الثلاثاء، 10 يناير 2012

مسألة زينون


باتريك لولر *

1
قالت آرييل "لم أفعلها في مغسلة السيارات قط". كانت مثلي، طالبة في السنة الثانية، ولكن الفارق أن لديها هوندا سيفيك، وهو ما يجعل الحياة لذة. كنت أحمل كيسين ممتلئين بأرباع الدولارات أخذت أحشو بها الآلة وأضغط على الأزرار زرا بعد زر: الغسيل المزدوج، الشطف المثالي، التشميع المزدوج، التجفيف.

2
لشريكي في الغرفة غواية عجيبة. في المحاضرة الأولى له في كل صف، وبعد أن يقرأ الأستاذ اسمه ضمن الأسماء، يطلب منه أن يناديه باسم غير الاسم المدرج في القائمة. وكان الأساتذة جميعا يستجيبون بطبيعة الحال، ولكنهم لم يعرفوا قط أنه له اسما مختلفا في كل صف. ففي واحد هو فريد، وفي الآخر ألبرت. أما أنا فقال لي إن اسمه آدم، وإن لم يكن لدي أي دليل على أن ذلك هو اسمه الحقيقي.

3
حدثتني آرييل عن التقدم للمادة المسرح. قالت إنهم يعرضون دائما مسرحية يونانية في نهاية كل فصل دراسي. رأت أنني سوف أبرع في دور تيرسياس. وضعت في يدي حجرا عليه رسمة طائر. "حصلت عليه السنة الماضية، وأريدك أن تحتفظ به. اكتشفت فيما بعد أنه نفس الطائر الموشوم على وركها. لم أقل لآرييل أو آدم إنني لا أحب الكلية. كنت أتخصص في الفلسفة.

4
كان آدم يحمل مسجلا معه في جميع صفوفه. قال "اسمع، أنا الآخر أتدرب للحصول على تيرسياس، فلا تزعل إذا لم تحصل عليه". ثم أدار المسجل ليتدرب على حواره وسمعت كلمات أوديب "قل ما تشاء، لا معنى لشيء". حين رأت آرييل شريكي في الغرفة قالت "أوه، فريد ساكن معك". فعرفت حينها أنها في صف الأدب العالمي حيث اسمه فريد.

5
أفترض أنه أمر بديهي، ولكن أفضل ما في الكلية هو ممارسة الحب مع آرييل. أن نستلقي في الفراش لنتدرب على دور تيرسياس، وأنا في بداية الأمر أتلعثم، إلى أن قالت آرييل "ليس عليك إلا أن تقرأ الوشوم".

6
سألتني آرييل "لماذا تنادي زميلك في السكن بآدم في حين أن اسمه فريد؟"
قلت ممثلا تيرسياس"لترين اليوم مولدك وفناءك". قالت آرييل ممثلة أوديب "إنك لا تجيد الكلام ما لم يكن الكلام ألغازا وأحاجي". كانت تساعدني في حفظ الدور. جسم آرييل فسيفساء من الوشوم. كان يبدو كأنها تجلب ذاتا أخرى إلى السرير. وكان جسدانا معا ينسربان أسفل وشم الطائر.

7
كانت لآدم ـ شريكي في الغرفة ـ عادة اعتبرتها باعثة على الضيق. كان يسجل لنفسه وهو يمارس الجنس مع النساء. وكنت أجلس إلى مكتبي، وبطاقات الشفاء العاجل مصفوفة أمامي والحجر ذو الطائر، وهو يشغِّل هذه التسجيلات. طلبت منه أن يكف عن ذلك، لكنه لم ير في الأمر مشكلة. قال "اسمي ليس آدم". ثم راح يتكلم بلكنة بريطانية.

8
قلت لأمي على التليفون إنني لست سعيدا في المدرسة. قلت أيضا إنني قابلت امرأة تعجبني كثيرا. قالت إن أسرتنا "مميزة من وجهة النظر الآنا كارنينية". قلت لها إنني لن أتقدم لصفوف كثيرة لأنني مريض. ومنذ ذلك الحين بدأت أتلقى بطاقات الشفاء العاجل من أفراد عائلتي. قال شريكي في الغرفة إن عنده امتحانا هائلا. وكانت يداه حذرتين وهو يقول هذا.

9
"
الحياة أم المدرسة .. لا فارق. الأمر كله يعتمد على الشخص الذي تمارس معه الحب" هكذا قالت آرييل. كان ينبغي أن أستشعر قدومها.

10
 

طابع بريد يوناني
 
11
آرييل عندها وشم لطابع بريد. كان شريكي في الغرفة يتكلم عن "جمع الطوابع" و"توصيل الطرود". قال شريكي في الغرفة إنها غير طبيعية. "فمنذا الذي يشم على جسمه طابع بريد؟". قالت آرييل إن أمها كانت تعمل في مكتب للبريد، وإنها ماتت وهي طفلة صغيرة. "وهذا الطابع من هذه السنة. شوف بكم كانوا يبعثون الرسالة". قلت "شكله في غاية الغرابة". قالت "يوناني".

12
كان أستاذنا مصابا بالخرف، ولكننا لم ندرك الأمر إلا قرب منتصف العام، فقد كان أستاذا للميتافيزيقا. كان في منتصف المحاضرة يغمغم بأشياء عن ترتيب سطح "بيت الكينونة"، مقتطفا مقولات من كانط بصوت أجش، ومنشدا أبياتا عن ماقبل السقراطيين.

13
قالت آرييل "جامعني كأنك الشخصية التي تلعبها". كان جسدانا منسحقين في مقود السيارة. "قصدك أن أتحسس كثيرا". "بل أن تغمض عينيك". كان آخر ما رأيته صابونا مخضرا على الشبابيك.

14
لآرييل ذيل حصان وبشرة فاتحة وشعر أسود فاحم. قلت لها "أتعرفين أن شريكتك في الغرفة تبعث على الاكتئاب بصورة لا أحتملها". قالت "لا، ليست كذلك. فقط لأن كاثرين لا تفعل ما تفعله أنت ... إنما أمها طبيبة نفسية متخصصة في مواساة الأحزان. وأبوها مدمن كحول. هذا ما تقوله".

15
كانت غرفتي ملآنة بزملاء من غرف أخرى في الطابق وشريكي في الغرفة يشغل أحد تسجيلاته. كان يصدر صوتا كأنه صوت قطار. "المحطة ياللي نازلين .. المحطة ياللي نازلين" بلكنة بريطانية مريعة.

16
لكرستين عينان كشافتان للخطأ بصورة مرعبة. عرفتني بنفسها "شاعرة سابقة ومنتحرة مستقبلية". قررت أن أتظاهر ضد الحرب إعجابا مني بالفرقة التي كانت تعزف على الحلبة.

17
كلما انغمست في التدرب على دور تيرسياس، رأيت لمحات من حياة كرستين. تناولت دفترها. قرأت: الزمان يحمل نفسه على ظهره.

18
بمجرد أن تم اختياري للقيام بدور تيرسياس، بدأت أرى نُذُرًا. كانت آرييل ستلعب دور جوكاستا، ورأيت الطائر الموشوم على وركها كما لو كان يطير. الطالب الذي اختير للعب دور أوديب لم تكن له غير عين واحدة. "ولذلك لن تكون المسرحية مأساوية بالقدر الكافي" كما قال أستاذ المسرح.

19
كانت الدنيا أكثر جمالا وغموضا من أن يحتويها مبنى واحد أو كتاب واحد. بعد امتحانات نصف العام، أدركت أنني أرسب. وفيما عدا محاضرات الفلسفة، لم أعد أحضر نهائيا. أعتقد أنني كنت متحيرا فيما يمكن أن يحدث.

20
قالت كرستين "ما الدنيا إلا قفص". صححت لها "مسرح". قالت وهي تشعر بضيق تام "ألا تعرف حتى عن أي شيء تدور المسرحية التي تمثل فيها؟"

21
ظللت أتلقى بطاقات الشفاء العاجل من الأسرة. أصبح على مكتبي الكثير منها. لدرجة أنه لم تتبق مساحة للمذاكرة. غطت البطاقات الحجر ذا الطائر الذي أعطته لي آرييل. يمكنني أن أقول إن آرييل لم تكن سعيدة معي بقدر ما كنت سعيدا معها. شاركت في مظاهرة مناهضة العولمة لأنهم وزعوا فيها بيرة. قلت لآرييل إن الوقت غير مناسب بالنسبة لي فيما يتعلق بالالتزام. قالت إنه لا مشكلة. قلت شيئا من قبيل الوشوم البالية ـ ولم يكن قول ذلك لائقا.

22
التعليمات الأساسية في امتحان الفلسفة كانت عبارة عن "حاول وأنت تجيب الأسئلة الـ 33 التالية أن توضح فلسفة زينون".

23
سألني شريكي في الغرفة عن حال تيرسياس. قلت إنني أعرف دائما ما سوف يقوله الممثلون، ولكنني لا أعرف أي شيء عما ينبغي لي أنا أن أن أقوله. نظرت إلى ما كتبته كرستن:
"
الترحال في الدنيا
ذهابا وإيابا، ذهابا وإيابا
استزراع الحقل".

قلت "ذلك يبدو مقبضا". قالت كرستين "المشكلة أننا بحاجة إلى طريقة جديدة نتخيل بها يأس حياتنا. نحن مرغمون على تصور الكادح في الحياة بوصفه سيزيف يدحرج صخرته. والأمر ليس كذلك. الأمر هو استزراع باشو للحقل". يومها عرفت أنها هي الأخرى تحضر صف الأدب العالمي.

24
توقف شريكي في الغرفة عن استخدام اللكنة البريطانية. فجأة استولى عليه الصمت، وصار مزاجيا، وطلب مني أن أناديه بـ راندول. قالت كرستيل "أوه، راندول ساكن معك. لا بد أن تكون السكنى رائعة مع شخص يكتب مثل هذا الشعر الرائع". قلت "ولكنه لا يكتب شعرا. واسمه ليس راندول". زعلت كرستين. "فما اسمه إذن؟". ولما لم أستطع أن أجيب قالت إنني مثير للشفقة. وما كنت لأدخل في جدال حول هذا الأمر.

25
قرب نهاية الفصل الدراسي، بات شريكي في الغرفة يريد أن ينادى بسوفوكليس. بدأت أفكر في ترك المدرسة. قالت آرييل إن النكتة التي أطلقتها عن الخدمة المدنية لا تعجبها. قلت إنني لم أقصد أن تأتي بذلك الإيحاء.

26
قالت آرييل "اكبر بقى". ولكنني لم أكن مستعدا بعد.

27
قلت لآرييل إن كل شيء مربك بصورة لا تصدق. كنت أحتاج أن أنهل من الحياة نفسها، لا من تصور أحدهم عنها. كنت أشتهي إلى جرعات ضخمة من التجارب. سألتني آرييل "فماذا سوف تفعل إذن؟ سترجع لتعيش مع أبويك؟"

28
حينها أدركت أن لدى آرييل أنظف سيارة في الحرم الجامعي.

29
لعبت جوكاستا رائعة، وحينما قالت "انس خوفك من الزواج بأمك" انبعث في كل فرد من الجمهور خوف جديد. كان سوفوكليس جالسا وسط الجمهور ومسجلته في حجره.

30
بدون أن تكون وشوم آرييل أمام عيني، نسيت أغلب حواري، ولكنها لم تكن مأساة.

31
بكى الطالب الذي يلعب أوديب أمر البكاء. بعد المسرحية، ترك سوفوكليس شريكي في الغرفة مسجله على سريري وبجانبه ورقة كتب فيها "لعلك تود يا تريسياس أن تستمع إلى هذا، وإن كنت بالطبع تعرف بالفعل ما فيه".

32
فيما بعد، كانت كرستين واقفة أسفل شباك غرفتي وسط الجليد الطازج. كانت ترفع المسجل. صحت فيها عبر الفتحة التي أحدثها المسجل في زجاج الشباك "اتركيه". كنت قد رميت كل شيئ عبر الزجاج المكسور ـ كتبي، بطاقات الشفاء العاجل، هدية آرييل.

33
ظلت كرستين واقفة وفي يدها المسجل المكسور، وظل الجليد يتساقط. خطر لي أنني لم أر من قبل منظرا بهذا الجمال. تنامى البياض من حولها. أردت أن أصيح عليها ـ ولكنني فجأة رأيت كل شيء في غاية الوضوح ولم تعد كلماتي قادرة على عبور الزجاج المكسور.

*
باتريك لولر Patrick Lawler كاتب أمريكي فاز في عام 2010 بجائزة القص المبتكر من أمريكان بوك رفيو. أصدر ثلاثة كتب شعرية من بينها "وأبدا لا يكون الغريق طويلا بالقدر الكافي" (1990)، "قراءة كتاب محروق" (1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق