الأربعاء، 29 أغسطس 2012

مالي وعدوى الفيروسات الصومالية


الإسلاميون في تمبوكتو
مالي وعدوى الفيروسات الصومالية

جان بول  

يحكى أن مالي كانت ذات يوم مثالا للديمقراطية في أفريقيا. ولكن منذ انقلاب وقع في مارس، بدأ الإسلاميون مسيرة تطبيق الشريعة في شمال البلد. وثمة مخاوف من انضمام مالي إلى الصومال لتكون بلدا أفريقيا فاشلا آخر.
جمع الكولونيل "موسى مايجا" جيشا يتألف من سبعمائة متطوع، يقفون الآن في وضع الانتباه مرتدين الصنادل. يصيح بايجا "لليمين در". فيستديرون جميعا ويشرعون في مسيرة منتظمة. ويرن محمول في الفصيلة الثانية فيعاقب صاحبه بأداء تمرين الضغط عشرين مرة، وذلك عذاب حقيقي في هذا الميدان الرملي في مدينة موبتي بوسط مالي حيث درجة الحرارة تصل إلى الأربعين في الظل.
ينشد الجنود "نحن الذين سنستعيد شمالنا"
هؤلاء الجنود الذين يتدربون في موبتي جزء من ميلشيا تدعى "جبهة تحرير الشمال". أغلبهم يؤدي هذه التدريبات مرتديا صنادل مطاطية وقمصانا قطنية. أحدهم يرتدي قميصا طبعت على صدره خريطة لأفريقيا مؤطرة بالذهبي. نجوم كرة القدم منتشرون على القمصان، بخاصة البرازيلي رونالدو والألماني بيتورب تروتشوفسكي.
يقضي مجندو جبهة تحرير الشمال ثماني ساعات كل يوم في الجري والزحف في هذه المنطقة. وأغلبهم لاجئون فروا من شمال مالي الذي استولى عليه الإسلاميون وتطبق الشريعة فيه حاليا.

الكولونيل موسى مايجا و"جنوده" المتطوعون لتحرير الشمال

عجزت أن أتنفس

من المفترض بمجندي جبهة تحرير الشمال ذوي الصنادل المطاطية هؤلاء أن يقاتلوا الإسلاميين المتحالفين مع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". كل شيء ينقص هؤلاء الجنود إلا الشجاعة. أغلبهم يعيش على الإعانة الحكومية التي لا تساوي دولارات قليلة في الشهر. يقول الكولونيل مايجا "إننا، بدنيا ومعنويا، جاهزون للمعركة".
هو الوحيد الذي يرتدي زيا عسكريا. محارب منهك، أحضر معه مسدسه، وتسع طلقات، من ليبريا التي كان يخدم فيها ضمن فصيلة مالية كانت تعمل مع قوات حفظ السلام.
مايجا ترك الخدمة في الجيش عمليا منذ سنوات. وفي جاو ـ التي تخضع حاليا لسيطرة الإسلاميين ـ كانت له متاجر بقالة عديدة رائجة. ولكنها نهبت جميعا بعد وقت قصير من انتصار الإسلاميين. واليوم، أي بعد شهرين، بدأ السادة الجدد يقطعون أيدي اللصوص. فما كان من مايجا ـ وهو نفسه مسلم متدين ـ إلا أن فر إلى الجنوب. يقول "صرت لا أستطيع التنفس هناك".
أكثر ما يحتاج إليه هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تحرير الشمال هو التبرعات لشراء السلاح. ويرجو الكولونيل مايجا أن يحصل على المال من رجال الأعمال في موبتي والعاصمة بماكو، خاصة وأن الأزمة لم تترك أحدا إلا وأضرت به.


النموذج الذي كان

موبتي هي آخر البلاد الحرة في الطريق إلى شمال مالي المحتل. لا تزال النساء تسير في شوارعها بغير حجاب، ولا تزال البيرة والنبيذ تقدم في الحانات والمطاعم. ولا تزال الموسيقى تصدح لدى الباعة المنتشرين قرب المسجد.
لكن على مسافة تقل عن مائة كيلو متر جهة الشمال، أصبحت أهلة المآذن رموزا للعنف والطغيان والقمع. ولقد هدد الجهاديون بالفعل بأن موبتي سوف تكون هدفهم القادم.
يخشى الأجانب من الذهاب إلى موبتي خوفا من التعرض للاختطاف أو الهجوم. جميع عملاء الإغاثة رحلوا. أما الجيش المكون من ألوية من القوات الحكومية المالية القوية ففي حالة التأهب القصوى. لقد فر أكثر من أربعمائة ألف مالي عابرين صحراء الساحل إلى جنوب مالي أو إلى الدول المجاورة لها مثل موريتانيا والنيجر.
ومن المفارقات أن مالى كانت تعد نموذجا للدولة الأفريقية الديمقراطية لما يقارب عشرين عاما. فقد كانت لها حكومة منتخبة ديمقراطيا، وكانت تجرى فيها انتخابات نزيهة، وكانت لديها صحافة تعمل بحرية. ويرجع الفضل جزئيا إلى السياحة في ما شهده الاقتصاد المالي من نمو بلغ معدله السنوي المثير للإعجاب خمسة في المائة في السنوات الأخيرة.


في ظل حكم الشريعة

وتغير كل شيء في مارس، حينما قام جيش مؤلف من الراديكاليين الإسلاميين والانفصاليين الطوارق باجتياح القسم الشمالي من البلد. دمر الإسلاميون الأضرحة في تمبوكتو وهي المركز الثقافي الأسطوري الذي يعد من بين مواقع التراث العالمي على قائمة اليونسكو. ومنذ استيلائهم على الشمال، تم تطبيق الشريعة في المناطق التي تخضع لسيطرتهم. فرجم رجل وامرأة حتى الموت في أجويلهوك الواقعة في الشمال الشرقي.
في أول الأمر بدت الحكومة المركزية بلا حيلة  أمام الاجتياح الإسلامي. وحينما قام ضابط في الجيش يدعى "أرمادو سانوجو" بالإطاحة بالرئيس المنتخب في بماكو في الربيع، برر تصرفه ذلك بضعف الحكومة عن مقاومة المتمردين.
حتى الجيش لا يزال بينه وبين استعادة الشمال المحتل طريق طويل. وفي رد فعل على الضغوط الدولية، انسحب زعيم الانقلاب إلى الثكنات.
ولكن ذلك لا يعني أن سانوجو الآن فقد قوته. فأنصاره هم الذين يلامون على اختفاء خصومه وتعذيبهم. والصحفيون الذين يتجاسرون على إلقاء الضوء على ما يجري ما انتهكات يمكنهم أن يتوقعوا التعرض للإيذاء الجسدي.
فهل هناك خطر من أن تتحول مالي إلى صومال جديد، أي أن تتحول إلى بلد تسعى فيه الميلشيات وطلَّاب السلطة إلى الاقتتال من أجل السيطرة عليه، بلد تعمه الفوضى ويناضل فيه أهله حتى الموت؟ لقد ألمح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى أن المجتمع الدولي قد يتدخل.


استعادة مالي القديمة

انهيار مالي الوشيك أوضح ما يكون في بماكو حيث تعيش مونيك دوراي في طريق سوتوبا. ولدت دوراي في الكاميرون سنة 1936، ولديها جواز سفر فرنسي ولكنها مع ذلك تقول "إنني أفريقية". علاقتها الوحيدة ببلدها فرنسا تتمثل في الطعام الجيد. كان الجميع يتوافدون على مطعمها بحثا عن الأطباق الفرنسية الشهيرة: الساسة والدبلوماسيون وعمال الإغاثة ورجال الأعمال والسياح وهم في الطريق إلى تمبوكتو.
أما اليوم، فمطعمها وفندقها المسمى بـ لو رابيليه فتراه خاويا على عروشه، حتى في وقت العشاء. تقول مدام مونيك "لا أعرف كيف سيتسنى لي الاستمرار".
السياحة ـ التي كانت أحد أعمدة الاقتصاد المالي ـ ماتت الآن وشبعت موتا. أغلب الفنادق مقفل، والطهاة والندل وعاملات الغرف جميعا يعانون البطالة.
لم تستطع دوراي أن تحتفظ إلا بـ 57 من موظفيها الذين كان عددهم قد وصل إلى 95 أقامت لهم مسجدا في فناء الفندق، بين قبو النبيذ والمطبخ. ذلك أن "تسعين في المائة من الماليين مسلمون، ولكنهم متسامحون".
ولكن الظاهر أن الزمن يتغير. فقد لاحظت بشيء من القلق أن قليلا من الحانات في بماكو أغلقت أبوابها مؤخرا من تلقاء أنفسها خلال رمضان، ربما في محاولة للخضوع قبل الأوان لرغبات الإسلاميين. دوراي لا تريد إلا شيئا واحدا "أن ترجع مالي مرة أخرى مالي".


الفشل السياسي

في يوم الاثنين، أعلن "ديونكوندا تراوري" ـ الرئيس المؤقت المتولي منذ ما بعد الانقلاب ـ عن تشكيل وزاري جديد يضم 31 وزيرا، خمسة منهم محسوبون على سانوجو ـ قائد الانقلاب ـ وليس بينهم أي من رجال الرئيس المطاح به. ولقد وجهت "كتلة إقليم غرب إفريقيا" تهديدا بمعاقبة مالي وربما بطردها من الكتلة إذا هي فشلت في تشكيل حكومة وحدة وطنية. وكانت الحكومة المؤقتة عاجزة عن الحركة بسبب الاقتتال السياسي.
"حمادون توري" مفكر وصحفي كان يعمل وزيرا للإعلام قبل التعديل الوزاري. وكان جزء من عمله يتعلق بإظهار جدارة الحكومة بالثقة، برغم وقوع الانقلاب.
توري يتهم الطبقة الحاكمة في مالي بالفشل السياسي. يقول إن "الثوار استطاعوا أن يستولوا على ثلثي البلد في غضون ثلاثة أسابيع. وأتمنى أن تكون الطبقة السياسية مصدومة بالقدر الكافي".
مالي في رأيه  لم تكن ذلك النموذج الذي تغنى به الغرب طويلا. فـ "الديمقراطية لم تكن إلا واجهة". والأحزاب والحكومة ـ فيما يقول ـ ما كانت تخضع لقوانين حرية التعبير والتعددية إلا التزاما بالمظاهر. "ولكن الديمقراطية الحقيقية تعني ما هو أكثر، تعني فرصة نيل تعليم حقيقي ورعاية صحية فعلية".
توري الآن يرجو مساعدة من الخارج. وبرغم أن البلد لم يطلب التدخل العسكري الدولي، يقول توري بصراحة إنه يرحب باستطلاعات جوية وأسلحة ومستشارين عسكريين.


"لسنا بحاجة إلى الأرض"

لأقلية الطوارق مركز ثقافي لا يزال في مكانه على مقربة من مقر الحكومة. هنالك يجلس "زيدان آج سيدالمين" داخل خيمة. لعل هذا الشخص هو أكثر أبناء أقليته تأثيرا وأهمية في بماكو، ويرجو أن يكون له دور في منع نشوب قتال جديد.
كان راجعا للتو من اجتماع مع الرئيس. يشكل الطوارق ما يصل إلى عشرة في المائة من السكان الماليين. يقول آج سيدالمين طويل القامة فاتح البشرة ذو الشارب المشذب بعناية إن "قليلا منهم هم الذين يريدون بلدا مستقلا". تجنبا للحرارة يرتدي ثوبا فضفاضا ذهبي اللون. يعتقد أن التمييز ضد شعبه بات في ذمة الماضي. "نحن لم نتعرض للتمييز منذ زمن بعيد".
كان لـ آج سيدالمين دور في التعامل مع التحديات من قبل. فحينما ثار الطوارق ساعد في المفاوضات التي أدت إلى معاهدة سلام سنة 1991 وفي عام 2006 وهي المعاهدة التي ضمنت لهم  مواقع حكومية ورأيا في المشاريع التنموية. يقول "إننا بحاجة إلى الاعتراف بثقافتنا ولكننا لسنا بحاجة إلى أرض".
ولكن هذا لم يكن كافيا للطوارق الأكثر تطرفا. فقد انضم كثير منهم كمرتزقة إلى  جيش الدكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي. ورجع هؤلاء إلى مالي نهاية السنة الماضية بعد موت القذافي. وجاءوا ومعهم أسلحتهم فوجهوها آنذاك إلى الجيش المالي. وقاتلوا من أجل دولة طوارقية مستقلة تحت اسم "الحركة الوطنية لتحرير أزواد".


الدكتاتورية الجديدة

تحالف أولئك أيضا مع جماعة أنصار الدين الإسلامية ومع حركة الوحدة من أجل الجهاد في غرب أفريقيا التابعة للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. ينتمي "إياد آج غالي" زعيم جماعة أنصار الدين إلى الطوارق. وهو رجل ماهر في اكتساب المال والسلطة وتوزيعهما.  هو في حوالي الستين من العمر، وكان عقيدا في الكتيبة الدولية جيش القذافي. وكان على مدار سنين متصلا بالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي التي دأبت على اختطاف الأجانب ورجال الأعمال وعمال الإغاثة في الصحراء الكبرى.
ولأن الانفصاليين في الحركة الوطنية لتحرير أزواد رفضوه قائدا، فقد قام آج غالي بتكوين جماعة أنصار الدين. جاءت الأسلحة من ليبيا، وتدبر آج غالي أمر التمويل اللازم من عمليات اختطاف وإتجار في المخدرات. فطرق تهريب كوكايين جنوب أمريكا تمر عادة بموانئ غينيا ونيجريا وغينيا بيساو مارة بالصحراء الكبرى ومنها إلى غرب أوربا.
اجتذبت جماعة غالي أيضا مجاهدين من اليمن  وقطر والجزائر. وهم اليوم أهم حراس الدكتاتورية الجديدة التي تزعم أنها تحكم باسم الله. في الوقت نفسه استطاع آج غالي أن يخرج الحركة الوطنية لتحرير أزواد ـ التي تحالفت مع الإسلاميين ـ من تبموكتو.
وبرغم استيلاء أنصار الدين على الشمال يبقى آج سيدالمين ـ زعيم الطوارق ـ متفائلا. فهو يعتقد أن "الاسلاميين ليست لهم قاعدة صلبة في مالي. ولا يجمع بين مقاتليهم الآن إلا المال. فالناس لا يريدون الشريعة".
وهذا أمر يزداد يوما بعد يوم وضوحا. فحينما أراد الإسلاميون أن يبتروا يد لص في جاو في أول أغسطس قام سكان المدينة الغاضبون بمنع ذلك العقاب. وقبلها منع السكان ايضا في حوندام ـ في وسط شمال مالي ـ بمنع حالة جلد علني.


إنهم يكرهون الرسالة

لا تصدق المغنية نايني ديابيت ـ أشهر مطربات مالي ـ أن إخوانها الماليين سوف يخضعون للتعصب الديني. وتقول "لا أعرف ما الذي جرى لهذا البلد".
ديانا أكملت مؤخرا صيام شهر رمضان. ولا يزال الرجال يقيمون الصلاة في حديقة قصرها في بماكو. هي تعيش في مكان متعدد الأجيال، حيث الأرائك المحاذية لجدران غرفة المعيشة تتسع لعشرين فردا من العائلة. وهي تغني عن الحياة في مالي، وعن الفقر، وعن التكافل. تقول "ليس لدينا الكثير، ولكننا شعب مسالم".
هي مغنية مبهجة وراقصة قديرة، ولكن حفلاتها باتت نادرة. قامت مؤخرا بالغناء للاجئين في النيجر، ولكن الجمهور لم يعد يظهر في بماكو. وهي ترجع ذلك ربما إلى "خوفهم من الهجمات. والكارثة أنني شخصيا بت أخشى الإقامة في مالي".
الإسلاميون يكرهونها بسبب موسيقاها وكلمات أغانيها التي غالبا ما تتناول قضايا المساواة بين الرجال والنساء. تقول إنها وزملاؤها من الموسيقيين لهم تأثير كبير على الماليين العاشقين للموسيقى. تقول "إننا صناع سلام". ولكنها اليوم لم تعد تعرف إن كانت رسالتها تصل إلى إخوانها في الوطن.
ومع ذلك نجحت لها مؤخرا أغنية نجاحا ساحقا. أغنية عنوانها "سلام".


 نشر أصلا في دير شبيجل ونشرت الترجمة في جريدة عمان بتاريخ 25 أغسطس 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق