السبت، 15 سبتمبر 2012

رحلات في كوكب اليسار



لماذا تبحث الأدلة السياحية عن مبررات للطغاة

رحلات في كوكب اليسار




مايكل موينيهان
مجلة فورين بوليسي ـ عدد سبتمبر/أكتوبر 2012



في عام 1933، وفي حين كان جوزيف ستالين مشغولا بتصفية أعدائه والتخلص منهم، وتأسيس شخصيته الدموية المعبودة، كانت كانت مجلة "نيشن" اليسارية ـ ومقرها نيويورك ـ تنبئ قراءها الراغبين في السفر إلى موسكو بأن من يقومون بهمة الإرشاد السياحي في وكالة "إنتوريست" السياحية الرسمية في الاتحاد السوفييتي هن "شابات مثيرات للاهتمام فاتنات لا تعتمرن القبعات"، وشديدات المهارة أيضا في تصحيح المعلومات المغلوطة التي تنشرها وسائل الإعلام الرأسمالية. وعلى الرغم من أن فاتنات الحزب الموظفات في وكالة إنتوريست كن يقصرن جولات السائحين على المقاصد السياحية المعتمدة ـ فلم يكن مسموحا مثلا بدخول أوكرانيا التي كانت آنذاك في أوج مجاعتها القاسية ـ إلا أنهن كن بارعات في الحصول على "تصريحات خاصة" من المخابرات الروسية السابقة على الكي جي بي والتي قالت عنها مجلة نيشن إنها "أبعد ما تكون عن حفنة من رجال الشرطة الإرهابيين، بل هي هيأة شديدة الذكاء والمقدرة تقدم المساعدة للسائحين".
وحتى بعدما مر وقت طويل على الكشف عن جرائم ستالين من خلال خطبة نيكيتا خروتشوف التي ألقاها سرا [أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي] سنة 1956، ظل "دليل المسافر" والمهاجر مصرا على الخلط والكلام عن اليوتوبيات ومعسكرات العمل والمزارع النموذجية. ولقد كانت تلك السياحة الأيديولوجية ـ في فترة الحرب الباردة ـ حكرا تقريبا على الساحة التقدمية، فغصت مزارع قصب السكر في كوبا بالرفاق الأوربيين والأمريكيين، في حين لم يذهب إلا القليلون من كهنة الأسواق الحرة ليشاهدوا خصصة المعاشات أو برنامج تحرير السوق لدى أوجستو بينوشيه [الدكتاتور التشيلي]. وحتى في أيام الاتحاد السوفييتي الأخيرة، لاحظ الأكاديمي الأمريكي مجري الأصل بول هولاندر أن هناك شركات لا تزال تعرض رحلات تثقيفية إلى كوبا وفييتنام ونيكارجوا وغيرها. وبعد سنين من هدم سور برلين سنة 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، ظل بوسع طلاب السياحة الأيديولوجية الذهاب في "جولات واقعية" باهظة إلى كوبا فيدل كاسترو أو فنزويلا هوجو تشافيز.
في أيامنا هذه، نرى أن مهمة التثقيف السياسي للسياح قد انتقلت إلى إمبراطوريات الإرشاد من قبيل "لونلي بلانيت Lonely Planet" و"راف جايدز Rough Guides" وكلاهما يقدمان تفاصيل دقيقة عن التاريخ السياسي والثقافة الخاصين بالدول المعروض لها، وذلك في الوقت الذي يقدم فيه "لونلي بلانيت" نصائح "أمينة وحيادية" بشأن أماكن العثور على أفضل كوكتيل "بيسكو ساور" في بيرو أو عن الجنة الساحلية في كمبوديا.
بدأ "لونلي بلانيت" في عام 1975، عندما نشر فريق هيبي مكون من الزوجين مورين وتوم ويلي على نفقتهما الخاصة دليلا للسياحة الرخيصة في جنوب شرق آسيا. وقام مارك إلينجام ـ وهو بريطاني أيضا ـ بمنافستهما فأصدر "راف جايدز Rough Guides " سنة 1982 بعدما تكشف له أن الأدلة السياحية الموجودة ضحلة للغاية فيما يتعلق "بالجوانب السياسية والحياة المعاصرة" في دول المقاصد السياحية. ولقد حققت كلتا الشركتين نجاحا مذهلا. فبيع من "راف جايدز" ثلاثون مليون نسخة خلال الخمسة والعشرين عاما الماضية لتتحول من دار نشر صغيرة إلى إمبراطورية اقتصادية عالمية عملاقة تنتج برامج تليفزيونية وألبومات موسيقية وعشرات من العناوين (من قبيل "دليل راف جايدز إلى نظريات المؤامرة"). في سنة 2010، باع "لونلي بلانيت" ـ الذي بات الآن مملوكا بالكامل لـ بي بي سي وورلد وايد ـ النسخة رقم مائة مليون. وقد تفرع لونلي بلانيت بدوره إلى التليفزيون والإذاعة والمجلات.
استطاع الدليلان أيضا أن يضعا مؤسسيهما في خانة كبار الأثرياء فقد بيع "لونلي بلانيت" بأكثر من مائة مليون دولار، وإن استتبع هذه الصفقة قدر غير قليل من التحقيقات. والآن يقول ويلر ـ مؤسس لونلي بلانيت ـ إنه يشعر بالذنب بسبب السياحة وما تساهم به صناعة الطيران في مشكلة الاحتباس الحراري. ويقول إلينجام ـ الذي أصدر "دليل راف جايدز إلى التغير المناخي" إن عمله هذا "ينبغي أن يشجع المسافرين على تقليل السفر". قد يعترف هؤلاء الأثرياء أنهم حققوا ثرواتهم من صناعة تلحق بالأرض أذى بالغا، ولكن المؤكد أنهم لم يتخلوا عن سياساتهم اللبرالية ولو للحظة.
ولكي نقيم جودة التثقيف السياسي الذي تقدمه هذه الأدلة للجيل الجديد من المسافرين والسياح، قد يكون من المفيد أن نستعرض ما تقوله في حق الدول غير الديمقراطية مثل كوبا وإيران وكوريا الشمالة وسوريا.
في هذه الأدلة صيغة ثابتة: اعتراف أولي بنقص في الديمقراطية والحرية، تليه محاولات عديدة ملتوية لتبرير الشمولية والاستبداد والأعمال الوحشية والهجوم على الولايات المتحدة وسياستها الخارجية التي أدت إلى هذه التصرفات الدفاعية اليائسة. وفي ثنايا ذلك نجد ترديدا لنغمة أن التخلف الاقتصادي إن هو إلا أصالة ثقافية وطبيعة حضارية، ناهيكم عن الإعجاب برفض العولمة والهيمنة الأمريكية. وفي حين أن التوصيات الفندقية قد تكون نافعة للقارئ، تبقى هذه الأدلة حافلة بتحريفات للتاريخ ومغالطات للحقائق وبمزيج مميت من النزعات الاستشراقية والجلد المرَضي للذات.
ومن ذلك على سبيل المثال أن قراء "دليل لونلي بلانيت إلى ليبيا" ـ الصادر قبل الأحداث المكدرة الأخيرة ـ يطالعون أن دكتاتور ليبيا الدموي معمر القذافي قد لُفقت له على الأرجح تهمة تفجير طائرة بان أمريكان في رحلتها رقم 103. بل إن الكتاب في واقع الأمر يروي أن "إحدى أكثر النظريات إقناعا تذهب إلى أن التفجير تم بأمر من إيران انتقاما من قيام سفينة حربية أمريكية بإسقاط طائرة آير باص إيرانية في الخليج في الثالث من يوليو سنة 1988". ويتم تقديم القذافي بوصفه شخصا يساء فهمه (فـ "من بين الثيمات المتواترة في حكم العقيد القذافي أنه ظل يرغب في الاتحاد مع دول أخرى بلا فائدة") من قبل الحكومات الغربية المجحفة ("ولقد عاني أفراد الشعب الليبي العاديون من العقوبات المفروضة بينما العالم يكرر رفض المقترحات الليبية بتسليم المشتبه بهم في قضية لوكيربي للمحاكمة) وهو ـ أي القذافي ـ ضحية للإعلام المجحف ("فقد دأب الصحفيون الغربيون رغبة منهم في انتهاز كل فرصة ممكنة للتهوين من أمر ليبيا في ظل حكم القذافي إلى تسمية حرسه الشخصي باسم نساء الأمازون’")
ولم يكن العقيد وحده هو الذي استفاد من مزايا التشكيك. فهل أقنعتك الميديا بأن البرقع [غطاء الوجه] وسيلة من وسائل قمع المرأة؟ "دليل لونلي بلانيت إلى أفغانستان" يوضح ـ بما يشبه الحنين إلى عهد الطالبان ـ أن "البرقع قد يرى أيضا بوصفه أداة لتيسير الحركة وزيادة الإحساس بالأمان، وهذا فارق نادرا ما يلاحظه العالم الخارجي الذي يفترض أن المرأة التي ترتدي البرقع هي امرأة مسلوبة القوى مسلوبة الحرية".
وبالمثل، كم ضللتنا الميديا الغربية فيما يتعلق بإيران. فـ "دليل لونلي بلانيت إلى إيران" يؤكد للسياح من زائري الجمهورية الإسلامية أن "تسعة وتسعين في المائة من الإيرانيين وربما الرئيس الإيراني أحمد نجاد نفسه" ليسوا مهتمين بالدخول في صراع نووي مع إسرائيل. بل إن عليكم أن تتجاهلوا كل هذا اللغو المحموم حول الأسلحة النووية، لأنه "من الصعب تفنيد" دعوى إيران بأن برنامجها لتخصيب اليورانيوم ليس قائما إلا لأغراض سلمية.
أما قراءة الغرب الخاطئة لكوبا، فلا يعجز الجيل الجديد من أدلة السفر اليسارية عن تصحيحها. فـ "دليل راف جايدز إلى كوبا" على سبيل المثال لديه كلمة طيبة يقولها في حق الرقابة الوحشية التي يفرضها نظام كاسترو، فيعلمنا أن هذه الرقابة "مخففة تماما وتهدف إلى إنتاج المضمون ذي القيمة الاجتماعية الحقيقية (من وجهة نظر الحكومة)، وهي لا تدعو نهائيا إلى القلق بشأن الوصول إلى مستويات رفيعة أو تحقيق نجاح تجاري". ومن المؤكد ـ حسب ما يقول الدليل ـ أن بوسع المرء أن يقرأ لمدونين منشقين من أمثال "يواني سانشيز" بشرط أن ينتبه إلى أن خصوم النظام قد يكونون "شاعرين بالمرارة مصابين بالبارانويا" وأنهم يكونون "في أفضل حالاتهم حينما يكتبون عن دقائق الحياة الكوبية ويكونون في أسوأ حالاتهم حينما يطلقون دونما تركيز سهام نقدهم ضد الحكومة".
ويبدو أيضا أننا مخطئون خطأ مريعا فيما يتعلق بلجان الدفاع عن الثورة الكوبية، وهي اللجان سيئة السمعة التي يصحح لنا الدليل مفهومنا عنها، فلو أننا نتصور أنها شبكات تابعة للدولة، تتكون من مخبرين في الأحياء، مهمتهم الإبلاغ عن أي متاعب يتسبب فيها المنشقون من أمثال سانشيز، فإن دليل "لونلي بلانيت" يقول للسياح ويطمئنهم مشكورا إلى أن هذه اللجان في حقيقتها ليست إلا منظمة مدنية خيرة وهي "هيئات رقابية في الأحياء تكونت في عام 1960 لتحشد دعما شعبيا للثورة وهي الآن تلعب دورا حاسما في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وتدوير النفايات وتنظيم حملات العمل التطوعي، والرعاية الاجتماعية".
ولكن ما السبب في ليِّ الحقائق لإيجاد مبررات لأسوأ سفاحي العالم؟ بالنسبة لمؤلفي هذه الأدلة، وبالنسبة للسائح المتطلع إلى السفر، ليس هناك سمة في السفر إلى الخارج مرغوبة أكثر من "الأصالة"، ومن الوصول إلى أماكن لم تطلها بشاعة شركات الدعاية الغربية والشركات العالمية، أماكن لا تزال بمنأى عن كل ذلك، وهذه الدول هي النماذج الوحيدة التي توفر هذا. ومن ثم فإن لونلي بلانيت يحمس قراءه بقوله إن كوبا "بلد يخلو من بهرجة الدعاية" وينطوي على "فرادة باتت سلعة نادرة في العالم الذي يزداد تعولما يوما بعد يوم". والحق أن الدكتاتورية تحمي مواطنيها من سموم الاستهلاكية على نحو قد تطمح الدول الأخرى إلى مضاهاته:
كوبا تحتفظ بشخصيتها مصونة تماما، في ظل شبه غياب تام لمكدونالدز ومادونا وغيرهما من تأثيرات ثقافة الشركات العالمية. إنها مكان يمثل منارة للمستقبل: فيوفر للناس التعليم الجامعي، والرعاية الصحية، والإسكان وشتى الحقوق التي يريدها الناس ويحتاجونها ويستحقونها.
في مجلة "إيكولوجي" ـ وهي المجلة البريطانية المرموقة المتخصصة في الدراسات البيئية ـ كتب بريندان سينسبري ـ أحد المشاركين في كتابة "دليل لونلي بلانيت إلى كوبا" يقول إن ثمة نوعا من النقاء في حالة الفقر الكوبي:
فإلى جانب الغربيين المنهكين الشاحبين الذين يذهبون لقضاء أسبوعين في إجازة يرتاحون فيهما من تناول عقار بروزاك ومن الأطعمة السريعة، لا نرى الكوبيين يجارونهم في المشي، بل هم ينسابون ويسرعون في المشي الموقَّع في شوارع المدينة المنهكة كما لو كانوا يرقصون ويهزون أردافهم على إيقاع الرومبا. وقد يكون سر ذلك كله كامنا في الاقتصاد في الطعام.
هناك افتراض استشراقي بأن مواطنين كمواطني كوبا وأفغانستان قد اختاروا بوعي أن يرفضوا العولمة والاستهلاكية. وهم إذن محسودون على الفقر ـ من وجهة نظر الغرب الساخط الذي يراهم يعيشون حياة نقية لا تشوبها شوائب النزعات الاستهلاكية. وسانسبيري يشير إلى الطعام الكوبي بوصفه طعاما "عضويا" ويثني على الأخوين كاسترو "وما يتسمان به من بعد نظر ثقافي جعلهما يحافظان على ممارسات صديقة للبيئة مثل التدوير الغذائي وحسن إدارة المياه والتربة وحسن التخطيط لاستخدام المياه". غير أن حصص الغذاء الهزيلة وسيارات الخمسينيات التي تقعقع في شوارع هافانا ليست خير تمثيل للأصالة أو للنسخة الاستوائية من الجنون الغربي بالمنتجات الصحية، بقدر ما هي دليل على فشل السياسات الاقتصادية. وهي لا تعد نمطا حياتيا مختارا إلا بقدر ما يعد ختان الإناث خيارا حرا في الدول التي تمارسه.
في الوقت نفسه، غالبا ما توجه الأدلة السياحية اللوم الحاد للدول الشمولية السابقة التي خضعت لإصلاحات سوقية وحققت نموا اقتصاديا، حيث ترى أنها تنكرت لمثلها الثورية القديمة. وفي حين ترتفع مستويات المعيشة في آسيا، يصعب على تجربة الأصالة السياحية أن تجاريها. ففي موقع "راف جايدز" الإلكتروني كتب رون إيمونز قبل سنوات قليلة في "دليل راف جايدز إلى فييتنام" معبرا عن خيبة أمله في تضاؤل قوة الاقتصاد الشيوعي في هانوي متحسرا على "أن يكون أول ما يراه من فييتنام هو إعلان لبيبسي يتصدر محطة للحافلات. بعد قرون من المحاربة الضارية للغزاة في البر والبحر والجو، ها هي فييتنام تستسلم أخيرا للتأثيرات الغربية".
والمدهش أن هناك أدلة سياحية لكوريا الشمالية وهي الدولة مغلقة الأسوار، التي تسيطر حكومتها على كل جوانب الرحلات السياحية. لقد رأى "لونلي بلانيت" ـ الذي يخصص في إصداره عن كوريا الجنوبية بضع صفحات لمملكة الناسك ـ في القائد الكوري الشمالي الراحل كيم يونج إيل (الذي كان كثيرا ما يعلن عن نيته إحاطة سول بـ "بحر من النار") "برجماتية وانفتاحا نسبيا على التغيير". وبرادت ـ وهو الناشر البريطاني الذي يقدم الدليل الوحيد باللغة الإنجليزية إلى كوريا الشمالية فيتكلم بحماس وبإيجابية شديدة عن العاصمة الرمادية الموحشة بيونجيانج بوصفها "مدينة لا تضاهيها مدينة في كوريا أو آسيا":
في ضوء الشمس، ترى الشوارع والمادين بلا ذرة تراب، فهي فعليا تبهر العيون. بيونجيانج مدينة فيها لكل مواطن ثمانية وخمسون مترا مربعا من الخضرة، وهذا يعادل أربعة أمثال ما توصي به الأمم المتحدة، أما في الربيع، فتغص تلالها بالخضرة".
وربما لا يحق لنا أن نندهش من قول برادت الفريد في نجاح مساعي كوريا الشمالية في الحصول على أسلحة نووية في الوقت الذي كان فيه الملايين من أبنائها يتضورون جوعا:
"
إن أكثر الحجج شيوعا في وسائل الإعلام الغربية تذهب إلى أن الدولة الدكتاتورية الصغيرة قد سعت إلى الحصول على سلاح نووي لتستخدمه كوسيلة للمساومة على المزيد من المساعدات، وإن في هذا إغفالا لحقيقة أن جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية كانت تتعرض لتهديد قوة نووية عظمى لم تكن في حالة سلام معها".
وبغض النظر عن ذلك، ليس هناك داع للقلق، فيما يرى برادت، لأن "المزاعم المتعلقة بتخصيب اليورانيوم" إن هي على الأرجح إلا نسج خيال الأمريكيين، وتلفيق من نفس الذين لفقوا للعراق مسألة أسلحة الدمار الشامل".
وإذن، ما الأمر؟ إن مؤلفي الأدلة السياحية المعينين لدى ناشرين من أمثال لونلي بلانيت وراف جايدز ليسوا "عملاء" يتم زرعهم في بلد وتكليفهم بالتعرف عليها وعلى ثقافتها وكتابة تقارير بما يخلصون إليه، بل هم مسافرون محترفون، مفتونون بالبلاد التي يتم تكليفهم بالكتابة عنها. (اللهم إلا باستثناء توماس كونشتم الذي اعترف في عام 2008 بأنه كتب الدليل الموحش إلى كولمبيا بدون أن تطأها قدمه). هؤلاء الأفراد المتحمسون لديهم مقدرة لافتة على أن يغفروا لمن يحبونهم أي شيء، ويلعنوا من يكرهونهم على كل شيء. ففي حين يبدي دليل راف جايدز إلى كوبا إعجابا شديدا وحماسيا بنظام الرعاية الصحي الكوبي ويرواغ فيما يتعلق بحكومة هافانا المستبدة، لا ترى لديه أية مشكلة في نعت الثقافة الأمريكية بأنها "مزيج من عقلية رعاة البقر والرأسمالية المنفلتة والحمى الدينية، وهو المزيج الذي يجعل الولايات المتحدة تبدو في بعض الأحيان وكأنما مسها الجنون". ولقد كان بوسع المرء أن يرى في هذه اليسارية جاذبية متحفية، لولا أنها خطر حقيقي.
ففي نهاية الأمر، وعلاوة على التأييد الضمني للدول التي يزورونها، يضخ السياح أموالا في هذه الدول. وانظروا مثلا إلا دليل لونلي بلانيت إلى بورما، وهي بلد يرزح لأربعة عقود تقريبا تحت حكم عسكري اشتهر بسجنه آلاف المنشقين وإفقاره ملايين المواطنين. في عام 2008، هدد مؤتمر اتحاد النقابات في بريطانيا ـ الذي يمثل ستة ملايين من العمال البريطانيين ـ بمقاطعة لونلي بلانيت إذا لم ييتم سحب إصدار عن بورما، فهذا الكتاب بحسب ما جاء في بيان الاتحاد "يؤيد بقوة حكما عسكريا قاسيا" بتشجيع السياح على زيارة البلد. وأوضح لونلي بلانيت أنه يحذر القراء من الورطة الأخلاقية من خلال الإشارة إلى أن المواقع السياحية في بورما قد أنشئت من خلال أنماط عمل غير إنسانية كما يحذرهم من أن "الناشطين السياسيين في بورما يعتقدون أن دولارات السياحة تساعد على مزيد من التمكين للحكومة القامعة". واكتفي بذلك رافضا أن يسحب الدليل. واليوم بينما تخفف الحكومة في بورما قبضتها على السلطة، وبينما الناشط الحائز على نوبل في السلام أونج سان سوو كاي يشجع على السياحة، فإن راف جايدز الذي أعرب في 2008 عن خطئه بإصدار كتاب عن بورما، بات الآن يعيد النظر.
مشكلة الأدلة السياحية إلى دول مثل كوبا وإيران وكوريا الشمالية لا تتمثل في تشجيعها على زيارة دول ذات أنظمة مارقة (فالحظر الأمريكي المفروض على السفر إلى كوبا وقلة أعداد المسافرين إلى كوريا الشمالية لم يردعا حكومتي البلدين) ولكن في أنها تضلل القراء بشأن طبائع هذه البلاد الحقيقية. ولن يكون الحل هو إيقاف السفر، بل الحكمة في السفر، وعدم الخلط بين الفقر المدقع، وبين الأصالة الثقافية، أو الخلط بين الدكتاتورية وبين الرفض الشجاع للعولمة.
وإذن، سافروا إلى كوبا. وحاولوا الحصول على تأشيرة لدخول كوريا الشمالية. وزوروا السفارة الأمريكية الغابرة في طهران . ولكن قبل أن تفعلوا ذلك، لا تنسوا أن ترموا بأدلة السفر السياحية في سلال القمامة
.

نشر الموضوع في جريدة عمان في الأول من سبتمبر 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق