السبت، 2 فبراير 2013

سرد وقائع موت معلن



مصر ...

وحكم الإخوان

 

ياسمين الرشيدي

1

مصادر عديدة يجدر الرجوع إليها لفهم شخصية الرئيس المصري محمد مرسي. هناك رفاق عمره في جماعة الإخوان المسلمين الذين ضمته وإياهم زنازين مبارك. (يقولون "ثابت، برجماتي"). وهناك مساعدوه ومستشاروه (ينصت بمنتهى الاهتمام"، "يدقق في الكبيرة والصغيرة"). وهناك منتقدوه في القضاء وأحزاب المعارضة ("يفتقر سياسيا إلى الكفاءة". "فيه سمات فرعون") وهناك آلاف الرجال والنساء الذين خرجوا ضده إلى الشوارع ("دمية في يد الإخوان"). وهناك العاديون من الناس الذين تتقاطع حياتهم مع حياته بالمصادفة. (قال لي بائع بطيخ يفرش على ناصية الشارع الذي يقيم فيه مرسي إن "قلبه طيب"). هناك واقع، وهناك بالطبع ما يفتلعه الخيال السياسي.

عندما ترشح مرسي لمنصب رئيس الجمهورية في ربيع 2012 ـ اختيارا ثانيا لجماعة الإخوان المسلمين بعد رفض أوراق خيارهم الأول خيرت الشاطر بسبب سجل جنائي حديث ـ لم يتصور غير القليلين أن لديه فرصة. فها هو رجل ليس لديه إلا القليل من الجاذبية الشخصية اللازمة للإقناع ناهيكم عن الاكتساح، وبلا رؤية واضحة اللهم إلا مشروع "النهضة" الذي قدمته جماعة الإخوان المسلمين السرية بوصفه الغاية من نضال الأمة، في حين كانت تفاصيل هذا "المشروع" غامضة فيما عدا عبارات متكررة: "خلق فرص عمل"، "الإسلام"، "الانتعاش الاقتصادي"، "فرصة للشباب"، "الجيل القادم"، "الإسلام". وكانت تتردد في مسيرات مرسي الانتخابية أيضا كلمات "الدين" و"الضلال" والتوبة". وعلى الرغم من الدعم الذي يلقاه من قيادات جماعة الإخوان المسلمين ـ الذين سبق وأثبتوا مهاراتهم الانتخابية في اكتساح الانتخابات البرلمانية مطلع العام ـ بقي حضور مرسي المنطفئ يأتي به في قيعان استطلاعات الرأي. فرأى المحللون أن فرصه في الفوز محدودة. وبدا أن الأكثر شعبية  هو المرشح الإسلامي المعتدل وصاحب الكاريزما وعضو الإخوان المسلمين السابق عبد المنعم أبو الفتوح، ورئيس وزراء مبارك السابق أحمد شفيق، والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى.

كان ثمة أيضا عامل له دوره وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي خلف مبارك في حكم مصر والذي يسيطر على مصالح اقتصادية هائلة ويريد أن يحميها. وبدا من المستبعد أن يسمح المجلس بأن يتولى السلطة من يمثل تهديدا محتملا لهذه المصالح، فكان كثير من الناس يعتقدون أنه سوف يتم شحن الملايين من موظفي النظام للتصويت دعما لمرشح الجيش. والإسلاميون كانوا يعدون أعداء للجيش منذ أن قضى عليهم جمال عبد الناصر سنة 1965. وبسقوط مبارك، حاول الجيش أن يقف في وجه صعود الإسلام. وفي الأيام السابقة على الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في يونيو 2012، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانا دستوريا محق به صلاحيات الرئيس القادم.

وإذا بمرسي، وأنصاره في جماعة الإخوان المسلمين، يربحونها من الجميع ـ من بقية المرشحين، ومن مؤسسات الدولة أيضا ـ ليقبضوا على المنصب الذي بقي طويلا خاضعا لسيطرة ضباط الجيش. ولا يزال كثير من النظريات متداولا  حول الطريقة التي ربح بها مرسي. فيقال إن جماعة الإخوان دعمت المرشح الناصري حمدين صباحي للنيل من منافس مرسي الإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح. حكومة الولايات المتحدة هي التي قررت ولكن في هدوء دعم الإخوان. الحقيقة أن رجل مبارك القوي أحمد شفيق هو الذي فاز ولكن جماعة الإخوان هددت بالاضطرابات فتم تزوير النتيجة.

مهما يكن الحال، بدا أن فوز مرسي لم يكن قائما على شعبيته وكفاءة آلة الانتخابات الإخوانية، بقدر ما كان قائما على  المعارضة ـ لا سيما تفرق أصوات الفصائل اللبرالية والعلمانية واليسارية ـ التي تبين من اختياراتها للمرشحين أن ثمة فجوة بين ما تقوله وما تخططه. لقد ظل كثير من الناس يقولون لي ـ حتى اللحظة النهائية وأمام لجان الاقتراع في يونيو الماضي ـ إنهم لم يحسموا قرارهم بعد. غير أن مرشحي المعارضة ـ مجتمعين ـ حصلوا على حصة تصويتية كبيرة نوعا ما.

فاز مرسي بفارق ثلاثة في المائة ـ حصل على 51.7 في المائة في مقابل شفيق الذي حصل على 48.3 في المائة ـ في الوقت الذي شارك فيه في التصويت أكثر بقليل من نصف عدد الناخبين البالغ 51 مليون ناخبا. ويبرر أنصار مرسي اليوم تصرفاته بأنها تتم "نيابة عن الشعب"، ولكن الأمة لم تقف بأغلبية طاغية وراء مرسي وما يدعو إليه.

ولكن هل كانت الأمة المصرية منقسمة بين مؤيدي النظام القديم ومؤيدي الإسلاميين؟ أم الأمر أن ملايين المصريين الشباب الذين خرجوا للشوارع ضد مبارك كانوا يصوتون بـ "لا" لشفيق المباركي أكثر مما يصوتون بـ "نعم" لمرسي؟ حسب ما قال الصحفي المصري المرموق "حسنين هيكل" أثناء حفلات خاصة ثم على التليفزيون: "ليس الحال أن الناس كانوا يعرفون ما يريدون وما يصوتون لأجله. ولكنهم ببساطة كانوا يعرفون ما لا يريدونه، فكانوا يصوتون ضده".  وكثير من أصدقائي أنا على المستوى الشخصي ـ ممن يعتبرون أنفسهم ليبراليين أو علمانيين أو "ثوريين" ـ صوتوا ضد احتمال النكوص إلى حياتنا التي كنا عليها.

 

2

 

بالنسبة للجماهير، سوف يبقى فوز مرسي مرتبطا في الذاكرة بخطبته الأولى من ميدان التحرير في الخامسة من مساء التاسع والعشرين من يونيو 2012. في حر ذلك اليوم، ووسط مئات آلاف البشر، كان صعبا أن أصدق أن إسلاميا، إخوانيا، أصبح رئيسا لمصر. ومن حولي كان ثمة من يؤمنون إيمانا عميقا بأن جماعة الإخوان قادرة على إنقاذ مصر وإنقاذهم. ولكن كان هناك آخرون ـ شأن أصحابي الذين صوتوا لمرسي ـ ممن بدوا فرحين بخسارة شفيق أكثر منهم بفوز مرسي.

تكلم الرئيس عن المهام التي تنتظره: الاقتصاد، الوحدة، الوظائف، الشباب، وتحسين حياة الناس. لم يكن في خطبته جديد يذكر، ولا كان فيها الكثير مما يمكن أن يستولي على أولئك الذين كانوا مذبذبين تجاهه. ولكن أفعال مرسي في ذلك اليوم  هي التي جعلته ينجح في نيل إعجاب أولئك الذين ما كانوا ليروه إلا مجرد إسلامي يلغو ببلاغة جوفاء. لقد كانت المنصة الرئاسية مصممة بعناية لكي يحميها الحرس الرئاسي والقناصة والشرطة السرية. ولكن مرسي تحرك بتلقائية بعيدا عن المنصة، وبعيدا عن الميكروفون، هاتفا وهو يسير عبر الخشبة التي تحمله هو والمنصة، غير واع فيما يبدو لأن الحشود لا تسمع منه كلمة.

كلنا شاهدنا الحرس وهم يتحركون ليحيطوا به، ثم رأيناهم مذعورين حينما دفعهم بعيدا وتحرك إلى مقدمة المسرح باتجاه الناس، وهو يمسك في تلك اللحظة ميكروفونا لاسلكيا. فتح سترته أمام الناس وطلب منهم أن ينظروا. كان يرتدي قميصا أزرق فاتحا لا أكثر، بدون واق من الرصاص "لأنه" حسب ما قال "غير ضروري". لأنه منهم، "من الناس".

نال مرسي إعجابي في ذلك اليوم. وأمي أيضا، برغم قدم تخوفها من الإسلاميين. نال إعجاب كثيرين ممن ظنوا في تلك اللحظات أنه جدير بالفرصة التي نالها. وبات بعد تلك الخطبة يوصف عادة بـ "الطيب". ثم حدث بعد أسابيع، في أغسطس من 2012، حينما أحال إلى التقاعد اثنين من كبار جنرالات المجلس الأعلى للقوات المسلحة هما المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، أن أقنع  بعضا مما كانوا لا يزالون مذبذبين تجاهه. لم تفض إطاحته للجنرالين الكبيرين "باسم الإحالة إلى التقاعد" ـ حسب ما لاحظت الصحافة ـ إلى مقاومة تذكر، لا من قبل الجنرالين ولا من قبل الجيش نفسه. (قيل إن طنطاوي كان يريد التقاعد على أية حال والتحصين من الملاحقة القانونية)

لطالما اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين خبيرة في الصفقات السرية، ولكن ذلك التواطؤ مع الجيش لم يثر في حينه قدرا يذكر من الانتقاد. فلقد جاء تخلص مرسي من الجنرالين وإلغاؤه الإعلان الدستوري الذي حصل به المجلس العسكري على صلاحيات واسعة ليرى على نطاق واسع بمثابة انتصار له على محاولة الانقلاب الذي نفذتها القوات المسلحة ضد الرئاسة في يونيو، حيث قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد ساعات من إغلاق لجان التصويت بإصدار إعلان دستوري يمنح به نفسه سلطة التشريع والسيطرة على الميزانية وكتابة الدستور وسلب الرئيس الجديد سلطته على الجيش ـ في خطوة انتقدتها المعارضة والإخوان معا. وباتت كلمتا "القوي" و"الكفء" تستخدمان في وصف مرسي.

 

3

 

في أواخر نوفمبر 2012، حاول مرسي أن يقوم هو نفسه بانقلاب. فأعطى لنفسه سلطات غير محدودة ليحمي الأمة ويمرر التشريعات ويحصن نفسه من رقابة القضاء. وقال البعض إن "رؤساءه" داخل جماعة الإخوان المسلمين كانوا يعرفون بالضبط ما الذي يفعلونه مناصرةً لتلك الخطوة وكانوا واعين كل الوعي بردود الفعل التي قد تنجم عنها. باتت عبارة "اختطاف السلطة" تستخدم باطراد فيما يتعلق بالإخوان وحلفائهم الإسلاميين. ومع مضي شهور على الثورة، أخذ الإخوان يضيفون الكثير من المواقع والمناصب والمقاعد البرلمانية التي قال قادتها إنهم سينافسون عليها أو يسعون إليها. ولقد قال لي المتحدث المخضرم باسم جماعة الإخوان ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة عصام العريان في ابريل من عام 2011 إن الجماعة لن تنافس إلا على "عشرين في المائة" من مقاعد البرلمان، ثم عاد فقال "ما بين 25 إلى 30 في المائة" ثم "40 في المائة" ثم "الأغلبية".

بوسعكم أن تقرأوا في الصحافة أن الجماعة تورطت في عمليات متتالية من "خطف السلطة" ـ فسلطة البرلمان، تليها سلطة الحكومة، ثم سلطة الصحافة نفسها. وابتداء من الربيع  الماضي، كانت عملية خطف أخرى للسلطة أثناء كتابة مسودة الدستور لمصر الجديدة الديمقراطية. فالجمعية التأسيسية التي كان ينبغي أن تكون مكونة من مائة عضو "وممثلة" للشعب تحولت ـ بفضل البرلمان ذي القيادة الإسلامية ـ إلى جمعية يسيطر عليها الإسلاميون، ويحاول من خلالها الإسلاميون ـ سواء الإخوان المسلمون أو السلفيون الأشد تطرفا ـ فرض رؤاهم المتطرفة المتزمتة.

خلال الصيف، تحدثت مع الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى في الفيلا التي كانت مقرا لحملته الانتخابية، بعد خسارته في الانتخابات. وخلال مناقشتنا لما يمكن أن تئول إليه مصر في ظل قيادة إسلامية، ظل يعتذر ويتلقى الاتصالات الهاتفية، وسمعته يقول:

لا بد أن نفعلها ... ولكن هذا مهم للبلد ... أنا أشجعكم، هذه انطلاقة التعاون ... من فضلك، نحن نريد اجتماعا غدا لنتلكم مع الناس ... لا بد أن نحاول ...

كنت أعرف أن معه على الهاتف سامح عاشور نقيب المحامين وأنهما يتناقشان في الجمعية التأسيسية التي كان كلاهما عضوين فيها. انسحب العديد من الأعضاء من الجمعية لما رأوها "غير ممثلة" للشعب، وترددت أقاويل خافتة عن المقاطعة. وكان مرسي (الذي اعتبره الإخوان أول الأمر من جملة الفلول) يحشد الدعم للجمعية. قال لي "علينا أن نحاول أن نجعلها تنجح. علينا أن نعطيهم الفرصة".

في الثامن عشر من نوفمبر، انحسب موسى من الجمعية، وقبله كان غير الإسلاميين قد انسحبوا أيضا. وأشار موسى، وعاشور، وممثلو الكنيسة القبطية، وأعضاء المعارضة، و"شباب الثوار" جميعا إلى "عدم تعاون" الإسلاميين وقالوا جميعا إنهم ـ أي الإسلاميين ـ يعملون على "فرض" رؤاهم. وقال كثيرون إن هذا الرئيس وهذه الحكومة لا يبذلان الكثير من الجهد للحفاظ على أهداف الثورة المعلنة: الخبز، والحرية، والكرامة والمساواة بين الجميع. وتم التخطيط لمظاهرة احتجاجية في الثالث والعشرين من نوفمبر ضد الدستور والغلاء.

وقبيل التظاهرة، خلع مرسي على نفسه في إعلان دستوري سلطات تنفيذية جديدة وكاسحة. وقال إنه فعل ذلك وهو يقصد تأمين "الانتقال الديمقراطي" الذي بدا ـ بحسب رؤيته ـ مهددا بأن تعيقه الهيئات القضائية المنتمية إلى النظام القديم والمتواطئة مع قوى أخرى. كان قد أصدر هذا الإعلان عقب ساعات من تلقيه ثناء واسعا بشأن وساطته في هدنة غزة. (هيلاري كلينتن امتحدت فيه "المسئولية" و"الشخصية القيادية"). ولكن الإعلان جاء أيضا قبل أيام من اليوم المحدد من المحكمة الدستورية للحكم في شرعية مجلس الشورى ذي الأغلبية الإسلامية والجمعية التأسيسية التي كان غير الإسلاميين ينسحبون منها. وكان يبدو أقرب إلى اليقين أن المحكمة سوف تبطل كليهما. كان إعلان مرسي استبقا لهذين الحكمين، ووقاية منهما، وضمانا بأنه قادر على تجاوز حكم المحكمة إذا هي حكمت بحل المجلس والجمعية.

صيغ إعلان مرسي المكون من سبع نقاط بشيء من الحساسية تجاه مخاوف المعارضة العلمانية. فنص على إعادة التحقيق في قضايا قتل المتظاهرين والشروع في قتلهم وإصابتهم وكذلك جرائم الإرهاب المقترفة في حق الثوار من قبل كل ذي موقع تنفيذي أو سياسي في النظام السابق.

كما منح الإعلان للرئيس سيطرة مباشرة على النائب العام. كان مرسي في الحادي عشر من أكتوبر قد أقال النائب العام المعين من قبل مبارك، وبات بوسعه الآن أن يختار بديلا له يعمل لمدة أربع سنوات محددة. بل إن المادة الخامسة المثيرة للجدل من ذلك الإعلان منحت مرسي سلطات تفوق أي سلطات كانت لمبارك  على الورق. لكن الإعلان ـ الذي كان يمكن أن يكون إعلانا "ثوريا" ـ ضل طريقه إذ أقر ببساطة على أنه "لا يجوز لأية جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية". ومضى الإعلان إلى أن قال إنه  "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد البلد أو الثورة  أن يتخذ الإجراءات والتدابير الواجبة لمواجهة هذا الخطر".

وسارع عدد لا بأس به من دائرة مستشاري مرسي إلى الاستقالة احتجاجا على ذلك المرسوم، معربين عن "الصدمة" و"خيبة الأمل" و"الإحباط" إزاء الوثيقة في ذاتها وإزاء عدم استشارتهم في إصدارها. وقال نائب الرئيس والقاضي السابق محمود مكي إن الرئيس "لم يستشرني" قبل طرح إعلانه الدستوري على الشعب. أما المجلس الأعلى للقضاء ـ وهو الهيئة التي تضم شيوخ القضاة في مصر ـ فوصف الحكم بأنه "عدوان غير مسبوق".

في الثالث والعشرين من نوفمبر، قام أعضاء من المعارضة ـ كثير منهم ممن صوتوا لمرسي ضد شفيق ـ بتشكيل الجبهة الوطنية للإنقاذ برائسة محمد البرادعي. ضمت الجبهة فصائل من المعارضة اللبرالية والعلمانية، من بينهم عمرو موسى، وحمدين صباحي. وفي ذلك اليوم كتبت الصحافة تقول إن الإخوان ظهروا على حقيقتهم واستنكرت خطف مرسي للسلطة.

وبدلا من أن يحاول تهدئة هذه الانتقادات، إذا بالرئيس يعلن أن مسودة الدستور سوف تكون جاهزة في غضون يومين، أي في التاسع والعشرين من نوفمبر، قبل أن يتسنى للمحكمة الدستورية إبطال الجمعية ذات الهيمنة الإسلامية بوصفها جمعية غير ديمقراطية. اجتمع أعضاء الجمعية الباقون، وفي جلسة متلفزة استمرت على مدار سبع عشرة ساعة بدأت في الساعة الثانية وأربعين دقيقة ظهر الخميس وانتهت في السادسة وأربعين دقيقة مساء الجمعة، روجعت مواد الدستور البالغ عددها مائتان وست وثلاثون مادة، وتم التصويت عليها.

في ظل التسرع من أجل الانتهاء قبل حلول يوم العمل التالي ـ أي قبل أن يتاح وقت لحل الجمعية أو يتم إبطال مرسوم مرسي أو تغييره بمرسوم آخر أو سقوط الرئاسة نفسها ـ كان رئيس الجمعية التأسيسية المستشار حسام الغرياني ـ وهو إسلامي وقاض سابق ـ يدفع الأعضاء في نفاد صبر إلى الانتهاء وينهاهم عن الجدل في بعض العبارات.

وفي إحدى الوقائع التي شاهدتها عبر التليفزيون أنا وبعض الأصدقاء في مزيج من الرعب والذهول، صوت ستة عشر عضوا في الجمعية ضد مسودة إحدى المواد، مما كان يعني ضرورة مناقشتها. فإذا بالغرياني يقول في اهتياج إنه سوف يعيد التصويت، وإلا فإنهم سوف يبقون حتى الصباح يضيعون الوقت. وأعادت الجمعية التصويت، وهذه المرة لم يعترض على المادة غير أربعة أعضاء، فمرت المادة، دونما تغيير في الصياغة. وفي ساعات الجلسة الختامية، أضيف على عجل العديد من المواد لحل قضايا أو نزاعات أو طلبات معلقة. وتم تقديم الوثيقة النهائية إلى الرئيس في الأول من ديسمبر، وتحدد يوم الاستفتاء بعد أسبوعين. وفي فجر يوم الثاني من ديسمبر ـ الذي كان ينبغي أن تجتمع فيه المحكمة الدستورية للحكم في الجمعية الدستورية ـ أحاط الإسلاميون بالمحكمة كإجراء احتياطي، رافضين السماح لأي قاض بالدخول.

واعتبرت قنوات الإسلاميين التليفزيونية وصحافتهم أن إكمال المسودة "إنجاز"، و"تاريخي"، و"حدث"، و"خطوة للأمام" على طريق تحقيق أهداف الثورة. في حين وصفته صحافة المعارضة والصحافة المستقلة بـ "الانقلاب الإسلامي". واعتبر مرسي بيدقا يحركه مكتب الإرشاد مثلما اعتبر لاعبا عليما من لاعبي المكتب.

 

4

 

عندما خرج عشرات الآلاف ثم مئات الآلاف إلى الشوارع احتجاجا على مرسي وإعلانه الدستوري ومسودة الدستور التي أعقبته تساءل كثيرون عما لو كان قد تعلم من أخطاء مبارك وسوف يخضع لضغوط الشعب ومطالبه. بحلول أوائل ديسمبر، كان عشرات آلاف المتظاهرين يحيطون بالقصر الرئاسي مرغمين إياه عشية الرابع من ديسمبر على الفرار من باب خلفي. في اليوم التالي، في اجتماع لجبهة الإنقاذ الوطني، جلس المئات يستمعون للبرادعي وهو يتكلم ضد "الدكتاتورية" التي تشهدها البلد ويطالب قيادات الإسلاميين بالاستجابة للشعب. كانت أول مرة منذ أيام الانتفاضة الثمانية عشرة التي أرى فيها لـ"معارضة" النظام (وهو الآن نظام مرسي محل نظام مبارك) وهي تعبر عن قناعة واضحة بسيطة ثابتة بضرورة العمل المشترك لإنهاء الحكم الشمولي. وفي مساء تلك الليلة راج استخدام كلمة مورسيليني ـ المشتقة من مرسي وموسيليني.

في مساء ذلك اليوم، اندلعت الاشتباكات بين أنصار مرسي (المعروفين أيضا بـ الموريستاس Moristas ) ومناهضي مرسي، وتشير أدلة كثيرة منها المتلفزة إلى أن حلفاء مرسي كانوا المحرضين الأساسيين على العنف. ولزم مكتب الرئيس الصمت. وبدلا منه تكلمت الجماعة، ضد العنف، وضد مثيري الاضطرابات في البلد. ولما نطق مرسي أخيرا، نطق بصوت مستعار من الجماعة. فلام العنف من بين ما لام، والبلطجية المأجورين ومن يحاولون إثارة الفوضى والانشقاق، وهو نفس ما كان مألوفا أيام مبارك. ولم يأت على ذكر أن أنصاره ـ حسبما كشف تسجيلات الفديو ـ هم الذين حرضوا على الهجمات أو هم شاركوا فيها على أقل تقدير.

لقد بدا مرسي في واقع الأمر غافلا إلى حد ما عن قسوة حلفائه. فلقد لقي سبعة أشخاص على الأقل مصرعهم، وتعرض كثيرون للضرب، والبعض تعرض للتعذيب. ووجه الإسلاميون تهديدات بالقتل (فتلقيت أنا تهديدا  بالذبح). كلام مرسي في ذلك اليوم بوصفه رئيسا كان أقل من كلامه  كعضو في الإخوان. وازدادت الاحتجاجات ضده في الشارع لكنه لم ينزعج.

 

5

 

عندما تولى مرسي الرئاسة في الصيف الماضي، كان السؤال الضخم الذي شغل عقول الناس هو ما إذا كان سيستطيع أن يفصل نفسه عن جماعة الإخوان التي وجهت حملته الرئاسية ومولتها. لكن، بعيدا عن استقالته الرمزية من موقعه في حزب الحرية والعدالة التابع للجماعة، هل يمكن لعضو قديم في أخوية سرية أن ينأى بنفسه عن سيطرة مكتب الإرشاد بدون أن يتم طرده أو تشويهه على غرار ما حدث لمنافس مرسي الإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح في الصيف قبل الماضي؟

بحلول هذا الشتاء، بدا الجمهور متقبلا لفكرة أنه ما من بديل لإدارة إخوان مرسي للعرض. وبحسب ما قال لي مصدر مقرب من قيادات الإخوان، فإن "مرسي هو ببساطة المشرف على حقيبة الرئاسة نيابة عن مكتب الإرشاد، ومن ثم فأنت حينما تتفاوض معه تكون ببساطة متحدثا إلى وسيط". لقد بدا المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالنسبة للكثيرين وبالرغم من كل مساوئه هو الأخف بين الضررين. لقد حدث في فترة ما قبل الاستفتاء، في غمار التوتر وتواصل التظاهرات، أن ملأ الكلام عن الحرب الأهلية كل مكان. فظللت أسمع مرارا وتكرارا من "يدعون الله" أن يتدخل الجيش.

في الحادي عشر من ديسمبر، ذهبت إلى ناد رياضي جماهيري ينتشر حول مسبحه عادة المتقاعدون من الوزراء والمسئولين. وهنالك كان مسئول كبير سابق في الداخلية يحذر حلقة من المنصتين ـ أبي كان بينهم ـ من أن وزارة الداخلية لم تعد قادرة على احتواء الموقف وأن الجيش قد يكون مرغما على التدخل. وقيل لي لاحقا إن وزير الداخلية التقى بوزير الدفاع وقال له ذلك. وفي عصر ذلك اليوم، ظهر الجيش، موجها من خلال الفيسبوك وغيره دعوة إلى عقد لقاء لـ "الحوار الوطني". وفي اليوم التالي رد مكتب الرئيس قائلا إن الدعوة شائعة. ورد الجيش بأن الرئيس سوف يحضر. وقال مكتب الرئيس إن ذلك لن يحدث. ورد الجيش بتعديل في الصياغة قائلا إنه يوجه الدعوة إلى مرسى لـ "حوار إنساني" و"غداء". وفي النهاية قال مكتب الرئيس إن مرسي سوف يحضر مشيرا إلى أن "الدعوة جاءت بناء على نصيحة من الرئيس". ولن يكون ثمة نقاش في السياسة، وسيكون هناك غداء.

في اليوم التالي تم إلغاء اللقاء. تدخل مكتب الإرشاد، لما بدا له من غير المقبول أن تظهر القوات المسلحة في صورة القادرة على تجميع كل الفصائل، ومن بينها الرئيس، في حوار وطني، في حين فشل الرئيس نفسه بوضوح في تحقيق ذلك. وفي مبنى الإذاعة والتليفزيون الحكومي في ذلك اليوم، قال لي صحفي إن القيود تضيق يوما بعد يوم على أيدي الأعلام:

لا فارق عن أيام ما كان مبارك في السلطة. الخطوط الحمراء بين ما يمكن أن نقوله وما لا يمكن أن نقوله يعاد رسمها. بدلا من مبارك، هناك مرسي. نحن نعرف أن مكتب الإرشاد هو الذي أمر بإلغاء الغداء. ونحن نعرف أن هناك توترا بين الجيش والإخوان ولكن لا يمكن أن نقول هذا.

بعد أسابيع قليلة، وبعد إجراء الجولة الثانية من الاستفتاء في الثاني والعشرين من ديسمبر وإقرار الدستور، رفضت اللجنة العليا للانتخابات أن تقر بوجود خروقات انتخابية تبرر التحقيق، ورفضت خمسة عشر ألف طعنا. واعتبرت اللجنة أن الاستفتاء ـ الذي شارك فيه 30 في المائة فقط وافق منهم على دستور مرسي 64% ـ "نزيه ومحايد". ومضت خمسة أيام بعد قيام مرسي بتوقيع الدستور الجديد وسريانه ثم أذيع أن لجنة الانتخابات "تبدأ" التحقيق في الخمسة عشر ألف طعنا.

بدا واضحا أن مرسي استطاع تمرير الدستور الذي أراده الإسلاميون. وراح ينتقي الأعضاء التسعين  لمجلس الشورى الذي حصل على سلطة التشريع لحين تشكيل برلمان جديد. وعلى الرغم من أن مرسي وعد بأن يكون التسعون عضوا "ممثلين" للشعب، فقد جاءت الأغلبية مرة أخرى من الإسلاميين. ولكن ذلك كان قد بات مألوفا. فكتب ابراهيم عيسى في صحيفة التحرير يقول "إننا تخلصنا من حزب مبارك الوطني الديمقراطي، وجئنا بدلا منه بالإخوان".

 

6

 

عندما شهد مرسي إلقاء أعضاء الشورى المعينين للقسم ـ في جلسة متلفزة في التاسع والعشرين من ديسمبر ـ كان الجو العام يذكر بأيام مبارك. أعيد طلاء أرصفة الطريق الذي سوف يسلكه إلى مبنى البرلمان في وسط المدينة. غرست أشجار خضراء زاهية. وأزيل الجرافيتي. ولـ "دواع أمنية" طلب من موظفي وزارة الصحة المجاورة أن يتركوا مقر عملهم قبل الموعد.

كان مرسي يواجه أزمة. فقد استقال نائبه، ووزراؤه كانوا يستقيلون (بسبب التفاوض حول حقائب وزارية فيما تردد)، ومستشاروه السابقون كانوا يصدرون بيانات يقولون فيها إن الأمة خاب رجاؤها بشدة.  كان الجنيه المصري يضعف، ورئيس البنك المركزي حاول الاستقالة، ونبرة اليأس بدأت تصبغ كلام المصريين في كل مكان. وباتت مفردات "الحزن" و"الأسى" و"الفجيعة" متواترة في فيسبوك وتويتر. وبدأت أسمع في الشوارع المزيد والمزيد من الناس يتكلمون عن الأيام الطيبة، التي راحت. ارتفعت البطالة، والأسعار، ساء حال المرور، وبدت القمامة في كل مكان. باتت السيارات المصفوفة تتعرض للسرقة يوميا ولا ترد إلا بفدية. ناهيكم عن الدستور الجديد الذي لا تزال المعارضة مصرة على أن معركته لم تنته.

على الرغم من هذا كله، ألقى مرسي خطبة شبيهة للغاية بخطبه السابقة ـ أصر على أن من يتكلمون عن إفلاس مصر هم المفلسون. ورأت المعارضة في كلامه "تضييعا للوقت". وخرجت جريدة الأهرام المملوكة للدولة ـ والتي طالما كانت بوقا لرجال مبارك والخاضعة حاليا لإسلامي ـ بعناوين عريضة تثني على كلماته. أما مواقع التواصل الاجتماعي وصحافة المعارضة فراحت تنقل مقتطفات من خطب مرسي ومبارك جنبا إلى جنب. وبدا الفارق الحقيقي الوحيد ـ بعيدا عن ذكر الله ـ هو فارق نحوي.

من بين ما يشي بما ستئول إليه أمور مصر أن مجلس الشورى يمثل إلى حد كبير صورة من حكم مرسي، وأن أول القوانين التي ينظرها المجلس هي قانون الانتخابات البرلمانية التي ستقام في الربيع القادم، ومن بينها أيضا مسودة تشريع لتنظيم التظاهر والاحتجاج. لقد تسلل الإسلاميون بالفعل إلى هيئات الدولة التنفيذية والتشريعية، ومجلس الشورى يعمل ـ في أولى أعماله التشريعية ـ على تعديل قانون الانتخابات البرلمانية بهدف القضاء على المواد التقنية التي أفضت إلى حل المجلس السابق ذي الأغلبية الإسلامية. وهم يسعون هنا أيضا إلى الأغلبية.

تقوم جماعة الإخوان المسلمين حاليا ـ بنهجها التنظيمي العالي ـ بالاستعداد للانتخابات البرلمانية. وتقوم فصائل إسلامية عديدة بإعادة تجديد أحزابها وعينها في ذلك على تحقيق انتصار كاسح. ووسط ذلك كله تبدو جبهة البرادعي الوطنية للتغير شاحبة، غير حازمة في الدفاع عن السياسات أو التخطيط للعمل السياسي، وغير واضحة بالقدر الكافي كقوة فاعلة وسط الجماهير. ولقد ظهرت دلائل على أن الجيش في أوقات الاضطرابات قد يتورط في السياسة. فنحن ـ على سبيل المثال ـ نسمع شائعات دائمة عن نية الإخوان المسلمين تقديم جزء من سيناء للفلسطينيين، ضمن "خطة" يفترض أن فيها تمويلات قطرية. وفي ديسمبر، أصدر وزير الدفاع مرسوما بحظر تملك "المناطق الاستراتيجية" (مثل سيناء) إلا على المصريين. وفي بيان عسكري، قال الوزير، إن "سيناء سوف تبقى جزءا من مصرنا الحبيبة، ولن يسمح الجيش أن تتعرض لأي تهديد".

في اليوم التالي لخطبة مجلس الشورى، وفيما كنت أتحدث مع رجل أعمال شهير في ناد رياضي، استأذن أن يتلقى مكالمة من أحد عملائه.  قال "نعم، سوف أمنحك توكيلا".

أنهى المكالمة وغمغم باسم عائلة من عائلات الإخوان العتيدة. قال "الأمر الآن لم يعد له علاقة بمرسي. هم الذين يديرون الانتخابات من مارينا (وهو منتجع ساحلي كبير يقع في شمال مصر).

قال، هم أفضل العملاء في هذه الأيام ـ يسيطرون على كثير من البيزنس. لم يعد يمكن أن يقال لهم "لا" حتى لو أرادوا السيطرة على شواطئنا. والواقع أنهم بدأوا الزحف، ويريدون السيطرة على كل شيء. الأمر لا علاقة له بمصر، بل برؤية أكبر لدولة الخلافة الإسلامية. والمشكلة أنهم لا يعرفون كيف يلعبون السياسة. فهم يبرمون صفقة، ثم يلجأون إلى الخداع وينقضونها، ثم يحلفون بالله أن شركاءهم المخطئون.

عن "ذي نيويورك رفيو أوف بوكس" ـ من عدد 7/2/2013، والمقال منشور إلكترونيا في 10 يناير 2013، والترجمة منشورة اليوم في جريدة عمان

والعنوان "سرد وقائع موت معلن" من عندي، أو بالأحرى من عند ماركيز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق