيحة تافهة وثقيلة الدم. وهذا ما جعلنا نوجهها لك من خلال واحد من أكثر
شعراء العالم نخبوية .. انظر كم أثنى على ما يسمى بـ "الأشياء العادية".
إلى
أولا من سوبوت
"تعريف للشعر في جملة واحدة ـ طيب". عندنا على
الأقل حوالي خمسمائة تعريف، ولكن لا يوجد بينها ما يفحم المرء بدقته وشموله. كل
واحد منها يعبر عن ذائقة عصره. من جانبنا، لا نحاول أن نجرب يدنا، بسبب نزوع فطري
إلى الشك. ولكننا نتذكر مقولة جميلة لكارل ساندبرج: "الشعر: يوميات يكتبها
كائن بحري، يعيش على البر، حالما بالطيران".
إلى
ل ك ب ك من سلوبسك
"نريد من شاعر يقارن نفسه بـ إيكاروس أكثر بكثير
مما تكشف عنه القصيدة الطويلة المرفقة برسالتك. يا سيد ب ك أنت لم تضع في حسبانك
أن إيكاروس هذا الزمن يطير فوق أفق مخالف لأفق الزمن السحيق. فهو يرى طرقا سريعة
مغطاة بالسيارات والشاحنات، ومطارات، ومدارج طيارات، ومدنا ضخمة، وموانئ عصرية
فسيحة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. ألا يحتمل أن تمرق جنب أذنه طائرة؟
إلى
مستر بر. ك من لاسكي
قصائدك النثرية متأثرة بالشاعر العظيم الذي يبدع أعماله
اللافتة وهو في حالة نشوة كحولية. قد نجازف ونخمن الشاعر الذي يسيطر عليك، ولكن
الأسماء ليست شاغلنا هنا في نهاية المطاف. بل القناعة المضللة بأن الكحول ييسر فعل
الكتابة، ويكسب الخيال جرأة، والإحساس رهافة، ويؤدي عددا آخر من الوظائف النافعة
في تحريض روح الشاعر. يا عزيزي مستر ك، لا هذا الشاعر، ولا أي شاعر ممن عرفناهم
معرفة شخصية، بل ولا أي شاعر آخر كتب أي شيء عظيم وهو تحت التأثير الخالص للشراب
القوي. كل الأعمال الجيدة خرجت من الجهد، والاتزان المؤلم، دونما طنين لطيف في
الرأس. "كثيرا ما تأتيني أفكار مع الفودكا، ولكن بعدها يصيبني الصداع"
هكذا قال فيسبيانسكي Wyspianski. ولو أن الشاعر يشرب، فهو يشرب بين قصيدة وقصيدة. هذه هي الحقيقة
العارية. لو كان الكحول يؤدي إلى شعر عظيم، لكان واحد من كل اثنين في هذه البلد
هوراس على الأقل. وهكذا نحن مرغمون إلى تحطيم خرافة أخرى. ونأمل أنك سوف تخرج سالما
من تحت الأنقاض.
إلى
إ. ل. من وارسو:
ربما عليك أن تتعلم أن تحب بالنثر
إلى
إسكو من سييرادز
الشباب بالفعل مرحلة مخاتلة في حياة المرء. ولو أضفنا
إلى مصاعب الشباب طموحات كتابية، فلا بد أن يتحلى المرء ببنية ذات قوة استثنائية
لكي يحتمل. مكونات هذه البنية ينبغي أن تحتوي على: إصرار، اجتهاد، قراءة واسعة،
فضول، ملاحظة، فتور تجاه الذات، حساسية تجاه الآخرين، تفكير نقدي، حس كوميدي،
واعتقاد راسخ بأن العالم يستحق ما يلي: أ ـ أن يبقى موجودا، ب ـ حظ أفضل مما توفر
له حتى الآن. المحاولات التي أرسلتها تشير فقط إلى الرغبة في الكتابة ولا شيء آخر
مما سبق وصفه. عملك لا يستهدف غيرك.
إلى
كالي من لودز:
"لماذا" هي أهم كلمة في لغة هذا الكوكب، وربما
في المجرات الأخرى أيضا.
إلى
بالتسيت من سكاريسكو كام:
القصائد التي بعثتها تشير إلى أنك فشلت في معرفة فارق
أساسي بين الشعر والنثر. مثلا، في القصيدة التي عنوانها "هنا" مجرد وصف
نثري عادي لغرفة وما تحتويه من أثاث. في النثر يقوم هذا الوصف بوظيفة محددة: أنه
يهيئ المشهد لحدث قادم. ففي لحظة، سوف ينفتح الباب، وسوف يدخل شخص، وسوف يحدث شيء.
أما في الشعر فالوصف نفسه هو الذي ينبغي أن "يحدث". كل شيء يصبح ذا
أهمية، وذا معنى: اختيار الصور، وأماكنها، والشكل الذي تتخذه من خلال الكلمات. ولا
بد لوصف غرفة عادية أن يتحول أمام أعيننا إلى اكتشاف تلك الغرفة، والإحساس الكامن
في هذا الوصف لا بد أن يصل إلى القارئ. وإلا، فسوف يبقى النثر نثرا، مهما اجتهدت
في تقطيع جملتك إلى أبيات منظومة. والأسوأ من كل ذلك، أن شيئا لا يحدث بعد
هذا".
الشاعر والعالم
يقولون إن أول جملة في الخطبة هي الأكثر صعوبة. حسن، هي الآن خلفي على أية حال. ولكن لدي شعورا بأن كل جملة آتية ـ ثالثة كانت أو سادسة أو عاشرة وما تلاها حتى آخر سطر ـ ستكون على القدر نفسه من الصعوبة، ما دام المفترض أن أتكلم عن الشعر. ما أقل ما قلته في هذا الموضوع، يوشك في واقع الأمر ألا يكون شيئا على الإطلاق. وكلما أقول فيه شيئا، إذا بشك وضيع ينتابني في أنني لم أحسن القول. لذلك فمحاضرتي ستميل إلى الإيجاز، وكل العيوب مغفورة متى كانت قليلة الجرعات.
يتشكك الشعراء المعاصرون حتى في أنفسهم، أو ربما في أنفسهم على الأخص. فهم لا يعترفون على الملأ أنهم شعراء إلا بعد تمنع، كأنما هم يخجلون من هذا الأمر بعض الشيء. ولكن ما أسهل الاعتراف في هذا الزمان الصاخب بغلطاتك، خاصة إن كانت مغلفة على نحو جذاب على الأقل، مقارنة مع إدراك مزاياك، وهي المخبوءة في الأعماق لا تلقى منك أنت نفسك إيمانا بها... عند ملء الاستمارات، أو الدردشة مع الغرباء، أي حينما يصعب على الشعراء إخفاء مهنتهم، حينئذ يؤثر الشعراء مصطلحا عاما هو "الكاتب"، أو يثبتون أسماءهم أو الوظائف التي يعملون بها بجانب الكتابة حيثما ينبغي أن يثبتوا كلمة "الشاعر". فالموظفون والغرباء يتعاملون بشيء من الريبة والحذر عندما يتبين لهم أنهم يتعاملون مع شاعر. وأحسب الفلاسفة قد يلقون مثل ذلك. وإن بقي وضعهم أفضل، ما دام بوسعهم غالبا أن يزخرفوا مهنتهم بهذا اللقب الأكاديمي أو ذاك. فأستاذ الفلسفة يبدو الآن أكثر احتراما بكثير.
ولكن لا يوجد شيء اسمه أستاذ الشعر. فقد يعني هذا في نهاية الأمر أن الشعر وظيفة تقتضي دراسة متخصصة، وامتحانات دورية، ومقالات نظرية ذات حواش وببليوجرافيات، ثم شهادات في نهاية الأمر لها طقوس لمنحها. وسوف يعني ذلك أنه لا يكفي أن تكسو الصفحات بأجمل القصائد كي تكون شاعرا. بل سيتمثل العنصر الحاسم في ورقة تافهة عليها ختم رسمي. ولنتذكر الشعر الروسي في مجده، فذات يوم تعرض جوزف برودسكي Joseph Brodsky ـ وهو الذي سيحظى في قابل الأيام بنوبل في الأدب ـ لحكم بالنفي الداخلي لأسباب مثل هذه. فقد اعتبروه "طفيليا" لأنه لم يكن حاصلا على شهادة رسمية تخول له الحق في أن يكون شاعرا...
منذ سنوات عديدة، حظيت بشرف ومتعة اللقاء ببرودسكي شخصيا. ولاحظت أنه الوحيد ـ بين من عرفت من الشعراء ـ الذي يستمتع بوصف نفسه بالشاعر. فقد كان ينطق الكلمة بلا إجفال.
بل على العكس، كان ينطقها بحرية مقتحمة. ولا بد أن يكون سر ذلك هو تذكره للمذلة القاسية التي عومل بها في شبابه.
في البلاد السعيدة، التي لا يسهل فيها امتهان كرامة الإنسان، يتوق الشعراء بالطبع إلى من يتشر لهم، ويقرأهم، ويفهمهم، ولكنهم لا يفعلون ـ إن فعلوا ـ إلا القليل إعلاءً لأنفسهم عن القطيع العادي واللغظ اليومي. غير أن العهد لم ينأ بنا بعد عن العقود الأولى من هذا القرن [العشرين] حيث كان الشعراء يتحرون صدمتنا، فيلبسون غريب الملبس ويعمدون إلى ما انحرف من السلوك. ولكن ذلك كله كان من قبيل الاستعراض. فدائما ما كانت تأتي لحظة، يغلق فيها الشعراء أبوابهم، ويتخففون من عباءاتهم، وزخرفهم، وعدتهم الشعرية، ويواجهون ـ وهم صامتون صابرون منتظرون أنفسِهم ـ تلك المزقة البيضاء الساكنة من الورق. فذلك في النهاية ما يعوَّل عليه.
ليس من قبيل الصدفة أن أفلام السير الذاتية لعظماء العلماء والفنانين تظهر بالعشرات. فيسعى أشد المخرجين طموحا إلى إنتاج تصوير مقنع للحظات خلق المكتشفات العلمية المهمة أو تخلُّق الروائع. فبوسع المرء أن يحرز شيئا من النجاح في تصوير ألوان معينة من العمل العلمي. فإذا بالمعامل، ومختلف الآلات، والمعدات الواضحة تعود إلى الحياة في مشاهد قد تجذب انتباه الجمهور للحظات. وتكون لحظات الشك هذه دراماتيكية للغاية، بما أنها لحظات تجرَى فيها التجربة للمرة الألف مع تعديل رهيف في خطواتها إلى أن تتحقق النتيجة المنشودة؟ أما الأفلام التي تتناول الرسامين فتكون خلابة، في تصويرها لكل مرحلة من مراحل تكوين لوحة شهيرة، بدءا من الخطوط المرسومة بالقلم الرصاص، وحتى آخر ضربة فرشاة. ويغرم الكثيرون بالأفلام التي تتناول الموسيقيين: ببصيص النغمة الأول إذ يتردد في أذني الموسيقي حتى يخرج في النهاية عملا ناضجا في قالب سيمفوني. وذلك كله بالطبع بالغ السذاجة لا يوضح تلك الحالة الذهنية الغريبة التي يشيع تسميتها بالإلهام، ولكن فيه على الأقل ما يمكن النظر إليه أو الإنصات له.
أما
الشعراء فهم الأسوأ. فعملهم غير قابل للتصوير، ولا أمل له في ذلك. فمنذا الذي يقوى
على مشاهدة شخص يجلس إلى منضدة، أو يستلقي على كنبة محملقا في الجدار أو السقف بلا
حركة. إلى أن يكتب سبعة أبيات ليحذف أحدها بعد خمس عشرة دقيقة، ثم تمر ساعة أخرى،
خلالها لا يحدث شيء ...
لقد أتيت
على ذكر الإلهام. والشعراء المعاصرون يراوغون إن سئلوا عن ماهيته، أو حقيقة وجوده.
وليس ذلك لأنهم لم يعرفوا نعمة ذلك الدافع الداخلي. بل لأنه لا يسهل عليك أن توضح
لشخص أمرا أنت نفسك لا تفهمه.
حين يحدث
ويطرح أحد علي هذا السؤال، أهرب بدوري منه. لكن ها هي ذي إجابتي: ليس الإلهام ميزة
مقصورة على الشعراء أو الفنانين عموما. فهناك اليوم، وأمس، وسيبقى هناك دائما من
الناس من يزورهم الإلهام. وهؤلاء يتألفون من كل الذين اختاروا مهنهم عن وعي،
ويمارسونها بمحبة وخيال. قد يكون فيهم الأطباء، والمعلمون، والبستانيون، وبوسعي أن
أعد قائمة تربو على مائة مهنة. هؤلاء يصبح عملهم مغامرة واحدة مستمرة ما استمرت
قدرتهم على اكتشاف تحديات جديدة في هذا العمل. فالمصاعب والانتكاسات لا تقهر
فضولهم. ومن كل مشكلة يصلون إلى حلها، تنشأ مجموعة جديدة من الأسئلة. وليكن
الإلهام ما يكون، لكنه يولد من دوام "لا أعرف".
لا يوجد
الكثير من هؤلاء الناس. فأغلب أهل الأرض يعملون ليعيشوا. يعملون لأنهم لا بد أن
يعملوا. لا يختارون هذه الوظيفة أو تلك عن شغف بها، فظروف حياتهم تختار عنهم.
العمل الخالي من الحب، العمل الممل، العمل الذي لا قيمة له إلا أن الأعمال الأخرى
لم تصل إلى مثل ما وصل إليه من ملل وخلو من الحب، هذا العمل واحد من أشق ألوان
البؤس البشري. وليس هناك بادرة على أن القرون القادمة سوف تنتج أفضل مما تم إنتاجه
حتى الآن.
وهكذا،
وبرغم أني أنكر على الشعراء احتكارهم للإلهام، إلا أنني أضعهم في جماعة منتقاة من
أصفياء الحظ.
وهنا، قد
تثور شكوك معينة لدى جمهوري. فجميع أنواع الجلادين، والطغاة، والمتعصبين،
والديماجوجيين الذين يسعون إلى القوة على وقع حفنة شعارات صاخبة، هم أيضا يستمتعون
بما يعملون، ويؤدون واجباتهم بحماسة خلاقة. نعم، هذا صحيح، ولكنهم
"يعرفون". يعرفون، وما يعرفونه كاف لهم ولا حاجة إلى المزيد. فليسوا
يريدون أن يتعرفوا على أي شيء آخر، ما دام ذلك قد يبطل حجج قوتهم. وكل معرفة لا
تفضي إلى أسئلة جديدة تموت: لأنها تفشل في الحفاظ على درجة الحرارة اللازمة لإدامة
الحياة. في أغلب الحالات المتطرفة، الحالات المعروفة في التاريخين القديم والحديث،
تكون [هذه المعرفة] خطرا مميتا على المجتمع.
وذلك سر
تقديري الكبير لعبارة "لا أعرف" الصغيرة. هي صغيرة، وهي تطير بأجنحة
عملاقة. توسِّع حياتنا فتشمل الفضاءات الكامنة فينا وتلك الامتدادات الواسعة التي
تتدلى فيها أرضنا الصغيرة. لو لم يقل إسحق نيوتن قط لنفسه "لا أعرف"،
فربما كانت التفاحات وقعت على أرض حديقته الصغيرة وقوع حبات الصقيع، ولعله في أفضل
الحالات كان سيتناولها فيلتهمها بتلذذ. ولو لم تقل بنت بلدي ماري سكلودوفسكا كوري Marie Sklodowska-Curie لنفسها "لا أعرف"، فربما كانت
انتهت معلمة للكيمياء في مدرسة ثانوية تعلم بنات العوائل المحترمة، ولكانت أنهت
أيامها وهي تمارس هذه الوظيفة المحترمة مع ذلك. ولكنها ظلت تقول "لا
أعرف" فقادتها هذه العبارة لا مرة واحدة بل اثنتين إلى استوكهولم التي تجازى
فيها الأرواح القلقة المتسائلة بجائزة نوبل.
والشعراء،
الحقيقيون، ينبغي ألا يكفوا عن قول "لا أعرف". فكل قصيدة هي جهد يتلو
هذه العبارة، ولكن بمجرد اطراح المرحلة الأخيرة على الصفحة، إذا بالشاعر يتردد،
ويدرك أن هذه الإجابة بالذات لم تكن إلا مجرد حل مؤقت لا يصلح مطلقا كحل نهائي.
وهكذا يبقى الشعراء على المحاولة، وعاجلا أم آجلا تجد النتائج المتعاقبة لسخطهم
على أنفسهم بعض مؤرخي الأدب، فيجمعونها بماسك ورق كبير ويعدونها "نتاجهم
الشعري" ...
أحيانا
أحلم بمواقف لا تحقق لها. يشطح الخيال بي أحيانا فأراني على سبيل المثال وقد حظيت
بفرصة الدردشة مع سليمان الحكيم كاتب تلك المرثية المؤثرة لغرور جميع مساعي البشر
[أي سفر الجامعة]. أمامه أنحني باحترام شديد، فهو في النهاية واحد من أعظم
الشعراء، بالنسبة لي على الأقل. وبانتهاء ذلك، أشد على يده، وأقول "لا جديد
تحت الشمس، هذا ما كتبته يا سليمان، ولكنك أنت نفسك ولدت جديدا تحت الشمس.
والقصيدة التي ابتكرتها هي أيضا جديدة تحت الشمس، ما دام لم يكتبها من قبلك أحد.
وكل قارئ لك جديد تحت الشمس، ما دام من عاشوا من قبلك ما قرأوا قصيدتك. والصنوبرة
التي تسظل بها غير نابتة في موضعها منذ فجر الزمان. وإنما أتت إلى الوجود عبر
صنوبرة شبيهة بصنوبرتك، لكنها ليست مماثلة لها تماما. وإنني يا سليمان أود أن
أسألك أي جديد تحت الشمس تعتزم أن تعمل الآن فيه؟ أهو إضافة جديدة إلى الأفكار
التي عبرت عنها من قبل؟ أم ربما يغويك الآن أن تنقض بعضها؟ لقد ذكرت الفرح فيما
سبق من عمل لك، فماذا لو كان سريع الزوال؟ أتكون قصيدتك الجديدة تحت الشمس عن
الفرح أيها الجامعة ؟ تراك بدأت فعلا في تدوين ملاحظاتك، أتعتمد على المسودات؟
أستبعد أن تقول "إنما كتبت كل شيء، وليس لدي ما أضيفه، فليس لشاعر على وجه
الأرض أن يقول ذلك، ناهيك عن أعظم الشعراء من أمثالك".
العالم،
مهما يكن ظننا حين يروعنا شسوعه وهواننا، أو يصعب علينا عدم اكتراثه بمعاناة
الفرد، والناس، والحيوان، وربما النبات، ففيم يقيننا هذا بأن النبات لا يشعر
بالألم، ومهما يكن ظننا بامتداداته تخترقها أشعة النجوم المحاطة بالكواكب التي
بدأنا للتو في اكتشافها، الكواكب الميتة أصلا؟ الميتة لا تزال؟ ما يدرينا، مهما
يكن ظننا بهذا المسرح اللانهائي الذي حجزنا فيه تذاكر، ولكنها تذاكر قِصر أعمارها
يدفع إلى الضحك، محددة بتاريخين اعتباطيين، مهما تكن ظنوننا بهذا العالم، هذا
العالم مدهش.
ولكن
"مدهش" هذه صفة تخفي شركا منطقيا. فنحن ندهش لأشياء هي في النهاية بنت
طبائع معروفة معترف بها إطلاقا، بنت وضوح نألفه. مقصدي الآن، أنه لا وجود لمثل هذا
العالم الواضح أصلا. فاندهاشنا موجود بذاته، لا بالمقارنة مع شيء سواه.
مؤكد،
أننا في كلامنا اليومي، لا نتوقف عن قول عبارات مثل "العالم العادي"
و"الحياة العادية" و"السياق العادي للأحداث" ... أما في لغة
الشعر، حيث الكلام يوزن بالكلمة، لا وجود لشيء معتاد أو طبيعي. لا حجر كذلك ولا
الغيمة التي تعلوه. لا يوم كذلك ولا الليلة التي تتلوه. والأهم أنه لا وجود عادي،
لا وجود لأي كائن في هذا العالم يمكن نعته بالعادي.
يبدو أن
عمل الشعراء سوف يجد دائما من يتمه لهم.
الترجمة
من البولندية إلى الإنجليزية بقلم ستانيسلاف باناكزاك و كلير كافاناجStanislaw
Baranczak and Clare Cavanagh
معرض المعجزات
معجزة
شائعة:
كثير
من المعجزات الشائعة
يحدث
معجزة
عادية:
في
جنح الليل
نباح
كلاب لامرئية
معجزة
من معجزات كثيرة:
غيمة
صغيرة خفيفة
وتحجب
قمرا كبيرا ثقيلا
معجزات
في معجزة:
شجرة
جار الماء تنعكس على الماء
فهي
مقلوبة من اليسار إلى اليمين
وهي
تنمو هناك، برأسها إلى أسفل
وأبدا
لا تبلغ القاع
برغم
ضحالة الماء.
معجزة
يومية:
الرياح
الخفيفة إلى المتوسطة
تصبح
عاصفةً في العاصفة.
أولى
المعجزات المتساوية:
الأبقار
أبقار.
معجزة
لا مثيل لها:
كل
هذا البستان
من
هذه البذرة.
معجزة
لا هي من عباءة ولا من قبعة:
يمامات
بيضاء متناثرة.
معجزة
وإلا فماذا تكون:
اليوم
أشرقت الشمس في الثالثة وأربع عشرة
وستغرب
في الثامنة ودقيقة.
معجزة،
أقل دهشة مما ينبغي:
برغم
أن في اليد أقل من ستة أصابع
إلا
أن فيها أكثر من أربعة.
معجزة،
وانظروا فقط حولكم:
العالم
في كل مكان.
معجزة
إضافية، كما أن كل شيء إضافي:
ما
لا يمكن التفكير فيه
يمكن
التفكير فيه
.
|
احتمالات
أفضل السينما.
أفضل القطط.
أفضل السنديان على شط نهر وارتا.
أفضل ديكنز على دوستويفسكي.
أفضل نفسي محبة للناس
عنها محبة للإنسانية.
أفضل خيطا وإبرة في متناول يدي.
أفضل الأخضر.
أفضل عدم الزعم
بمسئولية العقل عن كل شيء.
أفضل الاستثناءات.
أفضل أن أَهجر.
أفضل محادثة الأطباء في أمر آخر.
أفضل الرسومات القديمة.
أفضل أن أثير الضحك لأنني أكتب الشعر
عن أن أثير الضحك لأنني لا أكتبه.
أفضل الاحتفالات السنوية البالية في العلاقات العاطفية
حينما يُحتفل بها كل يوم.
أفضل الأخلاقيين
ممن لا يعدونني بأي شيء.
أفضل الطيبة المحسوبة على الطيبة الساذجة.
أفضل أرض المدنيين.
أفضل البلاد المغزوة على البلاد الغازية.
أفضل أن يكون لي اعتراضاتي.
أفضل جحيم الفوضى عن جحيم النظام.
أفضل حكايات الأخوين جريم عن الصفحات الأولى في
الجرائد.
أفضل الورق بدون زهور على الزهور بدون ورق.
أفضل الكلاب غير معقوفة الأذناب.
أفضل العيون الفاتحة ما دامت عيناي داكنتين.
أفضل الأدراج.
أفضل أشياء كثيرة لم أدرجها فيما سبق
عن أشياء كثيرة غير مدرجة هنا.
أفضل الأصفار مبعثرة
عن الاصطفاف من أجل رقم.
أفضل زمن الحشرة على زمن النجوم.
أفضل لمس الخشب.
أفضل ألا أسأل كم تبقى ومتى.
أفضل النظر حتى في احتمال
أن يكون لهذا الوجود أسبابه.
جنازة
"فجأة
هكذا، من كان يتوقع؟"
"التوتر
والسجائر، أنا قلت له"
"ليست
سيئة، شكرا"
"فك
هذه الزهور"
"أخوه
أيضا قلبه يتعبه، يبدو أنها وراثة في العائلة"
"ما
كنت سأعرفك بهذه اللحية"
"غلطته،
كان دائما يحشر نفسه"
"هذا
الرجل الجديد كان ينبغي أن يلقي كلمة. أنا لا أراه هنا"
"كازك
في وارسو، تادك سافر"
"أنت
الوحيد الذي كان ذكيا وأحضر مظلة"
"وما
أهمية أنه كان الأكثر موهبة فيهم جميعا"
"هي
مجرد معبر، لن تستقر عليها باسكا"
"طبعا
كان على حق، ولكن هذا أيضا لم يكن السبب"
"وطلاء
الباب من الناحيتين، تصوري بكم؟"
"زلال
بيضتين، وملء ملعقة طعام من السكر"
"لم
يكن له دخل، ما الذي حشره"
"الأزرق
فقط، والمقاسات الصغيرة فقط"
"خمس
مرات ولا أحد يرد"
"موافق،
كان يمكن أن أفعل هذا، وأنت أيضا كان يمكن أن تفعليه"
"حسن
أنها لم تترك وظيفة بعد الظهر"
"لا
أعرف، ربما الأقارب"
"هذا
القسيس ممثل حقيقي[1].
"لم
أصل قط إلى هذا الموضع من الجبانة"
"حلمت
به الأسبوع الماضي، هكذا على فجأة"
"ابنته
شكلها ليس سيئا"
"يحصل
لنا جميعا"
أعمل
ما في وسعي للأرملة، هذا واجب"
"كان
إحساسها أكثر وقارا باللاتينية"
"جاءت
وراحت"
"مع
السلامة يا مدام"
"تعال
نخطف لنا بيرتين في أي مكان"
"اتصل
بي، ونتكلم"
"إما
رقم 4 أو 12"
"أنا
سأمشي من هنا"
"نحن
لا"
تحت نجمة صغيرة معينة
أعتذر للصدفة أني
أسميها الضرورة.
أعتذر للضرورة لو كنت
أخطأت.
ويا سعادة لا تحزني
أني أتخذك لنفسي.
وليغفر لي الموتى أن
ذكراهم مجرد بارق.
أعتذر للزمن على كم
العالم الذي يغيب عني للحظة.
أعتذر لحبيب قديم أني
أعامل حبا جديدا كأنه الأول.
ويا أيتها الحروب
البعيدة سامحيني على رجوعي إلى البيت بالزهور.
ويا أيتها الجراح
الفتوحة سامحيني على وخزي إصبعي.
أعتذر لمحضر الاجتماع،
وللذين يصيحون من داخل الهاوية.
أعتذر لأهل محطات
القطارات أني أنام مطمئنة في الخامسة صباحا.
آسفة، أيها الأمل المطارَد،
على ضحكي أحيانا.
آسفة أيتها الصحاري
أنني لا أجري بملعقة ماء.
وأنت أيها الصقر، يا
نفس الطائر في القفص لسنوات،
يا من تحملق دونما
حراك، ودائما إلى نفس النقطة،
اصفح عني حتى إذا حدث
وحنطوك.
أعتذر للشجرة أن قُطعت
من أجل قوائم أربعة مناضد.
أعتذر للأسئلة الضخمة
عن الأجوبة الصغيرة.
ويا حقيقة، لا تلتفتي
كثيرا إليّ.
ويا جلال، كن شهما
معي.
واحتملني، يا غموض
الوجود، أنا التي نسلت من حجابك تلك الخيوط.
ويا روح، لا تلوميني
لأني نادرا جدا ما شعرت بك.
أعتذر لكل شيء لأني
لا أستطيع أن أكون في كل مكان.
أعتذر للجميع لأنني
لا أعرف كيف أصير كل رجل وكل امرأة.
وأعرف أنه مهما طال
بي العيش فلن يعذرني شيء
ما دمت أنا عقبتي، لا
سواي.
فلا تأخذ عليَّ يا
كلام أنني أقترض الكلمات الثقال
ثم أكدح من أجل
تخفيفها.
العودة إلى البيت
عاد
إلى البيت. لم يقل شيئا.
بدا
واضحا، مع ذلك، أن ثمة خطبا.
استلقى
في كامل ثيابه.
جاذبا
الغطاء حتى رأسه.
ضاما
ركبتيه إلى صدره.
هو
على مشارف الأربعين
ولكن
ليس في هذه اللحظة.
هو
الآن بالضبط مثلما كان في رحم أمه
تكسوه
سبع طبقات من الجلد، في عتمةٍ حاضنة.
غدا
سوف يلقي محاضرة في التجانس
أمام
الفلكيين الروس من دارسي المجرات الكبرى.
أما
الآن، فهو متكور على نفسه
يغط
في النوم.
الحب الأول
يقولون
إن الحبَّ الأولَ هو
الأهمُ،
هو البالغُ الرومانتيكية،
ولكن ليس في حالتي.
كان شيءٌ بيننا وما كان،
ظل شيءٌ وما ظل إلا غيابا.
لا ترتعش يداي الآن
وأنا أتحسس تذكاراتي
السخيفةَ
أو الرسائلَ المربوطةَ
بخيطٍ ـ
ليس حتى شريطا من حرير.
في لقائنا اليتيم بعد
سنين:
لسنا سوى مقعدين يتبادلان
الكلام
على طرفي منضدة باردة.
أحبائي الآخرون
لا يزالون يتنفسون داخلي
بعمق.
أما هذا
فلا يجد من الهواء
ما يكفي لتنهيدة.
وبرغم هذه الحالِ
يفعل ما لم يفلح الآخرون
فيه بعد:
لا يطفو على الذاكرة،
لا يظهر حتى في الأحلام،
ولكنه سبيلي الوحيد إلى
الموت.
عزاء
دارون.
يقولون إنه كان
يقرأ الروايات ليسترخي،
ولكن روايات من
نوع محدد:
لا تنتهي أبدا
على نحو غير سعيد.
وإن حدث وصادف
مثل هذا،
ففي غضبٍ كان
يقذف الكتاب في المدفأة.
صدق أم كذب،
أنا على أتم
استعداد للتصديق.
مستظهرا في
رأسه كل تلك الأماكن والأزمنة،
لا بد أنه كان
مكتفيا من الأنواع المحتضرة،
وانتصارات
الأقوياء على الأضعفين،
وصراعات لا
تنتهي من أجل البقاء،
وكلها، طال
الأجل أم قصر، إلى الزوال.
حقت له إذن تلك
النهايات السعيدة، ولو في الروايات،
على تناقصها.
هكذا
لم يكن من بديل
عن النهاية السعيدة،
اجتماع شمل
الحبيبين، تصالح العائلتين،
تبدد الشكوك،
مكافأة الأوفياء،
استعادة
الثروات، اكتشاف الكنوز،
صلاح أمر
الجيران العنيدين،
استعادة السمعة
العطرة، خِذْْلان الجشعين،
اقتران العوانس
بالقساوسة الأثرياء،
طرد المزعجين
إلى قارات أخرى،
إلقاء مزيفي
الوثائق من على السلالم،
اقتياد المغوين
إلى المذبح،
إيواء اليتامى،
صفاء بال الأرامل،
هوان
المتعجرفين، اندمال الجراح،
إياب الأبناء
الضالين،
إلقاء كئوس
الحزن في المحيط،
غرق المناديل
في دموع الفرح،
بهجة عامة
واحتفال،
والكلب فيدو،
الكلب الذي تاه
في الفصل الأول،
يظهر نابحا في
سعادة،
في الأخير.
أبناء هذا الزمان
نحن أبناء هذا الزمان،
وهذا الزمان سياسي.
كل شأن، في الليل كان أو في النهار،
كل شأن لكم، أو لنا، أو لهم
كل شأنٍ سياسيٌّ.
رضيتم أم أبيتم،
لجيناتكم تاريخ سياسي
لجلودكم مظهر سياسي،
ولأعينكم سمت سياسي.
للذي تقولون رنة سياسية،
وللذي تصمتون عنه دلالة،
وهي، في هذه الحالة أو تلك،
سياسية.
حتى حينما تقصدون التل
فالخطى التي تسيرون بها سياسية
على أرضية سياسية.
حتى القصائد اللاسياسية سياسية
حتى القمر الساطع فوق رءوسنا
لم يعد الآن مجرد فضي.
أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة.
مسألة؟ أية مسألة؟ إليكم يا أعزائي رأيي:
إنها مسألة سياسية.
ليس عليكم حتى أن تكونوا كائنات بشرية
لتكون لكم قيمة سياسية.
يكفي أن تكونوا نفطا خاما
أو طعاما مركزا، أو أي خامة تشاءون.
أو حتى طاولة في مؤتمر ضاعت شهور
في الجدال حول شكلها:
ترى حول طاولة مستديرة أم مربعة
نتفاوض على الحياة والموت؟
فيما بشر يحتضرون
وحيوانات تهلك،
وبيوت تحترق،
وغيطان تبور،
تماما كما في أكثر الأزمان نأيا
وأقلها سياسة.
البعض يحب الشعر
البعض ..
إذن ليس الكل.
بل وليس أغلبية الكل إنما أقل القليل
دعكم من المدارس فالأمر فيها ملزم
ومن الشعراء أنفسهم، لن تتجاوز النسبة اثنين في الألف.
يحب ..
ولكن الواحدة تحب حساء المكرونة بالدجاج
تحب المجاملات واللون الأزرق، أو تحب وشاحا قديما لديها،
الواحدة تحب أن تثبت صحة رأيها
وتحب أن تقتني كلبا
الشعر ..
ولكن أي شيء هو الشعر؟
كم من إجابة مهتزة
على هذا السؤال.
أما أنا فلا أعرف ولا أعرف وفي ذلك أتشبث
كما في سور سلم
ينقذني.
من الناس
من الناس مَن يفر من الناس
في بلد من البلاد
تحت شمس
وغيم.
من الناس من يفرون
تاركين من ورائهم
كل شيء لهم
تاركين حقولا بذروها
وبضع دجاجات وكلاب
ومرايا لم تعد سوى النار
تبصر نفسها فيها.
على ظهورهم جرار وحزم
تفرغ وتمتلئ من يوم إلى يوم.
يحدث خلسة أن يقف شخص ما،
وفي الزحام خبز شخص ما يخطفه شخص ما
وطفل ميت يهزه شخص.
أمامهم طريق لم يعد الطريق الصحيح
ولا الجسر الذي ينبغي
أن يمر على نهر وردي بغرابة.
من حولهم إطلاق نار، قريب أحيانا وبعيد أحيانا
ومن فوقهم طائرة تحوم إلى حد ما.
شيء من الخفاء سوف يكون مناسبا
والأفضل منه البلادة التامة
والأفضل من ذلك العدم
لوهلة أو لفترة.
شيء ما لم يزل منتظرا، لكن أين وماذا؟
شخص ما سوف يتجه إليهم، لكن متى ومن،
وفي كم صورة وبأية نية؟
لو بيده الخيار
فلعله يختار ألا يكون العدو
ويترك لهم بعض الحياة.
إعلان
أنا مهدئ.
أنا
فعال في البيت
ولي
تأثيري في العمل.
يمكن
أن تمتحنني
أمام
منصة الشهادة.
أنا
أصلح الفناجين المكسورة.
كل
ما عليك هو أن تتناولني
تتركني
أذوب أسفل لسانك
تتجرعني
فقط
مع
كأس من الماء.
أعرف
كيف أعدل الحظ المائل
وكيف
أتلقى الأخبار السوداء.
أستطيع
أن أقلل الظلم
وأعوض
عن غياب الرب
أو
أن أختار خمار الأرملة الملائم تماما
لوجهك.
ما
الذي تتوقون إليه ـ
آمنوا
فقط بالحنان الكيميائي.
أنتَ
وأنتِ
أنتما
لا تزالان شابين
لم
يفت أوان أن تتعلما الانطلاق.
ومن
قال
إنكم
ينبغي أن تبقوا منتبهين؟
دعوني
آخذ هاويتكم
وأبطِّنها
بالنوم
ستشكرون
لي أنني
أمنحكم
أربعة مخالب
تسقطون
عليها.
بيعوني
أرواحكم
لم
يعد هناك مرابون آخرون.
الشرير
نفسه لم يعد له وجود.
واقر
كم من شيء يحدث في يوم لا يحدث فيه شيء
مختارات من فسوافا شمبورسكا
تضم
الصفحات التالية قصائد للشاعرة البولندية فسوافا شمبورسكا، ترجمت إلى العربية اعتمادا
على ترجمات إلى الإنجليزية بأقلام كلير
كفاناج Clare
Cavanagh و جوانا ترزيشياك Joanna
Trzeciak وستانيسلاف بارنسزاك Stanisław Barańczak ونشرت
جميعا في مواقع إلكترونية أمريكية مرموقة هي موقع "أكاديمية الشعراء
الأمريكيين" وموقع "مؤسسة الشعر" وموقع مجلة "شعر". وفي
الصفحات التالية كذلك، مختارات من ردود فسوافا شمبورسكا على قراء كانوا يرسلون
محاولاتهم الشعرية إلى صحيفة "الحياة" الأدبية
البولندية التي كانت شمبورسكا مشرفة على صفحتها الأدبية، وقد انتقت هذه الردود
وترجمتها إلى الإنجليزية كلير كفاناج ونشرت على موقع "مؤسسة الشعر". وهناك أيضا خطبة قبول جائزة نوبل في الأدب التي ألقتها فسوافا شمبورسكا
وجعلتها بعنوان "الشاعر والعالم".
كيف تكتب الشعر أو
لا تكتبه
إلى هليودور من برزيمايسل:
تقول في رسالتك: "أعرف أن في قصائدي أخطاء كثيرة،
لكن وما المشكلة؟ لن أتوقف لتصحيحها". طيب، لماذا يا هليودور؟ ربما لأنك تقدس
الشعر أكثر مما ينبغي؟ أم ربما تعتبره أمرا تافها؟ كلتا الطريقتين في معاملة الشعر
خاطئتان، والأسوأ هو أنهما تعفيان الشاعر المبتدئ من ضرورة الاشتغال على شعره. من
اللطيف دائما أن نحكي لمعارفنا عن روح الشاعر التي استولت علينا يوم الجمعة الساعة
ثلاثة إلا ربع الظهر وأخذت تهمس في آذاننا بأسرار غامضة بحماسة كبيرة، فكنا لا
نكاد نجد الوقت لتدوينها. ولكن في البيت، وخلف الأبواب الموصدة، تأتي هذه الروح
لتصحح وتحذف وتعدل تلك الأقوال الآتية من عالم آخر. الأرواح لطيفة وأنيقة ولكن حتى
الشعر يا هليودور له وجهه الأرضي".
إلى
ه و من بوزنان، الراغب في أن يكون مترجما
"يجب على المترجم ألا يخلص للنص وحسب. عليه أيضا أن
يكشف كل جمال الشعر فيما يحافظ على شكله ويحتفظ قدر المستطاع بروح العصر
وأسلوبه".
إلى
جرازيانا من ستاراتوفيس:
هيا بنا ننزع الأجنحة ونحاول الكتابة ونحن واقفون على
أقدامنا، ممكن؟
إلى
السيد ج ك من وارسو
"أنت محتاج إلى قلم جديد. القلم الذي معك يغلط
كثيرا. هو أكيد مستورد.
إلى
السيد ك ك من بايتم
أنت تتعامل مع الشعر الحر، وكأنه حر تماما. ولكن الشعر
(مهما يكن وصفنا له) كان، ولا يزال، وسيظل، لعبة. ولكل لعبة ـ كما يعرف كل طفل ـ
قواعدها. طيب، لماذا ينسى الكبار هذا؟
إلى
بوسزكا من رادك:
حتى الملل لا بد من وصفه بحماس. فكم من شيئ يحدث في يوم
لا يحدث فيه شيء
إلى
بوليسلاف ل ك ومن وارسو
آلامك الوجودية تنفرط بسهولة شديدة. والناس عندها ما
يكفيها من اليأس والأعماق المقبضة. و"الأفكار العميقة" كما يقول عزيزي
توماس (توماس مان طبعا، ومن غيره؟) "ينبغي أن تحملنا على الابتسام".
ونحن نقرأ قصيدتك "المحيط" نجد أنفسنا نتخبط في بركة ضحلة. عليك أن تنظر
في حياتك باعتبارها مغامرة فريدة حدثت لك. هذه هي نصيحتنا الوحيدة في الوقت الرهن.
إلى
مارك، من وارسو أيضا
عندنا مبدأ هو أن كل القصائد التي تدور عن الربيع لا
تستأهل النشر. هذا الموضوع لم يعد له وجود في الشعر. هو موجود بقوة وحيوية في
الحياة، طبعا. ولكن هذه نقرة وهذه نقرة.
إلى
ب ل من حي روكلو
الخوف من الكلام المباشر، والمحاولة المضنية المستمرة
لإضفاء بعد استعاري على كل شيء، والاحتياج اللامنتهي إلى إثبات أنك شاعر في كل
بيت: هذه مخاوف تسيطر على كل شاعر كبير مبتدئ. ولكنها قابلة للعلاج، إذا تم
التشخيص في الوقت المناسب.
إلى
ز ك من بوزنان
استطعت أن تقحم من الكلمات الجليلة في قصائدك القصيرة
أكثر مما استطاع أغلب الشعراء في أعمار كاملة: الوطن، الحقيقة، الحرية، العدالة.
تلك الكلمات ليست رخيصة. تلك الكلمات يجري فيها دم حقيقي، لا يمكن أن يغنينا عنه
المداد.
إلى
ميشال في نواي تارج:
حذر ريلكه الشعراء الشباب من المواضيع الضخمة الكاسحة،
لأنها الأصعب والأكثر تطلبا للنضج الفني. وأشار عليهم بالكتابة عما يرونه حولهم،
وعن الطريقة التي يقضون بها أيامهم، وعما ضاع منهم، وعما وجدوه. وحثهم على إدخال
الأشياء المحيطة بنا إلى الفن، وكذلك صور الأحلام، وما تستدعيه الذاكرة. وكتب يقول
"إذا بدت الحياة اليومية تافهة لك، فلا تلق اللوم في هذا على الحياة. أنت
الذي يقع عليك اللوم. فليس فيك من الشاعر ما يكفي لإدراك ثراء الحياة". قد تبدو
لك هذه النصيحة تافهة وثقيلة الدم. وهذا ما جعلنا نوجهها لك من خلال واحد من أكثر
شعراء العالم نخبوية .. انظر كم أثنى على ما يسمى بـ "الأشياء العادية".
إلى
أولا من سوبوت
"تعريف للشعر في جملة واحدة ـ طيب". عندنا على
الأقل حوالي خمسمائة تعريف، ولكن لا يوجد بينها ما يفحم المرء بدقته وشموله. كل
واحد منها يعبر عن ذائقة عصره. من جانبنا، لا نحاول أن نجرب يدنا، بسبب نزوع فطري
إلى الشك. ولكننا نتذكر مقولة جميلة لكارل ساندبرج: "الشعر: يوميات يكتبها
كائن بحري، يعيش على البر، حالما بالطيران".
إلى
ل ك ب ك من سلوبسك
"نريد من شاعر يقارن نفسه بـ إيكاروس أكثر بكثير
مما تكشف عنه القصيدة الطويلة المرفقة برسالتك. يا سيد ب ك أنت لم تضع في حسبانك
أن إيكاروس هذا الزمن يطير فوق أفق مخالف لأفق الزمن السحيق. فهو يرى طرقا سريعة
مغطاة بالسيارات والشاحنات، ومطارات، ومدارج طيارات، ومدنا ضخمة، وموانئ عصرية
فسيحة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. ألا يحتمل أن تمرق جنب أذنه طائرة؟
إلى
مستر بر. ك من لاسكي
قصائدك النثرية متأثرة بالشاعر العظيم الذي يبدع أعماله
اللافتة وهو في حالة نشوة كحولية. قد نجازف ونخمن الشاعر الذي يسيطر عليك، ولكن
الأسماء ليست شاغلنا هنا في نهاية المطاف. بل القناعة المضللة بأن الكحول ييسر فعل
الكتابة، ويكسب الخيال جرأة، والإحساس رهافة، ويؤدي عددا آخر من الوظائف النافعة
في تحريض روح الشاعر. يا عزيزي مستر ك، لا هذا الشاعر، ولا أي شاعر ممن عرفناهم
معرفة شخصية، بل ولا أي شاعر آخر كتب أي شيء عظيم وهو تحت التأثير الخالص للشراب
القوي. كل الأعمال الجيدة خرجت من الجهد، والاتزان المؤلم، دونما طنين لطيف في
الرأس. "كثيرا ما تأتيني أفكار مع الفودكا، ولكن بعدها يصيبني الصداع"
هكذا قال فيسبيانسكي Wyspianski. ولو أن الشاعر يشرب، فهو يشرب بين قصيدة وقصيدة. هذه هي الحقيقة
العارية. لو كان الكحول يؤدي إلى شعر عظيم، لكان واحد من كل اثنين في هذه البلد
هوراس على الأقل. وهكذا نحن مرغمون إلى تحطيم خرافة أخرى. ونأمل أنك سوف تخرج سالما
من تحت الأنقاض.
إلى
إ. ل. من وارسو:
ربما عليك أن تتعلم أن تحب بالنثر
إلى
إسكو من سييرادز
الشباب بالفعل مرحلة مخاتلة في حياة المرء. ولو أضفنا
إلى مصاعب الشباب طموحات كتابية، فلا بد أن يتحلى المرء ببنية ذات قوة استثنائية
لكي يحتمل. مكونات هذه البنية ينبغي أن تحتوي على: إصرار، اجتهاد، قراءة واسعة،
فضول، ملاحظة، فتور تجاه الذات، حساسية تجاه الآخرين، تفكير نقدي، حس كوميدي،
واعتقاد راسخ بأن العالم يستحق ما يلي: أ ـ أن يبقى موجودا، ب ـ حظ أفضل مما توفر
له حتى الآن. المحاولات التي أرسلتها تشير فقط إلى الرغبة في الكتابة ولا شيء آخر
مما سبق وصفه. عملك لا يستهدف غيرك.
إلى
كالي من لودز:
"لماذا" هي أهم كلمة في لغة هذا الكوكب، وربما
في المجرات الأخرى أيضا.
إلى
بالتسيت من سكاريسكو كام:
القصائد التي بعثتها تشير إلى أنك فشلت في معرفة فارق
أساسي بين الشعر والنثر. مثلا، في القصيدة التي عنوانها "هنا" مجرد وصف
نثري عادي لغرفة وما تحتويه من أثاث. في النثر يقوم هذا الوصف بوظيفة محددة: أنه
يهيئ المشهد لحدث قادم. ففي لحظة، سوف ينفتح الباب، وسوف يدخل شخص، وسوف يحدث شيء.
أما في الشعر فالوصف نفسه هو الذي ينبغي أن "يحدث". كل شيء يصبح ذا
أهمية، وذا معنى: اختيار الصور، وأماكنها، والشكل الذي تتخذه من خلال الكلمات. ولا
بد لوصف غرفة عادية أن يتحول أمام أعيننا إلى اكتشاف تلك الغرفة، والإحساس الكامن
في هذا الوصف لا بد أن يصل إلى القارئ. وإلا، فسوف يبقى النثر نثرا، مهما اجتهدت
في تقطيع جملتك إلى أبيات منظومة. والأسوأ من كل ذلك، أن شيئا لا يحدث بعد
هذا".
الشاعر والعالم
يقولون إن أول جملة في الخطبة هي الأكثر صعوبة. حسن، هي الآن خلفي على أية حال. ولكن لدي شعورا بأن كل جملة آتية ـ ثالثة كانت أو سادسة أو عاشرة وما تلاها حتى آخر سطر ـ ستكون على القدر نفسه من الصعوبة، ما دام المفترض أن أتكلم عن الشعر. ما أقل ما قلته في هذا الموضوع، يوشك في واقع الأمر ألا يكون شيئا على الإطلاق. وكلما أقول فيه شيئا، إذا بشك وضيع ينتابني في أنني لم أحسن القول. لذلك فمحاضرتي ستميل إلى الإيجاز، وكل العيوب مغفورة متى كانت قليلة الجرعات.
يتشكك الشعراء المعاصرون حتى في أنفسهم، أو ربما في أنفسهم على الأخص. فهم لا يعترفون على الملأ أنهم شعراء إلا بعد تمنع، كأنما هم يخجلون من هذا الأمر بعض الشيء. ولكن ما أسهل الاعتراف في هذا الزمان الصاخب بغلطاتك، خاصة إن كانت مغلفة على نحو جذاب على الأقل، مقارنة مع إدراك مزاياك، وهي المخبوءة في الأعماق لا تلقى منك أنت نفسك إيمانا بها... عند ملء الاستمارات، أو الدردشة مع الغرباء، أي حينما يصعب على الشعراء إخفاء مهنتهم، حينئذ يؤثر الشعراء مصطلحا عاما هو "الكاتب"، أو يثبتون أسماءهم أو الوظائف التي يعملون بها بجانب الكتابة حيثما ينبغي أن يثبتوا كلمة "الشاعر". فالموظفون والغرباء يتعاملون بشيء من الريبة والحذر عندما يتبين لهم أنهم يتعاملون مع شاعر. وأحسب الفلاسفة قد يلقون مثل ذلك. وإن بقي وضعهم أفضل، ما دام بوسعهم غالبا أن يزخرفوا مهنتهم بهذا اللقب الأكاديمي أو ذاك. فأستاذ الفلسفة يبدو الآن أكثر احتراما بكثير.
ولكن لا يوجد شيء اسمه أستاذ الشعر. فقد يعني هذا في نهاية الأمر أن الشعر وظيفة تقتضي دراسة متخصصة، وامتحانات دورية، ومقالات نظرية ذات حواش وببليوجرافيات، ثم شهادات في نهاية الأمر لها طقوس لمنحها. وسوف يعني ذلك أنه لا يكفي أن تكسو الصفحات بأجمل القصائد كي تكون شاعرا. بل سيتمثل العنصر الحاسم في ورقة تافهة عليها ختم رسمي. ولنتذكر الشعر الروسي في مجده، فذات يوم تعرض جوزف برودسكي Joseph Brodsky ـ وهو الذي سيحظى في قابل الأيام بنوبل في الأدب ـ لحكم بالنفي الداخلي لأسباب مثل هذه. فقد اعتبروه "طفيليا" لأنه لم يكن حاصلا على شهادة رسمية تخول له الحق في أن يكون شاعرا...
منذ سنوات عديدة، حظيت بشرف ومتعة اللقاء ببرودسكي شخصيا. ولاحظت أنه الوحيد ـ بين من عرفت من الشعراء ـ الذي يستمتع بوصف نفسه بالشاعر. فقد كان ينطق الكلمة بلا إجفال.
بل على العكس، كان ينطقها بحرية مقتحمة. ولا بد أن يكون سر ذلك هو تذكره للمذلة القاسية التي عومل بها في شبابه.
في البلاد السعيدة، التي لا يسهل فيها امتهان كرامة الإنسان، يتوق الشعراء بالطبع إلى من يتشر لهم، ويقرأهم، ويفهمهم، ولكنهم لا يفعلون ـ إن فعلوا ـ إلا القليل إعلاءً لأنفسهم عن القطيع العادي واللغظ اليومي. غير أن العهد لم ينأ بنا بعد عن العقود الأولى من هذا القرن [العشرين] حيث كان الشعراء يتحرون صدمتنا، فيلبسون غريب الملبس ويعمدون إلى ما انحرف من السلوك. ولكن ذلك كله كان من قبيل الاستعراض. فدائما ما كانت تأتي لحظة، يغلق فيها الشعراء أبوابهم، ويتخففون من عباءاتهم، وزخرفهم، وعدتهم الشعرية، ويواجهون ـ وهم صامتون صابرون منتظرون أنفسِهم ـ تلك المزقة البيضاء الساكنة من الورق. فذلك في النهاية ما يعوَّل عليه.
ليس من قبيل الصدفة أن أفلام السير الذاتية لعظماء العلماء والفنانين تظهر بالعشرات. فيسعى أشد المخرجين طموحا إلى إنتاج تصوير مقنع للحظات خلق المكتشفات العلمية المهمة أو تخلُّق الروائع. فبوسع المرء أن يحرز شيئا من النجاح في تصوير ألوان معينة من العمل العلمي. فإذا بالمعامل، ومختلف الآلات، والمعدات الواضحة تعود إلى الحياة في مشاهد قد تجذب انتباه الجمهور للحظات. وتكون لحظات الشك هذه دراماتيكية للغاية، بما أنها لحظات تجرَى فيها التجربة للمرة الألف مع تعديل رهيف في خطواتها إلى أن تتحقق النتيجة المنشودة؟ أما الأفلام التي تتناول الرسامين فتكون خلابة، في تصويرها لكل مرحلة من مراحل تكوين لوحة شهيرة، بدءا من الخطوط المرسومة بالقلم الرصاص، وحتى آخر ضربة فرشاة. ويغرم الكثيرون بالأفلام التي تتناول الموسيقيين: ببصيص النغمة الأول إذ يتردد في أذني الموسيقي حتى يخرج في النهاية عملا ناضجا في قالب سيمفوني. وذلك كله بالطبع بالغ السذاجة لا يوضح تلك الحالة الذهنية الغريبة التي يشيع تسميتها بالإلهام، ولكن فيه على الأقل ما يمكن النظر إليه أو الإنصات له.
أما
الشعراء فهم الأسوأ. فعملهم غير قابل للتصوير، ولا أمل له في ذلك. فمنذا الذي يقوى
على مشاهدة شخص يجلس إلى منضدة، أو يستلقي على كنبة محملقا في الجدار أو السقف بلا
حركة. إلى أن يكتب سبعة أبيات ليحذف أحدها بعد خمس عشرة دقيقة، ثم تمر ساعة أخرى،
خلالها لا يحدث شيء ...
لقد أتيت
على ذكر الإلهام. والشعراء المعاصرون يراوغون إن سئلوا عن ماهيته، أو حقيقة وجوده.
وليس ذلك لأنهم لم يعرفوا نعمة ذلك الدافع الداخلي. بل لأنه لا يسهل عليك أن توضح
لشخص أمرا أنت نفسك لا تفهمه.
حين يحدث
ويطرح أحد علي هذا السؤال، أهرب بدوري منه. لكن ها هي ذي إجابتي: ليس الإلهام ميزة
مقصورة على الشعراء أو الفنانين عموما. فهناك اليوم، وأمس، وسيبقى هناك دائما من
الناس من يزورهم الإلهام. وهؤلاء يتألفون من كل الذين اختاروا مهنهم عن وعي،
ويمارسونها بمحبة وخيال. قد يكون فيهم الأطباء، والمعلمون، والبستانيون، وبوسعي أن
أعد قائمة تربو على مائة مهنة. هؤلاء يصبح عملهم مغامرة واحدة مستمرة ما استمرت
قدرتهم على اكتشاف تحديات جديدة في هذا العمل. فالمصاعب والانتكاسات لا تقهر
فضولهم. ومن كل مشكلة يصلون إلى حلها، تنشأ مجموعة جديدة من الأسئلة. وليكن
الإلهام ما يكون، لكنه يولد من دوام "لا أعرف".
لا يوجد
الكثير من هؤلاء الناس. فأغلب أهل الأرض يعملون ليعيشوا. يعملون لأنهم لا بد أن
يعملوا. لا يختارون هذه الوظيفة أو تلك عن شغف بها، فظروف حياتهم تختار عنهم.
العمل الخالي من الحب، العمل الممل، العمل الذي لا قيمة له إلا أن الأعمال الأخرى
لم تصل إلى مثل ما وصل إليه من ملل وخلو من الحب، هذا العمل واحد من أشق ألوان
البؤس البشري. وليس هناك بادرة على أن القرون القادمة سوف تنتج أفضل مما تم إنتاجه
حتى الآن.
وهكذا،
وبرغم أني أنكر على الشعراء احتكارهم للإلهام، إلا أنني أضعهم في جماعة منتقاة من
أصفياء الحظ.
وهنا، قد
تثور شكوك معينة لدى جمهوري. فجميع أنواع الجلادين، والطغاة، والمتعصبين،
والديماجوجيين الذين يسعون إلى القوة على وقع حفنة شعارات صاخبة، هم أيضا يستمتعون
بما يعملون، ويؤدون واجباتهم بحماسة خلاقة. نعم، هذا صحيح، ولكنهم
"يعرفون". يعرفون، وما يعرفونه كاف لهم ولا حاجة إلى المزيد. فليسوا
يريدون أن يتعرفوا على أي شيء آخر، ما دام ذلك قد يبطل حجج قوتهم. وكل معرفة لا
تفضي إلى أسئلة جديدة تموت: لأنها تفشل في الحفاظ على درجة الحرارة اللازمة لإدامة
الحياة. في أغلب الحالات المتطرفة، الحالات المعروفة في التاريخين القديم والحديث،
تكون [هذه المعرفة] خطرا مميتا على المجتمع.
وذلك سر
تقديري الكبير لعبارة "لا أعرف" الصغيرة. هي صغيرة، وهي تطير بأجنحة
عملاقة. توسِّع حياتنا فتشمل الفضاءات الكامنة فينا وتلك الامتدادات الواسعة التي
تتدلى فيها أرضنا الصغيرة. لو لم يقل إسحق نيوتن قط لنفسه "لا أعرف"،
فربما كانت التفاحات وقعت على أرض حديقته الصغيرة وقوع حبات الصقيع، ولعله في أفضل
الحالات كان سيتناولها فيلتهمها بتلذذ. ولو لم تقل بنت بلدي ماري سكلودوفسكا كوري Marie Sklodowska-Curie لنفسها "لا أعرف"، فربما كانت
انتهت معلمة للكيمياء في مدرسة ثانوية تعلم بنات العوائل المحترمة، ولكانت أنهت
أيامها وهي تمارس هذه الوظيفة المحترمة مع ذلك. ولكنها ظلت تقول "لا
أعرف" فقادتها هذه العبارة لا مرة واحدة بل اثنتين إلى استوكهولم التي تجازى
فيها الأرواح القلقة المتسائلة بجائزة نوبل.
والشعراء،
الحقيقيون، ينبغي ألا يكفوا عن قول "لا أعرف". فكل قصيدة هي جهد يتلو
هذه العبارة، ولكن بمجرد اطراح المرحلة الأخيرة على الصفحة، إذا بالشاعر يتردد،
ويدرك أن هذه الإجابة بالذات لم تكن إلا مجرد حل مؤقت لا يصلح مطلقا كحل نهائي.
وهكذا يبقى الشعراء على المحاولة، وعاجلا أم آجلا تجد النتائج المتعاقبة لسخطهم
على أنفسهم بعض مؤرخي الأدب، فيجمعونها بماسك ورق كبير ويعدونها "نتاجهم
الشعري" ...
أحيانا
أحلم بمواقف لا تحقق لها. يشطح الخيال بي أحيانا فأراني على سبيل المثال وقد حظيت
بفرصة الدردشة مع سليمان الحكيم كاتب تلك المرثية المؤثرة لغرور جميع مساعي البشر
[أي سفر الجامعة]. أمامه أنحني باحترام شديد، فهو في النهاية واحد من أعظم
الشعراء، بالنسبة لي على الأقل. وبانتهاء ذلك، أشد على يده، وأقول "لا جديد
تحت الشمس، هذا ما كتبته يا سليمان، ولكنك أنت نفسك ولدت جديدا تحت الشمس.
والقصيدة التي ابتكرتها هي أيضا جديدة تحت الشمس، ما دام لم يكتبها من قبلك أحد.
وكل قارئ لك جديد تحت الشمس، ما دام من عاشوا من قبلك ما قرأوا قصيدتك. والصنوبرة
التي تسظل بها غير نابتة في موضعها منذ فجر الزمان. وإنما أتت إلى الوجود عبر
صنوبرة شبيهة بصنوبرتك، لكنها ليست مماثلة لها تماما. وإنني يا سليمان أود أن
أسألك أي جديد تحت الشمس تعتزم أن تعمل الآن فيه؟ أهو إضافة جديدة إلى الأفكار
التي عبرت عنها من قبل؟ أم ربما يغويك الآن أن تنقض بعضها؟ لقد ذكرت الفرح فيما
سبق من عمل لك، فماذا لو كان سريع الزوال؟ أتكون قصيدتك الجديدة تحت الشمس عن
الفرح أيها الجامعة ؟ تراك بدأت فعلا في تدوين ملاحظاتك، أتعتمد على المسودات؟
أستبعد أن تقول "إنما كتبت كل شيء، وليس لدي ما أضيفه، فليس لشاعر على وجه
الأرض أن يقول ذلك، ناهيك عن أعظم الشعراء من أمثالك".
العالم،
مهما يكن ظننا حين يروعنا شسوعه وهواننا، أو يصعب علينا عدم اكتراثه بمعاناة
الفرد، والناس، والحيوان، وربما النبات، ففيم يقيننا هذا بأن النبات لا يشعر
بالألم، ومهما يكن ظننا بامتداداته تخترقها أشعة النجوم المحاطة بالكواكب التي
بدأنا للتو في اكتشافها، الكواكب الميتة أصلا؟ الميتة لا تزال؟ ما يدرينا، مهما
يكن ظننا بهذا المسرح اللانهائي الذي حجزنا فيه تذاكر، ولكنها تذاكر قِصر أعمارها
يدفع إلى الضحك، محددة بتاريخين اعتباطيين، مهما تكن ظنوننا بهذا العالم، هذا
العالم مدهش.
ولكن
"مدهش" هذه صفة تخفي شركا منطقيا. فنحن ندهش لأشياء هي في النهاية بنت
طبائع معروفة معترف بها إطلاقا، بنت وضوح نألفه. مقصدي الآن، أنه لا وجود لمثل هذا
العالم الواضح أصلا. فاندهاشنا موجود بذاته، لا بالمقارنة مع شيء سواه.
مؤكد،
أننا في كلامنا اليومي، لا نتوقف عن قول عبارات مثل "العالم العادي"
و"الحياة العادية" و"السياق العادي للأحداث" ... أما في لغة
الشعر، حيث الكلام يوزن بالكلمة، لا وجود لشيء معتاد أو طبيعي. لا حجر كذلك ولا
الغيمة التي تعلوه. لا يوم كذلك ولا الليلة التي تتلوه. والأهم أنه لا وجود عادي،
لا وجود لأي كائن في هذا العالم يمكن نعته بالعادي.
يبدو أن
عمل الشعراء سوف يجد دائما من يتمه لهم.
الترجمة
من البولندية إلى الإنجليزية بقلم ستانيسلاف باناكزاك و كلير كافاناجStanislaw
Baranczak and Clare Cavanagh
معرض المعجزات
معجزة
شائعة:
كثير
من المعجزات الشائعة
يحدث
معجزة
عادية:
في
جنح الليل
نباح
كلاب لامرئية
معجزة
من معجزات كثيرة:
غيمة
صغيرة خفيفة
وتحجب
قمرا كبيرا ثقيلا
معجزات
في معجزة:
شجرة
جار الماء تنعكس على الماء
فهي
مقلوبة من اليسار إلى اليمين
وهي
تنمو هناك، برأسها إلى أسفل
وأبدا
لا تبلغ القاع
برغم
ضحالة الماء.
معجزة
يومية:
الرياح
الخفيفة إلى المتوسطة
تصبح
عاصفةً في العاصفة.
أولى
المعجزات المتساوية:
الأبقار
أبقار.
معجزة
لا مثيل لها:
كل
هذا البستان
من
هذه البذرة.
معجزة
لا هي من عباءة ولا من قبعة:
يمامات
بيضاء متناثرة.
معجزة
وإلا فماذا تكون:
اليوم
أشرقت الشمس في الثالثة وأربع عشرة
وستغرب
في الثامنة ودقيقة.
معجزة،
أقل دهشة مما ينبغي:
برغم
أن في اليد أقل من ستة أصابع
إلا
أن فيها أكثر من أربعة.
معجزة،
وانظروا فقط حولكم:
العالم
في كل مكان.
معجزة
إضافية، كما أن كل شيء إضافي:
ما
لا يمكن التفكير فيه
يمكن
التفكير فيه
.
|
احتمالات
أفضل السينما.
أفضل القطط.
أفضل السنديان على شط نهر وارتا.
أفضل ديكنز على دوستويفسكي.
أفضل نفسي محبة للناس
عنها محبة للإنسانية.
أفضل خيطا وإبرة في متناول يدي.
أفضل الأخضر.
أفضل عدم الزعم
بمسئولية العقل عن كل شيء.
أفضل الاستثناءات.
أفضل أن أَهجر.
أفضل محادثة الأطباء في أمر آخر.
أفضل الرسومات القديمة.
أفضل أن أثير الضحك لأنني أكتب الشعر
عن أن أثير الضحك لأنني لا أكتبه.
أفضل الاحتفالات السنوية البالية في العلاقات العاطفية
حينما يُحتفل بها كل يوم.
أفضل الأخلاقيين
ممن لا يعدونني بأي شيء.
أفضل الطيبة المحسوبة على الطيبة الساذجة.
أفضل أرض المدنيين.
أفضل البلاد المغزوة على البلاد الغازية.
أفضل أن يكون لي اعتراضاتي.
أفضل جحيم الفوضى عن جحيم النظام.
أفضل حكايات الأخوين جريم عن الصفحات الأولى في
الجرائد.
أفضل الورق بدون زهور على الزهور بدون ورق.
أفضل الكلاب غير معقوفة الأذناب.
أفضل العيون الفاتحة ما دامت عيناي داكنتين.
أفضل الأدراج.
أفضل أشياء كثيرة لم أدرجها فيما سبق
عن أشياء كثيرة غير مدرجة هنا.
أفضل الأصفار مبعثرة
عن الاصطفاف من أجل رقم.
أفضل زمن الحشرة على زمن النجوم.
أفضل لمس الخشب.
أفضل ألا أسأل كم تبقى ومتى.
أفضل النظر حتى في احتمال
أن يكون لهذا الوجود أسبابه.
جنازة
"فجأة
هكذا، من كان يتوقع؟"
"التوتر
والسجائر، أنا قلت له"
"ليست
سيئة، شكرا"
"فك
هذه الزهور"
"أخوه
أيضا قلبه يتعبه، يبدو أنها وراثة في العائلة"
"ما
كنت سأعرفك بهذه اللحية"
"غلطته،
كان دائما يحشر نفسه"
"هذا
الرجل الجديد كان ينبغي أن يلقي كلمة. أنا لا أراه هنا"
"كازك
في وارسو، تادك سافر"
"أنت
الوحيد الذي كان ذكيا وأحضر مظلة"
"وما
أهمية أنه كان الأكثر موهبة فيهم جميعا"
"هي
مجرد معبر، لن تستقر عليها باسكا"
"طبعا
كان على حق، ولكن هذا أيضا لم يكن السبب"
"وطلاء
الباب من الناحيتين، تصوري بكم؟"
"زلال
بيضتين، وملء ملعقة طعام من السكر"
"لم
يكن له دخل، ما الذي حشره"
"الأزرق
فقط، والمقاسات الصغيرة فقط"
"خمس
مرات ولا أحد يرد"
"موافق،
كان يمكن أن أفعل هذا، وأنت أيضا كان يمكن أن تفعليه"
"حسن
أنها لم تترك وظيفة بعد الظهر"
"لا
أعرف، ربما الأقارب"
"هذا
القسيس ممثل حقيقي[1].
"لم
أصل قط إلى هذا الموضع من الجبانة"
"حلمت
به الأسبوع الماضي، هكذا على فجأة"
"ابنته
شكلها ليس سيئا"
"يحصل
لنا جميعا"
أعمل
ما في وسعي للأرملة، هذا واجب"
"كان
إحساسها أكثر وقارا باللاتينية"
"جاءت
وراحت"
"مع
السلامة يا مدام"
"تعال
نخطف لنا بيرتين في أي مكان"
"اتصل
بي، ونتكلم"
"إما
رقم 4 أو 12"
"أنا
سأمشي من هنا"
"نحن
لا"
تحت نجمة صغيرة معينة
أعتذر للصدفة أني
أسميها الضرورة.
أعتذر للضرورة لو كنت
أخطأت.
ويا سعادة لا تحزني
أني أتخذك لنفسي.
وليغفر لي الموتى أن
ذكراهم مجرد بارق.
أعتذر للزمن على كم
العالم الذي يغيب عني للحظة.
أعتذر لحبيب قديم أني
أعامل حبا جديدا كأنه الأول.
ويا أيتها الحروب
البعيدة سامحيني على رجوعي إلى البيت بالزهور.
ويا أيتها الجراح
الفتوحة سامحيني على وخزي إصبعي.
أعتذر لمحضر الاجتماع،
وللذين يصيحون من داخل الهاوية.
أعتذر لأهل محطات
القطارات أني أنام مطمئنة في الخامسة صباحا.
آسفة، أيها الأمل المطارَد،
على ضحكي أحيانا.
آسفة أيتها الصحاري
أنني لا أجري بملعقة ماء.
وأنت أيها الصقر، يا
نفس الطائر في القفص لسنوات،
يا من تحملق دونما
حراك، ودائما إلى نفس النقطة،
اصفح عني حتى إذا حدث
وحنطوك.
أعتذر للشجرة أن قُطعت
من أجل قوائم أربعة مناضد.
أعتذر للأسئلة الضخمة
عن الأجوبة الصغيرة.
ويا حقيقة، لا تلتفتي
كثيرا إليّ.
ويا جلال، كن شهما
معي.
واحتملني، يا غموض
الوجود، أنا التي نسلت من حجابك تلك الخيوط.
ويا روح، لا تلوميني
لأني نادرا جدا ما شعرت بك.
أعتذر لكل شيء لأني
لا أستطيع أن أكون في كل مكان.
أعتذر للجميع لأنني
لا أعرف كيف أصير كل رجل وكل امرأة.
وأعرف أنه مهما طال
بي العيش فلن يعذرني شيء
ما دمت أنا عقبتي، لا
سواي.
فلا تأخذ عليَّ يا
كلام أنني أقترض الكلمات الثقال
ثم أكدح من أجل
تخفيفها.
العودة إلى البيت
عاد
إلى البيت. لم يقل شيئا.
بدا
واضحا، مع ذلك، أن ثمة خطبا.
استلقى
في كامل ثيابه.
جاذبا
الغطاء حتى رأسه.
ضاما
ركبتيه إلى صدره.
هو
على مشارف الأربعين
ولكن
ليس في هذه اللحظة.
هو
الآن بالضبط مثلما كان في رحم أمه
تكسوه
سبع طبقات من الجلد، في عتمةٍ حاضنة.
غدا
سوف يلقي محاضرة في التجانس
أمام
الفلكيين الروس من دارسي المجرات الكبرى.
أما
الآن، فهو متكور على نفسه
يغط
في النوم.
الحب الأول
يقولون
إن الحبَّ الأولَ هو
الأهمُ،
هو البالغُ الرومانتيكية،
ولكن ليس في حالتي.
كان شيءٌ بيننا وما كان،
ظل شيءٌ وما ظل إلا غيابا.
لا ترتعش يداي الآن
وأنا أتحسس تذكاراتي
السخيفةَ
أو الرسائلَ المربوطةَ
بخيطٍ ـ
ليس حتى شريطا من حرير.
في لقائنا اليتيم بعد
سنين:
لسنا سوى مقعدين يتبادلان
الكلام
على طرفي منضدة باردة.
أحبائي الآخرون
لا يزالون يتنفسون داخلي
بعمق.
أما هذا
فلا يجد من الهواء
ما يكفي لتنهيدة.
وبرغم هذه الحالِ
يفعل ما لم يفلح الآخرون
فيه بعد:
لا يطفو على الذاكرة،
لا يظهر حتى في الأحلام،
ولكنه سبيلي الوحيد إلى
الموت.
عزاء
دارون.
يقولون إنه كان
يقرأ الروايات ليسترخي،
ولكن روايات من
نوع محدد:
لا تنتهي أبدا
على نحو غير سعيد.
وإن حدث وصادف
مثل هذا،
ففي غضبٍ كان
يقذف الكتاب في المدفأة.
صدق أم كذب،
أنا على أتم
استعداد للتصديق.
مستظهرا في
رأسه كل تلك الأماكن والأزمنة،
لا بد أنه كان
مكتفيا من الأنواع المحتضرة،
وانتصارات
الأقوياء على الأضعفين،
وصراعات لا
تنتهي من أجل البقاء،
وكلها، طال
الأجل أم قصر، إلى الزوال.
حقت له إذن تلك
النهايات السعيدة، ولو في الروايات،
على تناقصها.
هكذا
لم يكن من بديل
عن النهاية السعيدة،
اجتماع شمل
الحبيبين، تصالح العائلتين،
تبدد الشكوك،
مكافأة الأوفياء،
استعادة
الثروات، اكتشاف الكنوز،
صلاح أمر
الجيران العنيدين،
استعادة السمعة
العطرة، خِذْْلان الجشعين،
اقتران العوانس
بالقساوسة الأثرياء،
طرد المزعجين
إلى قارات أخرى،
إلقاء مزيفي
الوثائق من على السلالم،
اقتياد المغوين
إلى المذبح،
إيواء اليتامى،
صفاء بال الأرامل،
هوان
المتعجرفين، اندمال الجراح،
إياب الأبناء
الضالين،
إلقاء كئوس
الحزن في المحيط،
غرق المناديل
في دموع الفرح،
بهجة عامة
واحتفال،
والكلب فيدو،
الكلب الذي تاه
في الفصل الأول،
يظهر نابحا في
سعادة،
في الأخير.
أبناء هذا الزمان
نحن أبناء هذا الزمان،
وهذا الزمان سياسي.
كل شأن، في الليل كان أو في النهار،
كل شأن لكم، أو لنا، أو لهم
كل شأنٍ سياسيٌّ.
رضيتم أم أبيتم،
لجيناتكم تاريخ سياسي
لجلودكم مظهر سياسي،
ولأعينكم سمت سياسي.
للذي تقولون رنة سياسية،
وللذي تصمتون عنه دلالة،
وهي، في هذه الحالة أو تلك،
سياسية.
حتى حينما تقصدون التل
فالخطى التي تسيرون بها سياسية
على أرضية سياسية.
حتى القصائد اللاسياسية سياسية
حتى القمر الساطع فوق رءوسنا
لم يعد الآن مجرد فضي.
أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة.
مسألة؟ أية مسألة؟ إليكم يا أعزائي رأيي:
إنها مسألة سياسية.
ليس عليكم حتى أن تكونوا كائنات بشرية
لتكون لكم قيمة سياسية.
يكفي أن تكونوا نفطا خاما
أو طعاما مركزا، أو أي خامة تشاءون.
أو حتى طاولة في مؤتمر ضاعت شهور
في الجدال حول شكلها:
ترى حول طاولة مستديرة أم مربعة
نتفاوض على الحياة والموت؟
فيما بشر يحتضرون
وحيوانات تهلك،
وبيوت تحترق،
وغيطان تبور،
تماما كما في أكثر الأزمان نأيا
وأقلها سياسة.
البعض يحب الشعر
البعض ..
إذن ليس الكل.
بل وليس أغلبية الكل إنما أقل القليل
دعكم من المدارس فالأمر فيها ملزم
ومن الشعراء أنفسهم، لن تتجاوز النسبة اثنين في الألف.
يحب ..
ولكن الواحدة تحب حساء المكرونة بالدجاج
تحب المجاملات واللون الأزرق، أو تحب وشاحا قديما لديها،
الواحدة تحب أن تثبت صحة رأيها
وتحب أن تقتني كلبا
الشعر ..
ولكن أي شيء هو الشعر؟
كم من إجابة مهتزة
على هذا السؤال.
أما أنا فلا أعرف ولا أعرف وفي ذلك أتشبث
كما في سور سلم
ينقذني.
من الناس
من الناس مَن يفر من الناس
في بلد من البلاد
تحت شمس
وغيم.
من الناس من يفرون
تاركين من ورائهم
كل شيء لهم
تاركين حقولا بذروها
وبضع دجاجات وكلاب
ومرايا لم تعد سوى النار
تبصر نفسها فيها.
على ظهورهم جرار وحزم
تفرغ وتمتلئ من يوم إلى يوم.
يحدث خلسة أن يقف شخص ما،
وفي الزحام خبز شخص ما يخطفه شخص ما
وطفل ميت يهزه شخص.
أمامهم طريق لم يعد الطريق الصحيح
ولا الجسر الذي ينبغي
أن يمر على نهر وردي بغرابة.
من حولهم إطلاق نار، قريب أحيانا وبعيد أحيانا
ومن فوقهم طائرة تحوم إلى حد ما.
شيء من الخفاء سوف يكون مناسبا
والأفضل منه البلادة التامة
والأفضل من ذلك العدم
لوهلة أو لفترة.
شيء ما لم يزل منتظرا، لكن أين وماذا؟
شخص ما سوف يتجه إليهم، لكن متى ومن،
وفي كم صورة وبأية نية؟
لو بيده الخيار
فلعله يختار ألا يكون العدو
ويترك لهم بعض الحياة.
إعلان
أنا مهدئ.
أنا
فعال في البيت
ولي
تأثيري في العمل.
يمكن
أن تمتحنني
أمام
منصة الشهادة.
أنا
أصلح الفناجين المكسورة.
كل
ما عليك هو أن تتناولني
تتركني
أذوب أسفل لسانك
تتجرعني
فقط
مع
كأس من الماء.
أعرف
كيف أعدل الحظ المائل
وكيف
أتلقى الأخبار السوداء.
أستطيع
أن أقلل الظلم
وأعوض
عن غياب الرب
أو
أن أختار خمار الأرملة الملائم تماما
لوجهك.
ما
الذي تتوقون إليه ـ
آمنوا
فقط بالحنان الكيميائي.
أنتَ
وأنتِ
أنتما
لا تزالان شابين
لم
يفت أوان أن تتعلما الانطلاق.
ومن
قال
إنكم
ينبغي أن تبقوا منتبهين؟
دعوني
آخذ هاويتكم
وأبطِّنها
بالنوم
ستشكرون
لي أنني
أمنحكم
أربعة مخالب
تسقطون
عليها.
بيعوني
أرواحكم
لم
يعد هناك مرابون آخرون.
الشرير
نفسه لم يعد له وجود.
نشرت المواد السابقة كلها في هذا العدد من مجلة نزوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق