السبت، 19 يناير 2013

إسرائيل ... ورطة ألمانيا




إسرائيل ... ورطة ألمانيا

كرستيان هوفمان ـ رينيه بفشتر

إلى أي مدى يمكن أن يصل المرء في انتقاده لدولة إسرائيل؟ ذلك سؤال تتجادل فيه ألمانيا منذ أن ظهر اسم "جاكوب أوجشتين" ـ الكاتب الصحفي في دير شبيجل ـ في قائمة ألد أعداء السامية في العالم التي أصدرها مركز "سيمون فيزنتال". سؤال يجيبه الساسة الألمان على نحو مخالف لإجابة الألمان في عمومهم.
ألا تثق أنجيلا ميركل في الشعب الذي تحكمه؟ ألا تشعر بالارتياح مع الشعب الألماني؟
ميركل تتسلم جائزة التفاهم والتسامح
لقد اعتلت المستشارة الألمانية في أكتوبر من عام 2011 خشبة مسرح أكاديمية المتحف اليهودي في برلين بجانب المايسترو "دانيال بارينبويم". كان ذلك بعد انتهاء العرض الاحتفالي الذي أداره، وكان مدير المتحف قد منح ميركل للتو جائزة التفاهم والتسامح.
وما هذه غير واحدة من جوائز عديدة حصلت عليها المستشارة من مؤسسات يهودية على مدار العامين المنصرمين، ومن بينها جائزة "هاينتس جالينسكي" Heinz Galinski Prize من الجالية اليهودية في برلين، وجائزة "نور للأمم" من اللجنة اليهودية الأمريكية، والدكتوراه الفخرية من جامعة تل أبيب.
ألقت ميركل، في المتحف اليهودي، بضع كلمات أعربت فيها عن سرورها، واعتبرت فيها الجائزة شرفا ومسئولية، ثم أشارت إلى دراسة تقول إن ستين في المائة من الأوربيين ـ ومن بينهم الألمان ـ يعتبرون إسرائيل أكبر تهديد لسلام العالم.
يبدو أن اتباع منطق ميركل يفضي بنا إلى استنتاج أن ثلثي الشعب الألماني يكنون مشاعر العداء للسامية. فهل هذا فعلا ما تعتقده المستشارة؟ أم أنها ببساطة كانت تقصد التحذير ـ كما قالت في خطبتها ـ من السماح لمعاداة السامية بالتنامي؟
جاكوب أوجشتين
تمثل خطبة ميركل تلك طريقا ممهدا ومباشرا إلى حقل ألغام العلاقة بين اليهود والألمان، وبين ألمانيا وإسرائيل. طبعا من العبث اعتبار إسرائيل أسوأ المعتدين في العالم، لكن هل مجرد الزعم بهذا يعد من قبيل معاداة السامية؟ أين بالضبط ينتهي النقد الموضوعي ويبدأ التشويه والإساءة؟ إن الجدل القائم حول الصحفي "جاكوب أوجشتين" ـ سواء في موقع شبيجل أونلاين أو في غيره ـ قد اثار هذا النقاش من جديد، إذ أن عاصفة حقيقية قد هبت بمجرد وضع الصحفي وكاتب العمود على قائمة ألد أعداء السامية الصادرة عن مركز فيزنتال في لوس آنجلس".
الحاجة إلى التابوهات
شهدت السنوات الأخيرة في ألمانيا بروز ساحتين مختلفتين للنقاش، إحداهما يحتلها الساسة، والأخرى للشعب. باستماتة وخوف، يتشبث أغلب الساسة بالخط الرسمي كلما عمدوا إلى إلقاء خطبة. فأعضاء البرلمان الألماني ـ البوندشتاج ـ على وجه الخصوص لم ينسوا بعد قضية "فيليب جينينجر" سنة 1988. فلقد عبر فيليب جينينجر عن نفسه ـ وكان رئيسا للبرلمان آنذاك ـ تعبيرا غير دقيق أثناء إلقائه خطبة في الذكرى السنوية لهجمات كرشتولناخت النازية Nazi Kristallnacht [على اليهود بطبيعة الحال] سنة 1938، وفي معرض خطبته ترك فيليب جينينجر مجالا يسمح بتأويل وجهات نظره الخاصة. وفي خلال 24 ساعة من الخطبة، استقال فيليب جينينجر.
أما الجمهور العام، في المقابل، فضجر من الحدود الموضوعة والإملاءات المفروضة على ما يقال وما لا يقال حفاظا على العلاقات الألمانية الإسرائيلية الطيبة.
كل مجتمع بالطبع يحتاج إلى تابوهات. ومن تابوهات ألمانيا إنكار الهولوكوست، ومنها أيضا التشكيك في حق إسرائيل في الوجود. لكن أليس من حق كل جيل أن يجد لنفسه لغة التواصل الخاصة به؟ لقد وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها منذ ما يربو على ستة عقود. والجيل الذي اقترف تلك الجرائم ينتهي. وألمانيا أصبحت من أقرب حلفاء إسرائيل، وذلك واضح في مبيعات ألمانيا لإسرائيل من أسلحة ببلايين اليوروهات. أليست هذه أرضية كافية للكلام بصراحة، بل ولتوجيه النقد العنيف كلما لزم ذلك؟
المستشارة يقينا لا ترى هذا الرأي. فلقد وضعت ألمانيا ـ أكثر مما وضعها أي رئيس للحكومة قبلها ـ في خندق واحد مع إسرائيل. بل إن البعض يرى أن جهود التصالح هذه مع الشعب اليهودي هي القناعة الوحيدة الحقيقية لدى المستشارة. فـ "هي تأخذ المسألة بصفة شخصية" كما يقول "ديدري بيرجر" Deidre Berger رئيس مكتب اللجنة اليهودية الأمريكية في برلين. ولقد حل "شيمون شتاين" ـ سفير إسرائيل السابق لدى ألمانيا ـ ضيفا شخصيا في إجازة نهاية الأسبوع على منزل ميركل في منطقة أوكرمارك بشمالي برلين.
وفي كلمة أمام الكينيست الإسرائيلي في عام 2008، أعلنت ميركل أن أمن إسرائيل "جزء من مبرر وجود بلدي". والأكثر إدهاشا هو ما تلا ذلك، حيث قالت "ولو أن الأمر كذلك، فلا ينبغي السماح لكلماتي هذه أن تبقى كلمات جوفاء في الوقت الحرج". وهذا قول لا يمكن فهمه إلا بوصفه تأكيدا من ميركل لإسرائيل بأن ألمانيا سوف تتدخل بمساعدة عسكرية إن لزم الأمر.
تضامن بلا شرط
"لا غنى للسياسي في ألمانيا عن تأسيس علاقة مع إسرائيل قوامها الثقة المتبادلة، بحيث لا يساء فهم انتقاد أورشليم [بوصفها العاصمة الإسرائيلية كما ينبغي أن يكون واضحا من السياق]". هكذا يقول روبرخت بولينتس Ruprecht Polenz عضو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU الذي ترأسه ميركل ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في البوندشتاج. وذلك يقينا ما فعلته المستشارة ميركل، ولكنها أيضا احتجت أرق احتجاج ممكن على سياسة الاستيطان التي تنتهجها إسرائيل ولكن دونما أثر يذكر. وكثيرون في المستشارية محبطون لأن هذه التصريحات لم تحرك ساكنا لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
جونتر جراس
وهكذا فشل تضامن ميركل غير المشروط مع إسرائيل في الإتيان بأي مردود، ولكنه في الحين نفسه وسَّع المسافة بين بين مريكل وكثير من الألمان الرافضين أن يتبعوها بلا قيد أو شرط. ولا شيء يبين مدى اتساع هذه الفجوة بمثل ما يبينها الجدل الذي أثارته في الربيع الماضي قصيدة "جونتر جراس" التي وصف فيها الكاتب إسرائيل بالمعتدي في الشرق الأوسط والخطر على السلام العالمي. ففي ذلك الجدل لم يقف سياسي ألماني واحد في صف الدفاع عن جراس. هرمان جروهي ـ السكرتير العام لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ـ قال إن القصيدة أصابته بـ "الرعب"، بل إن سيجمار جابرييل رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي SPD أكد أن "في القصيدة ما هو زائد عن الحد، بل وفيها ما هو هستيري". فلم تزد هذه التصريحات وأمثالها تأييد الناس لجراس إلا حدة، وانهالت الرسائل على مقرات الأحزاب تعبر عن غضب الناس على توبيخ الساسة لجراس.
فما الذي يعنيه رد الفعل هذا بالضبط؟ هل الألمان أمة معادية للسامية، وأن من وراء كل ركن من أركانها تكمن تلك الكراهية القبيحة لليهود كما قال مؤخرا الكاتب "توفيا تينينبورن" في كتابه "أنام في غرفة هتلر: يهودي أمريكي في زيارة لألمانيا".
الدراسات عن معاداة السامية في ألمانيا عديدة، لدرجة أنه يمكن القول بأن المواضيع التي لقيت من الدرس مثل ما لقيته كراهية الألمان لليهود هي قليلة للغاية. بل إن أحدث دراسة كبرى في هذا الصدد ـ والتي أجريت لحساب وزارة الداخلية الفدرالية ـ بلغ عدد صفحاتها مائتان وأربع صفحات!

درجة التشكك
ويبقى السؤال: كيف يقاس شعور؟ وكيف يوزن إحساس؟ وما وحدة عيار الكراهية؟ وهل يكون امرؤ معاديا للسامية إن هو قال إن لليهود في ألمانيا نفوذا كبيرا؟ أو إن هو وافق على الرأي الذاهب إلى أن اليهود لا يعتنون مطلقا بأحد إلا أنفسهم وما يخصهم؟
هناك أمر واحد يمكن أن يقال على وجه اليقين، وهو أن ألمانيا تأتي في الوسط فيما يتعلق بمثل هذه القضايا. فكراهية اليهود منتشرة بصورة أكبر بكثير في بلاد من قبيل بولندا والمجر. والدراسة التي أجريت لحساب وزارة الداخلية الألمانية تقول إن عشرين في المائة من الألمان هم الذين يضمرون عداء للسامية.
لا شك أنه يجب التعامل مع هذه الأرقام بدرجة من التشكك، فالباحثون أنفسهم يعترفون أنه من المستحيل التوصل إلى نتائج واضحة القياس في هذا المجال. ولكن ثمة شيئا واحدا لا ينقصه الوضوح: وهو أن معاداة الألمان للسامية تمثل إغراء عظيما في السياسات ـ فأي سياسي راغب في تكديس الأصوات لنفسه أو لحزبه يمكن أن يلعب على كراهية الألمان لليهود.
غير أنها لعبة خطرة مثلما تبين للسياسي "مارتن هوفمان" عندما استخدم في وصف اليهود عبارته "أمة المجرمين". فقد استبعدته ميركل من مجموعة الحزب الديمقراطي المسيحي البرلمانية من جراء ذلك.
فيسترفيله الذي قطع "علاقته" بموليمان
ولم تكن نهاية قصة "يورجن ف. موليمان" بأقل سوءا. لقد كان موليمان سياسيا يتربع على قمة الحزب الديمقراطي الحر، وحدث أن جازف مجازفة لم تحبس أنفاس الناخبين وحدهم، بل وحزبه نفسه كذلك، إذ قال في حوار إنه قادر على التعاطف مع الانتحاريين الفلسطينيين، واتهم "مايكل فريدمان" ـ وهو آنذاك نائب رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا ـ بأنه "حقود متعصب".
وتباطأ جيدو فيسترفيله رئيس الحزب الديمقراطي الحر في اتخاذ موقف من موليمان، إلى أن تدخل "هانز دييتريتش جينشر" ومسئولون رفيعون في الحزب فأنهى فيسترفيله علاقته بموليمان. ولم تنس إسرائيل الواقعة، ولا تزال إلى اليوم تخضع فيسترفيله ـ وهو الآن وزير خارجية ألمانيا ـ للمراقبة بسبب قضية موليمان.
إحساس إسرائيل اليوم أنها واقعة تحت التهديد يفوق إحساسها بذلك في أي وقت مضى، سواء كان ذلك التهديد من إيران أم من التطورات التي يشهدها العالم العربي، بل إن حساسيتها تتزايد. وهناك في الوقت نفسه، من المنظور الألماني، أسباب كثيرة تدعو إلى النظر إلى السياسات الإسرائيلية نظرة نقدية. فالبلد تغير تغيرا يعزى إلى ما نجم من أوضاع ديمغرافية جديدة عن الهجرات من شرق أوربا ومن أفريقيا بما تسبب في تحول سياسي إلى اليمين. والمتشددون هنا هم الذين سيكون لهم القول الفصل في المستقبل المنظور.
في الوقت نفسه، سياسة إسرائيل الاستيطانية سوف تجعل فكرة الدولة الفلسطينية فكرة مستحيلة. ولما كان هانز أولريتش كلوز ـ وهو من كبار مسئولي الشئون الخارجية في حزب الحزب الديمقراطي الاشتراكي ـ في إسرائيل مؤخرا لحضور مؤتمر سياسي هناك، لم يقابل تقريبا أي سياسي لم يزل يعمل على حل الدولتين ـ وهو الحل الذي تعده ألمانيا السبيل الوحيد إلى السلام في الشرق الأوسط.
فما الذي ينبغي أن تفعله ألمانيا إذن؟ يقول كلوز إنه لا يزال يؤمن أن الحكومة الألمانية ينبغي أن تمتنع عن توبيخ إسرائيل علنا. ويتساءل "ما الذي يحمل ألمانيا على أن تكون الدولة الوحيدة التي تنتقد إسرائيل من بين كل الدول؟"
ولكن بعض الساسة الأصغر سنا يتبنون رؤية مغايرة، ويزدادون يوما بعد يوم عزوفا عن التمسك بهذا النهج القديم. تقول جوليا كلوكنر، البالغة من العمر أربعين عاما، ورئيسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ولاية "راينلاند بالاتينيت" الفدرالية إن "ألمانيا عليها مسئولية تاريخية. ولكن هذا لا يعني شيكا على بياض بأن لا تنتقد السياسة الخارجية".
ترى كلوكنر أن ألمانيا بحاجة إلى العثور على طريقة تقلل بها من أغلالها في صفقاتها مع إسرائيل وتضيف أن "من يلقون اتهامات العداء للسامية جزافا وعند كل منعطف يفقدون مصداقيتهم".
هل قالت "تقلل أغلالها في صفقاتها مع إسرائيل"؟ هل قالت "يلقون اتهمات العداء للسامية جزافا"؟ هل من المناسب قول أشياء من هذا القبيل؟ قد تتعرض كلوكنر لكراهية لا بأس به بسبب هذا الذي قالته، أو ربما تجد استحسانا لا بأس به، أيضا

الترجمة إلى الإنجليزية إيلا أورنشتين
نشر الموضوع أصلا في دير شبيجل والترجمة نشرتأول أمس الخميس في جريدة عمان

هناك تعليق واحد: