الثلاثاء، 10 يناير 2012

الحكَّاءة





أليس هوفمن


قبل زمن غير بعيد، قابلت في موقف تابع لإحدى المكتبات في فلوريدا، امرأةً في الثمانينيات من العمر. كنت ذاهبة إلى المكتبة مشاركة في قراءة، ووجدت واحدة من الجمهور تنتظرني بعدما انصرف جميع الحاضرين، على الرغم من حرارة الجو القاسية والمقبضة. بدت تلك الغريبة جذابة، أنيقة، مهندمة، وعاطفية بوضوح. انتحت بي جانبا، وطلبت أن تكلمني لدقيقة على انفراد. فوقفنا في ظل شجرة بانيان، ومالت عليّ، كأنما لتسرّ لي بشيء ما، شيء لا يمكن أن تبوح به إلا لي.

همست لي بأن لديها قصة.

لم يكن ذلك حدثا استثنائيا بالمرة. فقد طفت أرجاء أمريكا كثيرا، لأتكلم عن رواياتي وعن حياتي ككاتبة، وكثيرا ما كان يأتي إلي من لديهم قصص يريدون أن يقصوها عليّ عسى أن أكتبها. وغالبا ما كانت تلك القصص هي قصص حياتهم التي ما كانوا يستطيعون بأنفسهم أن يسردوها على نحو مكافئ لإحساسهم بها، ولعواطفهم تجاهها. ولأن أولئك الناس لم يحكوا قصصهم، فقد كان لزاما عليهم أن يحملوها، وكأنما القصص ما لم تنته إلى الحكي تبقى مخزنة في حقائب معلقة على الظهور لا سبيل إلى إنزالها، أو كأنما هي مربوطة في كعوب أرجلهم بخيوط سوداء لا انفكاك لها. كأنما تلك القصص كانت مستولية على أصحابها.

وكنت أنصح أمثال أولئك الناس بـ: ورش الكتابة، والفصول المتوفرة في الكليات المحلية، والبرامج الصيفية المخصصة للمبتدئين في تدوين سيرهم الذاتية، والكتب التي قد تعينهم على كتابة حكاياتهم. وكانت تلك الاقتراحات مفيدة لبعضهم، فيما كان بعض آخر بحاجة إلى مزيد من المساعدة، فقد كانت قصص أولئك بطريقة أو بأخرى عالقة بداخلهم، لا يستطيعون كتابتها، مهما تكن قوتها. وبمرور الوقت، صرت أرى أولئك الناس وكأنما كل واحد فيهم كتاب، سِفر لم تكتب صفحاته بعد، ولكنها كتب بقيت لها جميعا حيويتها وواقعيتها وقدرتها البالغة على التأثير. قصص تضطرم بداخلهم، ولهيب يزداد وهجا بمرور السنين.

القصص هي التي تحدد من نحن وما الذي نريد أن نكون إياه. هي التي تحذر، وتذكّر، وهي التي ان بترت قبل الأوان تخلّف ندوبا وأي ندوب. وهي التي إذا لم نروها، تتباطأ وتتثاقل؛ ذلك أن كل حكاية إنما خلقت لاثنين: حاكيها، وسامعها. كاتبها وقارئها.

في موقف السيارات الملتهب في فلوريدا، وفي ظل غصون شجرة البانيان الفريدة، بدأت الغريبة التي انتظرتْ في صبر شديد تفضي إليّ بتفاصيل طفولتها أثناء الهولوكوست. لقد عاشت حياة سرية، والآن وقد بدأت تكشف بعض تفاصيل حياتها لي، بدا وكأنها تصغر أمام عيني، وتحلو، وتستحيل فتاة مسكينة أكرهت على إخفاء هويتها.

تكلمت عن حقول الخزامى، عن القباء الحجرية، والليالي الجليدية، عن الأبوين الذين فقدتهما ولا تزال تتوق إليهما إلى الآن، ذلك ونحن واقفتان، في هجير موقف السيارات، في ظل شجرة البانيان: عجوز وكاتبة هي مثلها قريبة من الشيخوخة. أخذ الماضي يتوهج من حولنا، ملموسا، محسوسا، مثقلا بالأحزان.

وقالت لي غريبتي إنه لم يبق لها من الوقت ما يمكن أن تضيعه. كانت تشعر أن عمرها، وحالتها الصحية، وتدهور حالات غيرها ممن شهدوا الهولوكوست في طفولتهم، تعني جميعا أن ما بقي من القصص حبيسا في صدور أصحابها مهدد بالاختفاء إلى الأبد. لقد انتظرت كل ذلك الوقت لكي تحكي لي، راجية أن أكتب عنها قصتها. فلو لم يتم التعبير عن تاريخها، وتدقيقه، فإنه قد يختفي. ولو بقيت قصتها دون أن تحكى، فسوف يختفي العالم الذي عرفته باختفائها، ونضالها ورحلتها سيبقيان بلا قيمة ما لم يذكرهما أحد. تلك كانت تخوفات غريبتي العزيزة.

وبرغم أنني تعاطفت مع محنتها، أصررت على أنه لا يحق لي أن أحكي قصة شخص سواي، لا سيما إن كان ذلك الشخص من الناجين من الهولوكوست. ولم توافقني غريبتي هذا الرأي. أمسكت بيدي، وشدت عليها، قائلة "أنا أمنحك الإذن".

لك الإذن أن تتخيلي، أن تخلقي عالما، أن تقومي بإحياء تاريخ، أن تكشفي سري وقد أضفت إليه سرك أنت. لك الإذن أن تبدئي من حياتي وتكتبي تخيلاتك، أن تضيفي تفاصيل تلاشت من عقلي، أن تفردي خريطة روحي وتجعلين منها منطلقك ومنتهاك. بالنسبة لي، أحببت بالذات فكرة أن تلجأ هذه الغريبة الجميلة إلى روائية لا إلى صحفي، وأن تعرف أن قصتها وحقيقة تجربتها ستكون بين أيد أكثر أمانة حينما تكون بين أيدي الخيال. لا شك أنني كقارئة كنت دائما أعثر على أعمق الحقائق في الخيال، ولا شك أنني ما عرفت العالم إلا من خلال قراءة الروايات، وهو عالم ليس من حقائق فقط بل ومن خيال أيضا، ومن وجدان. وذلك ما كانت غريبتي تريده، ما نجنيه من الشعر والقص، ما هو أكثر من قائمة المعلومات، كان ما تريده هو خريطة الأفق والمشاعر. بالنسبة لها، تلك كانت هي الحقيقة.

لا زلت أدين لغريبتي بقصة، أحكيها ذات يوم فأنصف من خلالها تجربتها، ولكنني الآن لا أدين لها ببساطة إلا بالشكر. لقد أهدتني يوم تقابلنا لأول مرة هدية، أهدتني الحق في صنع قصتي أنا من قصتها هي. ولئن كان يقال لأغلب الكتاب المبتدئين أن يكتبوا عما يعرفونه، فأنا أختلف مع هذا. فما يمكنك أن تتخيله، يمكنك أن تحكيه. ونحن في نطاق خيالاتنا نعثر على أصدق القصص، قصص القلب والروح. إننا نأخذ العالم الذي نعرف أننا قادرون على صوغه من جديد. ونحن إذ نفعل هذا نرى ما وراء الحجب، وما خلف الأبواب، وعبر أعتم زجاج الماضي وأغلظه. وما يبقى من حولنا في النهاية ما هو إلا دائرة من نور متألق، إبداع هو الإعجاز والمعجزة، شيء لا بد من إفشائه بين الناس فبذلك فقط يكتسب قيمته، ما يبقى من حولنا في النهاية هو قصة.


هناك تعليق واحد:

  1. جميلة، وجمالها ينبع من صدقها. الحياة جميلة جدا ومليئة بالمعانى، وليس علينا -لنكتب قصة دافئة-سوى أن ننسق ما نراه

    محمود عبد الوهاب

    ردحذف