الاثنين، 18 فبراير 2013

قوة الكلب نيل جايمان



قوة الكلب
نيل جايمان
في بعض الأحيان، تصعب على المرء كتابة هذه الأشياء.وأحيانا يكون في كتابتها خلاص حياتي. وهذه من المرات التي يكون فيها مجرد وجود هذه المدونة سببا داعيا للفرح، ولكن الكتابة لم تزل شديدة الصعوبة ...
المهم. في الثلاثين من ابريل سنة 2007 أوقفت سيارتي وأنقذت الكلب من على قارعة الطريق. يومها كتبت ...
كانت تمطر وأنا اسوق سيارتي راجعا إلى البيت، وبمجرد انحرافي عن الطريق السريع متجها إلى البيت، رأيت كلبا ضخما فاتح اللون على جانب الطريق. مضيت في غضون ثانيتين من أول فكرة خطرت لي ولم تزد عن "أوه، لا بد أنه يتسكع وحسب، لكنه بالتأكيد يعرف بالضبط ما الذي يفعله" إلى ثاني فكرة "من المؤكد أنه يشعر بالفزع وهو إذا لم يكن تائها فهو مرعوب من السيارات ومعرض لخطر الخروج إلى الطريق السريع".
أوقفت السيارة، وعبرت الطريق مسرعا إليه حيث كان. تراجع، في توتر، ثم أقبل عليَّ وهو يرتعد. لا طوق ولا معلومات، ليس إلا سلسلة خانقة. وهو ضخم. ومبتل تماما وموحول للغاية، والسيارات تعبر، ورأيت أن أحكم قرار يمكن اتخاذه هو أن أضعه في سيارتي وهناك أفكر فيما يمكن أن أفعله. كانت سيارتي ميني Mini. فتحت له الباب فتسلق بصعوبة. استولي الكلب على أغلب مساحة الميني التي لم أكن أشغلها، وعلى جزء لا بأس به من مساحة الميني التي كنت أشغلها. كلب ضخم، وسيارة صغيرة.
اتصلت بمساعدتي لورين وطلبت  منها أن تخبر الفرع المحلي للجمعية الإنسانية (وهم أناس في غاية اللطف ولا ينتهجون سياسة القتل) أننا قادمون بسرعة ومعنا كلب، وسقت إلى البيت ناجيا من ميتات محققة (فما أكثر ما لا يمكن أن تراه حينما يملأ كلب ضخم سيارتك شاغلا أغلب مساحة الرؤية). جريت حول الحديقة أنا ودوج [كلب] حتى أنهكني. (أرجو بصدق أن يكون تائها تبحث عنه عائلته، فمن الصعب فعلا تصور أن يتخلى شخص عن كلب بهذا اللطف). ثم وضعته في سيارة أكبر بكثير من ميني وأخذته إلى جمعية المجتمع الإنساني، فما من أحد هناك إلا ولاطفه. (قالت سيدة في الجمعية أظن أنه هجين من الوولف والاسكيمو " ولعلها مصيبة في هذا).
أظن أيضا أنه ناج من حادثة.


ذلك كان شكلنا حينما ركبنا ميني






بعد بضعة أيام اتصلت سيدة الجمعية وكتبتُ على المدونة:
يبدو أنني اقتنيت كلبا. تلقيت اليوم اتصالا من الجمعية الإنسانية تنبئني أن مالك الكلب الذي عثرت عليه يوم الاثنين اتصل بهم وأخذ كلبه. فرحت أن دوج رجع إلى عائلته، ولكنني لمست في نفسي تعاسة ما كنت أتوقعها. أدركت أن الأمل كان يراودني في ألا يطالب به أحد.
مضت المكالمة إلى أن جاء فيها أن مالك الكلب، وهو فلاح من المنطقة، كان يحتفظ به مقيدا في سلسلة في الفناء، ولم يكن يستطيع المشي جيدا فينزه كلبه، وكان يرى الكلب مزعجا، لأنه كثيرا ما ينطلق تاركا الفناء ويتجه إلى الطريق السريع مما ينذر بأنه عاجلا أم آجلا سوف يتسبب في وقوع حادث، ولما ذكرت سيدة الجمعية لمالك الكلب أن الرجل الذي عثر عليه معجب به، قال لها المالك إن بوسعي أن أذهب وأحصل عليه.

مر وقت طويل قبل أن يبيض عنقه وصدره كانت السلسلة المعدنية الرمادية قد صبغته في هاتين المنطقتين بلونها.


كان اسمه "باك"، ذلك ما كان مكتوبا في الفناء، وعلى السلسلة، لكنه لم يكن يستجيب للمناداة به، ولم يكن أحد أصلا يناديه باسمه، بحسب ما فهمت. سميته كابال Cabal ، على اسم كلب الملك آرثر الذي كان [يرى ـ حرفيا] يستشعر الريح قبل هبوبها  وبدا أنه فرح باسم ينادى به فيستجيب.
لم يكن لي كلب من قبل. ولا أعتقد أنه كان له صاحب من قبل. وارتبطنا. وعلى مدار السنوات التالية، تغيرنا، وكبرنا.
تبلغ مساحة بيتي في الغرب الأوسط نحو سبعة عشر أكرا من الغابات . أعدت اكتشاف كل هذه المساحة، والمروج المحلية أيضا. صار لي صديق في وقت كنت فيه في أمس الحاجة فيه إلى صديق: إذ كنت في ذلك الوقت وحيدا بحق. كنت انفصلت عن أم أولادي، ماري، قبل أربع سنوات، وكانت قد تركت البيت فبات شديد الخواء. ولم أعد أجد في حياتي ـ أنى نظرت ـ أحدا يشعر بمثل ما أشعر به.
بت ألقى من كابال حبا غير مشروط. ولا أعني أنه كان حب عبودية. كنا حينما نخرج لنمشي يبدو إلى حد كبير على يقين من أنه المسئول، فهو في نهاية المطاف، الأسرع، والقادر على شم الأشياء، والذي يفهم أكثر مني بكثير كيف تتجري الأمور في الغابة.
لم يكن يخاف من أي شيء، إلا العواصف الرعدية. والمصاعد الكهربائية.
التقطت له صورا كثيرة في الغابة
في البيت كان يبدو أقل سعادة. وأحيانا كانت تنتأ ساقاه الخلفيتان من تحته وهو راقد. كان يحذر السطوح اللامعة كما لو كان عانى سنين طويلة من المشي على جليد المزرعة.
كنا أقرب إلى ثنائي قديم كل شريك فيه مفتون بشريكه فرحان به. كل يحمي الآخر. كان يقف بيني وبين الغرباء، يفاجئني وقد انطلق ليزرع نفسه هناك، عاقدا العزم على تأميني من القطط، برغم أنه كان لديَّ العديد من القطط، فكان لزاما عليَّ أن أقسم البيت إلى منطقتي القطط والكلب (ولست واثقا مما إذا كان قد أدرك أن الهدف من ذلك كان أمنه هو لا أمن القطط).
كان الناس يقولون إن في أحدنا شبها من الآخر. ومضى البعض إلى حد محاولة إثبات ذلك.
تقول أماندا إنه علمني كيف أحب. وربما يكون معها حق
كانت لديه مشكلة في ساقيه الخلفيتين. كان قد جرى فأسرع الجري، وكان قد جرى بقوة وبمشقة فانكسرت ساقه وظل مع ذلك يجري، أو ربما انقطع فيها وتر. وكانت هناك جراحتان، بين كل والأخرى عام.
كان دائما ينام بالليل داخل غرفة نومي. ثم صار يصعب عليه يوما بعد يوم النهوض ونزول السلم، فنقلت غرفة نومي إلى الطابق الأرضي لكي لا يشغل باله بالسلالم. ووضعنا منحدرا على السلام الخارجية المفضية إلى البيت ليدخل ويخرج كيفما يشاء.
كان يلاقي صعوبة جسيمة في المشي خارج البيت، فقد كانت ساقاه الأماميتان تمضيان إلى حيثما يشاء لهما بينما الخلفيتان تتسكعان كيفما يحلو لهما. كان في الثالثة حينما حصلت عليه. والآن بلغ التاسعة. وحالته متدهورة (يعاني نوعا كلبيا من تصلب الأنسجة) ولكنه كان طوال الوقت مبتهجا ودودا وقادرا برغم متاعبه على أن يسبق إنسانا في الجري في الغابة إن حدث ما يستدعي ذلك.
كان يحزن حينما أسافر، ويشعر بالوحدة، فأحضرت له لولا لتؤنس وحشته. ونجح ذلك. والآن، حينما أرجع من سفر، أجده أكثر ابتهاجا بكثير. لولا وقعت في غرامه وتسامحت مع وجودي أنا لما بدا أن كابال مقتنع بي كمسئول عن الكلاب.
كان عمره تسع سنوات، فهو كلب مسن، وضخم. لكنه كلبي، مهما يكن، كلبي الذي يكن لي حبا أكيدا غير مشروط، وولاءً لم أر له مثيلا من قبل.
عندما استأجرت البيت في كمبردج كنت قد رتبت لإحضاره إليه على الفور، ولكنني رأيت البيت، رأيت أرضياته الخشبية البراقة الزلقة وكل ما فيه من سلالم وأدركت أنه لن ينفع. كان الكلبان سيأتيان للإقامة هنا معي في غضون ثمانية أسابيع عندما يصبح الجو دافئا فأتمكن من نقل مكان عملي إليه، وفي الوقت نفسه كنت سأرجع كلما أمكنني الرجوع لأقضي وقتا معه هو ولولا (ومع بناتي في الكريسماس). وكنت معه هناك منذ أسبوع. وسأرجع خلال أسبوعين لأقضي هناك بضعة أسابيع وكنت قد خططت بالفعل لأشياء أنوي القيام بها مع الكلبين وأنا هناك.
ولكن هانز اتصل بي ليلة أمس، هانز الذي يرعى الأرض والبيت، اتصل بي من عيادة الطبيبة البيطرية. كان كابال قد قضى يوما طبيعيا، ظريفا، ثم ظهر عليه فجأة مرض شديد. أخذ يتقيأ ويعاني في التنفس. كانت الطائرة الأخيرة قد فاتتني وكنت سأستقل التالية لأكون هذا الصباح بجانبه في مرضه. وجاءني اتصال آخر: هانز وماري مديرة منزلي كانا مع كابال، وكلاهما كانا يبكيان. جعلاني أكلم الطبيبة التي كانت تريد اصطحاب كابال إلى المستشفى. لم يكن قادرا على التنفس. كانت الطبيبة تظن أن هناك تكتلا دمويا في رئته. وجاءني اتصال آخر: لن يقوى كابال على الوصول إلى المستشفى. قلبه توقف. والطبيبة أعادته للتو إلى الحياة ولكن قدرته على التنفس قلت إلى أقصى حد، والطبيبة تخشى أن تصيبه نوبات متتالية ويحتضر متألما ...
وأنا لم أكن موجودا. ولو كنت موجودا لما كان عليه بأس من أي شيء مهما يكن. لو كنت هناك كان سيأمن الذهاب. كلمته على الهاتف وأنا أنوي أن أقول له شيئا يطمئنه، وأسمعه صوتي، ولكنني بدلا من ذلك بكيت وقلت له إنني آسف لأنني لست موجودا.
وكلمت الطبيبة للمرة الأخيرة وطلبت منها أن تساعده على الرحيل.
صورة لنا بعدسة كيمبرلي بتلر، تسميها حب غير مشروط
بكيت
جاءت أماندا فأمسكت بي، ازددت بكاء. واتصلت هولي فحكيت لها ما جرى، وبكت هي الأخرى. كان أمرا مباغتا وغير متوقع ولم أكن موجودا معه عندما رحل. وراح مني صديقي.
وكنت أحسب أنني انتهيت من البكاء حينما قيل لي إن لولا أخذت طوقه من على المنضدة وجعلتها في حضنها طول الليل، فعدت أبكي من جديد.
كثير من الرسائل النصية والرسائل الإلكترونية. شكرا لكم، شكرا لكم جميعا.
أنا في منتهى السعادة أني عرفته. أنا في منتهى السعادة أننا عثرنا على بعضنا البعض. ولا أتخيل أن تكون في حياتي رابطة من هذا النوع ما حييت. فيا ليت الكلاب كانت أعمارها أطول.
ولقد قالها كيبلنج:
هناك من الحزن دائما الكفاية
هناك من حزن الرجال والنساء
ما يملأ الأيام
فلماذا تعملون من أجل المزيد؟
يا إخوتي ويا أخواتي
أرجوكم احذروا
ولا يمنحن أحدكم قلبه يوما
لكلب
فينهشه.

وبوسعنا أن نحذر كيف نشاء. لكن عنوان هذه القصيدة هو "قوة الكلب" وهي قوة حقيقية إلى أبعد الحدود، وهي مثلما عرف كيبلنج ـ وعرفت مثله ـ قوة طيبة.
لقد كان أفضل كلب في الكون ولسوف أفتقده.
نشرت هذه المادة على مدونة الروائي نيلجايمان في 12 يناير 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق