السبت، 16 فبراير 2013

سراب الربيع العربي

باحث في العلوم السياسية بمؤسسة راند الأمريكية ينصح قادة الغرب: تعاملوا مع العالم العربي القائم، لا العالم العربي الذي تحلمون به

سراب الربيع العربي

سيث جونز

في الوقت الذي اكتسحت فيه المظاهرات الشعبية أرجاء العالم العربي في عام 2011، داعب الأمل كثيرا من صناع السياسة في الولايات المتحدة في أن هذه الحركات سوف تكون مستهل حقبة جديدة في المنطقة. وفي مايو من ذلك العام، وصف الرئيس أوباما الانتفاضات بـ "الفرصة التاريخية" للولايات المتحدة لـ "تسعى إلى [تحقيق] العالم كما ينبغي أن يكون". وترددت أصداء من هذا في كلمات لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتن وهي تعرب عن ثقتها في أن هذه التحولات سوف تتيح لواشنطن أن تعزز "الأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية" في الشرق الأوسط.
ولكي لا يتخلف الحزب الجمهوري عن الركب، عزفت أبواقه في 2012 "للطبيعة التاريخية التي اتسمت بها أحداث السنتين الأخيريتين ـ أي الربيع العربي ـ التي أطلقت الحركات الديمقراطية المفضية إلى الإطاحة بالطغاة  الذين يشكلون منذ عقودا تهديدا للأمن في العالم". لقد رأى البعض في التغيرات مقدمة للنهاية المرجوة منذ أمد بعيد لحالة الحصانة التي اتسم بها الشرق الأوسط تجاه موجات الدمقرطة العالمية السابقة، وقال آخرون إن القاعدة وما لف لفها من الحكرات الراديكالية قد انهزمت أخيرا في حرب الأفكار.
ولقد كانت نتائج الاضطراب الأولية ملهمة بحق. فها هي انتفاضات واسعة القواعد أطاحت بزين العابدين بن علي في تونس، وبحسني مبارك في مصر، وبمعمر القذافي في ليبيا. ومنذ الإطاحة بهؤلاء الطغاة، أجرت الدول الثلاث انتخابات اعتبرها المراقبون الدوليون نزيهة وتنافسية، وبات ملايين البشر في أرجاء المنطقة قادرين اليوم على التعبير عن آرائهم السياسية بحرية.
ومع ذلك خيمت العتمة على آفاق المزيد من الدمقرطة. فأغلب الدول العربية لم تحد بعد عن مساراتها السياسية، والتي بدأت عملية اللبرلة من بينها تناضل الآن من أجل حفظ النظام، وتحاول الحفاظ على مكتسباتها، وتواصل التقدم إلى الأمام. ومما يدعو إلى القلق بصفة خاصة أن النمو الاقتصادي في المنطقة بطيء، وسر ذلك أن الأغلبية في دول عديدة (من بينها الأردن وتونس) ـ بحسب استطلاع للرأي أجراه مركز بيو Pew  في 2012 ـ تؤثر الاقتصاد القوي على الحكم الديمقراطي. وحتى بعد جميع التغيرات تبقى المنطقة المؤلفة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأقل حرية في العالم، حيث تقدر مؤسسة فريدم هاوس أن 72 في المائة من الدول و85 في المائة من السكان تعوزهم الحقوق السياسية الأساسية والحريات المدنية.
في غداة الانتفاضات، تبقى أنظمة حكم محلية كثيرة أنظمة ضعيفة عاجزة عن حفظ القانون والنظام. فسوريا انحدرت إلى حرب أهلية طائفية دموية. والعراق واليمن، مضطربتان من ذي قبل، وتبقيان في حالة من التشظي والعنف. الحكومة المركزية الهشة في ليبيا فاشلة في نزع سلاح أمراء الحرب والميلشيات المسيطرة على كثير من مناطق الدولة غير الحضرية . وحتى في مصر ـ التي صارت رمزا للإصلاح السياسي في المنطقة ـ تسعى الحكومة ذات القيادة الإسلامية فيها إلى تعزيز سيطرتها وإخراس الإعلام باستخدام تكتيكات شبيهة بالتي كانت في حقبة مبارك. في الوقت نفسه، وحسب ما بينت أعمال الشغب التي استشرت في المنطقة في سبتمبر، ما من مؤشرات على زوال مشاعر العداء لأمريكا. كذلك يستمر الإرهاب مشكلة كبيرة، مع محاولة القاعدة وأتباعها ملء الفراغ في ليبيا وفي سوريا وفي غيرهما من الدول المضطربة.
قد تأتي نهاية الاستبداد في الشرق الأوسط في نهاية المطاف. ولكن ما من سبب يذكر يدعونا إلى الظن بأن هذا اليوم قريب، وما من سبب يذكر أيضا للظن بأن الولايات المتحدة قادرة على تحقيق زيادة ملموسة في فرصة إحداث ذلك. فأي جهد سوف تبذله واشنطن لإحلال الديمقراطية في المنطقة سوف يخيب، ما لم تكن الشروط الاجتماعية والاقتصادية المحلية مهيأة، وما دامت المصالح الخاصة في هذه البلاد تعارض الإصلاحات السياسية. الحق أن القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة لم يكن لها تاريخيا إلا تأثير هامشي، في أفضل الحالات، على إحلال الديمقراطية في أي بلد. وما لم تنجح موجة محلية أخرى من الانتفاضات في تحويل المنطقة، ينبغي ألا تعيق السياسة الأمريكية نفسها بتركيز ضيق على نشر الديمقراطية.  إن الولايات المتحدة وحلفاءها ينبغي أن يحموا مصالحهم الاستراتيجية الحيوية في المنطقة: إحداث توازن مع الدول المارقة مثل إيران، وضمان الوصول إلى مصادر الطاقة، ومواجهة عنف المتطرفين. ولسوف يستوجب تحقيق هذه الأهداف العمل مع الحكومات المستبدة والقبول بالعالم العربي على ما هو عليه اليوم.
***
في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، أدت "الموجة الثالثة" من الدمقرطة العالمية ـ بحسب تسمية أستاذ العلوم السياسية صمويل هننجتن ـ إلى تغييرات سياسية مذهلة في أمريكا اللاتينية، وأجزاء من آسيا، وأفريقا ما دون الصحراء، وأخيرا أوربا الشرقية. كانت مسيرة الحرية مكتسحة كل مكان تقريبا، إلا الشرق الأوسط. كانت حصانة الأنظمة العربية ضد الدمقرطة قديرة إلى الحد الذي عمل على ظهور أدبيات جديدة ترمي لا إلى تفسير التغير الديمقراطي، بل الثبات الاستبدادي. ويرى البعض أن الربيع العربي غيّر كل هذا وأن أفضل السبل لفهمه هو النظر إليه بوصفها مشاركة إقليمية متأخرة في الموجة الثالثة أو بوصفه بشارة موجة رابعة. ولكن هذا ينطوي على قراءة خاطئة للأحداث، وينشر تفاؤلا في غير موضعه.
ففي الجزائر على سبيل المثال، تبعثرت الحركة الاحتجاجية التي بدأت في ديسمبر 2012 بهدف الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة وإيجاد نظام ديمقراطي. وقست الحكومة على بعض المنشقين وأرضت غيرهم بإصلاحات رمزية. وعلى الرغم من أن كثيرا من السكان اعتبروا انتخابات مايو 2012 البرلمانية خداعا وأن الحكومة العسكرية العتيدة أعلنت تحقيقها انتصارا ساحقا، لم يخرج إلا قليل من الجزائريين إلى الشوارع محتجين. وبالمثل في الأردن الذي تمكن فيه الملك عبد الله من إيقاف المحتجين من خلال تقديم تنازلات متواضعة، من قبيل تغيير بعض وزراء الحكومة أو توسيع الدعم. بغض النظر عن هذه التغييرات المصطنعة، تبقى الأسرة المالكة الهاشمية مسيطرة بقوة، وتستمر قوات الأمن الأردنية في سحق المقاومة الداخلية، والحد من حرية التعبير، وحظر التجمع السلمي.
وفي العربية السعودية، حافظت الملكية الحاكمة على قوة قبضتها المحكمة على السلطة واستخدمت قوتها في دعم الأنظمة الأوتوقراطية المجاورة. وفي فبراير من عام 2011، وجهت الرياض الدبابات إلى البحرين للمساعدة في إخماد انتفاضة شعبية وصمها القادة السعوديون والبحرينيون بالطائفية. في حين أن ما كان يخشاه السعوديون وغيرهم من أعضاء مجلس التعاون الخليجي هو مطالبات المحتجين بتحويل البحرين إلى ملكية دستورية. ولذلك فلقد عادت ملكيات الخليج ـ المنزعجة من الربيع العربي انزعاجها من القومية العربية قبل نصف قرن ـ إلى ارتداء عباءة الثورة المضادة. ولقد كانت من البوادر ذات الدلالة أن عرض مجلس التعاون الخليجي في مايو من عام 2011 عضويته على مملكتي الأردن والمغرب اللتين لا تقع أي منهما في منطقة الخليج. هذا مضافا إلى التمويل الذي يقدمه مجلس التعاون الخليجي لمصر بهدف بسط نفوذه على حكمها الجديد، ومن ثم فقد تبين من هذه المقدمات أن الملكيات العربية عازمة على فرض سلطانها وبسط نفوذها في الشرق الأوسط.
 في الوقت نفسه، تواجه الدول العربية التي تمكنت من الإطاحة بأنظمتها القديمة قلاقل كبيرة. ففي ليبيا  على سبيل المثال كانت انتخابات يوليو 2012 في واقع الأمر تمثيلا أكيدا لإنجاز ملفت بالنسبة لبلد لا يزال يترنح بعد عقود من الحكم الدكتاتوري، لا سيما وأن مخاوف العنف والخداع والانتصار الإسلاموي لم تتجسد. ولكن العواصف تخيم في الأفق. ومثلما في العراق، يحتمل أن تتعطل كتابة الدستور في ليبيا بسبب الانقسامات على مسألة السلطة الفدرالية بين مختلف مناطق الدولة. وكما تبين من واقعة مقتل السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين في بنغازي في سبتمبر، تجاهد الحكومة من أجل إعادة الأمن وسيادة القانون. البيروقراطية ضعيفة، والميلشيات ذات التسليح الجيد تسيطر على أغلب المناطق غير الحضرية، والجماعات السلفية تهاجم الأضرحة الصوفية في عموم البلد وتنبش القبور وتهدم مساجد ومكتبات. وتستمر انتهاكات حقوق الإنسان في الوقت الذي لا يزال فيه آلاف ممن تم سجنهم أثناء محاولة الإطاحة بالقذافي معتقلين في منشآت غير شرعية، حيث يتعرضون لإساءة المعاملة والتعذيب بل والقتل. وعشرات آلاف المشردين ـ ممن طرد أكثرهم من منازلهم طردا ـ يعانون الحياة في مخيمات بطول وعرض البلاد.
واليمن أيضا في فوضى. ففي أعقاب العديد من الإجراءات الصارمة التي واجهت الحركة الاحتجاجية على مدار 2011، وافق الرئيس علي عبد الله صالح في نهاية المطاف في نوفمبر من العام نفسه على نقل السلطة إلى نائبه، عبد ربه منصور هادي. ولكن ما حدث في الانتخابات الرئاسية التالية هو أن هادي كان المرشح الوحيد في الاقتراع. وحكومته الضعيفة تواجه الآن ثورة شيعية في الجنوب، وحركة انفصالية وتنظيم القاعدة في الجنوب، وميلشيات وقبائل قوية تهيمن على أجزاء مهمة من البلد. وجميع المؤشرات تسوق إلى أن العنف سوف يستمر والاقتصاد سيبقى على ركوده.
أما مصر فأجرت مؤخرا أول انتخابات رئاسية تنافسية في تاريخها، ولكن طريق البلد ليس سهلا باتجاه الاستقرار والرخاء. فقد قام الرئيس المنتمي إلى الإخوان المسلمين محمد مرسي بانتزاع قدر كبير من السيطرة العسكرية والسياسية من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهو يحاول ـ مثل مبارك من قبله ـ أن يخلع على نفسه سلطة هائلة، ففي يده الآن سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وهو يحاول إسكات الإعلام. غير أن الجنرالات ماضون في ممارسة نفوذهم من خلال مجلس الدفاع الوطني، واللبراليون العلمانيون ماضون من خلال القضاء في تحدي محاولات مرسي للتمكين. ومن أقوى التحديات التي تواجه الإخوان الإسلاميين تحد لا يمثله اللبراليون بل حزب النور السلفي الذي يناصر التأييد الصارم للشريعة. ولسوف يستمر الاضطراب السياسي وفترة العلاقة الصعبة بين المدنيين والعسكريين في تمثيل ثقل كبير على كاهل الاقتصاد الذي أصابه العرج بسبب غياب الاستثمار الأجنبي، وتقطع عملية التصنيع، وتضاؤل السياحة.
ظهر تونس بوصفها قصة من قصص النجاح القليلة الناجمة عن ثورة المنطقة. فقد تطورت من دولة استبدادية إلى ديمقراطية انتخابية زعماؤها الجدد يدعمون الاعتدال والحريات المدنية وسيادة القانون. الصحافة منتعشة، والمجتمع المدني ازدهر، والقيادة فيما يبدو ملتزمة بالتعامل مع الفساد. وبرغم أن تونس تواجه مثل  بعض ما تواجهه جاراتها من مشكلات من قبيل ضعف الدولة وتحدي السلفيين، إلا أن البلد ـ إلى الآن على الأقل ـ يسلك الاتجاه الصحيح. ولكن دولا قليلة للغاية في المنطقة هي التي يبدو مستقبلها لسوء الحظ واعدا بالدرجة نفسها.
***
حار الباحثون طويلا فيما يقف حائلا دون الديمقراطية في الشرق الأوسط لا سيما وأن أماكن أخرى من العالم تشهد انتشارا متسارعا للحرية. ترى نظرية التحديث الكلاسيكية أن الديمقرطية تتحقق إثر وصول المجتمع إلى مستوى معين من التنمية الاقتصادية. ولكن الديمقراطية لم تتجسد حتى في أكثر الدول العربية ثراء. ومن الافتراضات الشائعة، والخاطئة أيضا، أن إزاحة الدكتاتورية تفضي بالضرورة إلى الحرية. غير أن الأنظمة الاستبدادية في بعض الأحيان تسقط ـ فيما يلاحظ صمويل هننتن وآخرون ـ فتفسح المجال لنظم استبدادية أخرى، لا لأخرى لبرالية. وعلى الرغم من التطورات التي شهدتها المنطقة على مدار العامين المنصرمين، سوف تبقى هناك عوامل بنيوية تعوق انتشار الديمقراطية في الشرق الأوسط.
بعض حكومات المنطقة ـ لا سيما في الخليج ـ تستولي على أغلب عائدات صادرات الطاقة والمعونات الأجنبية. وبسبب الإفراط في الاعتماد على هذه الموارد المتدفقة تستطيع هذه الأنظمة أن تعفي شعوبها من الضرائب الواجبة وبذلك تزيح من طريقها مصدرا أساسيا من مصادر المطالبة الشعبية للمشاركة السياسية. وقديما أصر المستوطنون الأمريكيون على أنه "لا ضرائب بدون تمثيل"، فذلك مبدأ يجدر بنا تأمل مقلوبه: لا تمثيل بدون ضرائب.
كما أن ثروة الطاقة تتيح للأوتوقراطيين توفير  التمويل  السخي لقوات الأمن التابعة لهم وشراء ولاء الفئات الأساسية من الناخبين. وفي مارس من عام 2011، استطاع حاكم السعودية الملك عبد الله أن يخمد نداءات بالإصلاح من خلال إعلانه حزمة فوائد مذهلة تقدر بـ 130 بليون دولار ساهمت في تحسين الأجور وفرص العمل لشعب لا يتجاوز عدده ثلاثين مليون نسمة. وتنصب أغلب هذه الفوائد على الشباب والفقراء ومن هذين العنصرين كانت واجهة الثورة في مصر وتونس. كما أثبتت سيطرة الرياض على المؤسسة الدينية فعالية كبيرة في تجريم التظاهر حيث أصدر مفتي السعودية الأكبر ـ أي كبير علماء السنة في المملكة ـ فتوى ضد التظاهر والانشقاق.
وأهم من كل ذلك أن البيئة الخارجية لن تكون معينة بصفة خاصة على الدفع نحو مزيد من التغيير. لقد حدث في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أن قرر ميخائيل جورباتشوف ـ في مواجهة مشكلات اقتصادية داخلية عنيفة أن يقلل من الدعم السوفييتي للأنظمة الشيوعية الحاكمة في أوربا الشرقية، فكان ذلك بمثابة إعلان وفاة الشمولية هناك. فقد سارعت تلك الدول المجاورة للاتحاد السوفييتي بالالتفات إلى أوربا الغربية والولايات المتحدة فساندتا تحررها السياسي ورحبتا بدمج المنطقة في المؤسسات الديمقراطية من قبيل الاتحاد الأوربي والناتو. ولكن العربية السعودية تحاول اليوم ـ وهي أثرى قوة استبدادية في المنطقة ـ أن تقاوم الإصلاحات، وتظهر بكل سبيل أنها مستعدة للإنفاق تحقيقا لهذه الغاية. وهكذا على الرغم من أن كثيرا من الأوتوقراطيات العربية تواجه اليوم متاعب داخلية غير مسبوقة، فإن ما لديها من موارد تمويلية وفيرة هو الذي يحفظ أنظمتها الحاكمة من الوقوع.
هذا وإن ملكيات المنطقة بارعة براعة خاصة في مقاومة التغير الديمقراطي. فممالك كالأردن والمغرب وعمان ـ على سبيل المثال ـ ليست لديها عوائد نفطية هائلة لكل نسمة، ولكن أنظمتها التقليدية الحاكمة  استطاعت مع ذلك البقاء في الحكم مع التنازل عن بعض السيطرة لبرلمانات منتخبة. وحيثما تكون للحاكم رابطة مقدسة بشعبه، إما من خلال الزعم بانحداره من نسل النبي محمد [ص] (كما في حالة المغرب) أو بلعبه دور القوة التوحيدية لجماعات عرقية مختلفة (كما في حالة الأردن)، يكون المتظاهرون أميل إلى القبول بالتغير التشريعي وعدم المطالبة بالتخلي تماما عن الملكية.
ففي يناير من عام 2011 على سبيل المثال بدأ المتظاهرون الأردنيون في الشكوى من الفساد، ورفع الأسعار، والفقر المدقع، وارتفاع معدلات البطالة. وفي رد فعله على ذلك قام الملك عبد الله بتغيير رئيس وزرائه وتشكيل لجنتين لدراسة الإصلاحات الانتخابية والتعديلات الدستورية الممكنة. وفي سبتمبر، وافق الملك على تعديلات تقضي بتأسيس نظام قضائي أكثر استقلالا وتأسيس محكمة دستورية ولجنة انتخابية مستقلة للإشراف على انتخابات المحليات والبرلمان القادمة. وتقع بين الحين والآخر مظاهرات عنيفة كالتي كانت في أواخر 2012 عنما احتج المتظاهرون عل رفع أسعار الغاز. ولكن تنازلات الحكومة المحدودة نجحت حتى الآن في إيقاف القلاقل، والاحتفاظ لعبد الله بالسيطرة.
***
لا ينبغي أن تقيم واشنطن سياستها تجاه الشرق الأوسط الكبير على قاعدة الافتراض بأن المنطقة سوف تشهد تحولا إلى الديمقراطية سريعا أو مستمرا.  وفي حين ينبغي على الولايات المتحدة والدول الغربية أن تشجع الإصلاحات اللبرالية وتدعم المجتمع المدني، وتقدم الدعم التقني لتحسين دساتير البلاد وأنظمتها المالية، إلا أنه لا يجب أن تتسبب وعود الانتفاضات العربية في تغاضي الولايات المتحدة عن أولوياتها الاستراتيجية  الأساسية في المنطقة. وسواء راقنا الأمر أم ساءنا، فإن من بين حلفاء الولايات المتحدة عددا من الدول العربية الاستبدادية، وهم شركاء لا غنى عنهم في حماية مصالحها. أما الأمل المعتاد في احتمال أن تزدهر الديمقراطية اللبرالية في المستقبل فلا بد أن يوازنه الاحتياج إلى الحكومات والمجتمعات كما هي قائمة اليوم.
يبقى من الأهداف المركزية إيجاد توازن مقابل لإيران ـ فلا يقتصر الأمر على منعها من امتلاك أسلحة نووية بل والتحقق من طموحاتها الإقليمية بعيدة المدى. إن إيران تنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها عدوها الرئيسي أيديولوجيا وجيوسياسيا، وتسعى أن تكون هي القوة الكبرى في الشرق الأوسط وأن تدعم الأيديولوجية الثورية. وإيران تدعم عددا من خصوم الولايات المتحدة والمنظمات التي تقف في وجه المصالح الأمريكية ومنها الجماعات الشيعية في العراق، وحزب الله في لبنان، والجماعات الإرهابية الفلسطينية، ونظام بشار الأسد في سوريا، وحكم هوجو تشافيز في فنزويلا. وحتى إذا كانت بعض الدول التي سوف تعتمد عليها الولايات المتحدة في مناهضة إيران ـ ومن بينها الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ـ دولا غير ديمقراطية، تبقى لتعاونها أهمية قصوى من الصعب على واشنطن تجاهلها.
وثمة هدف آخر حاسم يتمثل في الحفاظ على حرية تدفق مصادر الطاقة بأسعار معقولة. فالولايات المتحدة تستورد 23 في المائة من النفط الخام والمنتجات المتعلقة به من العالم العربي، لا سيما من المملكة العربية السعودية  (1.2 مليون برميل في أغسطس من عام 2012)، والعراق (550000 برميل) والجزائر (303000 برميل) والكويت (301000 برميل). وأغلب هذه الدول ـ وليس من قبيل المصادفة امتلاكها ثروة نفطية هائلة ـ هي دول غير ديمقراطية. وهذا يعني أنه على الولايات المتحدة في المستقبل المنظور أن تستمر في العمل مع الدول الاستبدادية حفاظا على أمنها فيما يتعلق بالطاقة.
وأخيرا أقول إن الولايات المتحدة بحاجة إلى العمل مع دول غير ديمقراطية فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، فالقاعدة وإن ضعفت على الحدود الأفغانية الباكستانية، تسعى إلى تعويض هذا الضعف بالتوسع في بسط نفوذها في أماكن أخرى وإقامة علاقات مع جماعات سنية محلية في هذه الأماكن. ففي اليمن على سبيل المثال، استغلت القاعدة المحلية ضعف الحكومة وثبتت لنفسها موطئ قدم في أقاليم عديدة على خليج عدن ضاربة بذلك جرس إنذار للسعودية. ومع ذهاب قوات الولايات المتحدة زادت قاعدة العراق من هجماتها بنحو ثلاثين في المائة في 2012، فهي قفزة تقدر بـ 50 في المائة عن العامين السابقين وهي سبب أساسي للقلق في الأردن. كما تسلل مقاتلون من العراق عابرين الحدود إلى سوريا حيث ينفذون عشرات من الهجمات الانتحارية والهجمات بالسيارات المفخخة ضد نظام الأسد.
أما القاعدة في بلاد المغرب العربي فأرسلت مقاتلين إلى مالي وتونس ودول أخرى على أمل الاستفادة من الفراغ السياسي في شمال أفريقيا. ولجماعة الشباب التابعة للقاعدة موطئ قدم في الصومال. كما أن القاعدة رسخت علاقاتها مع جماعات أخرى في المنطقة، من بينها بوكو حرام في نيجريا، وأنصار الشريعة في ليبيا، والشبكة الجهادية في مصر بزعامة محمد جمال أبو أحمد. ولقد كانت الحكومات الاستبدادية في الأردن والسعودية ـ ولا تزال ـ حلفاء أساسيين في محاربة الإرهاب الإسلامي الراديكالي في المنطقة، والمحافظة على هذا التعاون سليما لا ينال منه أذى أمر لا غنى عنه.
والحق، أن الواقع المحض هو أن بعض الحكومات الديمقراطية في العالم العربي سوف تكون على الأغلب أكثر معاداة للولايات المتحدة من سابقاتها الاستبدادية، لأن هذه الحكومات سوف تكون أقرب إلى تمثيل شعوبها وهي في أغلبها مناهضة لأمريكا. خاصة وأن صورة الولايات المتحدة قد تدهورت في العالم الأسلامي على مدار السنين العديدة الماضية بحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة بيو ريسيرش في 2012. ففي العالم العربي قبل الانتفاضات الأخيرة كان 27 في المائة من المصريين و25 في المائة من الأردنيين ـ ممن شملهم الاستطلاع ـ يتبنون مواقف إيجابية تجاه الولايات المتحدة. وبحلول عام 2012 تهاوت الأرقام إلى 19 في المائة و12 في المائة في مصر والأردن على الترتيب. والمظاهرات المناهضة لأمريكا في المنطقة في سبتمبر من عام 2012، والتي امتدت من مصر إلى ليبيا وفي عموم الشرق الأوسط لا تعدو مجرد دليل إضافي يذكرنا أن مشاعر العداء لأمريكا والغرب لا تزال قائمة في الشرق الأوسط.
 إن انتفاضات العامين الماضيين تمثل تحديا كبيرا للحكم الاستبدادي في العالم العربي. ولكن ثمة ظروفا بنيوية يبدو أنها تقف حجر عثرة في طريق التحرر السياسي في المنطقة، وبوسع الحرب والفساد والركود الاقتصادي أن يعوق حدوث المزيد من التقدم. وبرغم أنه بوسع الولايات المتحدة أن تتخذ بعض الخطوات دعما لإحلال الديمقراطية في المدى البعيد، إلا أنها لا تستطيع فرض التغيير. وقد يكون مصير الأوتوقراطيين في الشرق الأوسط هو السقوط في نهاية المطاف، وقد يكون انتشار الديمقراطية اللبرالية موضع ترحاب أغلب الأمريكيين، حتى إن هو حمل مخاطر لا شك فيها. لكن إلى أن تتحقق هذه التغيرات بجهد العرب أنفسهم، فلا بد للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط أن تركز على ما يمكن تحقيقه. وبحسب ما كان يمكن لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد أن يقول: ينبغي أن تدير الولايات المتحدة سياستها الخارجية مع العالم العربي الذي لديها بالفعل وليس العالم العربي الذي ترجو في وقت لاحق أن يكون لديها.

و نشرت نسخة مترجمة "ومحررة" منه صباح اليوم في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق