الفيلسوف والإرهابي
عندما التقى سارتر بزعيم منظمة "فصيل الجيش الأحمر" أندرياس بادر
فيلكس بور ـ كلاوس فيجريفي
لوقت طويل،
ظل لقاء "جان بول سارتر" مع "أندرياس نادر" زعيم منظمة "فصيل
الجيش الأحمر" يعد من بين أخطاء الفيلسوف الكبرى. فيما يلي أجزاء من تفريغ للقاء الذي لم يتم
الكشف عنه إلا الآن، والذي يبين أن ما كان يريده صاحب نوبل من اللقاء هو إقناع
الرجل بالتوقف عن اغتيال البشر.
احتشد جمع
غفير من الصحفيين في مطار شتوتجارت في انتظار وصول المفكر قصير القامة. كانت
الزيارة حدثا عالميا. وكيف لا تكون كذلك وهي زيارة من نجم الفلسفة الفرنسي جان بول
سارتر لـ أندرياس بادر ـ كبير الإرهابيين في منظمة فصيل الجيش الأحمر الألمانية ـ
وهي الجماعة اليسارية الراديكالية المعروفة أيضا بعصابة بادر ماينهوف. كان ذلك في
الرابع من ديسمبر سنة 1974.
أقلت سيارة
بيجو سارتر البالغ من العمر يومها تسعة وستين عاما إلى سجن شديد الحراسة في ضاحية
شتامهايم في شتوتجارت. في أول الأمر لزم المفكر الصمت، ولكن في المؤتمر الصحفي
الذي أعقب اللقاء مع بادر، وجه الفيلسوف اتهامات جسيمة إلى الحكومة الألمانية التي
كان يرأسها في ذلك الوقت المستشار هلموت شميدت.
كان سجناء فصيل الجيش الأحمر محتجزين في زنازين انفرادية عازلة
للصوت تحت إضاءة صناعية مستمرة. فلم يكن "التعذيب كتعذيب النازي" بل هو
"تعذيب آخر، تعذيب يفضي إلى اضطراب نفسي" حسب ما قال الفيلسوف.
رد الفعل الشعبي الصادم
ذلك الانتقاد
الذي وجهه سارتر جاء على هوى بادر ورفاقه الذين كانوا يرجون من زيارة هذا النجم
الباريسي أن تسفر عن موجة من التضامن معهم. ولكن رد الفعل الشعبي جاء صادما،
فسرعان ما ذاع خبر مفاده أن الفيلسوف لم ير اصلا الزنازين في سجن شتامهايم الحديث،
ولم ير كيف أنها مزودة بشاشات تليفزيون وأرفف كتب.
واليوم يعتقد
الخبراء أن سارتر الذي كان شبه أعمى في تلك الزيارة القديمة تصور أن غرفة الزيارة
الضيقة هي الزنزانة التي يقيم فيها بادر. وبدلا من أن تكتب الصحافة عن معاناة
سجناء فصيل الجيش الأحمر المزعومة، كتبت عن المزايا التي يتمتع بها بادر وأولريك
ماينهوف وغيرهما من أعضاء المنظمة في محبسهم.
وهناك
اعتبارات أخرى جعلت اللقاء لا يرقى إلى ما كان ينتظره منه بادر. فبعد سنين من
اللقاء، بات واضحا أن الرجلين تصادما. وبعد اللقاء قيل إن سارتر قال عن بادر إنه
"مغفل كبير". وكتب زعيم فصيل الجيش الأحمر رسالة سرية إلى رفاقه قال لهم
فيها إنه ليس واثقا مما إذا كان سارتر "قد فهمه على الأقل". وجاء فيها
أن الفيلسوف والمسرحي الحاصل على نوبل في الأدب سنة 1964 ترك فيه "الانطباع
الذي يتركه العجائز".
ولكن تفاصيل
الحوار الذي دار بين الفيلسوف الوجودي وتلميذ ميونيخ الفاشل بقيت مخبوءة، حتى
الآن. وبناء على طلب من صحيفة دير شبيجل، أفرج "المكتب الفدرالي لحماية
الدستور" عن وثيقة مؤرخة في الثاني من يناير سنة 1975 كانت بحوزة مكتب ولاية
بادن فورتمبرج للتحقيقات الجنائية LKA. ولهذه
الوثيقة المكونة من عشر صفحات أهمية تاريخية لأنها تحتوي تفريغا جزئيا للقاء سارتر
وبادر. وبحسب مكتب ولاية بادن فورتمبرج للتحقيقات الجنائية، فإن الوثيقة تحتوي كل
ما قاله سارتر، و"أهم الفقرات" التي قالها بادر.
وبناء على
هذا التفريغ، لا يبقى ثمة شك في أن سارتر كان يتبنى نظرة أكثر ميلا إلى انتقاد
منظمة فصيل الجيش الأحمر، خلافا لما ظهر في كلامه في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد
ساعة من اللقاء. فلقد حاول مرارا وتكرارا أن يقنع بادر بالتوقف عن القتال.
***
سارتر: الجماهير ... الأفعال العلنية التي قامت بها فصيل الجيش الأحمر لا يوافق
عليها الناس
بادر: ثابت أن عشرين في المائة من السكان متعاطفون معنا ...
سارتر: أعرف. الإحصاءات أعدت في هامبورج.
بادر: الوضع في ألمانيا مناسب للجماعات الصغيرة، سواء من حيث الشرعية أو عدم الشرعية.
سارتر: هذه الأعمال قد تكون مبررة في البرازيل، لا في ألمانيا.
بادر: لماذا؟
سارتر: في البرازيل كانت هناك ضرورة للأعمال الفردية لتغيير الوضع. كان عملا
تحضيريا لازما.
بادر: ولماذا يكون الأمر مختلفا هنا؟
سارتر: هنا لا يوجد نفس نمط بروليتاريا البرازيل.
***
بادرت منظمة
فصيل الجيش الأحمر بالدعوة إلى اللقاء بعدما وصف سارتر عصابة بادر ـ ماينهوف بـ
"القوة المثيرة للاهتمام" وبأن لديها "حسا ثوريا". فكان أن اقترحت
"أولريك ماينهوف" أن يجري سارتر حوارا مع بادر . ومبررها: أن يكون قتل
بادر "أصعب قليلا على الضباط". كانت ماينهوف في ذلك الوقت في غمار إضراب
عن الطعام هدفه المعلن هو تحسين ظروف اعتقالها. ولكن هدفه الحقيقي كان لفت أنظار
الرأي العام. وإذ ذاك جاء الفرنسي ذو الشهر العالمية.
وافق سارتر.
وبحسب ما يرى أستاذ العلوم السياسية فولفجانج كراوشار، كان الرجل الذي أسره الجيش
الألماني قديما يرى ألمانيا الغربية "دولة ورثت ألمانيا النازية" ويرى
منظمة فصيل الجيش الأحمر شكلا من أشكال المقاومة أو "الريزيستانس Résistance ".
استقبال بارد
وقبل أيام قليلة
من زيارة شتامهايم، نشرت دير شبيجل حوارا معه سارتر أجرته النسوية الألمانية
المرموقة أليس شوارتسر. وقبل أسبايع كان المتطرفون اليساريون قد قاموا باغتيال
جونتر فون درينكمان رئيس محكمة برلين العليا ووصف سارتر ذلك بالـ
"جريمة". فكان قوله بالنسبة لبادر "تجديفا".
ولذلك فقد
قابل الفيلسوف في برود في غرفة الزيارة في سجن شتامهايم. حضر اللقاء إضافة إلى
الرجلين، مترجم، وحارس، ومندوب من مكتب ولاية بادن فورتمبرج للتحقيقات الجنائية.
ولما بدأ سارتر النقاش بقوله إنه جاء "متعاطفا" راغبا في التعرف على المبادئ
التي يتحرك بموجبها بادر، قال الأخير إن ذلك سوف يكون "صعبا". فلقد كان
يحسب أنه سوف يقابل صديقا، ولكن بعد قراءة الحوار المنشور في شبيجل بات يرى أن
"قاضيا هو القادم".
ولم تتغير
نبرة اللقاء مطلقا بعد هذا إلى نبرة أكثر ودا. بل كان بادر في مرات عديدة يبادر
بقوله لسارتر "أي أسئلة؟" فلا يبدو أن الباحث يظهر اهتماما كافيا به.
بعد سكتتين
قلبيتين، لم يكن سارتر في ذروة قوته الإبداعية. ولكن زعيم منظفمة فصيل الجيش
الأحمر بدوره كان يعاني آثار الإضراب عن الطعام. قال سارتر إنه يبدو "في غاية
الضعف".
لم تكن الأسئلة
الأيديولوجية تثير أي اهتمام لدى بادر الذي وصفه الكاتب "هانز ماجنوس
إنزنبرجر" بأنه في ضحالة "قواد". ولكن بادر مع ذلك أنتج نصا من
ثلاث صفحات مكتوبة على الآلة الكاتبة وتلاه كاملا على نجم مفكري أوربا.
وقد كتب
مندوب مكتب ولاية بادن فورتمبرج للتحقيقات الجنائية يقول "وبناء على
استفسارات لاحقة من سارتر، كان بادر يعيد قراءة بعض الجمل. ولما طولب بأن يشرح بعض
الجمل، واجه صعوبة حقيقية في ذلك. فكان غالبا ينتقل إلى الجملة التالية غير
المرتبطة بسابقتها".
***
بادر: العملية الموضوعية كامنة في الصراع ... في وضعه الدفاعي، يبقى اليسار
الألماني محصورا ومعزولا. ولسوف يتحطمون. إن هذا الذي نمر به هو الحرمان من
الحقوق. هو تطبيق قوانين الطوارئ مضافة إلى منع التوظيف على الاشتراكيين. حالة
الطوارئ مهيأة في ألمانيا. في ألمانيا لا أحد يرى من يتخذ الموقف الدفاعي. أدوات
السلطة الرأسمالية مطبقة بهدوء وبصورة طبيعية. سياسات العدو الطبقي ...
سارتر: أنا لا أفهم هذا، سياسات العدو الطبقي؟
بادر: هناك خطان، عمل رأس المال لنقل داخل إطار الديمقراطية البرلمانية، وعمل النزعة
الإصلاحية الضعيفة. نحن لا نساوي بين الحكم الاجتماعي والعنف الموجه سياسيا. نرى إمكانية
دكتاتورية زاحفة وواضحة. هذا وضع خاص بألمانيا. رأس المال الأمريكي ينفذ هذه
السياسة بشكل مباشر.
***
من الصعب أن
نعتقد بمقدرة سارتر على انتزاع بصيص من المنطق من هذيان بادر التالي عن
"الثورة الثورية المضادة"، و"اللوجستيات الرأسمالية" أو
الاستراتيجية الواجب تبنيها "مدينة، مدينة، مدينة، قرية".
على النقيض،
جاءت كلمات سارتر واضحة. الأفعال السياسية التي قامت بها منظمة فصيل الجيش الأحمر
في ألمانية "لم تلق صدى". تلك الأفعال "لديها كل الحق" في
بلاد مثل جواتيمالا، وليس في بلاد مثل ألمانيا. وعندما اقترح بادر تجميع
"الجماعات المسلحة" في فرنسا، عارضه سارتر، قائلا "لا أعتقد أن في
الأرهاب خيرا لفرنسا".
ولاحظ مندوب
مكتب ولاية بادن فورتمبرج للتحقيقات الجنائية أنه "اثناء الحديث وبعده، بدا
بادر مكتئبا محبطا من عدم تأييد سارتر بلا تحفظ لأعمال عصابة بادر ـ
ماينهوف". وبعد ستين دقيقة، انتهى اللقاء.
نشر الموضوع في دير شبيجل في السادس من فبراير الحالي ونشرت ترجمته
صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق